رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 34 - جـ 2 - الثلاثاء 16/9/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل الرابع والثلاثون
الحزء الثاني
تم النشر الثلاثاء
16/9/2025
والأهم من كل ذلك إنه ليس بقاتل
لم يقتل السائق كما أخبرها
أغمضت نغم عينيها بقوة، كأنها تحاول طرد هذه الذكرى، لكنها كانت محفورة في ذاكرتها كوشم من نار.
هذه النظرات بالذات هي التي تطاردها كل ليلة، هي التي تجعل الصراع بداخلها لا يطاق.
قلبها يهمس بحنان:
"لقد رأيتِ روحه رأيتِ الرجل الحقيقي خلف قناع القسوة، هذا الرجل يحبك لدرجة الألم هل ستتركينه يتعذب هكذا؟"
وعقلها يرد بقسوة:
"وهل نسيتِ عذابك؟ هذه النظرات هي سلاحه الجديد يستخدم ضعفه ليثير شفقتك ويعيدك إلى سيطرته لا تكوني ساذجة!"
وضعت يديها على رأسها، وشعرت بأنها على وشك الجنون كانت ممزقة بين حقيقتين: حقيقة قسوته التي جربتها، وحقيقة حبه الذي رأته في عينيه.
كانت تقف في المنتصف تماماً، في منطقة رمادية مؤلمة، لا هي قادرة على التقدم نحوه، ولا هي قادرة على التراجع والنسيان.
عادت إلى الغرفة، ونظرت إلى الهاتف الذي لا يزال ملقى على الفراش كان يبدو الآن كصندوق إما أن تفتحه لتجد الأمل، أو لتطلق العنان لمزيد من الألم.
والسؤال الذي كان يقتلها هو: أيهما ستجد لو اتصلت؟
أخذت نفساً عميقاً بأصابع مرتعشة ضغطت على زر الاتصال، في تلك اللحظة لم يعد هناك مجال للتراجع مع كل رنة للهاتف في أذنها، كانت تشعر بضربات قلبها تنبض بقوة وعنف كأنها تريد أن تخرج من صدرها.
في غرفة جاسر اخترق رنين الهاتف الصمت الثقيل في الغرفة مما أزعج شروق النائمة على الفراش، بينما عقلها مستيقظ تماماً نهضت ببطء تبحث عنه بعينيها فلم تجده في الغرفة، صوت الماء الخافت القادم من الحمام أكد لها أنه بالداخل.
استمر الرنين حاداً ومصراً كان هذا هو الدافع الذي تحتاجه نهضت من الفراش وقد عقدت العزم على معرفة من المتصل في هذا الوقت المبكر لتكون لها حجة للحديث معه.
تناولت الهاتف الذي كان يضيء وينطفئ على الطاولة وعندما وقعت عيناها على اسم نغم الذي يزين الشاشة شعرت بنيران الغيرة تشتعل في صدرها وتحرق كل شيء كيف تجرؤ على الاتصال به وبدون تفكير وبدافع من غريزة حاقدة فتحت الخط.
لكنها لم تتحدث فيه مباشرة بدلاً من ذلك أدارت ظهرها لباب الحمام ورفعت صوتها قليلاً متظاهرة بأنها تتحدث مع جاسر بالداخل بصوتٍ حمل كل معاني الدلال المصطنع.
_ حبيبي تليفونك بيرن........ أرد؟....... طيب يا روحي هرد أقولهم إنك مشغول....... آه طبعاً الشاور بعد ليلة زي دي بيفوق.
كل كلمة كانت سماً مقصوداً سكيناً تغرسه في قلب المستمعة على الطرف الآخر، ثم وبعد أن ألقت بقنبلتها وضعت الهاتف على أذنها وتحدثت بنبرة باردة ومتسائلة كأنها لا تعرف هوية المتصلة.
_ ألو مين معايا.
