-->

رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 3 - السبت 16/8/2025

 

قراءة رواية ثنايا الروح كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية ثنايا الروح

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رانيا الخولي


الفصل الثالث

تم النشر السبت 

16/8/2025



بعد مرور عشرة أعوام 


في الصباح

استيقظت ليل على طرقات خافتة على باب غرفتها 

نهضت وهي تشعر بألم في رأسها فلم تنام إلا في الصباح 

اندهشت عندما لم تجد بناتها بجوارها

كيف نهضوا من جوارها دون أن تشعر 

نهضت لتفتح الباب فإذا بها ورد تطلع إليها بابتسامة 

_صباح الخير يا ليل.

أشرق وجه ليل بعدما رأت ابتسامة ورد وردت بسرور

يسعد صباحك يا ورد.

انا اخدت البنات وفطروا مع ولاد عمهم يلا احنا بقى نحضر الفطار لينا، كنت هحضره لوحدي واسيبك نايمة بس معرفاش انتي خابرة بحب يدك معايا في كل حاچة


اومأت ليل بابتسامة رضا لورد التي لم تتعكر صداقتهم يومًا تزداد يومًا بعد يوم 

فردت بابتسامة 

_ حاضر هغير هدمتي وآچي وراكي.

ربتت ورد على كتفها، براحتك يا غالية.


في بهو المنزل الكبير

جلس وهدان يترأس طاولة الطعام التي جمعت عائلته بعد ان تشتت فترة طويلة منذ موت أصغر أبناءه والأقرب لقبه عامر.

ذلك الذي قتل غدرًا من عائلة التهامي كي يشعلوا من جديد نارًا جاهدوا كثيرًا لإخمادها

ومازال يحرص على أن تُشعل من جديد

لذا ترك حق ولده في يد القضاء وقد نال ما استحق 

تطلع لولده الكبير سالم ذو العقل الكبير وحكمته في موازنة الأمور وزوجته التي تحسه دائما على أن يكون قدوة للجميع

رغم قلقه منها عندما أصر ولده على أن يتزوجها

فكيف لى إبنة عدوه أن تكون ابنه له

ولكن خيبت ظنه واثبت للجميع أنها جديرة بتلك المكانة

وليل ابنة أخيه التي صانت ابنه في محياه ومماته وعاشت معهم لأجل أن تربي بناتها ولم يتعدى عمرها الأربع والعشرين.

وحامد ذلك الذي وهب نفسه لله ما بين عمله وصلاته

وزوجته التي تعيش بحزن بسبب أنها لم تستطيع الانجاب بعد سند


ثم تطلع إلى مالك حفيده الأول الذي أصبح رجل يعتمد عليه كوالده وتركه يدخل المجال الذي حلم به وهي كلية الهندسة.

لن يفرض عليه شيء لا يرغبه فليفعل ما يريده.

تطلع إلى باقي أحفاده الذين يلعبون في حديقة المنزل بفخر واعتزاز وخاصة تلك الجميلة التي تظل تلاحق عدي وهو لا يأبى لها 

لكن هو يأبى وسيضعها بالمكانة التي تختارها رغم انف الجميع.

ابتسم عندما وجدها تدلف من الباب 

تبكي وكعادتها تسرع لأحضان مالك تشكوا له مما فعله أخيه بها

أحاط مالك كتفها بقلق وهو يسألها

_مالك يا روح بتعيطي ليه؟

ردت روح من بين بكاءها

_عدي ضربني..

مسح مالك دموعها وقال يهدئها

_خلاص متزعليش واني هخدلك حجك منيه.

لم تقبل ليل تعلق ابنتها بمالك فقد كبرت وعليها ألا تتعلق به بذلك القرب لذا قالت بتنبيه

_روح جولتلك جبل سابج انك كبرتي ومينفعش تجربي من اي حد إكدة.

أخفت روح وجهها في مالك كأنها ترفض البعد عنه.

ردت ورد بابتسامة 

_غصبت عنيها يا ليل انتي خابرة إن مالك هو اللي مربيها هي شيفاه أخوها.


_بس خلاص هي كبرت ولازم تعرف إن في حدود، سن 13 سنة مش صغيرة برضك.


