رواية جديدة أرهقته حر با لتوتا محمود - الفصل 25 - السبت 13/9/2025
رواية أرهقته حربًا الجزء الثاني من رواية عشق بعد وهم كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية أرهقته حر با الجزء الثاني من رواية عشق بعد وهم
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة توتا محمود
الفصل الخامس والعشرون
تم النشر بتاريخ السبت
13/9/2025
لم يشعر "أيان" بشيء وهو يطلق صرخته، كأنّ روحه بأكملها اندفعت مع ذلك الاسم الوحيد، خرج الصوت عارمًا، حادًّا، مجروحًا، وكأن حنجرته احترقت في اللحظة ذاتها:
ـ نــــــــــوح
انكمش جسد "شهاب" دفعة واحدة، كمن صُفع على حين غرة، تقهقر خطوتين، ولسانه ينهال عليه باللعنات داخله، مرّة، اثنتين، عشرة، بل ألف.
لعن غباءه، لعن تورّطه، ولعن "أيان" نفسه الذي لم يعد يفهمه.
كان الهواء كثيفًا حول "نوح"، حين رفع رأسه ببطء، تتقافز الحيرة في عينيه، كأن صرخة "أيان" اخترقت عقله ولم تجد تفسيرًا.
حدّق خلفه أولًا، بعينين تتوقعان الخطر، كمن ينتظر أن يرى ظلًّا ينقض، أو شبحًا يلوّح له، لكنه لم يرَ شيئًا.
استدار ببطء إلى "أيان"، وعيناه لا تزالان معقودتين بالتساؤل، ليهتف، ونبرته هذه المرة مزيج من الصرامة والحيرة، كأنه يبحث عن مفتاح لفهم الموقف:
ـ في إيه يا أيان؟؟؟
تردّد "أيان"، خطوته التالية لم تكن واثقة، بل مرتعشة كمن يخطو على زجاجٍ مكسور، وعلى وجهه ارتسم قلق عارم، شفاف، لم يستطع إخفاءه حتى ولو أراد.
استشعر "نوح" هذا التوتر، رآه يتسرّب من كل تفصيلة في جسده، في ارتباك صوته، في توتر عينيه، حتى في طريقة اقترابه.
قال بصوت متكسّر، يتلعثم كطفل يُمسك بالكلمات ولا يقبض عليها:
ـ مـ… مفيش ، إنت كويس؟ طمّنّي عليك.
مدّ يده دون تفكير، وضعها فوق كتف "نوح" كمن يتأكد أنه ما زال حيًا، وكأن لمسة واحدة كافية لتعيد له طمأنينته.
عيونه تبحث، تتفرّس في قسمات وجهه، وكأنها تبحث عن أي علامة خطر… عن أثر دم… عن ارتجافة… عن حياة.
لكن "نوح" لم يبتلع هذه التصرفات بسهولة.
أزاح يده بهدوء، لا عنف فيه، ولكن فيه جدارٌ من البرود، ثم قال، بصوت لا يحمل أي حرارة:
ـ وانت من إمتى بيهمّك إذا كنت كويس ولا لأ؟
قالها وهو يثبّت نظره فيه، ثم أكمل بجديّة صارمة، لا تسمح باللف والدوران:
ـ وبعدين انت جيت ليه، وقعدت تنادي عليا ليه بالطريقة دي؟
اهتزّ "أيان" في مكانه، نظر له بعينين تضيقان بخوف خفي، محاولًا أن يخفي اضطرابه خلف كلمات مرتعشة، كلمات كاذبة تعرف أنها كاذبة:
ـ هو… اه… يعني، كان عادي يعني… قولت أخضّك شوية… محصلش حاجة.
رفع "نوح" حاجبيه، لم تنطلِ عليه المسرحية الرخيصة.
نظر إليه كمن يرى شخصًا غريبًا للمرة الأولى، وفي عينيه خليط من الشك والازدراء، ثم ابتسم، لكن ابتسامته كانت مشوّهة، تحمل سخرية جارحة كالسكاكين:
ـ أول مرة أعرف إنك تافه يا أيان.
ابتسم "أيان" أيضًا، لكن ابتسامته كانت جثة هامدة.
لم تصل إلى عينيه، لم تمس قلبه، مجرد ردة فعل آلية تحاول إخفاء شيء أعمق بكثير.
تمتم، وابتلاعه لكلماته يشبه رجلًا يغرق:
ـ أنا… أنا… فعلاً… تافه.
بقي "نوح" يتأمله لحظة، تلك النظرة الأخيرة التي تُقال فيها أشياء كثيرة دون صوت.
ثم حرّك يده، أدخل الهاتف في جيب بنطاله، واستدار ليغادر.
لكنه لم يذهب مباشرة.
توقف فجأة، واستدار من جديد، نظر نحو "أيان"، ولاحظ ذلك الزفير الثقيل يخرج من صدره، كما لو أنه نجا للتو من الموت.
كان هذا وحده كافيًا لزرع بذور الشك في قلب "نوح"، شكّ أكبر من مجرد صراخ مفاجئ أو كلمات متلعثمة.
غادر بعدها، خطوته مترددة، وكأنّ ما زال يفكر، يحسب، يحلّل.
أما "أيان"، فقد بقي واقفًا في مكانه، وعيناه تحدّقان في الفراغ الذي تركه "نوح" خلفه، يتأكد أنه رحل بالفعل… أنه أصبح وحده.
أدار رأسه ببطء، يبحث عن "شهاب"… لم يجده.
حينها فقط، ارتجف جسده كله، وتذكّر.
تذكّر السكين التي كادت أن تخرج من يـ ـده، وتغرس نفسها في صدر "نوح".
تذكّر كم صمت من أجل "شهاب"، كم حاول أن يتمالك نفسه، أن يحتمل، أن يتجاهل.
لكن الآن…
الآن، لم يعد هناك مجال للصمود.
❈-❈-❈
كانت " نور" تجلس وحدها، على الطاولة الهادئة القابعة في إحدى زوايا المكان، تشبك أناملها بإحكام فوق بعضها البعض، وعينيها تراقب عقارب الساعة في توتر خفي، تنتظر "نوح"، تنتظر حضوره كما ينتظر القلب خفقة كانت غائبة.
لكن فجأة، مزّق انتباهها صوتٌ خفيف ، ضحكة مألوفة... دافئة ، كأن الزمن سافر بها لزمن بعيد.
التفتت سريعًا نحو مصدر الضحك، فتجمّدت عيناها على ذلك المشهد ،
"أسر"، يبتسم ويضحك بجانب "عادل"، عمها وكم بدا المشهد مألوفًا ومربكًا معًا.
ضحكات بعيدة، لكنها قريبة بما يكفي لتهزّ داخلها شيئًا.
لم تكن قد استعادت أنفاسها من المفاجأة، حتى باغتها صوت من خلفها، صوتٌ يحمل حماسة طفولية وانبهار اللحظة:
ـ نور ؟؟ ، مش معقول، إيه الصدفة الجميلة دي
استدارت بسرعة، وكل خلية في جسدها تتساءل عن صاحب هذا الصوت ، عينها وقعت على فتاة ، ملامحها لم تكن غريبة تمامًا، ولكن الزمن طمس الأسماء، بعثر الذكريات.
نظرت إليها بتركيز حذر، محاوِلة أن تلتقط من وجهها قطعة مفقودة من الماضي، لكنها فشلت.
فقالت الفتاة، بصوتٍ حزين يحاول أن يُخفي خيبته:
ـ انتي مش فاكريني؟
هزّت نور رأسها بأسف حقيقي، وعلى وجهها اعتذار ناعم:
ـ لا ، بس أنا حاسه إني شوفتك قبل كده ، مش فاكرة فين بالضبط.
ضحكت الفتاة، ابتسامة واسعة وكأنها تعرف الإجابة، ثم هتفت بشغف لا يخلو من ذكريات:
أنا ريما ، ريما البنوتة اللي كانت معاكي في الثانوية والإعدادية في أستراليا.
وفي لحظة، انفتحت بوابة في عقل "نور"، وانهمرت الذكريات كشلال دافئ.
تذكّرت الوجه، والضحكة، والمقاعد الدراسية، وتلك الأيام التي عبرت كما يعبر الحلم.
انفرجت شفتاها عن ابتسامة حقيقية، واتجهت نحوها بذراعين مفتوحتين، تحتضنها بشوق السنين:
ـ ريما ، انتي وحشتيني أوي
عانقتها "ريما" هي الأخرى، بقوة ولهفة لا تكذب، والحنين يفور في قلبها، وقالت بصوتٍ تملؤه اللهفة:
ـ وانتي كمان وحشتيني أوي يا نور، أنا أول ما شوفتك عرفتك على طول
انفصلتا ببطء عن العناق، لكن ابتسامتهما ما تزال متشابكة، وقالت "نور" بمرحٍ دافئ:
ـ ده عشان بس أنا متغيرتش، انتي اللي اتغيرتي وبقيتي أحلى .
ضحكت "ريما" وهتفت بمشاكسة ناعمة:
ـ مين دي اللي متغيرتش؟ بالعكس، انتي اتغيرتي أحلى وأحلى ، أنا دايمًا أسمع إن كل ما الواحد يكبر، بيفقد جزء من جماله ، إلا انتي، ما شاء الله، بتكتسبي كل مرة جزء زيادة من جمالك .
احمرّ وجه "نور"، واحنت رأسها بخجل أنثوي، وقالت بضحكة خفيفة:
ـ زي ما انتي متغيرتيش ، دايمًا بتثبتيني في الكلام.
ضحكت "ريما" بخفة، ثم نكزتها في ذراعها، وهتفت بمشاكسة أكبر:
ـ هو القمر بيتهزم برضو؟
ضحكت "نور" ضحكة خفيفة، عميقة، كأنها استعادت جزءًا مفقودًا من نفسها، ثم قالت بسعادة لا تخفى:
ـ مش معقول بجد ، احكيلي، حياتك عاملة إيه؟ وانتي عاملة إيه؟ طمنيني عليكي.
قالت "ريما"، وعينيها تتلألأ بسعادة حقيقية:
ـ بصي يا ستي، أنا اتجوزت من خمس سنين، ودلوقتي معايا آدم، وعايشة مبسوطة الحمد لله أنا وجوزي وابني ، كنت عايشة في أستراليا، بس انتقلت هنا من تلات سنين.
رفعت "نور" حاجبيها، ونظرت لها بنظرة معاتبة، فيها رقة المحبة، وقالت:
ـ كده برضو؟ بقي انتقلتي هنا ومسألتيش عليا؟
أجابت "ريما" بسرعة، وكأنها تخاف أن تُساء فهمها:
ـ محصلش ، بالعكس، دورت عليكي كتير، بس ملقتكيش ، روحت بيتك القديم، قالولي إنك انتقلتي، ومعرفش عنك حاجة خالص.
ساد الصمت للحظة، ثم قالت "نور" بنبرة هادئة، لكن بريقًا خافتًا ظهر في عينيها، لم يخفَ على "ريما":
ـ أنا فعلاً انتقلت ، من بعد ما جوزي السابق اتوفى.
تغيرت ملامح "ريما" فجأة، وقالت بتأثر واضح واعتذار صادق:
ـ أنا آسفة جدًا ، مكنتش أعرف حقيقي ، ربنا يرحمه ويعوضك خير يا حبيبتي.
ابتسمت "نور"، نفس الابتسامة الهادئة التي تخفي في أعماقها وجعًا صامتًا، وقالت:
ـ واتجوزت تاني ، اسمه نوح النويري.
توسعت عينا "ريما" في مفاجأة، وابتسمت، وأغمضت عينيها في دهشة طفولية:
ـ بتهزري مش كده؟
تأملت "نور" ردّ فعلها باستغراب، كان في ابتسامتها شيء لا تفهمه تمامًا، وكادت تسألها، لكن صوتًا مألوفًا قطع تفكيرها:
صوت "نوح"، يناديها من خلفها.
استدارت فورًا، وقبل أن تقول شيئًا، رأت "نوح" يقترب، وخلفه "ريما" تبتسم له، وتبادله التحية.
قال "نوح"، بصوتٍ يحمل ابتسامة متكلفة:
ـ أهلًا مدام ريما.
ردّت "ريما" بنبرة دافئة، تكشف ماضٍ يعرفه الاثنان:
ـ بخير يا نوح، انت أخبارك إيه؟
قال، بنبرة مجاملة محفوظة:
ـ الحمد لله تمام، وأخبار آدم؟ عامل إيه؟
توقفت "نور"، كأن الهواء تجمّد في صدرها.
عيناها التصقتا بوجه "نوح"، تتساءل، تحاول فهم كيف يعرف "آدم"، وكيف يعرف "ريما"، ولماذا لم تُذكر هذه الصداقة من قبل.
ردّت "ريما"، بنفس الابتسامة:
ـ الحمد لله بخير ، بيسلم عليك.
ابتعد "نوح" قليلًا، وقف بجانب "نور"، ذراعه تلف خصرها بهدوء مصطنع، وقال:
ـ يا رب دايمًا.
وقبل أن تجد "نور" سؤالها يخرج، قاطعهم رجل ثلاثيني، أنيق جدًا، بشرته برونزية، عيناه سوداوان كليلٍ ساكن، يقترب بخطى واثقة.
ما إن رأى "نوح"، حتى عانقه بحرارة.
دهشة "نور" كانت كاملة.
لم تلحق أن تتفاعل، حتى قالت "ريما"، بنبرة مليئة بالحماسة:
ـ إبراهيم ونوح يعرفوا بعض من زمان، من أيام الجامعة، وشركاء كمان في الشركة.
نظرت "نور" بسرعة إلى "نوح"، وعيناها تتوسّعان بدهشة جديدة، وقالت:
ـ ده بجد؟
أجابها، بنبرة هادئة، رتيبة:
ـ يمكن معرفتكيش عليه قبل كده ، بس مجتش فرصة ، بصي يا ستي، ده إبراهيم الخليلي.
ثم التفت إلى "إبراهيم"، وهو يعانق خصرها بحنان ظاهر، وقال:
ـ ودي يا سيدي نور ، مراتي اللي بحكيلك عنها.
ابتسم "إبراهيم" بأدب، وقال بنبرة مليئة بالاحترام:
ـ تشرفنا يا مدام نور.
ردّت "نور" عليه بابتسامة صغيرة، وهي تنظر له، ثم إلى "ريما"، وقلبها يفيض بمشاعر متشابكة ، فرحة، توتر، دهشة .
وقفت "ريما" بجانب زوجها، وجسدهما متقارب كما لو أنهما قطعة واحدة، يتبادلان الحديث بصوت منخفض لا يسمعه سواهما، لكنّ اللغة الصامتة التي بينهما كانت أعلى من أي همسة.
كل بضع ثوانٍ، تلتفت "ريما" نحوه وتبتسم تلك الابتسامة التي لا يُزيّنها إلا الحب، ابتسامة تخرج من عمق روحها، صادقة، مطمئنة، كأنها لا تزال تقع في غرامه للمرة الألف.
"نور" لم تكن تسمع الكلمات، لكنها كانت ترى كل شيء، تقرأ ملامح الحب بعيون حائرة، عيناها تتنقّلان بين تقاسيم وجه صديقتها ونظرات زوجها، وكأنها تتابع مشهدًا سينمائيًا لا تعرف هل تحسد أبطاله أم تبكي لأجلهم.
في قلبها سؤال خجول، تردّد في عقلها مرارًا كأنها تهمس به لنفسها:
"ماذا لو ؟؟"
ماذا لو عاشت هي و"نوح" مثل أي زوجين حقيقيين؟؟
ماذا لو سمحت لنفسها أن تحبه علنًا، أن تختبئ في صدره حين تنهار، أن تستيقظ على صوته، أن تقف بجانبه في كل شيء كما تفعل "ريما" الآن؟
بدأت تتخيل .
تخيلت نفسها تضحك معه، تشتاق إليه، تختبئ خلفه من همومها، وتُسند عليه قلبها المنهك، تخيّلته يحتضنها حين يخيفها العالم، ويطمئنها حين ترتبك، ويربت على كتفها حين تبكي دون سبب.
في هذا الخيال، كانت سعيدة.
آمنة.
بسيطة.
لكن ذلك الخوف .
ذلك الشبح المظلم الذي يسكن زاوية قلبها، لم يتركها.
كان حاضرًا بقوة، يُذكّرها أن قلبها سبق وانكسر، وأنها لم تنسَ كيف سُحب الأمان من تحت قدميها ذات يوم، ولم تنسَ كيف هو الشعور أن تُكسر من أقرب الناس إليك.
كانت خائفة.
خائفة أن تمنح قلبها مجددًا، أن تبني عليه أحلامًا وتنهار مرة أخرى.
ليست قوية كفاية لتتحمل خيبة جديدة.
وكانت أيضًا ضائعة.
لا تدري إن كانت عادلة حين تبقي "نوح" على مسافة، تبعده رغم دفئه، تغلق الأبواب في وجهه، لا لأنها لا تريده، بل لأنها تخاف أن تحبه.
أم أنها ظالمة ، ظالمة لنفسها، لقلبها، ولمن يستحق منها الحياة نفسها؟.
تحرم قلبها من دفء حقيقي، من فرصة جديدة، من حب صادق فقط لأن ماضيها ارتكب جريمة فيه.
كانت مشاعرها تتصارع داخلها بلا رحمة.
وفي عينيها، بريق غامض من التشتت، لا تنتمي لأي قرار.
هي ليست سعيدة الآن.
وهي تعلم ذلك.
تتمنى، تتمنّى بصدق أن تعيش مثل "ريما"، امرأة تُحب وتُحب، لها حضن، بيت، وطفل يشبهها ويشبه من تحب.
تتمنّى أن ترى "نوح" يحمل طفلهما، يضحك معه، يُشبّه عيونه بعيونها، ويغمرها بذلك الحب الذي يبدو بسيطًا للناس لكنه كل شيء لها.
لكن الحقيقة؟
الحياة لم تكن عادلة معها قط .
كانت تمنحها لمحات من السعادة، ثم تسحبها كأنها لم تكن.
كل شيءٍ عندها مؤقت، هش، ناقص.
وفي هذه اللحظة، كانت تعلم .
أن أقسى ما في الأمر، هو أن تكون في منتصف الطريق، لا إلى الرحيل ، ولا إلى الحب أفلحت.
معلقة بين ألم الذكرى، ورغبة المستقبل، لا تدري من تُنقذ أولًا ، قلبها، أم خوفها.
تنهدت " نور" تنهيدة مسموعة، ثقيلة، كأنها تُفرغ في تلك الزفرة ما تبقى في صدرها من أفكار مثقلة، مشاعر مشنوقة، وصراع يدور بلا هوادة بين عقلها وقلبها.
كأنها تحاول بتلك التنهيدة أن تفتح نافذة صغيرة في صدرها يدخل منها بعض الهواء، أن تتنفس ولو للحظة، أن ترتاح ولو قليلاً أن تصمت الضجة الهائلة داخلها.
أغلقت عينيها ببطء، محاولة أن تهرب من كل شيء، أن تلتقط لحظة واحدة من السلام وسط هذا الضجيج الداخلي.
حاولت أن تسرق ثانية تُشبه الطمأنينة.
لكن عقلها
ذلك العقل الملعون
لم يسمح لها.
فجأة، كأن صورة ارتسمت أمام جفونها المغلقة ، وجه "رحيم"، لحظة موته، ذلك الألم القديم الذي ما زال يسكن كل زاوية في قلبها، كل خلية في جسدها.
تسلل الذكرى إلى ذهنها كان كمن يطعنها وهي نائمة، ففتحت عينيها دفعة واحدة، شهقة حارقة تسبقها، وجسدها يرتجف، ينتفض كأن صاعقة ضربته، كأن برودة الموت لامسته مجددًا.
كل هذا لم يمر دون أن يُلاحظ.
ما زال " نوح " ذراعه يلف خصرها بحماية فطرية، شعر بها ترتجف، كأن حواسّه كلها كانت في حالة تأهّب لها وحدها.
نظر إليها بسرعة، وقرأ في عينيها ما لم يُقال، وقبل أن تنطق، خرج صوته قلقًا، مليئًا بالخوف والحنان، صوت سُمع بوضوح حتى لمن هم بجانبه:
ـ مالك يا حبيبتي؟؟ ، انتي كويسة؟
كان "إبراهيم" و"ريما" لا يزالان قريبين، وبمجرد أن سمعا صوته، اقتربا بسرعة.
لكن "نور" لم تجب.
فقط هزّت رأسها نفيًا، هزّة خافتة، موجوعة، وكأنها تطلب من العالم كله أن يصمت، أن لا يسأل، أن لا يضغط على ذلك الجرح.
ثم نظرت إلى "نوح"، وعيناها تحملان كل التعب، كل الضجيج، كل الرغبة في الاختفاء لحظة واحدة عن العالم، وقالت بصوت هادئ، لكنّه مبلّل بالخذلان:
ـ أنا كويسة ، بس أنا عايزه أدخل التواليت ضروري.
لم تُكمل ، لم تحتج أن تشرح.
التعب كان واضحًا، يكاد يُمسك بكتفيها ويُنزلهما من ثقلٍ لا يُرى.
في تلك اللحظة، كانت "ريما" هي اليد الحانية التي تحرّكت دون تردد، أمسكت بيد "نور" بقوة ناعمة، نظرت في وجهها لتطمئن، لكنها رأت الشحوب يكسو ملامحها، فرأت ما لم تُرد " نور" لأحد أن يراه ، الانهيار الذي يقف على عتبة البكاء.
قالت "ريما" بسرعة، بنبرة فيها مزيج من اللهفة والخوف:
ـ اسندي عليا، ومتقلقيش تعالي معايا.
ثم التفتت إلى "نوح"، وبعينيها نظرة مطمئنة، ناعمة، فيها ثقة كبيرة، وكأنها تُعيد إليه وعدًا أن تحميها، أن تكون معها:
ـ متقلقش يا نوح، أنا معاها سيبها، متقلقش.
تردد "نوح" للحظة، لم يكن يريد أن يتركها، لكنه رأى في عيني "نور" نظرة خفيفة، هادئة، كأنها تقول له
"أنا بخير بس محتاجة لحظة واحدة أكون لوحدي."
فأفرج عنها ببطء، كأنّه يترك جزءًا من قلبه معها، يتبعها بنظرته حتى ابتعدت خطوتين.
سارت " ريما " بجانبها بخطى ثابتة، حانية، حتى وصلا إلى باب المرحاض.
فتحت لها الباب، ثم دخلتا معًا لكن "نوح" ؟؟
"نوح" لم يبرح مكانه.
وقف في الخارج، ثابتًا، لا يتحرك.
كأنّه ظلّ ينتظرها، يحرس الباب بصمته، لا يعرف ماذا يفعل سوى الانتظار.
كل جزءٍ في جسده كان مستنفرًا لأجلها، وكل لحظة تمر، كانت بالنسبة له أطول من اللازم.
لم يكن يرى الباب فقط .
بل يرى قلبه هناك خلفه يتألم.
❈-❈-❈
حين دخلت الحمام، كأنها عبرت من عالم إلى آخر ، من قاعة مزدحمة بالأضواء والأصوات، إلى مكان ضيق، صامت، لا يَسمع فيه أحد أنين النفس ولا ارتجافة الجسد.
أغمضت عينيها للحظة، ثم سحبت نفسًا عميقًا، محاولة أن تُنقذ قلبها من الانهيار، أن تُبطئ دقاتها قبل أن تكشفها الدموع أو نظرة شفقة من أحد.
تركت يد "ريما" برفق لم يكن رفضًا، بل استئذانًا صامتًا لثانية واحدة من العزلة.
توجهت نحو الحوض بخطى بطيئة، كأن كل خطوة منها كانت تحمل وزنًا من الخوف، وركامًا من الذكريات.
وضعت راحتيها على طرف الحوض، ثم انحنت قليلًا، كأنها تحاول أن تتوازن في عالم مائل.
فتحت الماء، دَعَت برودة قطراته أن تُفيق قلبها، أن تُوقف هذا العقل الذي يعاندها، يُرهقها، ويعيدها قسرًا إلى نقطة ألم رفضت العودة إليها.
رشّت وجهها بالماء
مرة .
اثنتين .
ثلاثًا .
كأنها تحاول أن تُغسل الذكرى ، أن تُنظّف قلبها من الصدع، أن تُطفئ النار الصغيرة التي بدأت تشتعل في أعماقها من جديد.
مرت لحظات، هدأ فيها ارتعاش يديها، وبدأ صدرها يتحرّك بتنفس أكثر هدوءًا ، وكأن العاصفة قد مرّت، أو على الأقل، أخذت استراحة.
كل ذلك كان تحت نظر "ريما"، التي كانت تقف خلفها بصمت حنون، تحمل في عينيها قلقًا أموميًا وهمسًا خافتًا:
ـ بقيتي كويسة؟
قالتها بنبرة فيها حذر، كأنها تخشى أن تُحدث الشرخ الذي بالكاد التئم.
لكن "نور" لم تجب.
فقط همهمت بصوت خافت، لا يحمل رفضًا ولا قبولًا ، مجرد صوت يقول
" أنا أحاول " .
رفعت بصرها نحو المرآة، ورأت نفسها.
تأملتها جيدًا.
الماكياج ما زال ثابتًا، وكأن لا شيء حدث ، لا انهيار، لا بكاء، لا تعب.
لكن عيناها؟
كانتا تقولان كل شيء.
ذلك النوع من التعب الذي لا يراه إلا من يعرفه، كان مرسومًا في عمق نظرتها
تعب العقل، لا الجسد.
ثقل التفكير، لا الحركة.
ألم داخلي، لا تظهره عضلة واحدة في الوجه.
هي ليست منهارة .
لكنها على الحافة.
تحاول أن تُتمم هذا اليوم.
أن تبقى واقفة، ثابتة، قوية، ولو فقط لساعات قليلة.
فقط حتى يُنهي "نوح" كلمته ، يستلم جائزته .
ويذهبا معًا، وكأن لا شيء حدث.
تبتلع ضعفها بين لحظة وأخرى، تكتمه، تُخفيه وراء اسمها، وراء كل الحروف التي تُكوّن من هي
"نور السيوفي".
الفتاة التي لم يسندها أحد ، التي وقفت وحدها، قاتلت وحدها، عبرت ألمها وحدها، ولم تسقط رغم كل الضربات.
وهي الآن، أمام المرآة، تُخاطب نفسها داخليًا ،
تُحاول أن تتذكر من هي، كيف كانت، ولماذا لا يمكن أن تنهزم الآن.
ستنجح.
ستتغلب.
وستمر هذه الليلة، لا لأجلها فقط ، بل لأجل من يستحق أن ترافقه النور.
فهو رجل لم يخذلها.
لم يختر نفسه يومًا قبلها.
رجل رقيق، قوي، يستحق أن ترى فيه الحياة وجهها الأجمل، وأن تسير معه نحو غدٍ لا يخيفها.
هو يستحق الجائزة .
وليس فقط تلك التي ستُسلم له الليلة، بل جائزة قلبها أيضًا، لو فقط عرفت كيف تفتح له الباب دون أن يخيفها الماضي.
قطع أفكارها صوتٌ قوي، غاضب، حاد، كأنه شقّ جدار الهدوء الذي حاولت أن تبنيه حول نفسها بصعوبة.
كان صوت ، "نوح"، يتحدث خارج المرحاض ، صوته يرتفع بشيء من الانفعال، وعصبيّته تملأ المكان حتى اخترقت الجدران :
ـ لا أنا هدخل، سبني يا إبراهيم، قولتلك.
كان صوته لا يحتمل مزيدًا من الانتظار ، صوت رجل لا يملك رفاهية الصبر، قلبه على الباب من الجهة الأخرى، وروحه تقف في الداخل خلفه.
داخل المرحاض
انتبهت "نور" لصوته، فتنهدت تنهيدة ثقيلة، تنهيدة محمّلة فوق صدرها كأنها ترفع بها صخرة من فوق قلبها.
كأنها تطرد في تلك الزفرة كل الأصوات، كل الصور، كل الذكريات التي ظلت تطاردها حتى في اللحظة التي كانت تحاول أن تهدأ فيها.
نظرت لنفسها مرة أخيرة في المرآة ، نظرة عميقة، فيها تأمل ولهفة وارتباك، وعدّلت من وضعها سريعًا، بيدٍ قلقة تمسح على شعرها، وأخرى تزيل أثر التعب من عينيها دون جدوى.
ثم خرجت.
خطوتها الأولى نحو الباب كانت كأنها قرار بالخروج من الظلمة إلى الضوء، من الغرق إلى النجاة، ومن الوحدة إلى من تنتظره.
مدّت يدها نحو المقبض، وفي اللحظة ذاتها، كان "نوح" على وشك أن يفتحه من الخارج .
لكنه لم يُكمل.
هي من فتحته أولاً.
التقت نظراتهما.
ثوانٍ لم تُنطق، لكن قلوبهما تكلمت بها آلاف الكلمات.
نظر إليها "نوح" بلهفة، بعين رجل وجد شيئًا كاد أن يفقده، عينه تناديها قبل صوته، قبل أي كلمة.
لم يتردد، لم يسأل، لم يتراجع.
ضمّها إليه.
مدّ ذراعيه كأنهما جناحين يحيطان بها، ثم عانـ ـقها بقوة، بقلبه، بذراعيه، بروحه.
وهي؟ لم تقاوم.
ارتمت بداخله كأنها وجدت أخيرًا بيتها المفقود.
عانـ ـقته بذات الاندفاع، بذات الضعف، بذات الرجاء، كانت تبحث عن شيء لا يُقال بالكلمات .
كانت تريد أن تشعر بالأمان.
أن تبقى على قيد الحياة في حضنه.
في هذه اللحظة، لم تكن "نور السيوفي" المرأة القوية الصلبة التي اعتاد العالم أن يراها، بل كانت فقط أنثى خائفة، مرهقة، تريد ذراعي رجل تحبه .
لا تريد شيئًا الآن.
لا كلمات، لا شرح، لا مواجهة.
تريد فقط أن يتوقف عقلها.
أن تصمت تلك الأصوات التي تنهشها.
أن تنتهي تلك الذكريات التي لا ترحمها.
وكل ذلك يحدث فقط ، في حضنه.
هي بخير الآن.
ولأول مرة منذ مدة طويلة، تشعر أنها ما زالت حيّة.
من بعيد، كان "إبراهيم" يراقب المشهد، حاجبيه منعقدان، وعيناه تحملان قلقًا صادقًا.
كاد أن يتكلم، أن يسأل، أن يعلّق لكن يد "ريما" أمسكت بـيـ ـده بسرعة، بلطف حاسم، كأنها تستشعر ما ينوي قوله.
نظرت له ونبرتها هادئة، متزنة، لكنها حازمة، تحمل حذرًا عميقًا:
ـ لما نروح البيت، نتكلم ،لكن لو اتكلمت دلوقتي، هنبوّظ اللي احنا عملناه ، اهدا، هي بقيت كويسة ، وهي دلوقتي مع نوح.
كلماتها كانت منطقًا لا يُردّ.
فصمت.
اكتفى أن يراقب من بعيد، ولم تعد كلماته ضرورية، فقط عينيه كانت تسأل وتنتظر.
اخذ يتأمل ملامح "نور"، تلك التي بدت أخيرًا هادئة، ساكنة، وجهها لا يحمل تلك التجاعيد الخفية من الخوف، بل بدا مطمئنًا، خفيفًا، كأنها عادت إلى مكانها الطبيعي ، بجوار "نوح".
ابتسم.
ابتسم لسعادتها.
لسكينة وجهها.
ولأنها أخيرًا… لم تكن وحدها.
خرج من اعنـ ـاقها ، واخذ يتفحص وجهها للمره الالف ، وهو يسألها بقلق :
ـ مالك ، تعبانة ، فيكي حاجه بتوجعك طيب .
هزت رأسها وابتسمت نصف ابتسامة علي اهتمامه وقلقه :
ـ انا كويسه متقلقش ، انا بس روحت الحمام عشان اغسل وشي ، كنت حاسه نفسي اني دايخه ، بس خلاص الدوخه راحت لحالها .
عانـ ـق وجهها بين راحه يـ ـديه وهو يهتف بقلق أكثر :
ـ دايخه ؟؟ ، طيب ولسه دايخه ، ولا فوقتي شويه .
ابتسمت بإتساع علي قلقه بها وهى تهتف بأطمئنان :
ـ انا كويسه ، متقلقش ، ولو كنت دايخه ازاي هكلمك كده يعني .
هتف بقلق أكثر وهو مازال يتفحص وجهها ، وطريقه وقفها :
ـ لا لا انا مش مطمن ، تعالي نروح لدكتور نشوف ليه الدوخه دي وبعد كده نروح علي البيت ترتاحي .
اغمضت عينيها وهي تهتف بنبرة هادئة ولكن ابتسامتها تتسع أكثر :
ـ نوح انا بجد كويسه ، وعايزه استمتع بالحفله شوية ، وكمان عشان اشوفك وانت بتاخد الجايزه .
هتف هو الاخر بعناد وقلق أكثر ، وهو ينزل يـ ـده من علي وجهها ، وهو يمسك يـ ـديها حتي يذهبوا :
ـ لا يا نور الموضوع منتهي ، كفاية انك تعبانة ، متتكلميش تاني في الموضوع ده ، وتعالي يلا نروح لدكتور .
مسكت يـ ـده واوقفته وهى تهتف بدلال بصوت منخفض حتي لا احد يسمعهم :
ـ عشان خاطري يا نوحي ، هو النهارده بس ، معقول ماليش خاطر عندك يا حبيبي .
لم يستوعب بما قالته ، بلع بما جوفيه ، وانعقد حاجبيه من الصدمه وهو يهتف بصدمة بما قالته :
ـ نوحي ؟؟ ، وحبيبي ؟؟ .
ابتسمت وهى ترى تأثره بها ، مما وضعت يـ ـدها تحاوط رقبته بدلال وهى تهتف بدلال زائد :
ـ ايوا طبعا نوحي ، وحبيبي ، هو انا لو مقولتش لجوزي حبيبي كده ، امال هقول لمين يعني .
ابتعد عنها بدون أن يتهور ويفعل شئ خطأ امام الجميع ، فهى تقوده للجنون ، وهو يقسم بذلك ، حاول أن يبتعد عنها ، وان يسيطر علي نفسه ، بدون أن يفعل شئ احمق ، هتف بإستسلام ومازال يفكر في حديثها الذى جعل قلبه يطرق كالطبول :
ـ ماشي خلاص هنقعد .
ابتعدت عنه وابتسمت بإتساع بعد ما نفذت مرادها ، وكل هذا امام عيون " ريما " و " إبراهيم " الذى ابتسموا لهم ، وعلي سعادتها ، متمنين لها السعادة الأبدية معه .
❈-❈-❈
كانت الأضواء في القاعة لا تزال تتراقص فوق الرؤوس، مختلطة بألوان ناعمة بين الذهبي والأبيض، تُلقي على المكان بريقًا يشبه الحلم.
جلست "وعد" على مقعدها المخملي، أمامها طاولة صغيرة تزينها ورود بيضاء موضوعة بعناية في مزهرية زجاجية لامعة، وحولها كؤوس الكريستال تصطك بخفة كلما لامستها الأيدي.
رفعت الكأس بين أصابعها المرتجفة قليلًا، رشفة عصير بارد لامس شفتيها فترك أثرًا من الانتعاش، بينما عينيها مثبتة على شاشة الهاتف بين يدي "كاميليا" التي تريها صورها وهي تتسلم الجائزة منذ لحظات.
كانت صورًا مشبعة بالضوء والفخر، ابتسامتها وهي تمسك الدرع، عيون الحاضرين الموجهة نحوها، واللحظة التي صارت فيها محور القاعة.
شعرت بدفء غريب يتسرب إلى روحها، راحة لم تعرفها من قبل، وفرحة نقية تجتاح قلبها.
وأخيرًا، بعد سهر الليالي، بعد تعب الصفقة تلو الأخرى، بعد الهزائم والانكسارات والوقوف من جديد، ها هي تجني ثمرة جهدها.
المركز الأول: أفضل سيدة أعمال في البلد.
كان اللقب كوسام محفور على صدرها، وكأنه يروي للعالم كله أنها لم تُهزم.
غرقت في هذه الذكريات، صور متلاحقة تمر أمام عينيها، تلك الليالي التي لم يغمض لها جفن، العقبات التي بدت وقتها جبالًا، ثم انتصارات صغيرة تتراكم حتى صنعت منها مجدًا كبيرًا.
لكن هذا الشرود انكسر حين شعرت بظلٍ يخيّم فوقها.
رفعت رأسها، فوجدت "كمال" واقفًا بجوارها، يبتسم ابتسامة فخر عميقة جعلت قلبها يلين على الفور.
أغلقت الهاتف ببطء، وكأنها تحفظ صورها الثمينة في صندوق سري، ثم التفتت إليه وهمست بنبرة هادئة، بينما عينيها تلمعان بمعنى آخر:
ـ قاعد بتراقبني يا استاذ كمال ؟؟ .
ابتسم أكثر، وأسند يده على الطاولة، اقترب منها قليلًا حتى صار وجهه مقابل وجهها.
كان ينظر إلى ملامحها القريبة كما لو كان يتأمل لوحة فنية نادرة:
ـ لو مفيش حد بيقرب القمر ده يبقي مجنون بجد .
عيناه لم تفارقا عينيها، صوته خرج أعمق وكأنه يبوح بسرٍ دفين:
ـ الا قوليلي عيونك حلوه اوي كده ليه ؟؟
شعرت بنبضاتها تتسارع، ابتسامة صغيرة شقت شفتيها، حديثه المعسول كان يسلب عقلها، يجعل قلبها يرقص بجنون داخل صدرها.
ردّت بخفة، وعينيها تُلقيان سهمًا مباشرًا إلى قلبه:
ـ ده من بعد عيونك .
ضحك قليلًا، ثم مد راحته بهدوء فوق الطاولة، ليغطي كفها الصغير بدفء يده. تنهد، وصوته خرج أرق من أي وقت:
ـ طيب هي عيوني حلوه زي عيونك معقول .
ابتسمت بقوة، أسنانها البيضاء لمعت تحت الأضواء، وأجابت بمشاكسه خفيفة:
ـ مش هعرف اغلبك في الكلام يا كمال .
اقترب أكثر، حتى كاد صوته يُلامس شفتيها، وعيناه تسبحان في عينيها بلا قيد:
ـ ازاى مش هتعرفي تغلبيني وانتي غلبتيني وخلتيني اقع في حبك .
تجمدت للحظة، الصدمة ارتسمت واضحة في ملامحها.
الكلمات سقطت عليها كعاصفة دافئة، قلبها بدأ يطرق كالطبول، ارتجف جسدها من قوة الاعتراف.
نظرت إليه مطولًا لتتأكد أن ما قاله لم يكن مزاحًا أو كلمات عابرة، لكن ملامحه كلها كانت اعترافًا صادقًا، عيناه تصرخان بحبٍ لا يُكذب.
أرادت أن ترد، لكن الكلمات علقت في حلقها، صوتها خانها، قلبها يخونها في انتظامه.
لم تمهلها اللحظة لتلتقط أنفاسها، فقد مد يده تحت الطاولة بخفة، أمسك يدها المخفية عن الأنظار، شدّ عليها بحنان، ثم قال بصوت ممتلئ بالعشق:
ـ انا بحبك يا وعد ، بحبك ، ومستعد اسيب العالم كله ، لأجلك ، ولأجل عيونك .
نظر في عينيها طويلًا، وكأن نظرته ختمت كلماته بعهد أبدي.
لمسة يده فوق يدها لم تكن مجرد تماسٍ عابر، بل كانت وعدًا خفيًا.
شبك أصابعه بأصابعها، عانق يديها وكأنها ملكية لا يفرط فيها.
جسدها توتر لأول مرة بهذه القوة، وجدت نفسها تحلق فوق السماء، قلبها يكاد يخرج من بين ضلوعها، وصوت نبضاتها مسموع حتى لها.
اكتشفت فجأة أن كل ألم قديم، كل خيبة وكل تعب، تلاشى تمامًا أمام هذا الدفء.
لم تعد تتذكر سوى هذه اللحظة، سوى "كمال" الذي صار مركز عالمها.
لكن فجأة انكسر السحر، حين جاء صوت "راندة"، بنبرة مستغربة وهي تحدق فيهما:
ـ هو في ايه ؟؟
ارتجف جسد "وعد" على الفور، سحبت يدها من بين يديه بسرعة، ابتعدت قليلًا بخطوات صغيرة مرتبكة، نظرت إلى "راندة" وعينيها مرتبكتين، بينما اقتربت الأخيرة وهي تعقد حاجبيها بشك، كأنها التقطت شيئًا أكثر مما أُظهر.
كادت أن تتحدث بتوتر ، ولكن قاطعها " كمال " وهو يهتف بهدوء وجدية :
ـ مفيش حاجه ، وعد بس حاسه انها دايخه شويه ، فـ كنت بطمن عليها .
نظرت " راندة " الي وجهه " وعد " بخوف وهى تهتف بخوف وتقترب منها :
ـ مالك يا حبيبتي ، فيكي اي .
تنهدت قبل أن تتحدث وهى تهتف بنبرة هادئة :
ـ مفيش كنت دايخه شويه .
امسكت يـ ـدها بخوف عليها وهي تنظر لها بقلق :
ـ طيب تعالي اسندى عليا ، هنروح انا وانتِ وكاميليا و….
قطعتها " وعد " وهى تبتعد عنها ، وهى تهتف بهدوء :
ـ لا طبعا مش همشي ، انا عايزه اشوف نوح وهو بيستلم الجايزة .
عقدت حاجبيها بشك بعد ما رأت وجهها وابتعادها عنها ، فهى علي ما يرام ، لما يقول " كمال " انها متعبة؟؟ ، فهى تعرف " وعد " منذ ان كانت صغيره ، وتلاحظ عليها التعب من اول نظره ، الأن فهى ترى أن " وعد " بخير وعلي ما يرام ايضاً .
توترت " وعد " من نظراتها ولم تعرف الحديث ، او كيف تتحدث ، فهى لم تعرف أن تكذب ابداً ، و " كمال " الذى انقذها منذ قليل وقال انها متعبة ، ولكن لا يعرف ان " راندة " تعرف الكذب من اول مره ، والصادق من اول مره ، فهى دكتوره نفسية وتعرف بهذه الاشياء جيداً .
كادت أن تتحدث ولكن قطعها دخول " ايان " وهو يمسك العصير لـ " وعد " ويبدو عليه القلق وهو ينظر الي " وعد " بقلق ، مما عقدت حاجبيها " راندة " :
ـ خدي يا وعد اشربي عصير ، علي الاقل يخليكي تفوقي شويه .
نظرت " وعد " بحيرة من تصرف " ايان " ولم تفهم بماذا يقول ، ولما جاء من الأساس ؟؟ .
قطع تفكيرها صوت " كمال " الذى ابتسم لها بشكر وهو يعطي الكأس العصير لـ " وعد " ونظر لها بجدية ، انها عليه أن تصمت وتمثل الآن :
ـ شكرا يا ايان هي بقيت كويسه شويه .
نظر " ايان " الي " كمال " وهو يهتف بحيرة :
ـ بجد ؟؟ ، بس لازم تشرب العصير علي الاقل يسندها .
كادت ان تتحدث " وعد " ولكن قاطعها صوت " رانده " وهي تهتف بحده :
ـ ما شاء الله من امتي وانت بتخاف علي وعد يا سي ايان ؟؟ .
بينما اكملت بحده أكبر وهى تمسك كأس العصير من يـ ـد " كمال " الذى اخذه من يـ ـد " ايان " منذ قليل :
ـ وجيبلها العصير بنفسك ، علي كده بقي حاطط سم فيه ؟؟؟ .
رفع حاجبيه بحيرة من حديثها وهو يهتف بنبرة هادئة استفزتها :
ـ مش ايان اللي يحط سم في الاكل يا راندة .
قطعته هي بحده وهي تضع العصير بعصبيه امامه مما وقع قليل من العصير علي الطاوله بسبب عصبيتها تلك :
ـ ايان لو يطول يقتلنا واحد واحد كان عملها من زمان .
انعقد حاجبيه بشك وهو يشاور علي نفسه بصدمة :
ـ انا يا بنتي ؟؟ .
بينما اكمل ببرود جعلها عصبيه اكثر :
ـ ده انا بحبكم هو مش باين عليا .
اقتربت منه " راندة " بحده وهتفت بعصبيه :
ـ هقولهالك تاني يا ايان ابعد عن عيلتي ، الاحسن ليك تبعد عنهم ، عشان انت مش قدي .
امسك كأس العصير الذى وضعته بعصبيه علي الطاوله ، اخذ رشفه من العصير ببرود ، وبعد ذلك وضعه امامها :
ـ ليه بتقولي كده ، ما يمكن عيلتك بتحبني ، حتي اساليهم ، واسالي يمن كده ، وبعدان عيب تقولي كده ، ده احنا بقينا اهل .
اقتربت منه بهدوء مخيف :
ـ استحاله نبقي اهل ، ويمن هي اللي هتطلب منك الطلاق ، وهي اللي بنفسها هتاخد منك الاملاك ، اصلك متعرفش يمن ممكن تعمل اي لما تكتشف حقيقتك .
قلبه دق ، ولا يعرف لما ، لا يعرف قلق ان يمن ستكتشف حقيقته اما لا ، ولكن الحقيقه ان يمن لا تهمه بشئ ابدا ، لذلك حاول ان لا يهتم بما تقول .
ابتسم بأستفزاز وهتف ببرود وعينيه يصرخون من التحدي :
ـ اللي عندك اعمليه ، سؤء اتقبلتي او لا ، فـ احنا بقينا اهل .
هتفت بحده وعينيها يشتعلون من الغضب الذى تشعر به :
ـ اللي عندي كتير وانت مش قده ، بس افتكر انك انت اللي بدأت .
ختمت جملتها وغادرت من امامه ، وكل هذا كان امام " كمال " و " وعد " ، وحينما غادرت ، رفع الكأس وهو ينظر الي اثر مغادرتها :
ـ في صحتك يا راندة .
ختم حديثه وشرب العصير ، اقتربت منه " وعد " وهي تهتف بحيرة :
ـ ليه عملت كده ؟؟ .
رفع نظره عليها وهو يهتف بحيرة :
ـ ليه استفزتها ؟؟ .
نظرت له بجدية وهي تهتف بحيرة أكبر :
ـ ليه انقذتني قدامها ، ليه جبت العصير اصلا ؟؟ ، ليه حاولت تستفزها عشان تمشي ؟؟ .
وقف امام مواجهتها وهو يهتف بهدوء وينظر الي " كمال " الذى كان واقف بجانبها :
ـ كنت متابع قعدتكم الذيذه دي سوا ، وكنت متابع لما هي دخلت وقعدت تسألك ، في عشان انتي فاشله في الكدب ، فـ حاولت ادخل ، وليه قاصد استفزها ، هي اللي استفزتني الاول وبس كده .
نظرت له ثواني وهي تهتف بنبرة هادئة وعينيها يصرخون من الحيرة :
ـ انت لحد دلوقتي مقولتليش ليه ؟؟ ، ليه عملت كده ، ليه حاولت تتدخل .
رفع اكتافه من سؤالها وهو يهتف بهدوء :
ـ معرفش ، معرفش ليه عملت كده ، وسيبني بقي امشي لان مشغول علي الاخر .
وهو يغادر توقف واستدار لها واقترب منها مره اخرى ، وهو يهتف بهدوء وحنان لاول مره استشعرته بصوته :
ـ ومتقلقيش مفيش حد هيعرف باللي شوفته ، وده وعد مني ، محدش هيعرف ولا حتي يمن .
نظر الي " كمال " بحنان وهو يهتف بحنان :
ـ انتوا الاتنين لايقين علي بعض ، كمال انسان كويس جدا ، ومشوفتش منه حاجه وحشه من ساعه ما نوح عمل الصفقه الابدية ، وانتِ كمان انسانه طيبه مشوفتش منك حاجه وحشه .
ختم حديثه وغادر من امامهم بهدوء ، شعرت " وعد " بالحيرة من امره ، لا تعرف هو انسان خبيث ، اما لا .
اول مره لا تعرف بالاشخاص الخبثين ، فهو تارة يكون قلبه ابيض وانسان طيب ، وتاره يكون انسان قاسي لا يهمه شئ سوى نفسه .
لاول مره بالفعل لا تعرف هو انسان خبيث اما لا ، ولكن بعد تصرفه هذا ، فهي شعرت بالحيره من شخصيته ، ولكنها متأكده من شئ انه انسان طيب ليس خبيث ، انسان لديه قلب حقاً ، وتصرفاته تلك ناتجه عن ماضي مؤلم ، فهى لن ترتاح ابدا ما الذى اصابه بالماضي وجعلته انسان هكذا .
والسؤال الاهم لما يتصرف مع عائلتها بهذا الشكل ، وما العدوى التي بينه تجاه عائلتها .
افاقت علي صوت " كمال " وهو ينظر الي مغادرته بشرود وهو يهتف بثقة جعلتها تتأكد أكثر من حديثها :
ـ ارهنك انه هو استفزها عشان تنشغل وتسيبك وتمشي ، مش عشان هي استفزيته زي مهو بيقول .
تنهدت أكثر وهى تفكر في تصرفاته التي غير مفهومه لها ابداً .
❈-❈-❈
كانت القاعة مضاءة بأضواء ذهبية فاخرة، تلمع ثريّاتها الكريستالية في السقف العالي وكأنها نجوم أُنزِلت من السماء لتزيّن اللحظة.
الجدران مكسوّة بكسوة داكنة فخمة، تتداخل فيها ألوان العنبر والذهبي، والمقاعد مصطفّة بانتظام هندسي صارم يوحي بعظمة المناسبة.
أصوات الهمس المتقطعة، وقع الكؤوس على الصحون الزجاجية، وحفيف الفساتين الطويلة على أرضية الرخام اللامعة، كلها امتزجت في سيمفونية من التفاصيل المرهفة التي لا يلاحظها إلا من كان ذهنه مشغولًا بكل شيء.
جلس "أسر" بجانب عمه "عدلي"، وكأنهما جزء من لوحة كبيرة، لكنه لم يكن حاضرًا كليًا في المشهد.
عيناه لم تكن مستقرتين؛ تجولان بين الحضور، حتى توقفت فجأة على زاوية بعيدة.
هناك، بين الزحام، لمح "نوح" جالسًا بجوار "نور".
كان المشهد كطعنة هادئة في قلبه.
يداهما متشابكتان، وأنامل "نوح" تعانق أصابعها في حنوّ واضح، كأنما يحاول أن يسكب في راحتها أمان العالم كله.
لحظة غريبة اجتاحت "أسر".
لم يكن يتمنى الشر لصديقه يومًا، بل على العكس، كان يخاف عليه كما يخاف المرء على نفسه.
"نوح" لم يكن مجرد صديق عابر من أيام الثانوية؛ بل كان بقايا ما تبقّى له من معنى الصداقة، بعد أن رحل "رحيم" تاركًا في قلبه فراغًا لا يُملأ. لم يبقَ له سوى "نوح"، وكل خلية فيه كانت ترتجف من فكرة خسارته.
تذكر "رحيم"، وكيف لم يستطع إنقاذه، وكيف ظل يحمّل نفسه وزر فقدانه.
والآن، يصرّ بعناد داخلي أن يُعوّض مع "نوح"، أن يحميه من كل ما يعتبره خطرًا، من كل ما يشبه اللعنة.
وبالنسبة له، "نور" لم تكن سوى تجسيد حيّ لتلك اللعنة، لعنة جميلة تبتسم فيخدع جمالها القلوب، لكنها في نظره قاتلة.
ومع ذلك، وجد نفسه للحظة قصيرة لا تُفسَّر يسرح في ابتسامتها.
بدت سعيدة، أكثر مما كانت مع "رحيم"، وأكثر مما رآها من قبل. ابتسم دون أن يشعر، ابتسامة صغيرة ارتسمت حين انعكست ابتسامتها عليه، كأنه يبتسم لصديقة قديمة كانت يومًا مثل أخته.
لكن ابتسامته تبعثرت فجأة حين تسلّل طيف "رحيم" إلى ذهنه.
تذكر أن هذه السعادة التي يراها، وهذه الابتسامة التي خطفت انتباهه، جاءت على أنقاض قلب صديقه.
اختنق صدره، وعاد يذكّر نفسه قسرًا، "هي السبب.. هي اللي خطفت رحيم من حياتي."
كان يردد داخله، " لو لم تكن "نور" موجودة، لظل "رحيم" إلى جانبه، يضحكان معًا كما كانا دائمًا.
كان غضبه يبتلع أي أثر للحنان في قلبه تجاهها.
نهض فجأة، جسده يوشك أن يهرب من المكان قبل أن تنهار جدران نفسه أمام العيون.
لكن صوته عمه "عادل" جاء من خلفه، رزينًا كعادته، يُعيده للحظة الراهنة:
ـ رايح فين يا أسر.
ارتبك، ولم يرغب أن يزعجه أو يفتح أبوابًا لا يريدها، فتنهد وأجاب باقتضاب:
ـ رايح أغسل وشي مش هطوّل.
بدا "عادل" حائرًا وهو يلتفت ناحية القاعة التي أوشكت أن تبدأ مراسمها:
ـ يا بني رايحين يبدوأ يسلموا جوائز.
لكن "أسر" لم يصبر، تحرّك بخطوات سريعة، قبل أن تنكشف هشاشته أمام عيني عمه.
قال فقط بنبرة مختصرة، فيها لهفة مكتومة:
ـ مش هتأخر.
خرج من القاعة، والهواء في الرُدهة بدا أثقل مما توقع. أسند ظهره للحائط للحظة، وحاول أن يلتقط أنفاسه.
شدّ على طرف ربطة عنقه ثم أرخاها بغيظ، وهو يلوم نفسه في همس مسموع:
ـ كل ما تحن ليها افتكر هي عملت إيه.. هي خدت أعز حاجة ملكك.. هو صحبك، حاول تفوق، انت بتكرهها مش بتحبها، نور ماتت.. واللي جوه دي مجرد لعنة.. لعنة.
ظل يكرر الكلمة كمن يحاول إقناع نفسه بدرس يكتبه عشرات المرات على السبورة، حتى هدأ قليلًا، وكأن التكرار كان وسيلة لإخراج السم من قلبه.
حين عاد ليدخل القاعة مرة أخرى، لم ينتبه لخطوات رجل قادم، فاصطدم به بقوة جعلته يتراجع خطوة للخلف.
ـ انا اسف مكنتش شايفاك فعلا.
أجابه "أسر" برقيّ فطري:
ـ ولا يهمك.
كان على وشك الابتعاد، لكن الصوت الذي تلاه أوقفه:
ـ مش انت أسر الكيلاني؟؟
استدار، وعيناه تلتقطان ملامح وجه بدا مألوفًا، كأن ذاكرته تنبّهت فجأة:
ـ ايوه انا.
ابتسم الرجل ومد يـده، كأنما يقدم بطاقة تعريفه مع المصافحة:
ـ تشرفت بمعرفتك، انا ابراهيم الخليلي، صديق نوح.. نوح حكالي عنك كتير.
صافحه "أسر" بابتسامة خفيفة، وهو يستحضر في ذهنه ما سمعه من "نوح" عن هذا الاسم:
ـ اه اه افتكرتك، تشرفت بحضرتك.
لكن عين "ابراهيم" لم تفارق وجهه، وقد لاحظ بقلق ملامحه المرهقة وربطة العنق التي ارتخت من مكانها:
ـ انت كويس؟؟
أومأ "أسر" برأسه وأجاب بهدوء متحفظ:
ـ انا تمام.
لكن "ابراهيم" لم يُخدَع بسهولة.
لمح ربطة العنق التي تدلّت، ثم التصرف المحرج حين أزاحها "أسر" عن رقبته، كمن لا يجيد التعامل معها أصلًا.
مشهد صغير كشف له سرًا، أن هذا الرجل لم يعرف يومًا كيف يرتديها.
كان "رحيم" رحمه الله هو الذي يعقدها له دائمًا، ثم تولّى العم "عدلي" المهمة بعد رحيله.
وبدون تردد، أخذ "ابراهيم" الربطة منه بلطف، وأعاد عقدها حول عنقه بمهارة، بينما يقف "أسر" مذهولًا، حائرًا بين الامتنان والحرج.
وعندما انتهى، تراجع خطوة للخلف، عاين شكله ثم ابتسم بحماس:
ـ كده تُحفه اوي.
في تلك اللحظة، غمر "أسر" شرود موجع.
تخيّل "رحيم" أمامه من جديد، يمازحه ويعيد له عقد الربطة بنفس الطريقة.
تذكّر ضحكاته، وصوته، وكل ما يفتقده حد الألم.
أفاق على صوت "ابراهيم" المتحمس يهتف بلهفة:
ـ يلا بقي عشان الحفلة بدأت.
وبالفعل، حين دخلوا معًا إلى القاعة، بدا وكأنهم ينتقلون من عالمٍ إلى آخر؛ فالمكان مُهيأ بعناية ليليق بمثل هذا الحدث الضخم. الأضواء البيضاء والزرقاء تتعاقب في سقف مرتفع تزينه ثريّات كريستالية متدلية، كأنها قطرات ضوء تتساقط على الحضور.
الطاولات كانت مرتبة في صفوف نصف دائرية، كل طاولة مزينة بزهور بيضاء تتخللها ورود حمراء صغيرة في أوانٍ زجاجية شفافة، والشموع المشتعلة فوقها تلقي بظلالٍ راقصة خافتة على الوجوه المتحمسة.
جلس "أسر" في مكانه، يُراقب بحدةٍ كل تفصيلةٍ حوله، بينما كان صوت همسات الحاضرين يتداخل مع موسيقى خلفية ناعمة تعزفها فرقة مخفية في الركن.
الهواء ممتلئ برائحة عطور باهظة، تختلط مع عبق الورد الطبيعي والشموع.
كان المشهد أقرب لمهرجان سينمائي منه إلى حفل جوائز أعمال.
جاء رجلٌ أنيق، يرتدي بدلة سوداء لامعة وربطة عنق بترتيب مثالي، وقف على خشبة المسرح التي أضيئت فجأة بألوان دافئة.
رفع الميكروفون بتحية رسمية انحنى لها قليلًا، فانحنى معه الحضور في صمت احترام، ثم بدأ يقرأ مقدمة تسليم جائزة أفضل رجل أعمال.
صوته جهوري، متزن، كأنه يعرف كيف يملك قلوب الحاضرين بلغة رنانة.
وبعد دقائق معدودة من كلمات الافتتاح، انسحب، ليظهر رجل آخر.
هذا الأخير بدا أكثر حيوية، يحمل في نبرته حماسًا خاصًا.
بدأ يتحدث عن شخصية ملهمة، عن رجل كافح سنوات طويلة بلا كلل، لم ييأس يومًا، ظل يحارب الظروف حتى صنع لنفسه اسمًا يليق به.
كانت كلماته تتصاعد كخطاب تحفيزي، والحضور يتمايلون بانبهار، كل جملة منه تلهب القاعة باندفاع جديد.
سرد كيف أسس هذا الرجل شركات في أماكن مختلفة، وكيف صار نموذجًا يُحتذى به.
وهنا جاءت اللحظة الحاسمة.
خفتت الأضواء فجأة إلا من بقعة ضوء واحدة تركزت على المنصة، والجميع حبس أنفاسه بانتظار الاسم.
ارتفع صوته وهو يعلن ترشيح ثلاثة أسماء لرجال أعمال كبار، من بينهم اسمٌ جعل أنظار القاعة كلها تلتفت دفعة واحدة:
"نوح النويري".
ثوانٍ قليلة كانت كافية ليُعلن المذيع القرار النهائي:
"نوح النويري".
وهنا انفجرت القاعة بالتصفيق. التصفيق لم يكن مجرد صوت عابر، بل كان عاصفة تُدوّي في المكان، اختلطت معها صيحات الفرح من بنات عمه اللواتي صرخن بحماسة بالغة، وصفقن وكأنهن يشاركنه الفوز.
الكاميرات توهجت كوميض برق، تلتقط اللحظة من كل زاوية، بينما عيون الجميع تلمع بالفخر.
وقف "نوح"، خطواته ثابتة رغم أنفاسه التي كانت تتسارع من التأثر.
ارتقى المنصة بوقار، مد يده ليستلم الجائزة المعدنية اللامعة التي انعكست عليها أضواء القاعة فأشرقت أكثر.
أمسك الميكروفون، وصوته خرج مبحوحًا قليلًا، لكنه مليء بصدقٍ لا يُخفى:
ـ شكرا جدا ليكم، احب اشكر مسئولين الحفلة الجميله دي، واحب اشكر من كل قلبي علي كل واحد دعمني عشان اوصل لهنا، واحب اشكر عائلتي اللي دعمتني من كل قلبي، لان لولاهم مكنتش هوصل لهنا.
الجملة القصيرة البسيطة كانت كافية لتُحدث موجة تصفيق جديدة، أقوى من الأولى، وكأن القاعة كلها أرادت أن تقول له "أنت تستحق".
وقف للحظة، ثم غادر المنصة بهدوءٍ يُشبه انتصار المحارب بعد معركة شاقة.
حين وصل إلى مقعده، كانت "نور" تنتظره.
ابتسامتها دافئة، وذراعاها مفتوحتان بحنان.
عانـ ـقها أمام الجميع، وهي استقبلته بحبّ ظاهر، ليبدو المشهد كلوحة رومانسية وسط الاحتفال الرسمي.
كثيرون في القاعة تبادلوا النظرات المتأثرة، وبعضهم تمتموا بالدعوات لهم بالسعادة الأبدية.
لكن على الطرف الآخر من القاعة، كان "أسر" وعمه "عدلي" يشاهدان المشهد بعينين مختلفتين؛ لم يستطيعا أن يُطيلوا النظر، فأشاحا وجهيهما بعيدًا، وكأن المشهد أثقل من أن يُحتمل.
وبعيدًا، بعيدًا جدًا عن مركز الحفل وضوضائه، كان هناك شخص آخر.
شخص يراقب الثنائي بعينين داميتين من الحقد، يمسك هاتفه ويوجه عدسته نحوهم، يلتقط اللحظة لا ليحتفظ بها، بل ليجعلها سلاحًا.
شفتاه ارتجفتا وهو يتمتم بغِلٍّ متفجر:
ـ جيتلك يا نور وهندمك علي اللي عملتيه غالي اوي.
وكانت الصدمة أن هذا الشخص لم يكن غريبًا، بل كان…
يتبع...