على الطرف الآخر شعرت نغم وكأن صفعة جليدية قد أصابت وجهها سمعت كل كلمة قالتها شروق وشعرت بالغيرة تجتاحها كالسيل، لكنها تماسكت أدركت أنها مسلسل رخيص وقررت ألا تمنحها متعة رؤية انكسارها قالت بصوتٍ ثابت رغم العاصفة التي بداخلها
_ أنا اللي بسأل مين معايا، وهل من عادتك تردي على تليفون جاسر.
ضحكت شروق ضحكة خبيثة.
_ أنا مراته وبعدين هو اللي طلب مني أرد أصله بياخد شاور ميعرفش إنها إنتي وإلا مكنش خلى حد يرد خالص، خير عايزة إيه.
تجاهلت نغم استفزازها وأجابت بحسم
_ عايزة أكلمه.
قالت شروق بغيرة واضحة وقد شعرت بحركة خلف باب الحمام
_ لأ مش هينفع، هو مشغول دلوجت في الحمام.
لم تستطيع نغم السيطرة على غيرتها رغم معرفتها بكذب شروق، تواجدها فقط وحده كافي بإشعال نيرانها
وهنا بدأت روح التحدي بداخلها
_خلاص لما يخرج خليه يكلمني ضروري.
غيرة بين الاثنين شنت حربها فقالت شروق بسخط
_بصفتك ايه؟
ردت نغم بهدوء
_بصفتي مراته....مراته مش مجرد حبر على ورق..
ضغطت نغم على جملتها الأخيرة بتحد جعلت شروق لا تستطيع السيطرة على غضبها
في تلك اللحظة خرج جاسر من الحمام وهو يرتدي بنطاله فقط وينشف شعره بمنشفة ظناً منه انها مازالت نائمة
رأى شروق ممسكة بهاتفه فارتسمت على وجهه علامات الاستغراب والغضب.
_ إنتي بتعملي إيه؟
عندما رأته ارتبكت شروق تظاهرت برؤية ساعة الهاتف
_مفيش انا بس كنت بشوف الساعة.
اقترب منها جاسر وخطواته ثقيلة بالغضب وسحب الهاتف من يدها بقوة.
_ كنتي بتكلمي مين بتليفوني؟
حاولت التهرب قائلة بتوتر
_ دي دي زي ما جولتلك بشوف الساعة.
لم يصدقها فتح سجل المكالمات فتجمد الدم في عروقه وهو يرى اسم نغم في قائمة المكالمات، مكالمة واردة تم الرد عليها لمدة دقيقة.
انفجر الغضب الذي كان يتجمع بداخله أمسك ذراعها بقوة وعيناه تقدحان شرراً.
_ رديتي عليها؟ رديتي وجولتلها إيه اونطقجي.
ارتعش جسدها من الخوف من هيئته الغاضبة لكنها لم تجب دفعها بعيداً عنه باشمئزاز وأخذ هاتفه وتوجه إلى الغرفة الأخرى صافقاً الباب خلفه بقوة كادت تخلعه من مكانه.
وقف أمام الشرفة وقلبه يخفق بقوة وضغط على زر إعادة الاتصال. عندما ردت نغم قال بصوتٍ لاهث ومتوتر
_ نغم أنا...
قاطعته بصوتٍ بارد كالثلج يخفي خلفه ألماً عظيماً قبل أن تمنحه فرصة للرد أو التبرير
_ مش عايزة أعرف أي حاجة عن اللي حوصل من شوية أنا دلوجت رايحة امتحاني ولما أرجع عايزاك تاچي تاخدني عشان نتكلم
صمت جاسر للحظة يستوعب طلبها المفاجئ وقوتها غير المتوقعة ثم أجاب على الفور بلهفة
_ حاضر يا نغم حاضر هاچي طبعاً، طب خليني أوصلك أنا دلوجت.
_ لأ مالك هيوصلني عشان هو مسافر بعد الضهر
قالتها بهدوء لكنها كانت كافية لتشعل نار الغيرة في قلبه من جديد كيف لمالك أن يكون معها الآن وهو بعيد لكنه كتم غيرته وأجبرها على الخروج في صوته.