كان مالك يستمع إليهم في وجل

فكلما كبرت كلما حاولوا إبعادها عنه

لا يعرفون أنها الهواء الذي يتنفسه

ضحك الجميع عندما نادها عدي وردت مسرعة 

_چاية يا عدي

واسرعت إليه 

لم يسر مالك بفعلتها ولم يضحك كالجميع بل أسرها في نفسه وتظاهر بعدم الإهتمام 

وحده وهدان من يعلم بحاله لكن لا يطاوعه في ذلك الشيء 

ليس فقط بفرق السن بينهما ولكن يعلم جيدًا بأنه إذا وافقه على الزواج منها حينما تكبر فلن يجني له سوى العذاب

هو يرى حبها لعدي أخيه وإذا أجبرها على الزواج منه فلن تسعد وبذلك لن تسعده وسيكون زواجهم وبال عليهم.

فالأفضل لحفيده أن يبعده عنها.

تطلع إلى مالك الذي مازال شاردًا وسأله

_ناوي على ايه بعد ما خلصت الچامعة يا مالك؟

حاول مالك الابتسام وهو يرد بروية

_كل خير يا چدي متجلجش.

_أجصد يعني ناوي تتعين دكتور فيها زي مـا انت رايد ولا قررت حاچة تاني.

ترك الملعقة من يده وتطلع إلى جده بثبات

_لاه.، انا ناوي إن شاء الله أسافر.

تطلع إليه الجميع بصدمة وأولهم ورد التي سألته بوجل

_تسافر؟! تسافر كيف يا ولدي؟ وفين؟

رد مالك بثبوت يتنافي تمامًا عن الألم الذي يحمله بداخله.

_هسافر الخليج، في واحد صاحبي شغال هناك وطلب مني اشتغل معاه.

ردت "حسنه" باستفهام

_وليه ياولدي الشحطتة دي، انت ناجصك فلوس؟

_مش قصة فلوس يا جدتي بس هناك المستجبل افضل بكتير، وياريت محدش يمنعني لإن ده قراري ومش هرچع عنيه.

تطلع إليه والده وتحدث بحزم

_اخدت القرار إكدة من حالك؟ ومن غير ما تاخد رأينا لول؟

ازدرد لعابه بصعوبة عندما سمع صوت محبوبته وهي تلهو مع أخيه وتناديه بحب

_هو لسة مكلمني من سبوع إكدة وجُلت ادرس الموضوع لول جبل ما افاتحكم فيه.

لم يحتاج وهدان لفطنة كي يفهم سبب سفره

لذا لم يعارض وعندما تحدث سالم معترضًا

_لا يا ولدي اني مش موافق ولو.....

قاطعه وهدان 

_لا يا سالم ده مستجبله وهو وحده اللي يحدده.

نظر إلى مالك وسأله

_انت شايف إن سفرك ده بمصلحة ليك؟

اخفض مالك وجهه كي يتهرب من نظرات جده الثاقبة.

يشك أنه علم شيء عن حبه لروح ولذلك يفضل أن يبتعد عن المنزل خوفًا عليها منه

ولا يعرف برغم تفكيره وحبه لتلك الطفلة إلا إنه يخشى عليها من أنفاسه

ولذلك السبب قرر أن يبتعد 

فلن تكون له في يومٍ من الأيام لذا عليه الابتعاد كي لا يعلق روحه بروحها أكثر من ذلك


_أيوة يا چدي، وإن شاء الله هنزل أجازات على طول مش هطول فيها.

تنهد وهدان باستسلام 

_خلاص اللي تشوفه.

همت ورد بالمعارضة لكن وهدان منعها بحزم 

_جولت خلاص يا ورد هو كبر وبجى راچل مش عيل صغير هتخافي عليه.


نظرت ورد إلى سالم كي يعارض هو لكنه التزم الصمت إذا كانت هذه رغبة ابنه فلن يقف أمامه.

_سبيه يا ورد زي ما جال أبوي مش عيل صغير هنحكم عليه.

نهض مالك من مقعده وهو يتمتم 

_طيب انا خارج دلوجت عشان أرد على صاحبي وأخلص إجراءات السفر.

أومأ له جده وانصرف مالك ذاهبًا بل هاربًا من نظرات جده الثاقبة 

لكنه ترك قلوب سينحرها فراقه

تطلعت ورد إلى عمها وقالت بعتاب

_ليه يا عمي وافجته؟

شرع وهدان بتناول طعامه وهو يرد بثبات

_دي حياته وهو حر فيها ولو شايف إن مستجبله هناك محدش منينا يجف جصاده.


