رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 22 - جـ 1 - السبت 6/9/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل الثاني والعشرون
الحزء الثاني
تم النشر السبت
6/9/2025
صمت جاسر، ينتظر بقية حديث عمه الذي يعرفه جيدًا.
_جولتلك جبل سابج نشهر بچوازك منها ونكسرهم صح، بس انت جولتلي طالما بجت على اسمي يبجى سمعتها من سمعتي والحديت الى ملهاش عازه.
ودلوجت شروق
البت كبرت، وخطوبتها طولت
والناس في النجع بدأت تتكلم
رد جاسر بلهجة رغم برودها الا انها حازمة قاطعة
_الناس تتكلم زي ما هي عايزة.
_لأه!
قالها صخر بحزم وقوة.
_كلام الناس ده هو اللي بيعلينا وهو اللي بيوطينا وأني مبجبلش إن حد يجيب سيرة بتي على لسانه.
جوازك من شروق لازمن يتم وفي أسرع وجت.
وقف جاسر بصوت جليدي
_وأنا مش جاهز للجواز ده دلوجت.
ارتفع صوت صخر، وفيه نبرة أمر لا تقبل النقاش.
_مش بمزاجك يا جاسر، مش بمزاجك، أنت نسيت اتفاجنا؟ نسيت إن نص الأملاك دي باسمي؟ نسيت إني كبير العيلة دي چوازك من شروق ده مش اختيار، ده واجب.
ده اللي هيثبت للكل إن الأصل بيرجع للأصل.
ولو كنت بدأت تميل للهانم
فإحنا دلوجت بنتكلم في بيوت وعائلات وأصول.
الحب ده هو اللي ضيع الواد الأهبل بتاعهم.
إحنا جوازنا للمصلحة، وللقوة، وللسلطة.
هتتجوز شروق عشان تجفل خشم كل واحد بيفكر يتكلم، وعشان تثبت إنك لسه جاسر التهامي اللي كلمته سيف.
ثم اقترب منه، وخفض صوته إلى همس سام.
_وافتكر زين ان الحج حجنا، والارض أرضنا.. وهما اللي بدأوا التار
خرج صخر وأغلق الباب خلفه، تاركًا جاسر وحيدًا مع قراره الذي لم يعد قراره.
لقد حاصره عمه، وربطه بواجباته وباسم عائلته نظر من النافذة، وفكر في نغم لقد كان يكرهها، وأراد كسرها، لكنه لأول مرة شعر بأن هذه الخطوة، خطوة زواجه من شروق، ليست مجرد انتقام، بل هي قسوة مفرطة، قسوة قد تدمر آخر بقايا الروح في تلك المرأة التي أصبحت لغزًا يسير على قدمين في حياته لكنه جاسر التهامي، ولم يكن أمامه خيار سوى أن يفعل ما يجب عليه هو فعله
وليس غيره..
❈-❈-❈
في منتصف الليل
تسلل وهدان بخطوات ثقيلة، كل خطوة كانت تزن ألف رطل من الألم والندم.
دفع باب غرفة حفيده "عدي" ببطء، وكأنما يخشى أن يوقظ النائم الذي لن يستيقظ أبدًا.
كانت الغرفة باردة، صامتة، خالية من روح صاحبها الذي كان يملؤها حياةً وضجيجًا.
وقف في المنتصف، وعيناه تجولان في المكان الذي كان شاهدًا على أحلام شاب لم تكتمل.
كل شيء في مكانه كما تركه "عدي":
عطره المفضل على طاولة الزينة، ملابسه التي كان سيرتديها اليوم ملقاة على طرف السرير، صورة تجمعه بـ"نغم" مخبأة جزئيًا تحت وسادته، وكأنه كان يناجيها قبل أن يذهب إلى مصيره.
انحنى ظهره الذي لم تحنه السنون، بل حطمه القهر في ليلة واحدة. سقط على السرير، ومد يده المرتجفة ليمسك بالوسادة التي كانت تحتضن رأس حفيده.
ضمها إلى صدره بقوة، واستنشق عبق "عدي" المتبقي فيها، فانفجرت دموعه التي حبسها طوال تلك المدة أمام الناس، دموع رجل عجوز خذلته حساباته.
همس بصوت مبحوح، يكلم طيف حفيده الذي ملأ الغرفة:
_كنت فاكر إني بحميك يا عدي... كنت فاكر إني برسملك طريق السعادة.