_ ماشي يا نغم اللي يريحك، المهم تاخدي بالك من نفسك.
أغلقت الخط دون كلمة أخرى تاركة إياه يحدق في الهاتف كأنه طوق النجاة الوحيد له في هذه الدنيا.
لم يكد يلتقط أنفاسه حتى فُتح باب الغرفة بعنف ودخلت شروق ووجهها يتطاير منه الشرار.
قالت بصوتٍ عالي متحدية
_ وبعدين في العيشة دي، أنا لحد ميتى هفضل عايشة معاك إكده زي ضيفة الشرف، أنا برضك مرتك وليا حجوج وبطالب بيها.
نظر إليها جاسر باستغراب حقيقي، لم يكن يتخيل أنها تملك هذه الجرأة، وهو في هذه الحالة من الغضب بالكاد يطيق النظر في وجهها.
_ حجوج إيه اللي بتتكلمي عنيها
علت نبرة صوتها أكثر وهي تقترب منه
_ حجي كزوجة، حجي إنك تعاملني زي أي واحدة متچوزة مش ترميني في الأوضة إكده زي زى حتة الانتيكه .
هنا فقد جاسر آخر ذرة من صبره هب واقفاً وفي لحظة كان وجه قريب من وجهها بغضب جحيمي وعيناه تنذران بالهلاك.
_صوتك، صوتك ميعلاش عليا تاني لأي سبب من الأسباب إنتي فاهمة، لو فكرتي بس تعلي صوتك عليا مرة تانية هرميكي بره الچناح ده ومطلجة من غير ما أفكر لحظة واحدة.
صرخت بألم وهي تحاول رفض ذلك الذل
_وان جولت لا.
تشنج فكه وقد وصل غضبه لزروته فقام بجذبها من خصلاتها
قائلاً وهو يشد بقوة أكبر ويقرب وجهه من وجهها
_ إنتي اللي جبتيه لنفسك، دي كانت شروطي من الول وإنتي وافجتي عليها بمزاجك، عشان تلبسي فستان أبيض وتتجوزي جاسر التهامي، يبجى تبلعي لسانك فى خشمك وتتحملي نتيجة اختيارك.
ثم دفعها بعيداً عنه بقوة حتى كادت تسقط أرضاً وتركها وهي تلهث من الألم والصدمة وخرج من الغرفة صافعاً الباب خلفه بقوة أكبر من ذي قبل تاركاً إياها وحيدة مع هزيمتها ومرارها.
❈-❈-❈
كانت حقيبة سفره تقف بجوار الباب كشاهد صامت على رحيل وشيك.
ارتدى مالك حذاءه ببطء، يشعر بثقل اللحظة في كل حركة.
حين نهض وجد والدته وروح واقفتين أمامه والدموع تترقرق في أعينهن، تحاولان حبسها لكنها تخونهما وتسيل على وجوههن بصمت مؤلم.
تقدمت والدته أولاً ووضعت يديها المرتعشتين على وجهه، تتأمله كأنها تريد أن تخزن ملامحه في ذاكرتها.
_ هتوحشني يا قلب أمك خلي بالك من نفسك يا ابني، وكُل كويس.
أخذ مالك يديها وقبّلهما بحب عميق، محاولاً أن يرسم ابتسامة مطمئنة على وجهه.
_ متخافيش عليا يا أمي، كلها يومين بالظبط وهتلاجيني جدامك ادعيلي بس.
احتضنته بقوة وسمع شهقات بكائها المكتوم عند كتفه، فشعر بغصة حارقة في حلقه.
ربت على ظهرها بحنان ثم ابتعد عنها برفق ليتجه نحو روح التي كانت تقف جانباً، والدموع ترسم خطوطاً لامعة على خديها.
فتح لها ذراعيه فلم تتردد لحظة وارتمت في حضنه، وانفجرت في بكاءٍ صريح كالأطفال.