لم تستطيع ورد التفوة بكلمة أو تجادل أمام عمها

لذا التزمت الصمت وقررت ان تتحدث مع ولدها ربما تستطيع اقناعه.


في غرفة مالك.

وقف في شرفته يتطلع إلى حديقة المنزل ويشاهد اولاد عمه وهم يمرحون بها 

مازالت تلك الصغيرة تتبع خطوات أخيه أينما ذهب.

شعر بغصة حادة في قلبه الذي مازال تعلقه بها حد الجنون

فمنذ أن حملها فور أن ظهرت للدنيا وهو يشعر بقلبه يهفو إليها 

لاحت بذاكرته يوم ولادتها عندما كان واقفًا بجوار عمه أمام الغرفة 

خرجت جدته وهي تحمل الصغيرة بين يديها وتقربها من عمه بترقب

_مبروك يا ولدي ربنا رزجك بأخت لنغم.

ابتسم عامر بسعادة ومد يده وهو يحملها من يد والدته ويقول بزهو

_ومالك يا أمي بتجوليها من غير نفس إكدة فاكراني تفرج معايا.

تطلع إليها بحنو

_البنات زينة الدار يا أمي وكل بنت فيهم بتاچي برزجها الواسع.

شعرت حسنة بالسعادة لرضا ابنها

_ربنا يكملك بعجلك يا ولدي، هدخل أفرح ليل

وعادت للداخل.

أما مالك فتطلع إليها وهي بين يدي عمه وشعر برغبة ملحة في حملها فقال لعمه

_عمي، ممكن اشيلها؟

ابتسم عامر بود لابن أخيه الأقرب لقلبه وقال برحابة

_سمي الله وشيلها.

شعر الشاب الصغير ذو العشر اعوام من عمره بتسارع ضربات قلبه وكأنه ملك الدنيا بين يديه، لقد تعلق بها من نظرة واحدة 

وخاصة عندما فتحت عينيها فتخطف أنفاسه أكثر

قال عامر بلطافة

_طيب يلا بجا أذنلها، انت اخوها الكبير وانت اللي تأذن.

أذن مالك في أذنها وهو يشعر بسعادة لفعلها

_ها ناوي تسميها ايه؟

سعد مالك أكثر ولم يفكر كثيرًا عندما خطر له ذلك الاسم ورد بسرور

_روح هسميها روح.

_خلاص تبجى روح

وكأن عمه يشعر باقتراب أجله لذا ربت على كتفه وهو يردف

_من النهاردة روح ونغم هيكونوا امانتك يا ولدي، تكون انت اخوهم الكبير وتاخد بالك منيهم..

باك..


أخرجه من شروده طرق الباب ودخول والدته

التي آلمها قراره وجاءت كي ترجوه أن يعدل عنه 

_تعالي يا أمي.

تقدمت منه ورد وتحدثت بعتاب

هونت عليك تسيبني وتسافر يا مالك.

حاول مالك الابتسام وهو يتقدم منها يطبع قبلة حانية على جبينها وتحدث بروية

_معلش يا أمي ده مستجبلي ودي فرصة كبيرة مش هتتعوض.

وبعدين هبجى أكلمك كل يوم صوت وصورة كأني جاعد جبالك بالظبط.

جعدت جبينها باستنكار 

_ده برضك ميعوضنيش عن وچودك معايا في نفس الدار

وبعدين يا ولدي احنا خيرنا كتير والحمد لله مش محتاچين الجرشين اللي هياچوا من غربتك دي، انا ممكن اكلم....

قاطعها مالك بحزم 

_أمي، الله يرضى عنيكي انتي خابرة زين اني مش بحب اعتمد على حد، اني مش عيل صغير هعتمد على غيري..

تنهدت بتعب من جدال ستخوضه دون فائدة فقالت مستسلمة 

_خلاص يا ولدي اللي تشوفه.

قبل جبينها مرة أخرى ثم مال على فراشه ليأخذ هاتفه ويضعه بجيب جلبابه 

_طيب أني خارچ دلوجت ولما أرجع يبجى نكملوا كلامنا.

اومأت مرغمة وتطلعت في أثره وهو يخرج من الباب 

تعلم جيدًا بأنه يتهرب منها لكن ليس بوسعها فعل شيء..