ارتعش صوته وهو يكمل، والكلمات تخرج ممزوجة بمرارة لا تحتمل:
_غلطت... حساباتي كلها كانت غلط. كنت أعمى يا ولدي، وفكري عماني.
ضرب بقبضته على صدره، ضربة مكتومة تعبر عن غضبه من نفسه.
_لو بس... لو بس كنت سمعت لجلوبكم.
لو كنت وافجت... لو كنت چوزتك اللي رايدها وروحك فيها... كان زمانك دلوجت هنا، في حضنها، بتضحك الضحكة اللي بتنور السرايا كلها.
كان زمانها بتسعدك وبتسعدها.
تخيل المشهد الذي حرمهم منه جميعًا:
عدي ونغم يضحكان معا، ومالك يعلم روح كيف تحبه، كيف يروض عنادها بحنانه.
صورة كانت في متناول يده، لكنه ألقاها في نار العناد والتقاليد البالية.
رفع رأسه ونظر إلى الفراغ، وعيناه غارقتان في بحر من الدموع والأسف.
_كنت باني لكم قصور من رمل، فاكرها بتحميكم، وأول موچة هدت كل حاجة فوج دماغي ودماغكم.
أنا اللي بنيت طريج هلاككم بإيدي... بإيدي دي.
نظر إلى كفيه المرتجفتين باشمئزاز، الكفين اللتين وقعتا على قرارات كانت بمثابة حكم الموت على سعادة أحفاده.
يا ريتني مت جبل ما أشوف اليوم ده.
يا ريتني أنا اللي روحت وانت اللي فضلت.
تمن غلطتي كان غالي جوي يا عدي... غالي فوج ما أتحمل.
كان يبكي على وهدان الذي كان، على الجد الذي ظن أنه يعرف كل شيء، ليكتشف في النهاية، ومتأخرًا جدًا، أنه لم يكن يعرف شيئًا على الإطلاق.
❈-❈-❈
بعد عدة أيام في المشفى، تحسنت حالة روح الجسدية بشكل ملحوظ.
استعادت قدرتها على الكلام، وإن كان بصوتٍ ضعيف وبطيء، وبدأت في تحريك أطرافها بمساعدة العلاج الطبيعي.
طوال هذه الفترة، كانوا يتناوبون زيارتها كي لا تشك بشيء، لكنهم كانوا بارعين في التهرب من أسئلتها عن عدي.
كانوا يخبرونها أنه مشغول، أنه مسافر، أنه لا يستطيع رؤيتها بتلك الحالة ولذلك لا يجرؤ على مواجهتها.
ورغم أن قلبها كان يحدثها بأن هناك خطبًا ما، إلا أنها كانت تتمسك بهذه الأكاذيب الواهية، لأن الحقيقة كانت تبدو أشد رعبًا.
جاء اليوم الذي سيخرجها فيه مالك من المشفى كان هو من أصر على أن يأخذها بنفسه.
في السيارة، كان الصمت هو سيد الموقف
كانت روح تنظر من النافذة، ترى تفاصيل الحياة اليومية تمر من أمامها، وتشعر بأنها كانت في عالم آخر.
قالت بصوتٍ خافت.
_مالك
رد مالك دون أن يلتفت إليها، وعيناه مثبتتان على الطريق.
_نعم يا روح.
_هو... لسه مچاش؟
فهم مالك أنها تقصد عدي شعر بغصة في حلقه.
_لسه يا روح، اديله وجته.
ابتسمت بمرارة وهي
وصلوا إلى منزل العائلة
ما إن دخلت السيارة من البوابة، حتى شعرت روح بأن شيئًا ما ليس على ما يرام.
كان هناك هدوء غير طبيعي يلف المكان، هدوء لا يشبه هدوء البيوت، بل سكون المقابر.
ساعدها مالك على النزول من السيارة، ونادى وعد كي تسندها
كانت تمشي ببطء نحو الباب الرئيسي. فتحت والدتها الباب، وكانت ترتدي ملابس سوداء بالكامل.
تجمدت روح في مكانها لاحظت أن الجميع ملبد بالسواد بدأ الشك يتسلل إلى قلبها
_ليه لابسة أسود يما؟
ارتبكت الأم، ونظرت إلى مالك طلبًا للمساعدة.
_ده... ده بس عشان... عشان اللي حصلك يا بنيتي كنا زعلانين عليكي.
لم تكن إجابة مقنعة.