_متهملنيش يا مالك.
شدد جاسر من احتضانها، ودفن وجهه في شعرها مغمضاً عينيه ليمنع دموعه من النزول.
_ هسيبك لقلبي يا روح قلبي عدي بالظبط 48 ساعة وهتلاجيني جدامك انا مش مسافر المره ديتى عشان اهروب انا هخلص مستحجاتى وورجى .
ابتعدت عنه قليلاً ومسحت دموعها بكف يدها.
_ هتوحشك جوي.
ابتسم لها ابتسامة حقيقة هذه المرة، ومسح دمعة هاربة من عينها بإبهامه.
_ وإنتي كمان هتوحشيني.
ألقى نظرة أخيرة عليهما، على والدته التي تدعو له بصوتٍ خافت، وعلى أخته التي تحاول أن تبتسم رغم دموعها فقال بمزاح
_وبعدين معاكم عاد جلبتوها دراما إكدة ليه.
ابتسم الجميع رغماً عنهم
فحمل حقيبته، وقال بصوتٍ حاول أن يجعله ثابتاً
_ استودعكم الله.
❈-❈-❈
كانت قاعة الامتحان هادئة إلا من صوت أقلام الطلاب وهي تخدش الأوراق وصوت أنفاسهم المتوترة.
جلست نغم أمام ورقة أسئلتها وعقلها في مكان آخر تماماً.
كانت تحاول جاهدة أن تركز في الكلمات المطبوعة أمامها لكن كل ما كانت تراه هو صورة جاسر ونبرة صوته عبر الهاتف.
ماذا ستقول له؟ ولماذا طلبت مقابلته أصلاً؟ هل تريد أن تواجهه؟ أن تعاتبه؟ أم أنها تريد أن تسمع منه الحقيقة التي قد تغير كل شيء؟ لم تكن تعرف.
كانت مشاعرها متضاربة كسفينة تتقاذفها الأمواج في ليلة عاصفة.
جزء منها يشعر بالغضب والخيانة وجزء آخر بدأ يتسلل إليه الشك والأمل بعد حديث عمها سالم.
فجأة انتبهت لصوت المراقبة وهي تعلن عن مرور نصف الوقت
نظرت إلى ساعتها ثم إلى ورقتها التي كانت شبه فارغة.
شعرت بالذعر لا يمكن أن تفشل هذه السنة أيضاً كفى سنة ضاعت من عمرها بسبب ما حدث.
استجمعت كل قوتها وطردت كل الأفكار من رأسها وأجبرت نفسها على التركيز في الإجابة.
بعد انتهاء الوقت سلمت ورقتها وخرجت مع الطلاب وهي تشعر بالإرهاق الذهني والجسدي.
كانت تسير وسط الزحام وعيناها تبحثان عنه بترقب وقلق.
وفجأة رأته.
كان يقف بعيداً بعض الشيء مستنداً بجاذبية على سيارته وقد عقد ذراعيه أمام صدره.
كان يرتدي قميصاً أسود يبرز قوة جسده وبنطالاً من الجينز كانت نظراته ثابتة عليها وحدها لم تلتفت لغيرها وكأنه لا يرى سواها في هذا الكون المزدحم.
لأول مرة تدقق نغم في ملامحه بهذا الشكل لأول مرة تراه بعين مختلفة ليست عين الفتاة الخائفة أو الأسيرة رأته كرجل.
وسيم بقوة، ملامحه حادة رجولية نظرته ثاقبة وقامته توحي بالقوة والثقة.
كان مزيجاً خطيراً من الهيبة والجاذبية.
لم تكن هي الوحيدة التي لاحظت ذلك.
لمحت بطرف عينها مجموعة من الفتيات يقفن غير بعيد يتهامسن وينظرن إليه بإعجاب واضح وصريح.
شعرت بوخزة غيرة حادة ومفاجئة لم تتوقعها.
غيرة تملكية جعلتها تسرع خطواتها نحوه دون وعي.