❈-❈-❈


كان الهواء البارد الذي يسبق المطر يحمل رائحة التراب المبلل ووعداً بعاصفة قادمة في أراضي "التهامية" الشاسعة، كان صهيل الخيل الحاد يدوي في المكان، صوتاً نقياً وقوياً يمزق الصمت كان جاسر على ظهر جواده الأسود "بركان"، وكأنهما كائن واحد، جسد الفارس يندمج مع عضلات الحصان القوية، يوجهه بإشارات تكاد لا تُرى.


اقتربا من ذلك السياج الخشبي القديم الذي يفصل بين الحقول، لم يبطئ جاسر من سرعته، بل همس بكلمة واحدة، وضغط بكعبيه ضغطة خفيفة. استجاب "بركان" على الفور، انطلق كالسهم، ثم قفز من فوق السياج بكل سهولة ورشاقة، هبط على الجانب الآخر بقوة وثبات، وانطلقا معاً من جديد، يسابقان الريح التي بدأت تشتد، وتعبث بشعره الأسود الطويل.


لم يعجزه منحدر الطرقات الوعرة، ولا المرتفعات الصخرية التي كانت لتتحدى أعتى الفرسان. 

بل ظل جاسر يرمح بحصانه دون أن يعرقله شيء، يتنقلان بين الصخور والأشواك كشبح أسود، جزء لا يتجزأ من هذه الطبيعة البرية القاسية. 

كانت الشمس غائبة خلف سحابة رمادية داكنة، تلقي بظلال كئيبة على الأرض، وتنذر بهطول وشيك، كأن السماء نفسها تستعد لمشهد درامي.


صعد جاسر بـبركان إلى قمة أعلى منحدر في المنطقة، نقطة تطل على الوادي بأكمله هناك، شد لجام جواده بقوة توقف الحصان فجأة، رافعاً رأسه بكبرياء، وملأ الدنيا بصهيل طويل وعميق، صهيل تحدٍ وإعلان عن الوجود.


وقف جاسر هناك، صامتاً كتمثال من صخر الجرانيت. 

كانت نظراته ثابتة، حادة كالصقر، لا تتجه نحو الجبال أو الوديان، بل كانت مصوبة نحو هدف واحد. هناك في الأسفل، تقع سرايا "الرفاعية". 

ذلك المنزل الذي يبدو من بعيد واحة من السلام، بحدائقه وأسواره البيضاء. لكن في عيني جاسر، لم يكن سوى جحر للأفاعي، ورمز للهزيمة والإهانة.


تذكر ذلك اليوم بوضوح، يوم وقف على قبر والده، والتراب لا يزال ندياً. 

تذكر قسمه الذي ألقاه بصوت طفل، لكن بقلب رجل.

أقسم أن يجعل هذا المنزل جحيماً ووبالاً عليهم، أن يحرق حدائقهم بنار حقده، وأن يجعل أسوارهم البيضاء تتشح بالسواد.


ربما لم يأتِ ذلك اليوم بعد. 

لقد أجبرته الظروف على مهادنتهم، على قبول صُلح هش، لكن هذا لم يكن سوى تكتيك، استراحة محارب. 

ففي داخله، كانت نيران الثأر لا تزال متوهجة، تنتظر اللحظة المناسبة لتنفجر وتحرق كل شيء.


هو يعلم أن الوقت آتٍ قريباً. ولن يردعه أحد عما انتوى فعله. 

لا صُلح، ولا قانون، ولا حتى مشاعره التي بدأت تتمرد أحياناً. 

سيخمد كل شيء في سبيل تحقيق هذا الهدف.


لاحت ابتسامة ساخرة، باردة، على فمه الصلب كصلابة قلبه. 

ابتسامة لم تصل إلى عينيه اللتين ظلتا تحملان بريقاً جليدياً. 

ألقى نظرة أخيرة على السرايا، نظرة تحمل وعداً بالدمار، ثم استدار بجواده، وانطلق عائداً من حيث أتى، بينما بدأت قطرات المطر الأولى تتساقط، كأنها دموع السماء الباردة على معركة لم تبدأ بعد.


❈-❈-❈


كانت أبواب المكتب الخشبية الثقيلة مغلقة، تعزل وهدان وسالم عن ضجيج السرايا وحركتها الدائمة. جلس سالم على المقعد المواجه لمكتب أبيه، بهيبة واحترام، واضعاً كفيه على ركبتيه في انتظار أن يبدأ والده الحديث.


_ خير يا حچ؟ طلبتني.


أخذ وهدان نفساً عميقاً، وأرخى جسده الضخم في مقعده الجلدي الذي أصدر صريراً خفيفاً. 