دخلت روح إلى المنزل، فوجدت جدها يجلس على كرسيه أعمامها كلهم يرتدون السواد.
وجوههم كانت متعبة، والحزن محفور عليها بعمق.
لم يكن هذا حزنًا على مرضها، كان أعمق وأقدم.
قالت روح بصوتٍ بدأ يرتجف.
_في ايه؟ إيه اللي حوصل وأنا في المستشفى؟
لم يرد أحد كانوا يتبادلون النظرات، كل واحد يلقي بعبء إخبارها على الآخر.
سألت مباشرة، وقلبها بدأ يخفق بقوة ورعب عندما لاحظت حضورهم ما عدا عدي، فتمتمت بصوت مرتعش
_عدي فين؟ هو حصله حاچة صوح؟
صمتهم كان إجابة كافية.
بدأت تتراجع للخلف، وهي تهز رأسها ببطء، رافضة تصديق ما بدأ عقلها في استنتاجه.
_لأ... لأ... هو كويس هو بس... هو بس محروج مني.
بدأ جدها الحديث بصوتٍ مكلوم.
_يا بنتي......
قاطعته بصوت يحمل رجاء
_لأ....متكملش! مش عايزة أسمع!
نظرت لوعد التي تبكي بصمت يؤكد لها
_مش عايزة اعرف حاچة طلعيني اوضتي.
وقف امامها مالك يمنعها
_اهدي يا روح..اي انفعال غلط عليكي.
التفتت إلى مالك، وفي عينيها نظرة انكسار تام، نظرة شخص فهم كل شيء فجأة.
_انا هادية....بس مش هصدج ان عدي مات..
كان جلبي حاسس ان في حاچة بس كنت بكدب حالي، ولسة بكدبه....
وقع نظرها على ورد التي تجلس مستسلمة على احد المقاعد
ثم نقلت بصرها لوعد برجاء
_طلعيني أوضتي الجديمة يا وعد.
أومأت لها وعد وهي تمسح دموعها ثم ساعدتها على الصعود وهي مستسلمة لها بهدوء قاتل
❈-❈-❈
كان أكمل يجلس على الكرسي الخاص القديم في حديقة جده، في نفس المكان الذي اعتاد أن يجلس فيه الرجل العجوز.
كانت الشمس قد بدأت تميل نحو الغروب، وتلقي بظلال طويلة على الأرض.
لم يكن يقرأ أو يفعل شيئًا، بل كان يكتفي بالنظر إلى الحديقة التي زرعها جده بيده، ويستمع إلى صمت المكان، محاولاً أن يجد بعض السلام في روحه.
لمح من بعيد أحد العمال الصغار في السن، شاب يدعى
منتصر، يقترب منه بتردد، ثم يتوقف، ثم يتقدم خطوة أخرى، وكأنه يصارع قرارًا صعبًا.
لاحظه أكمل، وأشار له بيده أن يقترب. _تعالى يا منتصر، عايز حاجة؟
اقترب الشاب، وهو يفرك يديه بتوتر واضح، وعيناه تنظران إلى الأرض.
_يا أكمل بيه... أنا... أنا كنت عايز أجولك على حاچة، بس خايف.
اعتدل أكمل في جلسته، وشعر أن الأمر جاد.
_متخافش يا منتصر قول اللي عندك محدش هيأذيك طالما أنا هنا.
أخذ الشاب نفسًا عميقًا، ثم قال بصوتٍ خفيض:
_عم حسان يا بيه... كبير العمال.
_ماله؟
_بصراحة يا بيه... إيده طويلة حبتين بجاله سنين وهو بياخد حاچات من السرايا على صغير.
حاچات بسيطة إكدة، شكاير كيماوي، شوية فواكة من الچنينة... والحاج قاسم الله يرحمه كان بيشوف وبيطنش، بيجول عيال وبياكلوا عيش.
صمت أكمل، يستمع باهتمام.
أكمل سالم بتردد أكبر.
_بس يا بيه...
الموضوع كبر من يوم ما الحاج قاسم مات... والبيت كان في دوشة العزا والناس رايحة جاية... أنا شفته بعيني وهو بيدخل المخزن اللي ورا، وخرچ ومعاه حاجات كتير.
ويومها بالليل، دخل أوضة الحاج الله يرحمه... و...
قال أكمل بحزم.
_كمل .
_بيقولوا... بيقولوا إنه خد فلوس كانت متشالة في الصندوق الخشب القديم مبلغ كبير جوي يا بيه.