عندما أصبحت أمامه لم تبتسم ولم تتحدث كل ما فعلته هو أنها قالت بنبرة آمرة خافتة لم تكن تعرف أنها تملكها
_ يلا نمشي من هنا.
ابتسم جاسر ابتسامة خفيفة كأنه فهم سبب استعجالها المفاجئ.
فتح لها باب السيارة دون أن ينطق بكلمة ثم استقل مقعده وانطلق بها بعيداً عن الأنظار وعن العيون المعجبة.
❈-❈-❈
كانت ليلى تجلس في مقعدها بجوار أكمل، وذراعاها معقودتان أمام صدرها بعناد واضح.
_ أنا مش فاهمة إيه الإصرار ده يا أكمل؟ ما فيه ألف محل غيره، وأحسن منه كمان ليه نروح المحل الصغير ده بالذات؟
رد أكمل بهدوء وعيناه على الطريق محاولاً امتصاص غضبها.
_ يا ليلى افهميني دي هدية من مالك هو اللي دفع تمن الفستان مقدماً، وقالي أجي هنا بالذات قالي إن ذوقهم مميز وإن روح مراته اشترت من عندهم عيب أوي أرفض هديته، أو أروح مكان تاني هتبقى قلة ذوق.
قالت بتأفف وهي تنظر من النافذة بملل.
_ طيب ما ياخد فلوسه وأنا أشتري من المكان اللي يعجبني أنا مش بحب حد يفرض عليا ذوقه.
تنهد أكمل بصبر أوشك على النفاد.
_ الموضوع مش فرض ذوق الموضوع أصول، خلاص اعتبريها مجاملة انزلي اختاري أي حاجة حتى لو مش هتلبسيها في الحنة المهم منكسرش بخاطر الراجل.
بعد نقاش طويل ومتوتر، توقفت السيارة أخيراً أمام الواجهة الزجاجية الأنيقة للمحل لم تكن ليلى تريد النزول لكن نظرة أكمل الحازمة جعلتها تفتح الباب على مضض وترجلت وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة.
دخل أكمل خلفها، وما إن عبر عتبة المحل حتى شعر بشيء غريب شيء لا يمكن وصفه رائحة خفيفة لكنها مألوفة بشكل مؤلم رائحة تشبه رائحة الياسمين الهادئ الذي كان يفوح من ملابسها، رائحة يعرفها جيدًا رائحة حُفرت في ذاكرته رغم كل محاولاته لدفنها.
تجاهل الشعور معتبراً إياه مجرد وهم لكنه ظل هناك يداعب حواسه، ويوقظ شيئًا نائمًا في أعماقه.
كانت هناك فتاة تقف مع زبونة، ظهرها لهما كانت تتحدث بهدوء وثقة عن تفاصيل أحد الفساتين لم يكن وجهها ظاهرًا بالكامل، لكن أكمل عرفها استحال عليه أن يخطئ.
تلك القامة، تلك الطريقة التي تحرك بها يديها وهي تتحدث، تلك الخصلة الشاردة من شعرها التي هربت من حجابها المربوط بإحكام.
إنها هي صبر.
تجمد في مكانه توقف الزمن، واختفى صوت ليلى التي كانت تتحدث بجانبه عن تصميمات المحل.
لم يعد يرى أو يسمع أي شيء سواها
آلاف الأسئلة انفجرت في رأسه.
كيف؟ متى جاءت إلى هنا؟ ماذا تفعل في مكان كهذا؟ هل كل ما حدث كان كذبة؟
تسمر مكانه وعيناه مثبتتان عليها، وقلبه يدق بعنف مزيج من الغضب والشوق والصدمة.
ثم وبشكل لا إرادي نزلت عيناه من وجهها إلى جسدها.
وهنا توقف كل شيء.
توقف قلبه توقفت أنفاسه توقف العالم من حوله.
رأى انتفاخة بطنها الواضحة.
انتفاخة لا يمكن أن يخطئها أحد انتفاخة شهور الحمل المتقدمة.