مرر يده على ذقنه الكثيف الأبيض، وعيناه تتفحصان وجه ابنه، ذراعه الأيمن والرجل الذي ستقع على عاتقه مسؤولية العائلة من بعده. 

شعر بأن ثقل السنين قد بدأ يرهقه، وأن الأوان قد آن كي يضع النقاط على الحروف. قال برتابة وهدوء، كمن يلقي بوصية:


_ أنا شايف إن آن الأوان أعرف كل واحد منكم حقه. أنا تعبت يا سالم، ومبجتش جادر أولي كل حاچة بنفسي زي الأول. العمر بيجري، والصحة مبقتش هي.


صمت للحظة، ثم أكمل بنبرة أكثر جدية:

_ وبفكر أخليك إنت واصي على أملاك بنات أخوك عامر، الله يرحمه. واللي هياخدوه حج أبوهم كامل مكمل، من أرض وفلوس، كأنه عايش وسطينا بالظبط.


اندهش سالم من حديث والده المفاجئ. لم يكن الأمر مجرد تقسيم للميراث، بل شعر وكأن والده يجهز نفسه للرحيل.

شعر بأن وهدان يفعل ذلك كي يضمن حق بنات عامر اليتيمات، وكأنه يخشى عليهن من المستقبل. هذا الشعور أثار في نفسه عتاباً محباً.


_ ليه يا حچ بتجول إكدة؟ هو إنت شايف فينا إيه؟ خايف ناكل حج بعض بعد عمر طويل ليك؟ بنات عامر دول بناتي قبل ما يكونوا بنات أخوي.


نفى وهدان برأسه مسرعاً، ورفع يده ليطمئن ابنه.

_ لا يا ولدي، حاشا لله. مجولتش إكدة واصل، وأنا خابركم زين، وعارف إنكم سند لبعض. بس كل الحكاية إني رايد أرتاح وأطمن. رايد أعرف كل واحد حقه وهو صاحي، عشان محدش يختلف على حاچة بعدين. وكمان حج بنات أخوك لازم يتصان، وإنت كبيرهم وواعى، عشان إ كده رايد أعملك إنت وصي عليهم.


نهض سالم من مقعده، ودار حول المكتب ليقف بجانب والده، ووضع يده على كتفه.

_ بس يابا... إحنا مهما كبرنا، ومهما بقينا رجالة، لساتنا محتاچين نعيش تحت ظلك وتحت مشورتك. اللي إنت بتفكر فيه ده صحيح هيضمن لى كل واحد حقه، بس هيفرجنا يا بوي. هيخلي كل واحد فينا يبص في ورقته وفي أرضه، وهينسينا إننا كلنا في مركب واحد وإنت ربانها. 

خلينا عايشين في خيرك إنت وتحت چناحك. 

ده اللي بيخلينا عيلة واحدة.


تأثر وهدان بكلمات ابنه، لكن التردد كان لا يزال في عينيه.

_ بس يا ولدي، دي أصول، والواحد ميعرفش...


قاطعه سالم باحترام ومحبة:

_ مبسش يابوى أما عن بنات أخوي، فمتجلجش عليهم أبداً دول في عنينا وفي قلوبنا وأني بفكر في اللي هيصونهم ويحافظ عليهم أكتر من الأرض والفلوس بفكر أچوزهم لولادي عشان يفضلوا وسطينا، وعشان أطمن عليهم العمر كله.


أشرق وجه وهدان باهتمام.

_ كيف يعني؟


قال سالم بثقة، كأنه يطرح خطة مدروسة:

_ ناوي إن شاء الله، بعد جولك وموافقتك، أزوچ عدي لروح. ونغم لمالك.


قطب وهدان جبينه بحيرة عند سماع ذلك الخبر

_ ومالك؟ مالك يعرف باللي بتجوله ده؟


نفى سالم برأسه، لكن ثقته لم تهتز.

_ لا، ميعرفش بس أني خابر ولدي زين

مالك عمره ما هيرفضلي كلمة، ومش هيرفض حاچة زي دي فيها صلة رحم وستر لبنات عمه.


تنهد وهدان تنهيدة طويلة، وأشاح بيده بحكمة الأب الذي يعرف أبناءه أكثر من أنفسهم.

_ سيب مالك هو اللي يختار يا سالم. 

مالك طبعه غير طبع عدي، قلبه دليله، ومليكش صالح بيه في الحتة دي

سيبه يختار اللي تريح قلبه. إنما عدي... عدي هو اللي لازمن يتچوز روح ده الصوح وده الأصل. بس لسة بدري على الكلام ده كله البنات لسة صغيرين، ورايدين العلام. لما يخلصوا تعليمهم ويكبروا، يبجى نتحدت فيه.


شعر سالم بالرضا. 

لقد نجح في إقناع والده بالعدول عن فكرة التقسيم، وفي نفس الوقت حصل على مباركته المبدئية لربط العائلة برباط أقوى.

_ اللي تشوفه يابا، هو اللي يمشي. بس بلاش نتحدتوا تاني في موضوع الجسمة ده. حسك في الدنيا بالدنيا كلاتها. ربنا يخليك لينا وتفضل دايماً فوق راسنا.


ابتسم وهدان ابتسامة رضا، وشعر بأن جذور العائلة التي غرسها لا تزال قوية ومتينة، وأن ابنه سالم هو خير من سيحمل الراية من بعده.


❈-❈-❈


عاد جاسر بجواده "بركان" وهو يسير بهوادة الآن، كأن رحلة التهور تلك قد امتصت كل العنف من جسده، وتركته هادئاً من الخارج، بينما العاصفة لا تزال تدور في داخله. 

وصل إلى ساحة المنزل الواسعة، حيث الإسطبلات والخدم، وترجل من فوق الحصان بحركة واحدة رشيقة وقوية. 

لم يربت على جواده كعادة الفرسان، بل نظر إليه نظرة آمرة، ثم نادى بصوت عميق وهادئ تردد في المكان


_ زهران؟


ظهر الرجل من العدم أمامه، خرج من ظل الإسطبل كأنه كان ينتظر هذا النداء طوال الوقت. 

انحنى قليلاً في وجل واحترام، فـ جاسر لا يمزح ولا يتسامح مع الخطأ.

_ نعم جنابك؟


ترك جاسر لجام الحصان من يده فجأة، ليلتقطه زهران ببراعة قبل أن يسقط. قال جاسر بأمر مقتضب، وعيناه لا تنظران إلى الرجل بل إلى مدخل السرايا

_ خد الحصان دخله الإسطبل وخلي فاروق يجهز العربية.


_ أمر جنابك.


لم ينتظر جاسر ليرى تنفيذ أمره. استدار ودلف إلى المنزل بخطوات واثقة، كأنه سيد هذا المكان، وهو كذلك بالفعل.

وأثناء صعوده الدرج الرخامي الفخم، توقف فجأة عندما جاءه صوت عمه من الخلف، صوت يعرفه جيداً، صوت الحية الرقطاء.


_ جاسر.


لم يلتفت جاسر بجسده كاملاً، بل أدار رأسه فقط، ووجهه مبهم لا يقرأه أحد. 

كان هذا جزءاً من اللعبة التي أتقنها معاً.

_ ماشي دلوقت؟

رد جاسر ببرود

_ إن شاء الله. 


تقدم منه صخر بخطوات بطيئة وثابتة، خطوات يعلم تأثيرها جيداً، كأنه صياد يقترب من فريسته، حتى لو كانت هذه الفريسة أسداً مثله. 

وقف عند أسفل الدرج، ورفع رأسه لينظر إليه.

_ زورت جبر چدك وأبوك جبل ما تسافر؟


رد جاسر بمغزى، ونبرته تحمل تحدياً خفياً

_ ودي تفوتني برضك؟


ظهرت ابتسامة خفيفة، بالكاد تكون مرئية، على فم صخر ابتسامة رضا الذئب الذي يرى انعكاسه في عيني ذئب أصغر.

_ يعني ماشي زين... زي ما اتفجنا؟


نزل جاسر الدرجة التي كان يقف عليها، ليصبح في مستوى نظر عمه تماماً، وتلاقت أعينهما في تحدٍ صامت. 

ارتسمت على شفتيه ابتسامة مماثلة لابتسامة عمه، باردة وحادة.

_ وأكتر كمان بس زي ما عودتني... اصبر تصيب وهي خلاص... جربت.


لم يضف كلمة أخرى. 

لم يكن هناك داعٍ لذلك لقد فهم كل منهما الآخر تماماً استدار جاسر وصعد الدرج إلى الأعلى، متجهاً إلى غرفته في آخر الرواق، تلك الغرفة التي اختارها بنفسه، بعيداً عن الجميع، كنسر يختار عشه في أعلى قمة.

لقد أصبح انطوائياً، لا يريد الاختلاط بأحد، يفضل عزلته وقوته الصامتة. هكذا أراده عمه أن يكون، وهكذا أصبح... أو هكذا أوهمه.


دلف إلى غرفته، وأغلق الباب خلفه. 

هنا فقط، في مملكته الخاصة، سمح لقناع البرود بالانزلاق قليلاً وجد حقيبته الجلدية قد تم تحضيرها ووضعت بجانب الباب زم فمه باستياء عميق من ذلك التدخل الذي لا تكف عنه شروق

لقد نبهها مراراً وتكراراً، وهددها بشكل مباشر ألا تدخل غرفته أو تلمس أغراضه، لكنها لا تستجيب لتحذيراته، وكأنها تستمتع بتحديه.


ثم وقعت عيناه على الفراش. كانت ملابسه التي انتوى السفر بها، قميص وبنطال أسودان، موضوعة بعناية فائقة على السرير. 

كانت لمستها واضحة في كل طية. شعر بموجة من الغضب تجتاحه.

لم يكن غضباً من مجرد ترتيب ملابسه، بل كان غضباً من محاولتها المستمرة لفرض وجودها في حياته، لتدنيس مساحته الخاصة، لتضع بصمتها على عالمه.


أمسك بالملابس بقبضته بقوة، كأنه يمسك عنقها، ثم ألقاها بغضب شديد على المقعد في زاوية الغرفة. 

ثم دلف إلى المرحاض، صافقاً الباب خلفه بحدة وعنف، ليتردد صدى الباب في الجناح الفارغ، معلناً عن عاصفة داخلية لا يراها أحد سواه.



خرج جاسر من المرحاض بعد قليل، وقطرات الماء لا تزال تتساقط من شعره الأسود على كتفيه العريضتين. كان يرتدي مئزرا باللون الأبيض فقط، الذي لفه حوله بإهمال. كان الجناح هادئاً، لكنه شعر بوجودها حتى قبل أن يراها. 

إنه ذلك العطر الثقيل الذي تتعمد نثره في كل مكان تمر به، كأنها تحاول فرض وجودها بالقوة.


في تلك اللحظة، انفتح باب الغرفة ودلفت شروق بسرعة، ثم أغلقت الباب خلفها بهدوء، كأنها لص يتسلل.كانت ترتدي فستاناً ضيقاً يبرز مفاتنها، وتتزين بكامل زينتها رغم أن الوقت لا يزال مبكراً.


انتفض جاسر عندما رآها، ليس من المفاجأة، بل من الغضب الذي اشتعل في عروقه فوراً. 

هدر بها بصوت أجش وعميق، صوت يحمل تهديداً واضحاً

_ إنتِ بتعملي إيه هنا؟!


لم ترتدع شروق بل ابتسمت ابتسامة حب مصطنعة، وتقدمت نحوه بخطوات بطيئة ومدروسة، كقطة تقترب من فريستها.

_ چاية أسلم عليك يا ابن عمي... جبل ما تمشي.


كانت عيناها الجريئتان تكادان تلتهمانه، تتفحصان صدره العاري وقطرات الماء على بشرته بلهفة لا تخطئها عين.

_ يعني إنت مش رايد تشوفني جبل ما تمشي؟ مش هتوحشك؟


تنهد جاسر بضجر، وأشاح بوجهه عنها كأنه لا يطيق النظر إليها.

_ لا، مش رايد. واتفضلي اطلعي دلوقت عشان أغير هدومي.


لكنها لم تستجب تقدمت منه خطوة أخرى، خطوة قلصت المسافة بينهما بشكل خطير، مما اضطره هو للتراجع خطوة إلى الوراء، وهو تصرف كرهه في نفسه قالت بجرأة وغنج، وهي ترفع يدها لتلامس صدره:

_ مش أنا خطيبتك برضك؟ ومرتك جريب؟


هنا، انفجر جاسر لم يعد يطيق صبراً. 

تحرك بسرعة خاطفة، وأمسك بمعصمها قبل أن تلمسه، قبضته الفولاذية سحقت عظامها الرقيقة. 

صاح بها محذراً، وعيناه تقدحان شرراً

_ كلمة تانية... كلمة واحدة زيادة... وهجول لعمي على كل عمايلك دي، وهو يتصرف معاكي بمعرفته، لإني مش هوسخ يدي بدمك.