تنهد أكمل لقد كان يتوقع أن يواجه مشاكل من هذا النوع.
_ومين تاني شاف الكلام ده؟
أعطاه منتصر اسمين آخرين من العمال الذين كانوا شهودًا على بعض تصرفات حسان.
قضى أكمل بقية اليوم في التحقق من الأمر بهدوء، وتأكد من صحة كلام منتصر.
لم يكن الأمر مجرد سرقة بسيطة، بل كان استغلالاً بشعًا لظرف الموت والفوضى.
في صباح اليوم التالي، أرسل أكمل في طلب حسان.
جاء الرجل، وهو في الخمسينيات من عمره، وعلى وجهه قناع من البراءة المصطنعة.
لكن ما فاجئ أكمل هو أنه لم يأتي وحده كانت تمشي خلفه، بخطوات مترددة ورأس منكس، فتاة شابة في مقتبل العمر كانت جميلة بجمال ريفي هادئ، ملامحها بريئة، وعيناها تحملان حزنًا يفوق سنها كانت ابنته.
_أهلاً يا حسان .
قال أكمل ببرود، وهو يجلس على كرسي جده كقاضٍ في محكمته.
_على ما أظن أنا طلبتك لوحدك.
سقط قناع البراءة عن وجه الرجل، وظهر عليه الخوف ارتمى على ركبتيه، وبدأ في التسول.
_ سامحني يا بيه غصبت عني يا بيه والله... الشيطان شاطر... والعيال مصاريفها كترت أبوس على يدك تسامحني.
قال أكمل بصرامة.
_المسامحة دي مش بتاعتي.
دي جريمة ولازم تتعاقب عليها
أنا هسلمك للشرطة.
هنا، زحف الرجل على ركبتيه، وأمسك بقدم أكمل.
_إلا الحكومه يا بيه! هتفضوحني وهضيع مستجبلي ومستجبل بتي!
ثم التفت إلى ابنته التي كانت تقف كالصنم، والدموع تتجمع في عينيها.
نظر إلى ابنته وصرخ فيها
_بت يا صبر بوسي إيد البيه! قوليله يسامح أبوكي!
ثم نظر إلى أكمل مرة أخرى، وقال الجملة التي جعلت الدماء تغلي في عروق أكمل.
_يا بيه... خدها خد صبر بتي تشتغل عندك خدامة ببلاش... العمر كله. تخدمك وتخدم بيتك، لحد ما تسد كل قرش أنا خدته بس استر عليا.
نظر أكمل إلى الرجل البغيض الذي يعرض ابنته كبضاعة، وإلى الفتاة التي كانت تبكي بصمت، ووجهها يشتعل من الذل والقهر.
لقد رأى فيها ضحية، أداة يستخدمها والدها ليفلت من عقابه.
شعر بالاشمئزاز من الأب، وبشفقة عميقة تجاه الفتاة.
نهض أكمل، وأبعد قدمه عن الرجل بقرف.
_قوم يا راجل انت قوم من على الأرض.
نظر إلى الفتاة التي كانت لا تزال تبكي.
لقد أدرك أنه لو سلمه للشرطة، فإن هذه الفتاة ستضيع.
سيلاحقها عار والدها، وربما تضطر للعمل في ظروف أسوأ لتسدد ديونه.
قال أكمل بعد لحظة صمت، وقد اتخذ قراره.
_خلاص أنا مش هسلمك للشرطة.
تهلل وجه حسان
_كتر خيرك يا بيه! ربنا...
قاطعه أكمل بحدة.
_بس اسمعني كويس، مش عايز اشوف وشك هنا تاني تحت اي ظرف
ثم نظر إلى الفتاة.
_وأنتي... بنتك... هتشتغل هنا.
نظر إليه حسان بعدم فهم، بينما رفعت الفتاة رأسها بصدمة.
_هتشتغل هنا في البيت.
أكمل أكمل، لكن نبرته تغيرت وأصبحت أكثر لطفًا وهو يوجه حديثه إليها.
_هتساعدي في شغل البيت، وهتاخدي مرتبك كامل زيك زي أي حد مش عشان تسدي دين أبوكي، لأ.
عشان ده حقك ومجهودك وعشان أضمن إنك تكوني تحت عيني، بعيد عن أب كل همه إزاي يبيع ويشتري فيكي.
صمت الجميع لم يفهم حسان كرم أكمل، لكنه لم يجرؤ على الاعتراض أما صبر، فنظرت إلى أكمل بنظرة تحمل مزيجًا من الامتنان وعدم التصديق.
لأول مرة في حياتها، يعاملها شخص كإنسانة لها قيمة، وليس مجرد سلعة للمقايضة.
لقد قرر أكمل أن يرحمها من والدها، وأن يمنحها فرصة لحياة كريمة تحت حمايته.
لم يكن يعرف أن هذا القرار، الذي اتخذه بدافع الشفقة والعدل، سيفتح بابًا جديدًا في حياته، وسيدخل إلى عالمه شخصًا سيغير فيه الكثير.
❈-❈-❈
لم تكف روح عن البكاء منذ أن عادت من المشفى.
كانت دموعها تنهمر كشلال صامت، تغسل وجهها الشاحب وتتسرب إلى ثياب والدتها التي تحتضنها بقوة، كأنها تحاول أن تذيب ألم ابنتها في جسدها.
ارتمت روح في حضن ليل، تبحث عن ملاذ، عن أي شيء يخفف من ثقل الكابوس الذي عاشته.
كانت ليل نفسها جبلاً من الألم، قلبها يتمزق على بناتها، هل الدنيا لم تجد غيرهم لتقسو عليهم بهذه الحدة؟
روح عادت من الموت بجسدٍ منهك وروحٍ جريحة، ونغم ألقيت في غيابات الجب، لا أحد يعرف عنها شيئاً.
كيف حالها الآن؟ هل رأت ابن عمها وهو يحترق أمامها؟ وإذا حدث، كيف حالها الآن؟ كانت الأسئلة تأكل روحها بلا رحمة.
تطلعت إلى روح التي تنتفض بين ذراعيها، تبكي بحزن وألم عميقين. ولم تكن ليل تعلم أن هذا البكاء ليس على زوج، بل على ابن عم، على قريب، على روحٍ أُزهقت بتلك الطريقة البشعة.
كانت الذكريات تتدافع في رأسها كالأمواج المتلاطمة، لم تكن تبكي على زوجها، فزوجها قد مات في قلبها مات في تلك الليلة التي واجهها فيها بحقيقة مشاعره القاسية.
كانت كلماته تتردد في أذنيها بوضوح مؤلم، كأنها تقال الآن:
"أنا مش بحبك يا روح... عمري ما حبيتك. أنا بحب نغم كنت بحاول أحبها فيكي، بس مجدرتش."
كل كلمة كانت سكيناً يغرس في قلبها.
لقد قتلها في تلك اللحظة، قتل كل أمل، كل حلم كل شعور جميل كانت تحمله له.
واليوم، هي لا تبكي عليه بل تبكي من أجله.
تبكي على ابن عمها الذي لم تكن تتمنى له هذه النهاية المروعة، مهما فعل بها.
شعرت ليل بارتعاش جسد ابنتها، فشددت من احتضانها وهمست بصوتٍ حنون يغالبه الألم
_ اهدي يا روح جلبي... اهدي يا بنتي. ده قضاء ربنا.
رفعت روح وجهها المبلل بالدموع، ونظرت إلى والدتها بعينين تائهتين.
_ صعبان عليا أوي يا ماما صعبان عليا يموت بالطريقة دي مهما كان ده عدي... ابن عمي اللي اتربينا مع بعض.
أمسكت ليل وجهها بين يديها، ومسحت دموعها بأطراف أصابعها المرتجفة.
_ عارفة يا حبيبتي... عارفة إنه صعب بس إرادة ربنا فوق كل شيء.
إنتي لازم تكوني قوية عشان تجدري تجفي على رچلك تاني.
هزت روح رأسها، وعادت لتدفن وجهها في صدر أمها، ودموعها تتجدد.
_ ونغم... نغم يا ماما قلبي واكلني عليها زمانها شافت كل حاجة زمانها ميتة من الرعب.
هي فين دلوقتي؟ بيعملوا فيها إيه؟
هنا، لم تستطع ليل الصمود أكثر
انفرط عقد دموعها هي الأخرى، واختلطت دموع الأم بدموع ابنتها في مشهد يفتت الصخر.
كانت قهرتها أكبر وأعمق حزنها لم يكن على شخص واحد، بل كان موزعاً على ابنتيها.
واحدة جريحة في حضنها، والأخرى مفقودة في المجهول.
_ ربنا يسترها عليها يا روح... ربنا ينجيها ويرجعها لحضني.
ماليش غيركم في الدنيا دي يارب... يارب احفظها بحفظك ورجعها لي بالسلامة.
احتضنت الأم وابنتها بعضهما البعض بقوة، كل منهما تبكي وجعها الخاص، وكل منهما تحاول أن تستمد القوة من الأخرى في مواجهة هذا الألم الذي بدا أكبر من قدرتهما على الاحتمال.
❈-❈-❈
بعد أن ابتلع الباب الخارجي جسد حسان، تُركت صبر واقفة في بهو البيت الواسع وحدها.
كان الصمت ثقيلاً، لا يقطعه سوى صوت أنفاسها المتوترة.
لم تجرؤ على رفع عينيها عن الأرض، حيث كانت تتابع بعينيها نقوش البلاط القديم كأنها تحاول فك طلاسمه، فقط لتهرب من مواجهة الرجل الذي أصبحت الآن تحت رحمته.
دلف أكمل للداخل بخطوات واثقة وهادئة، وأغلق الباب خلفه بصوتٍ خافت زاد من توترها.
وقف للحظات يتأملها من بعيد، بنظرة فاحصة ومحايدة، كنظرته لملف قضية جديدة أمامه.
كانت تقف هناك كتلة من الخجل والانكسار، ملابسها المهترئة والفضفاضة، التي بهت لونها من كثرة الغسيل، كانت تخفي أي معالم لجسدها وتجعلها تبدو أكبر من سنها الحقيقي بسنوات.
حجابها الملفوف بإهمال، وقد انسلت منه بعض الخصلات الباهتة، أكمل الصورة البائسة.
للحظة، شعر بشيء من الارتياح.
هذا المظهر المتواضع والمنطفئ طمأنه.
لن يقلق من وجودها معه في البيت وحدهما.
هي مجرد فتاة بائسة أتت لتعمل، لا أكثر.
تقدم منها ببطء، فوقفت متصلبة في مكانها، تشعر بنظراته تخترقها حتى وهي لا تراه.
سألها بصوت عملي وجاد، خالي من أي عاطفة.
_ هتعرفي تقومي بشغل البيت كله لوحدك؟
رفعت وجهها أخيراً، وبصوتٍ خفيض بالكاد يُسمع ردت بإحراج شديد وهي تفرك يديها بتوتر.
_ أيوه يا بيه بعرف أعمل كل حاجة.
طبيخ وغسيل وتنضيف كنت ساعات باجي أساعد مرات أبويا هنا زمان... لما كان جدك لسة عايش.
هز أكمل رأسه بإيماءة خفيفة، كأنه يسجل المعلومة في ذاكرته.
وجودها في البيت من قبل يعني أنها تعرف تفاصيله، وهذا سيوفر عليه عناء الشرح.
صمت للحظة، ثم أشار بذقنه إلى ممر جانبي طويل ومظلم بعض الشيء، ينتهي بباب خشبي قديم في زاوية بعيدة داخل البيت كانت غرفة منعزلة، كأنها بُنيت لتُنسى.
_ الأوضة اللي في آخر الطرقة دي... هتبقى أوضتك تقدري تروحي ترتاحي فيها دلوقتي.
قال "أوضتك"، بلهجة تجعل الكلمة تبدو كمكان للمبيت لا أكثر، مكان مؤقت لوجود عابر.
نظرت صبر إلى حيث أشار، ثم نظرت إليه مرة أخرى بنظرة سريعة وخاطفة، كأنها تحاول أن تقرأ أي شيء في ملامحه الصارمة لكنها لم تجد سوى الفراغ
وجه وكيل النيابة الذي لا يكشف عن شيء.
_ شكراً يا بيه.
همست بها، ثم تحركت بخطوات بطيئة ومترددة نحو مصيرها الجديد، نحو تلك الغرفة المعزولة في بيت الرجل الغامض الذي لا تعرف عنه شيئاً، سوى أنه الآن سيد قرارها ومستقبلها.
بينما كانت تسير مبتعدة، ظل أكمل يراقبها.
هذا الكائن الهش والبائس الذي دخل حياته فجأة ما الذي يمكن أن يجمع بينه هو أكمل وكيل النيابة، ابن العائلة الكبيرة، وهذه الفتاة التي تبدو كخادمة من زمن آخر؟ هل ستكون مجرد ظل عابر في بيته، أم أن القدر يخبئ له معها حكاية لم تكن في الحسبان؟
يتبع...