اتسعت عيناه بصدمة مطلقة، صدمة شلت كل أطرافه.
لم يكن يتخيل ما يراه لم يكن عقله قادرًا على استيعاب هذه الصورة المستحيلة.
في تلك اللحظة أنهت صبر حديثها مع الزبونة واستدارت بابتسامة مهنية لترحب بالزبائن الجدد الواقفين عند الباب.
وقعت عيناها عليه.
اختفت الابتسامة من على وجهها، وحل محلها رعب نقي، شحب وجهها حتى أصبح بلون الموتى.
تجمدت الدماء في عروقها، وسقط الفستان الذي كانت تحمله من يدها المرتجفة على الأرض دون أن تشعر.
لقد حست بأن الدنيا توقفت بها.
الرجل الذي هربت منه، الرجل الذي تحمل ابنه في أحشائها دون أن يدري، الرجل الذي كان كابوسها وحلمها في آن واحد يقف الآن أمامها، وعيناه تحملان نظرة واحدة... نظرة رجل رأى شبحًا، شبحًا يحمل سرًا سيقلب حياته رأسًا على عقب.
❈-❈-❈
كانت شقة مالك في دبي، التي وفرتها له الشركة، تقع في أحد الأبراج الشاهقة التي تلامس السحاب كانت شقة أنيقة عملية وباردة تمامًا مثل حياة المغترب التي عاشها لسنوات
ما إن أغلق الباب خلفه حتى ألقى بحقيبة سفره الصغيرة جانبًا وتنهد بإرهاق لم يكن إرهاق السفر، بل إرهاق القرارات المصيرية التي اتخذها.
لم يمنح نفسه لحظة للراحة بدأ مباشرة في لملمة أغراضه تحرك في الشقة كشبح، يجمع ملابسه من الخزانة أوراقه من على المكتب كل ما يخصه في حقائب سفر كبيرة.
كان يعمل بسرعة وكفاءة، كمن يريد أن يمحو كل أثر لوجوده في هذا المكان، ويغلق هذا الفصل من حياته إلى الأبد.
بعد أن فرغ من جمع كل شيء تقريبًا، توقف في منتصف الغرفة، وألقى نظرة أخيرة.
ثم اتجه إلى درج صغير في منضدة جانبية، وأخرج منه مفتاحًا فضيًا وحيدًا، يختلف عن بقية مفاتيحه.
تقدم بهدوء نحو باب جانبي في غرفة المعيشة، باب كان يبدو كجزء من الجدار لا يلفت الانتباه أدخل المفتاح في قفله الذي كان مخفيًا بعناية، وأداره.
انفتح الباب ليكشف عن جناح آخر،
كان هذا الجناح مختلفًا تمامًا.
لم يكن باردًا وعمليًا بل كان دافئًا وشخصيًا أثاثه فاخر، ألوانه هادئة وتنتشر في أرجائه لمسات أنثوية رقيقة.
كانت هنا حياته الحقيقية، حياته التي لم يكن يعرف عنها أحد أي شيء.
بدأ في لملمة أغراضه من هذا الجناح أيضًا، لكن بحذر أكبر وبمشاعر أكثر تعقيدًا.
فتح خزانة ملابس وأخرج منها بعض الملابس الرجالية التي كان يتركها هنا ثم اقترب من منضدة زينة أنيقة، وفتح أحد أدراجها أخرج من داخله ورقة مطوية بعناية، بدت قديمة بعض الشيء.
فتح الورقة، وعيناه تتفحصان ما بداخلها.
وقبل أن يطبقها ليعيدها إلى جيبه، شعر بحركة خفيفة خلفه لم يكد يلتفت، حتى أحاطت بذراعين ناعمتين خصره من الخلف، ودفنت صاحبتها وجهها في ظهره.
ثم جاء صوت أنثوي ناعم، صوت مليء بالشوق والدفء يهمس باسمه.
_ أخيراً رجعت يا مالك... وحشتني أوي...
يتبع...