لكن شروق، في هوسها به، تمتعت بجرأة أشد، كأن تهديده يثيرها أكثر ضحكت ضحكة ناعمة وقالت وهي تحاول الاقتراب أكثر

_ وماله جول له، هجوله حبيبي ورايداه، وبموت فيه ويمكن وجتها... يعچّل بچوازنا عشان يريحني ويريحك.


لم يعد جاسر يرى أمامه لقد تجاوزت كل الخطوط الحمراء قام بجذب ذراعها بقوة، وسحبها نحوه بعنف حتى اصطدم جسدها بصدره أحنى رأسه حتى أصبح وجهه الغاضب على بعد سنتيمترات من وجهها المذهول، وغمغم من بين أسنانه بشر مطلق، كل كلمة كانت كهمس أفعى سامة

_ نصيحة مني ليكي... يا بنت عمي.

 ابعدي عن طريجي لإني جادر... جادر أخلي عيشتك جحيم أسود، وتتمني الموت ومتطلهوش.


ارتجفت شروق لأول مرة

 لقد رأت الشر الصافي في عينيه، شر لم تره من قبل، وخاصة عندما تابع بنفس الهمس القاتل

_ أني چوايا نار... نار لو خرچت هتحرج الدنيا كلها باللي فيها متخلنيش أطلعها عليكي إنتي انفدي بجلدك وابعدي عني... عشان لو مبعدتيش... متلوميش إلا حالك.


ترنحت شروق عندما دفعها جاسر من أمامه بقسوة، كأنه يلقي بشيء مقزز لم ينظر إليها حتى استدار وأخرج ملابس من الخزانة بعنف، ودلف بها إلى المرحاض مرة أخرى، صافقاً الباب خلفه بقوة جعلت الجدران تهتز.


بقيت شروق وحدها في منتصف الغرفة، ترتعد خوفاً من تحذيره، وتتنفس بصعوبة وضعت يدها على قلبها الذي كان يخفق بجنون لقد أخافها، أخافها حقاً. 

لكن بينما كان الخوف يجري في عروقها، كان هناك شيء آخر ينمو في قلبها... إصرار عنيد ومريض لن تتخلى عنه هذا الرجل، بقوته وقسوته وغضبه، سيكون لها. 

مهما كان الثمن.

❈-❈-❈


خرجت من الغرفة وقد ظهر الخوف جاليًا عليها لكن اخفته عندما 

وجدت والدتها تقدمت منها تسألها بلهفة

_عملتي ايه؟

ردت شروق بضجر وهي تنصرف من امامها

_زي اللي جبلها واللي جبلها.

وبختها نادرين بحدة

_كانك خايبة زي أمك.

لم تتركها بل توجهت خلفها داخل غرفتها تقول بتوبيخ

_ لانك مش فالحة في حاچة واصل، 

ده بالذات النسوان مدخلوش حياته واصل يعني جادرة بكلمة حلوة منيك توجعيه على رجبته...

قاطعتها شروق بانفعال

_افهمى يما الله يرضى عليكي، جاسرمبيحبنيش والعمايل اللي بتجبريني عليها دي بتخليه يكرهني مش يحبني، ياريت انتي وابويا تخرچوني من حساباتكم.

تقدمت منها نادرين وهي تقول بحدة

_وهي حسباتنا دي لصالح مين؟ لصالحنا احنا ولا لصالحك انتِ وأخوكي.

ردت باستنكار

_لا يما لصالح أبويا وبس، هو كل اللي يهمه إن كل حاچة تكون له هو، وكل اللي في دماغه انه يخلص من جاسر زي ما خلص من عمي.

وضعت نادرين يدها على فم ابنتها تقاطعها قائلة بتحذير

_اكتمي يا بت الله ياخدك، ابوكي لو سمعك دلوجت هيجطع رجبتك.

ابعدت شروق يدها عنها وهتفت بعذاب

_مش دي الحجيجة برضك؟ مش ده اللي عايز أبوي يوصله؟

بس أني هعمل اللي أني ريداه، أيوة بحبه واتمناه يتزوچني بس همشي بدماغي اني مش دماغ حد تاني، لاح التوعد بعينيها وهي تضيف

_وكدة ولا إكدة جاسر مش هيكون لواحدة غيري.

تطلعت نادرين إليها بسخرية

_وريني شطارتك.

أومأت لها بثقة

_هوريكي متجلجيش

يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رانيا الخولي، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة