-->

رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 5 - الأربعاء 20/8/2025

 

قراءة رواية ثنايا الروح كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية ثنايا الروح

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رانيا الخولي


الفصل الخامس

تم النشر الأربعاء 

20/8/2025



بعد مرور سبعة أعوام.


كان مالك يقف أمام الجدار الزجاجي البانورامي لمكتبه في برج  من أحد أبراج دبي الشاهقة. 

كانت زخات المطر تتساقط بغزارة، في مشهد نادر وغير معتاد للمدينة، تغسل واجهات ناطحات السحاب الزجاجية وتحول الشوارع السفلية إلى أنهار مؤقتة. 

كان يراقب المارة وهم يهرعون للاختباء، وسيارات الفخمة المصطفة على جانبي الطريق تلمع تحت قطرات الماء.


لم يشعر بالسرور الذي يشعر به معظم الناس عند رؤية المطر. 

بل على العكس أصبح يبغضه. 

فقد باتت كل قطرة تذكره بذكريات يجاهد لينساها بذكريات قريته ورائحة الطين المبلل وصوتها وهي تضحك تحت المطر.


غامت عيناه كغيوم تلك السماء وهو يتذكر أيامه القليلة التي يقضيها معها في إجازاته السنوية نصل حاد وبارد غُرز في قلبه عندما تذكر نظراتها الهائمة لأخيه عدي ابتسامتها التي خاصته بها وحده، والتي كانت تضيء عالمه المظلم

ملاحقتها له بعينيها الآسرة أينما ذهب نطقها لاسمه بصوتها العذب كان يذبحه من الوريد للوريد، دون شفقة ولا رحمة.


أغمض عينيه، وأخذ نفساً عميقاً، محاولاً طرد تلك الأشباح. 

لكن كيف لجسد استوطن عشق الروح أن تهدأ آلامه؟


انتبه على طرق الباب ودخول ناجي، صديقه المصري الوحيد وزميله في الشركة.

_ السلام عليكم مبروك يا وحش، سمعت إنك قفلتها.


التفت إليه مالك وهو يحاول ارتداء قناع البرود واللامبالاة الذي أتقنه على مر السنين.

_ وعليكم السلام لسه، فاضل تفاصيل صغيرة.


جلس ناجي على المقعد الجلدي الفاخر أمامه، وهو يحل زر سترته الأنيقة.

_ تفاصيل إيه بس؟ الراجل بنفسه قالي إن لولا تحليلك للبيانات وتوقعك لمكان البئر الجديد، كانوا هيفضلوا يحفروا في الهوا شهور. 

إنت أنقذت ملايين يا مالك.


كان مالك قد قضى الأسابيع الثلاثة الماضية منكباً على مجموعة معقدة من البيانات لحقل نفط جديد في الصحراء.

كانت كل الفرق الأخرى قد اقترحت مواقع حفر باءت بالفشل لكن مالك، بذكائه الحاد وقدرته على رؤية الأنماط التي لا يراها الآخرون اكتشف شذوذاً بسيطاً في البيانات ثغرة صغيرة قادته إلى استنتاج جريء ومختلف تماماً. راهن على استنتاجه، وأقنع الإدارة العليا بتغيير مسار الحفر بناءً على تحليله. 

واليوم جاءت الأخبار بانفجار النفط من الموقع الذي حدده بالضبط.


تنهد مالك وهو يجلس على مقعده بوجوم لم تظهر على وجهه أي علامات للانتصار أو الفرح.

_ كلمت الشيخ حمدان؟


هز ناجي رأسه بأسف.

_ كلمته وباركتله على البئر الجديد باسمك بس برضه، رافض تماماً فكرة إنك تتنقل لفرع الشركة التاني. 

قالي بالحرف: 

"مالك هو العقل المفكر هنا، ومستحيل أفرط فيه".


لم يتفاجئ مالك لقد كان هذا نجاحه الأكبر وفي نفس الوقت أصبح قيده الذهبي.

_ يبقى زي ما اتفقنا تجديد العقد مرفوض.


نظر إليه ناجي بحيرة حقيقية.

_ ممكن أفهم إيه اللي في دماغك؟ ليه يا مالك؟ ليه مصر تتنقل لفرع أبرد وأصغر ومكانه مقطوع زي ده، وتسيب دبي والمركز اللي وصلتله هنا؟ إنت على بعد خطوة من إنك تبقى رئيس قسم العمليات كله.


كانت عينا مالك لا تظهران سوى البرود، كسطح بحيرة متجمدة تخفي تحتها أعماقاً عاصفة. 

أجاب بصوته الرزين الهادئ

_ مفيش أسباب دي رغبتي.


لن يجادل ناجي معه. 

فرغم مرور سبع سنوات على صداقتهما، إلا أن مالك كان دائماً كصندوق أسود مغلق لم يستطع يوماً معرفة ما بداخله سوى إذا أراد هو ذلك.


سحب مالك ورقة رسمية من الدرج، وأخرج قلماً فاخراً من جيب سترته. 

بدأ يكتب بهدوء وثبات كل حرف كان بمثابة مسمار يدقه في نعش وجوده في هذه المدينة.

_ أنا هكتب استقالتي وهسيبها معاك. 

أول ما أرجع مصر بعد أسبوعين، قدمها نيابة عني.


لم يتفوه ناجي بكلمة واحدة أمام هذا العناد المطلق. 

لقد أدرك أن صديقه لا يهرب من فشل، بل يهرب من نجاح باهر، نجاح يكبله ويقيده في المكان الذي لم يعد يطيق البقاء فيه لحظة واحدة. 

مكان يذكره بكل ما يحاول نسيانه.


❈-❈-❈


في منزل وهدان 

"هكذا كان يومي معه مليء بالتجاهل من جهته

عيناه دائمًا حائرة كأنها تبحث عن غيري

أشعر أحيانًا بالألم كلما رأيت نظرات سند إلى نغم وكأن روحها تحلق مع روحه داخل فقاعة وردية لا يريد الخروج منها

لما لا يتطلع إلي بتلك النظرات

ألم يخبر جدي يومًا بأنه عاشقًا متيمًا بي؟!

لما إذًا ذلك التجاهل؟

لم أعد أصدق حديث جدي بأنه يفعل ذلك لأنه لا يملك القدرة على أن يبوح بما بداخله.

ولكن لم أعد أصدق، فما آراه أمامي يدل على أن عينه لا تراني

لا يشعر بي ولا بلهفتي عليه

اعشقه حد النخاع لكن يبدو أنه من طرف واحد 

اليوم تخرجت من المعهد وسيعلن جدي عن خطبتنا أنا ونغم واليوم فقط سيكون باستطاعتي أن أسأله عن حقيقة مشاعره تجاهي...

روح..


❈-❈-❈


_ يعني إيه يا چدي؟ هتزوچني عافية إياك؟!

قالها عدي بغضب ونهض من مقعده أمام جده، كأنه لا يطيق الجلوس لحظة أخرى. 

كانت كلماته تحمل تحدياً واضحاً تحدياً لم يعتد عليه أحد في حضرة "وهدان الرفاعي".


تنهد وهدان تنهيدة طويلة، ووضع فنجان قهوته على الطاولة الصغيرة بجانبه.

نظر إلى حفيده الثائر أمامه وتحدث بحكمته المعهودة التي تشبه هدوء ما قبل العاصفة

_ لا يا ولدي مش عافية بس إنت خابر إني مش رايد حاچة من الدنيا دي غير مصلحتكم.


تطلع إليه عدي باستنكار وضحك ضحكة ساخرة قصيرة.

_ مصلحتي؟ مصلحتي إنك تزوچني لواحدة مبحبهاش؟! واحدة بشوفها زي أختي الصغيرة وبس!


قال وهدان بهدوء كأنه يضع الحقائق على الطاولة واحدة تلو الأخرى.

_ بس هي بتحبك وريداك وبعدين لاحظ يا ولدي، إن محدش مناسب ليها غيرك إنت.

أخوك، زي ما إنت شايف همل البلد من سنيين طويلة ورافض يرچع، وكل همه شغله وبس. 

وسند... سند رايد نغم من زمان...


قاطعه عدي وقد اشتعلت نيران الغيرة في قلبه عند ذكر اسم نغم هتف بجده، وكأنه يلقي باتهام طالما كتمه في صدره

_ طيب ليه ممنعتش سند عن نغم، زي ما منعتني عنها؟ ليه هو ياخد اللي رايدها وأنا لأ؟


انفعل وهدان داخلياً لتطرق حفيده لهذا الأمر مرة أخرى لكنه حافظ على هدوئه الخارجي لقد قرر أن يتعامل مع هذا العنيد باللين، فالنار لا تطفئها النار قال بثبات ونبرته تحمل تحذيراً مبطناً

_ نبهتك كتير بلاش الحديت ده

وجولتلك إنهم رايدين بعض من زمان لو طاوعتك وزوچتهالك، فأنا إكده بحكم عليكم كلكم بالفشل بحكم على سند بالكسرة وعليك إنت بالتعاسة مع واحدة جلبها مع غيرك، وعلى نغم بالظلم.


صاح به عدي بعذاب حقيقي وشعر بالظلم يطبق على صدره.

_ تجوم تضحي بيا أنا؟!


أنكر وهدان بصدق وتقدم منه خطوة ووضع يده على كتف حفيده في محاولة لتهدئته.

_ أنا مش بضحي بيك يا ولدي. 

أنا بديلك اللي ريداك واللي متأكد إنها هتصونك وتسعدك. 

بديلك الجوهرة اللي الناس كلها بتحسدك عليها. 

روح بتحبك يا عدي والحب ده هو اللي هيبني البيت.


انفعل عدي أكثر ونفض يد جده عن كتفه ثم أولاه ظهره كأنه لا يطيق النظر إلى هذا المنطق الذي يراه ظالماً.

_ لا يا چدي! إنت مش بتدور على اللي هتسعدني، إنت بتدور على اللي هيسعد الكل... إلا أني. 

ولو روح كانت اختارت سند كنت هتزوچها له. 

يعني كل اللي هامك هي رايدة إيه، مش أنا رايد إيه!

نعم لا ينكر وهدان ذلك في قرارة نفسه سعادة حفيداته خاصة اليتيمات، كانت أولويته القصوى. 

لكنه أيضاً يعلم مصلحة الجميع أين تكمن ويعمل على أن يسود الحب والتوافق بينهم. 

تحدث بهدوء وهو يعود لمقعده كقائد يلقي بآخر تعليماته قبل المعركة

_ شوف يا ولدي أنا عشت عمري كله أحاجي عليكم وأشوف اللي يسعدكم وأعمله حتى لو كان على حساب سعادتي أنا.


لاح اليأس في عينيه وهو يتابع بروية، ونبرته أصبحت أكثر حدة

_ يا ولدي عيبك إنك رايد كل حاچة وواخد الدنيا بصدرك. 

الدنيا يا ولدي لازمن نسايسها ونمشي على هواها ساعات يا إما محدش هيخسر غيرنا. 

اسمع كلامي يا ولدي ووافج وشيل نغم من دماغك.

استدار إليه عدي بحدة وعيناه تقدحان شرراً.

_ ولو جولت... لا؟

استرخى وهدان في مقعده وشبك أصابعه فوق بطنه ونظر إلى حفيده بنظرة باردة كجليد الشتاء. 

قال بهدوء لكن كل كلمة كانت كضربة مطرقة

_ يبجى إنت اللي اختارت تخرج عن طوعي. 

واللي يخرج عن طوعي... ملوش عيش في داري.


عقد عدي حاجبيه بصدمة لم تدم طويلاً فهو يعرف جده جيداً يعرف أنه برغم حنانه الذي يغمرهم جميعاً، إلا أنه لا يتهاون أبداً مع من يعصاه أو يتحدى أوامره. 

لقد وضع أمامه الخيارين بوضوح

إما الطاعة والبقاء في جنة الرفاهية أو العصيان والخروج إلى جحيم المجهول.


ضغط عدي على قبضته بغل حتى ابيضت مفاصله. 

نظر إلى جده نظرة إدانة أخيرة ثم خرج من المكتب صافقاً الباب خلفه بحدة، ليتردد صدى الباب في أرجاء السرايا.

ظل وهدان في مكانه لم يتحرك

كان يعلم جيداً أن حفيده سيعود.

 فـ عدي لم يتحمل مسؤولية نفسه يوماً، ولن يستطيع التخلي عن الرفاهية التي يعيشها في كنفه. 

لم يرسم لمستقبله طريقاً يسير عليه، عكس أخيه مالك الذي وضع هدفاً لمستقبله وسعى إليه بكل قوة. 

أما مالك فقد وضع هدفاً لمشاعره أيضاً... ولكن بإحجامها وكبتها.

تنهد وهدان ببطء. 

كان الأمر مؤلماً لكنه ضروري.

ففي عالمه لا يمكن ترك الأمور للمصادفة يجب أن تُبنى البيوت على أساس متين حتى لو كان الثمن هو كسر بعض القلوب في البداية.


❈-❈-❈


وقفت نغم أمام البوابة الضخمة لجامعتها، تشعر بحرارة شمس الظهيرة تلسع بشرتها. 

كانت الساعة قد تعدت الثانية والنصف، وقد مر وقت طويل على الموعد الذي حددته مع سند

كانت تمسك بحقيبتها بقلق وتنظر إلى الطريق المزدحم كل بضع ثواني على أمل أن تلمح سيارته المألوفة.


حاولت الاتصال عليه مراراً وتكراراً، لكن هاتفه كان يرن دون إجابة مما زاد من قلقها وحيرتها لم تجد أمامها حلاً سوى أن تعود للمنزل بسيارة أجرة، وهو أمر لم تعتد عليه أبداً.


أشارت لإحدى سيارات الأجرة القديمة المارة من أمامها والتي توقفت فوراً بصوت صرير خفيف. 

ترددت للحظة ثم فتحت الباب الخلفي واستقلت المقعد وأملته العنوان بصوتٍ هادئ.


لم ترى نغم نظرات المكر التي لمعت في عيني السائق وهو ينظر إليها في المرآة الأمامية

كانت نظرة سريعة جشعة كنظرة ذئب يرى فريسة ثمينة قد سقطت في عرينه. 

رأى هيئتها ملابسها الأنيقة، حقيبتها الجلدية، والهاتف الفاخر الذي وضعته بجانبها كل شيء فيها كان يصرخ بالثراء والنعمة.


انطلق بالسيارة وبدلاً من أن يتجه نحو الطريق الرئيسي المؤدي إلى القرية انحرف إلى طريق جانبي، طريق زراعي خاوي تحيط به الحقول من كل جانب. 

شعر بأن الحظ قد لعب دوره معه هذه المرة الطريق إلى القرية طويل، وهذا المنعطف الخالي من المارة هو فرصته الذهبية.


في البداية لم تنتبه نغم لتغيير المسار، فقد كانت غارقة في أفكارها وقلقها على سند

لكن بعد دقائق، بدأ شعور غريب ومقلق يتسلل إليها شعور بأنها مراقبة.


رفعت عينيها إلى المرآة الأمامية، فتجمد الدم في عروقها وجدت زوجاً من العيون يتطلع إليها بخبث وجرأة، يلتهم تفاصيلها دون حياء وعندما التقت نظراتهما أخفض عينيه بسرعة، متظاهراً بالتركيز على الطريق.


انتفض قلبها بخوف وبدأت دقاته تتسارع كطبول الحرب. 

جاهدت كي تخفي ذعرها وتظاهرت بالهدوء حتى لا يلاحظ ضعفها فيستقوي أكثر عليها. 

ازدردت لعابها الذي شعرت بأنه أصبح مراً وجافاً، وظلت تدعو ربها في سرها أن ينقذها أن يكون كل هذا مجرد وهم وأن تعود إلى بيتها سالمة.


لكن استمرار نظرات الرجل الخاطفة والمقلقة جعلها تشعر بالخطر يطبق عليها. 

كل نظرة كانت تحمل تهديداً صامتاً، ووعداً مظلماً بما هو آت. 

ماذا ستفعل الآن؟ وماذا سيكون مصيرها إذا... لم تجرؤ على إكمال الفكرة في رأسها.

ازداد خوفها أكثر وتحول إلى رعب حقيقي. 

لم تجد أمامها سوى محاولة الاتصال مرة أخرى بـ سند ربما هو في الطريق إليها الآن ربما يمكنه أن يفعل شيئاً.


أخرجت هاتفها من الحقيبة بروية، وحركتها كانت بطيئة ومحسوبة كأنها تخشى أن يصدر الهاتف أي صوت. 


كانت عيناها تترقب السائق في المرآة، تراقبه كما يراقبها. 

قامت بالاتصال على سند وقد حالفها الحظ هذه المرة بأن أجابها فوراً.


في تلك اللحظة تواجهت عيناها بتلك العيون الغادرة مرة أخرى وقد لمح الهاتف بيدها اتسعت عيناه بغضب، وأدرك أنها تحاول طلب النجدة.


رفعت نغم الهاتف إلى أذنها بذعر، وبمجرد أن سمعت صوت سند القلق يقول ألو؟ صاحت في الهاتف بكل ما أوتيت من قوة بصوتٍ مزقه الرعب

_ سند! الحقني بسرعة... أنا في...


لم تكمل جملتها. 

صرخت صرخة ألم حادة صدحت في السيارة عندما ضغط الرجل على مكابح السيارة بكل قوته بشكل مفاجئ. 

اندفع جسدها إلى الأمام بعنف، واصطدم رأسها بقوة بالمقعد الأمامي. 

سقط الهاتف من يدها وغابت عن الوعي بينما كان آخر ما سمعته هو صوت سند المذعور ينادي اسمها عبر الهاتف الملقى على أرضية السيارة.


❈-❈-❈


كان الهواء حارًا وثقيلاً، والغبار يملأ ورشة السيارات الصغيرة على أطراف البلد. 

نظر سند في ساعته للمرة العاشرة وشعر بالملل ونفاد الصبر يتسللان إليه. 

ضرب بقدمه الأرض بخفة ثم نظر إلى الشاب الذي كان لا يزال منكبًا على محرك سيارته المفتوح.

_ وبعدين معاك يا بشمهندس؟ أنا اتأخرت جوي وعندي ميعاد ضروري.


رفع الشاب رأسه من تحت غطاء المحرك وظهر وجهه المتسخ بالزيت والعرق. 

مسح جبينه بظهر يده تاركًا خطًا داكنًا، وقال بأسف صادق

_ والله يا سند غصب عني، العطل طلع أكبر من ما افتكرت. 

للأسف العربية شكلها هتاخد مني وقت طويل.

تأفف سند بضيق. 

كان قد وعد نغم أن يمر عليها ليأخذها لشراء بعض الأغراض التي تحتاجها هي لا تخرج كثيرًا وكان هذا اليوم استثناءً.

لاحظ عادل حيرته وقلقه فترك ما في يده ونهض واقفًا.

_ اسمع، شكلك مستعجل بجد. 

خد عربيتي اقضي بيها مشوارك، ولما ترجع بالسلامة تكون عربيتك خلصت.


نظر إليه سند بدهشة لم يكن يتوقع هذا الكرم.

_ معقول! بس كده هعطلك أنت.

ضحك عادل وهو يلتقط منشفة قماشية ويمسح بها يديه.

_ ولا عطلة ولا حاجة يا سيدي أنا كده كده قاعد في الورشة للآخر تعبك راحة.

لم يجد سند كلمات ليرفض، 

فإصرار ابنة عمه على انتظاره يجعله في موقف حرج. 

هز رأسه بامتنان.

_ متشكر جوي يا عادل، مش عارف أقولك إيه.


دخل عادل إلى مكتبه الصغير، وأخذ مفتاحًا من على علاقة خشبية ثم عاد وأعطاه لسند قائلاً بمزاح

_ خد يا سيدي بس حاسب عليها دي أنا دافع فيها دم قلبي وشقى عمري كله.


ابتسم سند وهو يأخذ المفتاح.

_ في عنيا ربك يسهل.


اتجه نحو سيارة عادل، وقبل أن يفتح الباب توقف فجأة وضرب على جيبه.

_ نسيت التليفون في عربيتي.


ضحك عادل وهو يهز رأسه.

_ باين عليه اللي واخد عقلك؛ جامد قوي.


ابتسم سند وتوجه إلى سيارته المعطلة وفتح الباب ليأخذ هاتفه. 

في اللحظة التي لمسته فيها يده، أضاءت الشاشة معلنة عن اتصال من "نغم"

 شعر بوخزة من الارتياح، ورد مسرعًا وهو يضع الهاتف على أذنه.

_ أيوه يا نغـ...


لم يكمل اسمها قاطعه صوت صرخة حادة ومذعورة، صرخة ممزقة بالرعب، تحمل اسمه كاستنجاد أخير.

_ سنــــــــــــد! الحقنــــــــي بسررررعة!!


تجمد الدم في عروق سند. 

توقف قلبه عن النبض للحظة، وتحول العالم من حوله إلى ضباب صاح في الهاتف بصوتٍ لم يعد صوته، صوت أجش ومذعور

_ نغم!! في إيه؟! أنتِ فين؟! ردي عليا!!


لم يأتِ رد كل ما سمعه هو صوت ضوضاء مشوشة كأن الهاتف قد سقط من يدها، ثم صمت تام ومفاجئ... صوت إنهاء المكالمة الذي كان أشبه بصوت طلقة رصاص في أذنيه.


أعاد الاتصال بجنون ويداه ترتجفان بعنف لدرجة أنه كاد أن يسقط الهاتف لكن الرد جاء سريعًا وقاسيًا: 

"هذا الرقم قد يكون مغلقًا أو خارج نطاق الخدمة".


لاحظ عادل حالة الهلع التي أصابت سند فجأة، فركض نحوه بقلق.

_ خير يا سند؟! في إيه مالك؟!


لم يرد عليه سند كان عقله قد توقف عن العمل، وكل ما يراه هو وجه نغم الخائف توجه إلى سيارة عادل كمن يسير في حلم، وفتح الباب وهو يتمتم بضياع

_ معرفش... معرفش في إيه...


قال عادل بحسم وهو يركض نحو الباب الآخر للسيارة

_ طيب استنى، أنا جاي معاك.


شغل سند محرك السيارة، وصوت المحرك كان كهدير في رأسه غمغم برفض وهو يضغط على دواسة الوقود

_ لأ... خليك أنت...


لكن عادل كان قد فتح الباب بالفعل وجلس في المقعد المجاور، وأغلقه بقوة.

_ أخليني إيه! شكلك مش هتعرف تسوق لوحدك امشي بس وقولي نروح على فين، وأنا معاك للآخر.


لم يجادل سند لم يكن يملك القدرة على الجدال. 

كل ما كان يعرفه هو أنه يجب أن يصل إليها، وأن كل ثانية تمر قد تكون قد فاتت الأوان انطلق بالسيارة بسرعة جنونية، تاركًا وراءه سحابة من الغبار وقلبًا يدق بالرعب، ودعاء صامتًا بأن تكون لا تزال بخير.


❈-❈-❈


انصدم رأسها في المقعد المقابل وقبل أن ترفع رأسها الذي شعر بالدوار وجدته يدفعها جانبًا ويخطف الهاتف مسرعًا ليقوم بإغلاقه وإلقائه خارج السيارة، خوفًا من أن يكون به جهاز تتبع. 

لم تستطع نغم المقاومة وهو يجردها من الحلي التي ترتديها، خوفًا من أن يلحق بها الأذى. 

أومأت له حينما طلب حقيبتها، فأخرج ما بها من نقود ووضعها بجيبه ثم سألها بشر

_معاكي حاجة تاني؟

هزت رأسها بالنفي برعب

_مش معايا، أرجوك متأذنيش.

تطلع إلى قدها برغبة وعيناه تلتهمان تفاصيلها

_بصراحة مكنش في دماغي، بس مقدرش أشوف الجمال ده وأسيبه وأمشي.

صرخت نغم بهلع وقبل أن يميل عليها فتحت الباب الآخر وهمت بالخروج منه لكنه أمسك ببلوزتها. 

لم تستسلم نغم وقاومت حتى تمزقت البلوزة من الخلف. 

فأحكم قبضته على ذراعها، التفتت لتميل على يده بأسنانها فيصرخ الرجل متألمًا وهو يترك ذراعها

_يا بنت........

فتحت نغم باب السيارة وقفزت منها، غير آبهة بالخطر الذي يحيط بها. 

ركضت بأقصى سرعة ممكنة، وقلبها يخفق بعنف ودخلت إلى حديقة أشجار كثيفة محاولة الاختباء من السائق الذي كان يطاردها. 

ولم تكن تعلم بأن دخولها سيكون بداية لرحلة عذاب قاسية ولن ترحمها..


كانت الأشجار العالية والمتشابكة توفر لها بعض الأمل في النجاة بينما كانت أصوات خطوات السائق تقترب منها، وتزيد من رعبها. 

تجري وتجري بلا هوادة، فقط تريد الفرار من ذلك المصير الذي سيقضي عليها وعلى عائلتها انتفض قلبها هلعًا عندما نظرت خلفها ووجدته يسرع وراءها.


❈-❈-❈


تطلع عادل إلى سند الذي يضغط على مقود السيارة حتى جعلها تسرع بشكل يدعوا إلى القلق فقال بقلق

_سند أهدى شوية العربية كدة ممكن تتقلب بينا.

صاح به سند بقلق

_أهدى كيف وبنت عمي مخبرش جرالها إيه.

_أكيد خير إن شاء الله.


وعلى الجانب الآخر 

توقفت الطائرة في مطار سهاج

فيترجل منها ذلك الشاب بغرور قاتل وهو يرتدي نظارته السوداء كأنه يخشى على عينيه من دفئ شمسها كي لا تقضي على ذلك الصقيع الذي غلف عينيه

سار بخطوات ثابتة حتى انهى إجراءات الخروج سريعًا دون أي تعب او مشقة

فالكل يعلم جيدًا من هو ذلك الرجل لذا يتجنب بعضهم التعامل معه

خرج من المطار فيجد السائق ينتظره بسيارته فيسرع بحمل الحقيبة من يده قبل أن يقوم بفتح الباب له قائلاً بترحيب

_نورت البلد يا جاسر به.

لم يجيبه بل اكتفى بإيماءة بسيطة منه واستقل المقعد الخلفي.

اما السائق فوضع الحقيبة في السيارة وأسرع يتولى القيادة كي لا يغضب رب عمله الذي لا يقبل ابدًا بتضيع ثانية واحدة هباءً

بعينين كالجليد تطلع إلى هاتفه الذي لم يكف لحظة واحدة عن الرنين فيتشنج فكه دلال على السئم من تكرار اتصالها

قام بإخراجه من سترته وهم بغلقه لكنه تراجع عندما وجد الاتصال من والدته فرد دون تردد

_السلام عليكم.

_وعليكم السلام يا ولدي فينك دلوجت؟

رد بفتور اعتاده حتى مع اقرب الناس إليه 

_في الطريج ربع ساعة وهكون في البيت.

_توصل بالسلامة يا نور عيني اني  مستنيينك من الفجر.

_تمام.

لم تجفل من فتورة معها فقد اعتادته منه لعلمها بأسبابها.

أغلق الهاتف وأعاده إلى سترته ثم تطلع للطريق أمامه والذي يأخذه إلى طريق بلدته مارًا من أمام تلك الأرض التي راح ضحيتها ثلاثة من عائلته وآخرهم أبيه.

لمعة عينيه لوهلة وانشق فمه القاسي عن ابتسامة ماكرة من تلك الخطة التي عمل عيها لسنوات وها قد جاء موعدها

ربما يحالفه الحظ يومًا لتسير كما خطط لها، من يدري.

وقتها سيكون باستطاعته رد الصاع بصاعين ويجعلهم راضخين لكل ما يريده

انتبه للسائق الذي هدئ السيارة فسأله 

_بتهدي العربية ليه؟

اوقف السائق السيارة وهو يجيبه

_أصل فيه عربية اجرة جدام الجانين بتاعت جنابك هشوف ليكون في حاچة.

هم بالرفض لكن انتبه كلاهما لصوت صراخات انثى داخل الجناين 


❈-❈-❈


كانت رئتاها تحترقان كل نفس تأخذه كان كشرب كأس من اللهب يمزق حلقها وصدرها. 

لم تعد تشعر بقدميها لقد تحولتا إلى مجرد أداتين تتحركان بإرادة منفصلة عن جسدها المنهك لكنها لم تتوقف لم تجرؤ على التوقف.


صوت خطواته خلفها كان كقرع طبول الموت إيقاع ثابت وقاسٍ يطاردها، يلتهم المسافة بينهما. 

كل حفيف لورقة شجر كل طقطقة لغصن يابس تحت قدميه كان يرسل موجة من الرعب الجليدي عبر عمودها الفقري. 

لم تكن تجرؤ على الالتفات كانت تخشى أن ترى وجهه أن ترى في عينيه النصر وهو على وشك الانقضاض عليها.


وفجأة، تغير الإيقاع سمعت صوت تعثر عنيف تلته سب مكتوم وارتطام جسد ثقيل بالأرض لقد سقط!


هذه الفرصة هذه الثانية الثمينة التي منحها إياها القدر، كانت كجرعة من الأدرينالين النقي. 

ضاعفت من سرعتها وركضت بقوة لم تكن تعلم أنها تملكها. 

ركضت بلا هدف بلا وجهة، فقط بعيدًا عنه كانت الغابة من حولها قد تحولت إلى سجن أخضر، أشجارها المتشابكة والمتراصة كقضبان عملاقة تحجب عنها العالم وتخنق أي بصيص للضوء أو الأمل.


فكرت أن تصرخ أن تطلق صرخة تمزق هذا الصمت الموحش، صرخة قد تصل إلى أي إنسان أي منقذ

لكن الخوف شل حبالها الصوتية ماذا لو لم يسمعها أحد سواه؟ ماذا لو كشفت صرختها عن مكانها بدقة وقادت الذئب مباشرة إلى فريسته؟ لقد أصبح الصمت سلاحها الوحيد، وهدوءها فرصتها الضئيلة للنجاة.


لكن جسدها بدأ يخونها. 

ازدادت ضربات قلبها حدة لم تعد مجرد خفقات بل ارتطامات عنيفة ومؤلمة في قفصها الصدري، كطائر مذعور يحاول كسر قضبان سجنه

شعرت بدوار يغزو رأسها، وبقع سوداء بدأت ترقص أمام عينيها. لم تعد قادرة على المواصلة.


استندت على جذع شجرة ضخمة، خشن الملمس وضغطت بكفها على صدرها، في محاولة يائسة لتهدئة هذا الجنون الذي بداخله. 

أغلقت عينيها للحظة وأذناها متيقظتان لأي صوت. 

هل نهض؟ هل هو قادم؟ كل ثانية من الصمت كانت تعذيبًا ترقبًا مرعبًا لما هو آت.


بعد لحظات بدت كدهر وجدت بصيصًا من الضوء أمامها. 

لم تكن الشمس بل كان فراغًا بين الأشجار. 

مخرج! دفعت نفسها بعيدًا عن الشجرة، وركضت نحو هذا الضوء بكل ما تبقى لها من قوة.


خرجت من كثافة الأشجار إلى حافة طريق ترابي قديم. 

كانت تلهث بعنف، والهواء يصفع وجهها. 

نظرت يمينًا ويسارًا الطريق كان مهجورًا وموحشًا.

لم يكن هناك أمل. 

استدارت لتواصل الركض على طول الطريق لا يهم إلى أين المهم أن تظل في حركة.


وفي لحظة استدارتها اصطدمت بجدار بشري.

لم يكن ارتطامًا عاديًا. 

كان صلبًا وثابتًا كالصخر. 

القوة التي اصطدمت بها جعلت الهواء يخرج من رئتيها دفعة واحدة، وشعرت بأن عظامها قد اهتزت.

رفعت رأسها المذعور وعيناها المتسعتان بالرعب تبحثان عن وجه المعتدي، متوقعة أن ترى نفس النظرة الوحشية التي كانت تطاردها.

لكن ما رأته جمدها في مكانها، وأوقف قلبها الذي كان ينبض بجنون.

لم تكن نظرة شهوة أو وحشية كانت شيئًا آخر شيئًا أبرد وأقسى.

كانت عيونًا جليدية بلون السماء في شتاء قاسٍ حادة كشظايا الزجاج، وثابتة لا ترمش. 

عيون لا تعرفها

كانت تلك العيون الجليدية التي لم تحمل أي تعبير سوى القوة الباردة، هي آخر ما وقعت عليه عيناها قبل أن يبتلعها الظلام وتتهاوى بين ذراعيه فاقدة للوعي.


❈-❈-❈


كان عقل سند عبارة عن ضجيج أبيض، لا صوت فيه يعلو على صدى صرخة نغم الأخيرة. "الحقني!"

كلمة واحدة لكنها كانت كافية لتفجير بركان من الرعب في داخله. 

ظل يضغط على زر إعادة الاتصال في هاتفه ويداه ترتجفان على عجلة القيادة لكن الرد كان دائمًا نفسه: صوت آلي بارد يعلن أن هاتفها مغلق، كل إعلان كان طعنة جديدة في قلبه القلق.


لم يرحمه عذاب التخيلات. 

صور مروعة تتراقص في ذهنه سيارة صدمتها، ذئب بشري اعترض طريقها، سقوط في مكان مهجور. 

كل فكرة كانت أسوأ من سابقتها، وكلها تنتهي بنفس النهاية المظلمة.


قال عادل بصوت هادئ حاول به اختراق جدار الهلع الذي يحيط بسند.

_سند، اهدى شوية وخلينا نفكر سوق على مهلك، أنت كده ممكن تعمل حادثة اديني أنا أسوق.


هز سند رأسه بعنف وعيناه الجاحظتان مثبتتان على الطريق أمامه.

_لأ! لازم أوصلها... لازم ألاقيها.


صاح به عادل بقلة حيلة

_نوصلها فين طيب؟! إحنا بنلف في الشوارع زي المجانين! الطريق خلص، ومفيش أي أثر ليها!


كان عادل على حق لقد وصلا إلى نهاية الطريق المعتاد، ولا شيء

لا أثر لها الخوف من الاتصال بالمنزل كان يشل تفكيره. 

جده... جده لن يحتمل خبرًا كهذا. يجب أن يتأكد أولاً، يجب أن يجدها قبل أن تصل الكارثة إلى أسوار البيت.


"الجامعة..." تمتم سند فجأة. 

_هي كانت مستنياني قدام الجامعة.


انعطف بالسيارة بقوة وانطلق بأقصى سرعة نحو الجامعة والأمل الضئيل يصارع اليأس في صدره. 

أوقف السيارة بعنف أمام البوابة، في نفس المكان الذي تنتظره فيه دائمًا

لم تكن هناك.


ترجل من السيارة كمن لدغه ثعبان وعيناه تمسحان المكان بجنون. 

تلفت حوله يبحث في وجوه الطالبات القليلات المتبقيات ينادي اسمها بصمت داخل رأسه لا شيء لا أثر لها. 

وكأن الأرض قد انشقت وابتلعتها.


ترجل عادل بدوره وتقدم منه واضعًا يده على كتفه.

_هتعمل إيه دلوقتي يا سند؟ لازم نتصرف.


زم سند شفتيه بحنق ولكم الهواء بقبضته في يأس.

_مش عارف! مش عارف! حتى معرفش حد من صحباتها عشان أسألهم!


قال عادل بحسم

_خلاص، مفيش حل غير إنك تتصل بالبيت اتصل على والدتك اسألها يمكن رجعت لوحدها يمكن حصل أي حاجة


تردد سند، وظهر الصراع على وجهه.


_ولو مرجعتش؟ جدي لو عرف حاجة... أنت خابر إنه مش حمل صدمات زي دي.

قال عادل بعقلانية

_يا سند، كده ولا كده هيعرفوا لو هي مرجعتش والثانية اللي بنضيعها دي ممكن تفرق في حياتها اتصل.


لم يجد سند مفرًا. 

أخرج هاتفه بأصابع مرتعشة، وبحث عن رقم والدته.


❈-❈-❈


في بهو المنزل الفسيح، كانت الأجواء هادئة ظاهريًا، لكن القلق كان ينسج خيوطه في صمت. 

كانت ليل والدة نغم، تنظر إلى الساعة كل دقيقة، وقلبها بدأ يشعر بوخز غريب. 

تأخرت ابنتها أكثر من اللازم.


تطلعت نادية والدة سند إلى هاتفها الذي أضاء فجأة باسم ابنها. 

شعرت ببعض الارتياح وقالت لـ ليل التي كانت تجلس بجوارها بقلق واضح

_اهو ولدي بيتصل. 

أكيد بيعرفنا إنهم جايين في الطريق.


تنفست ليل الصعداء وقالت بأمل

_طيب ردي بسرعة يا أختي طمنيني، قلبي هيقف.


فتحت نادية الخط بصوتٍ بشوش

_أيوة يا ولدي، طمنـ...


قاطعها صوت سند اللاهث والمذعور، صوت لم تعرفه من قبل.

_أمي... في حد جنبك؟


تجمد الدم في عروق نادية اختفى صوت ابنها الواثق وحل محله صوت رجل على حافة الانهيار. 

نظرت إلى عيون ليل وورد المترقبة، وشعرت بالخوف يدب في قلبها هي الأخرى. 

حاولت التماسك وتمتمت بتلعثم، مستخدمة شفرة يائسة

_بتسأل... بتسأل على محفظتك ليه؟ نسيتها في أوضتك؟


فهم سند على الفور أنها ليست وحدها.

_أمي جاوبيني بسرعة، بالله عليكي... نغم رجعت البيت؟


نهضت نادية وهي تتظاهر بالثبات، وتتحرك بعيدًا كأنها تبحث عن شيء.


_لأ يا سند... بس هطلع أدورلك عليها فوق.


لكن ليل لم تعد تحتمل. أوقفتها بلهفة، وقلق الأمومة الصادق يفضح كل شيء.

_طمنيني الأول الله يرضى عليكي، نغم معاه؟ كويسة؟


وصل صوت زوجة عمه القلق إلى أذن سند عبر الهاتف فلم يعد بحاجة إلى إجابة من والدته لقد فهم.

_خلاص يا أمي... اقفلي دلوقتي.


أغلقت نادية الخط، وشعرت بجفاف حلقها. 

حاولت أن ترسم ابتسامة مطمئنة وهي تواجه نظرات ليل التي تحولت من القلق إلى الشك.

_ا... اه يا أختي بيجول إنهم جايين في الطريق بس هو نسي المحفظة وبيقولي اتأكدي إنها في أوضته.


لكن ارتباك نادية كان فاضحًا. 

تهربها من النظر في عينيها وارتجاف صوتها الخفيف، كلها كانت علامات خطر.

سألت ليل مباشرة ونبرتها أصبحت حادة.

_أنتِ مخبية عليا حاجة؟


اهتزت نظرات نادية وتهتهت بالقول

_حاجة؟... حاجة إيه بس اللي هخبيها عليكي.


تقدمت منهما ورد التي شعرت بالتوتر.

_في إيه يا جماعة؟ واقفين كده ليه؟


ردت نادية بارتباك أصبح واضحًا للجميع:

_صدجوني مفيش حاجة


لم يعد هناك شك بل أصبح يقينًا

هناك خطب ما بابنتها جذبت ليل الهاتف من يد نادية بقوة.

_خلاص خليني أنا أكلمه وأعرف بنفسي.


لم تحاول نادية منعها وتركت الأمر لابنها ليتصرف اتصلت ليل بسند وانتظرت الرد لكنه لم يجب. 

لقد رأى سند اسم زوجة عمه ولم يجرؤ على الرد لم يكن يعرف ماذا سيقول لها.


أعادت الاتصال مرة ومرتين، وثلاث لا رد.


شق الخوف قلب ليل وتحول شكها إلى اتهام صريح. 

نظرت إلى نادية بعيون تملؤها الدموع والغضب.

_ابنك مابيردش ليه؟! وبنتي فين؟! قولولي بنتي فين؟!


لم تجد ليل ردًا في تلك اللحظة دلف سالم إلى المنزل على صوت ليل العالي، وسألهم بقلق

_صوتكم عالي كده ليه؟ في إيه؟


التفتت له ليل بلهفة وكأنها وجدت طوق النجاة.

_بنتي يا سالم! بنتي مرجعتش لحد دلوقتي وتليفونها مقفول! وسند مش بيرد علينا!


قطب سالم جبينه بدهشة وشعر بالخطر على الفور

 أخرج هاتفه من جيبه ليتصل هو الآخر، وقال بحنق وغضب

_كيف ده؟!


لقد انتقلت شرارة القلق من سند في الشارع، لتشعل حريقًا من الخوف والهلع داخل جدران المنزل.


يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رانيا الخولي، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة