رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 40 - جـ 1 - الأحد 21/9/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل الأربعون
الحزء الأول
تم النشر الأحد
21/9/2025
كانت العودة من الجامعة أشبه بعبور صحراء قاحلة كل متر كانت تقطعه السيارة كان يزيد من الإرهاق الذي بدأ ينهش جسد صبر كانت تحاول جاهدة أن تخفي ألمها خلف ابتسامة باهتة، لكن أكمل بعينيه الصقريتين اللتين اعتادتا قراءة أدق التفاصيل كان يرى كل شيء كان يرى شحوب وجهها، والارتعاشة الخفيفة في يديها، والطريقة التي كانت تضغط بها على أسنانها لتكبت أنيناً.
ما إن وصلا إلى الشقة وساعدها على الاستلقاء في الفراش حتى انهار جدار صمودها الهش بدأ جسدها يرتجف، وشعرت بدوار شديد بينما كان الألم في ظهرها يطعنها كآلاف الإبر.
_صبر انتِ شكلك تعبانة أوي.
حاولت صبر طمئنته
_كل ده ألم عادي من ال....اه
صدرت منها اهه مؤلمة آلمته هو أكثر
تحرك لينادي والدته لكنه تذكر أنها بالمشفى
تحرك بسرعة اتصل بوالدته
_أيوة يا أمي..صبر...صبر تعبت تاني.
قالت والدته بروية
_اهدى يا حبيبي متخافش انا كنت عاملة حساب حاجة زي كدة.
المحلول جاهز عندك هتوصله الكانيولا
ولما تخلصه هتتحسن متقلقش
اغلق الهاتف وفعل ما أخبرته به والدته ثم جلس بجانبها على السرير وأمسك بيدها الأخرى وعيناه تراقبان وجهها المتألم بقلق كاد أن يفتك به.
_ماما قالت ان المحول ده عيريحك، معلش اتحملي شوية.
ظلت صامتة لبعض الوقت، تنتظر أن تهدأ العاصفة داخل جسدها.
وعندما شعرت بتحسن طفيف فتحت عينيها لتجده يحدق بها بنظرة لم ترها من قبل.
كانت مزيجاً من الحب العميق، والغضب، والخوف المطلق.
_ كفاية.
قالها بصوت هادئ، لكنه كان يحمل قوة قرار نهائي.
_ مفيش امتحانات تاني.
نظرت إليه بصدمة كأن كلماته صفعتها وقالت بصوت ضعيف لكنه حازم.
_ إيه؟ لأ طبعاً فاضل مادتين بس يا أكمل!
هز رأسه بنفي قاطع وعيناه لم ترمشا.
_ قولت كفاية أنا مش مستعد أخسرك أو أخسر ابني عشان شهادة.
صحتك وصحة اللي في بطنك أهم من أي حاجة في الدنيا.
تجمعت الدموع في عينيها ليس من الألم الجسدي بل من الشعور بأن حلمها ينهار أمامها.
_ بس أنا كويسة ده تعب عادي أي واحدة حامل بتتعب المهم إن ابننا كويس.
انفجر أكمل غاضباً لكنه كان غضباً نابعاً من الخوف.
_ كويسة؟! أنتِ شايفة حالتك دي وتقولي كويسة؟! أنتِ مش متخيلة أنا حسيت بإيه وأنا شايفك راجعة عاملة كده، مش متخيلة الرعب اللي كنت فيه وأنا بعلقلك المحلول ده وخايف إيدك ترتعش! أنا كنت هموت من الخوف عليكي يا صبر!
كان صوته يرتجف في نهاية جملته، وفضح كل الهلع الذي كان يحاول إخفاءه خلف قناع القوة.
تأثرت بصدق خوفه ومدت يدها لتلمس وجهه.
_ أرجوك يا أكمل... متحرمنيش من فرحة النجاح أنا تعبت أوي عشان أوصل لهنا السنين اللي فاتت كلها والبهدلة اللي شفتها، كل ده هيروح لو مستحملتش اليومين دول.
خليني أكمل وأوعدك هحافظ على نفسي.
نظر إلى عينيها الدامعتين ورأى فيهما الإصرار والعزيمة التي أحبها فيها، كان في صراع مرير عقله وقلبه يصرخان به أن يمنعها أن يحبسها في هذا الفراش حتى تضع طفلهما بأمان.
لكنه رأى أيضاً أن قتل حلمها سيكون بمثابة قتل لجزء من روحها التي يقاتل ليعيدها إليها.
أغمض عينيه وأطلق تنهيدة طويلة وعميقة، تنهيدة رجل مهزوم أمام إصرار من يحب.
_ ماشي يا صبر.
قالها باستسلام كأنه يوقع على أخطر أوراق قضية في حياته.
_ هتكملي... بس بشرط.
نظرت إليه بلهفة.
_ إيه هو؟
_ أنا اللي هذاكرلك هقرالك كل حاجة وأنتِ نايمة مكانك ومش هتتحركي من على السرير ده إلا للحمام وبس.
ولو حسيت للحظة واحدة إنك تعبانة تاني هنلغي كل حاجة اتفاقنا؟
أومأت برأسها بسرعة وابتسامة ممتنة ومشرقة أزاحت كل آثار الألم عن وجهها.
_ اتفاقنا.
انحنى وقبل جبينها قبلة طويلة ثم همس وهو يزيح خصلة شعر عن وجهها.
_ بحبك... وبخاف عليكي أكتر من روحي.
لقد وافق لكنه في قراره نفسه، أقسم أنه سيتحول إلى حارسها الشخصي وظلها وسجّانها لو لزم الأمر حتى تمر هذه العاصفة بسلام، ويعود إليه كنزاه هي وطفلهما، سالمين.
❈-❈-❈
صعد جاسر الدرج إلى جناحه الخاص لا يبحث عن الراحة بل عن الهدوء قبل العاصفة التي يعرف أنها قادمة كان يريد أن يغير ملابسه قبل أن يعود إلى بيت الجبل حيث يقيم احتفاله هناك.
فتح باب الجناح ودخل لكنه توقف على الفور لم يكن المكان فارغاً.
كانت شروق تقف في منتصف الغرفة، تنتظره كانت ترتدي فستاناً أسود، كأنها في حداد ووجهها شاحب وعيناها حمراوان من البكاء أو من الحقد.
نظر إليها جاسر ببرود نظرة عابرة كأنه ينظر إلى قطعة أثاث في غير مكانها
لم يقل شيئاً تجاهل وجودها تماماً، وأكمل طريقه نحو غرفة الملابس وبدأ في خلع ساعة يده ووضعها على المنضدة.
هذا التجاهل كان أشد عليها من أي إهانة ركضت ووقفت أمامه مباشرة سادة طريقه وأجبرته على التوقف.
_ كيف يا جاسر؟!
صرخت بصوت يرتجف من القهر.
_ كيف تعمل فيا كده يا جاسر؟!
رفع جاسر عينيه ببطء ونظر إليها مباشرة، نظرة خالية من أي عاطفة باردة كجليد القطب الشمالي.
_ عملت إيه؟
_ الفرح، بتعملها فرح يا جاسر؟! بتجيبها هنا في بيتي وعلى سريري وكمان بتعلن چوازك منيها جدام الناس كلها؟! عايز تفضحني؟! عايز تكسرني؟!
لم تتغير ملامحه ظل هادئاً وهذا الهدوء كان يدفعها إلى الجنون.
_ أولاً ده بيتي أنا ثانياً هي مراتي وده حجها ثالثاً انا مش هچيبها البيت هنا
والأهم أنا مش فاضي للكلام ده.
حاول أن يتخطاها لكنها أمسكت بذراعه وتشبثت به بيأس.
_ مراتك؟! مراتك اللي كنت بتجولي إنها مجرد وسيلة انتقام؟! كدبت عليا يا جاسر ضحكت عليا!
نفض ذراعها بعنف لكن دون أن يلمسها مجرد حركة قوية جعلتها تتراجع خطوة إلى الوراء اقترب منها هو الآن وصوته انخفض إلى همس خطير، همس يحمل تهديداً لا لبس فيه.
_ اسمعي زين يا بنت عمي عشان الكلام ده مش هكرره تاني نغم مراتي وحبيبتي، والبلد كلها مش بس البلد الدنيا كلها هتعرف ده.
تجمعت الدموع في عينيها لكنها دموع غيظ وليست دموع ضعف.
_ وأنا؟! أنا مراتك برضه!
ضحك جاسر بسخرية ضحكة قصيرة ومريرة.
_ أنتِ كنتِ صفقة، صفقة أبوكي فرضها عليا وأنا جبلتها في وقجت كنت فيه أعمى لكن خلاص أنا فجت
والصفقة دي بالنسبالي ملغية.
قالت بتحدي يائس.
_ مش هسيبك مستحيل أسيبك تتهنى بيها الفرح ده مش هيكمل.
هنا تغيرت نظرة جاسر اختفى البرود وحل محله شيء آخر، شيء مظلم ومرعب أمسك بذقنها بأصابعه ورفعه بقوة مجبراً إياها على النظر في عينيه.
_ لو فكرتي بس... مجرد تفكير... إنك تعملي حاچة تكسر فرحة نغم، أو تنزلي دمعة واحدة من عينها الليلة دي...
صمت للحظة وشد على قبضته.
_ هخليكي تتمني الموت ومتلاجيهوش هنسى إنك بنت عمي وهنسى إن في بينا صلة دم وهتشوفي وش جاسر التهامي اللي عمرك ما شفتيه جبل سابج.
كانت كلماته كالصقيع تجمد الدم في عروقها رأت في عينيه صدق تهديده، ورأت الوحش الذي كان يختبئ خلف الرجل الشامخ وهو الآن مستعد للخروج من أجل حماية مملكته.
ترك ذقنها بقسوة ودفعها من طريقه.
_ اطلعي بره جناحي ومش عايز أشوف وشك تاني.
وقفت شروق متسمرة في مكانها، ترتجف من الخوف والغضب والعجز.
لقد أدركت في تلك اللحظة أنها خسرت كل شيء لم تخسر جاسر الرجل فقط، بل خسرت أي سلطة أو نفوذ كانت تظن أنها تملكه عليه.
لقد تحول إلى حصن منيع يحيط بنغم وأي شخص يحاول الاقتراب من هذا الحصن سيحترق.
❈-❈-❈
لم يلتفت جاسر خلفه خرج من الجناح الذي أصبح يخنقه حاملاً حقيبة سفر واحدة تحتوي على كل ما يخصه تاركاً خلفه كل أثر لشروق أو للماضي الذي فرض عليه لم تكن وجهته جناح نغم بل جناح آخر في السرايا، الجناح الذي كان دائماً ملاذه ومصدر قوته: جناح والدته.
طرق على الباب طرقاً خفيفاً قبل أن يدخل وجدها كما توقع تماماً كانت تجلس على طرف السرير بكامل وقارها الهادئ، وبجانبها حقيبة سفر صغيرة مغلقة وجاهزة كانت تنتظره.
ما إن رأته حتى وقفت وارتسمت على وجهها ابتسامة حنونة، لكنها كانت ممزوجة بقلق خفي.
تقدم جاسر منها ووضع حقيبته بجانب حقيبتها.
_ خلصتي يا أمي؟
سألها بصوت هادئ صوت الابن الذي يعود إلى أصله.
أومأت برأسها.
_ أيوه يا حبيبي من بدري.
ثم تطلعت إليه بنظرة مليئة بالحب والتفهم.
_ بس أنا ليا طلب عندك يا جاسر.
قطب جاسر حاجبيه بقلق طفيف.
_ اؤمري يا ست الكل.
_ سيبني اهنه.
قالتها بهدوء.
_ روح أنت لمراتك واشبع منها وعيشوا فرحتكم.
أنا مش عايزة أكون عزول وسطكم في بيتكم الجديد مش دلوجت على الأجل.
هز جاسر رأسه بنفي قاطع وحاسم، قبل حتى أن تنهي جملتها تقدم منها وأمسك بيديها برفق وجلس بجانبها على السرير وهو ما نادراً ما يفعله.
_ مفيش حاچة اسمها أسيبك اهنه
قالها بنبرة لا تقبل النقاش لكنها كانت مغلفة بحنان عميق.
_ أنتِ مش عزول يا أمي أنتِ البركة اللي هتكون في البيت، أنتِ الخير كله أنا مجدرش أبدأ حياة جديدة وأنتِ مش فيها، ومش معايا.
حاولت أن تعترض.
_ بس يا ابني دي خصوصيتكم دي عروسة جديدة وليها حج تاخد راحتها في بيتها.
ضغط على يديها برفق ونظر في عينيها مباشرة.
_ وراحتها من راحتي ونغم بتحبك زي ما أنا بحبك بالظبط البيت اللي هترفضيه أنا مش هعيش فيه، المكان اللي مش هتكوني منورة فيه، أنا مش هدخله.
كانت كلماته صادقة نابعة من أعماق قلبه لقد تخلى عن كل شيء وحارب الجميع لكنه لم يكن مستعداً أبداً أن يتخلى عن والدته هي ثابته الوحيد في عالم متغير.
_ يا أمي...
أكمل بصوت أكثر حناناً.
_ أنتِ استحملتي معايا كتير جوي وجفتي في ضهري جصاد الدنيا كلها مينفعش دلوجت وأنا ببني دنيتي الجديدة متكونيش أنتِ أساسها وعمدانها.
تأثرت والدته بكلماته وترقرقت الدموع في عينيها لم تكن دموع حزن بل دموع فخر وحب لهذا الابن الذي رغم قسوته وجبروته مع العالم كله، إلا أنه أمامها يعود طفلاً يبحث عن أمانه.
_ أنا رايدك معايا ورايد حفيدك يتربى في حضنك، ويشرب من حنيتك، ده مش طلب يا أمي، ده رجاء.
لم تعد قادرة على الرفض كيف ترفض وهي ترى كل هذا الحب والإصرار في عينيه؟ أومأت برأسها موافقة، وربتت على يده.
_ اللي تشوفه يا حبيبي طالما ده يريحك، أنا معاك في أي مكان.
نهض جاسر واقفاً وشعر براحة تغمر قلبه حمل حقيبتها في يد وحقيبته في اليد الأخرى.
_ يلا بينا بيتنا الجديد مستنينا.
خرج جاسر من الجناح ووالدته تسير بجانبه وشعر بأنه الآن يمتلك العالم حقاً ليس لأنه انتصر على أعدائه بل لأنه استطاع أن يجمع أغلى امرأتين في حياته تحت سقف واحد، وفي حمايته.
❈-❈-❈
كانت غرفة نغم قد تحولت إلى مكان يعج بالحركة والضحكات والهمسات السعيدة وفي مركز كل هذا وقفت نغم أمام المرآة الطويلة، لا تكاد تصدق الصورة التي تراها.
لم تكن تنظر إلى نفسها بل إلى فتاة أخرى فتاة تشبهها لكنها تشع نوراً كانت الكوافيرة قد أبدعت، فمكياجها كان ناعماً يبرز جمال ملامحها الطبيعية دون تكلف، وتسريحة شعرها تحت الحجاب المصمم بعناية كانت متقنة وأنيقة.
أما الفستان فقد كان قصة بحد ذاتها لونه الهادئ كان ينسجم تماماً مع لون بشرتها، وقصته المحتشمة ذات الأكمام الطويلة المطرزة لم تنقص من جماله شيئاً، بل أضافت إليه وقاراً ورونقاً خاصاً.
كان كل خيط فيه ينطق بالفخامة
دارت حول نفسها ببطء وضحكت ضحكة صافية ضحكة فتاة ترى حلمها يتحقق أمام عينيها.
كانت كل بضع دقائق تمسك هاتفها وتتصل بجاسر الشوق واللهفة لسماع صوته كانا لا يقاومان لكن في كل مرة، كان الخط يرن دون إجابة أو أحياناً يرفض المكالمة شعرت بقلق طفيف لكنها كانت تثق به.
وبينما كانت روح تخرج لها حذائها رن هاتفها برسالة نصية
فتحتها بلهفة وابتسمت ابتسامة واسعة أضاءت وجهها بالكامل عندما قرأت كلماته البسيطة والمباشرة:
"معايا رجالة أول ما أفضى هكلمك شكلك هيكسر الدنيا."
أغلقت الهاتف ووضعته على قلبها، وشعرت بسعادة دافئة تغمرها حتى وهو مشغول يفكر بها ويجد طريقة لطمأنتها ومغازلتها.
قامت بالتقاط صورة لها وقامت بإرسالها إليه وكتبت
"بس حاسة نفسي مش حلوة"
"انت شايف ايه"
لم تمضي ثواني الا وكان رده جاهزًا
"بلاش اقولك ردي لأنه هيكون قاسي"
تابعت بدهاء
"اللي هو ايه؟"
جاء رده
"هاجي اضيع كل اللي عملته وأخدك على بيت الجبل اعرفك بطريقتي"
ضحكت نغم ضحكة عالية دون إرادتها جعلت الجميع ينتبه لها وليل التي دلفت لتوها كاد قلبها يسقط فرحًا من ساعدة ابنتها.
"لأ خلاص الطيب أحسن"
دخلت والدتها في تلك اللحظة ووضعت يدها على صدرها وهي تطلق "ما شاء الله" طويلة وعميقة تقدمت منها ودموع الفرح تلمع في عينيها.
_ بدر منور يا جلب أمك بدر منور.
احتضنتها بقوة وهمست في أذنها
_ النهاردة بس حسيت إن روحي ردت فيا لما شفت الفرحة على وشك يا بنتي.
دخلت زوجة عمها سالم وابتسامة صادقة على وجهها لأول مرة منذ زمن.
_ ربنا يتمملك على خير يا نغم. تستاهلي كل خير.
كانت الأجواء في الغرفة وفي السرايا كلها أشبه بحلم، الزغاريد لا تتوقف، والأغاني الصعيدية التراثية التي تتغنى بالعروس تملأ المكان، كانت رائحة البخور والمسك تمتزج برائحة السعادة.
وقفت وعد بجانب روح وهما تنظران إلى نغم بفخر همست وعد لروح
_ شوفي الفرحة؟ أخيراً الفرح عرف طريق بيتنا من تاني.
أومأت روح برأسها ورغم الجرح الخفي في قلبها إلا أن سعادتها بنجاة أختها وتحقق حلمها كانت أكبر من أي ألم.
لقد عادت الضحكات لترن في أرجاء السرايا وعادت القلوب لتنبض بالأمل.
كانت ليلة نغم لكنها كانت فرحة للجميع، فرحة انتصار الحب على الكراهية وفرحة عودة الحياة إلى بيت كاد أن يقتله الحزن.
لم يكن مجرد حفل زفاف بل كان حدثاً تاريخياً ستتحدث عنه البلدة لسنوات طويلة.
لقد أقام جاسر التهامي عرساً أسطورياً، لم تشهد البلدة مثيلاً له من قبل.
أُقيم الفرح في أرض واسعة أمام بيت الجبل، زُينت بآلاف الأضواء التي حولت الليل إلى نهار وفُرشت بأفخر أنواع السجاد ووُضعت فيها مئات الموائد التي امتلأت بما لذ وطاب من الطعام.
كانت البلدة كلها هناك الأعيان وكبار العائلات والمزارعون البسطاء، والشباب والشيوخ جاء الجميع ليشهدوا بأعينهم نهاية أطول وأشرس عداء عرفته المنطقة وليشاهدوا العروس التي استطاعت أن تفعل المستحيل.
وفي قلب هذا كله جلست نغم على "الكوشة" الفخمة التي صُممت خصيصاً لها كملكة متوجة على عرشها في منزل عائلتها
كانت بجانبها والدتها وأقرب صديقاتها بينما كانت روح ووعد تتحركان بين الضيوف، تستقبلان المهنئين بوجوه تفيض بالفخر والسعادة.
كانت نغم تشعر وكأنها في حلم كل شيء كان أكبر وأجمل مما تخيلت لكن وسط هذه الفرحة، كانت تشعر بالعيون المسلطة عليها من كل حدب وصوب.
كانت قادرة على قراءة الأفكار في نظراتهم، وسماع الهمسات التي تدور في كل زاوية.
كان هناك فريق المندهشين....
مجموعة من نساء البلدة جلسن على طاولة قريبة، يختلسن النظر إليها ثم يتهامسن
"شفتي يا ختي؟ هي دي اللي بيجولوا عليها بنت الرفاعي سبحان من غير الأحوال مين كان يصدج إن جاسر التهامي، اللي الصخر بيلين تحت إيده جلبه يلين لواحدة منهم؟
ردت أخرى وهي تهز رأسها بعدم تصديق
"بيجولوا عملاله عمل مفيش تفسير غير اكده ده كان بيكره التراب اللي بيمشوا عليه."
وكان هناك فريق السعداء...
على طاولة أخرى، جلس بعض كبار السن من حكماء البلدة، يرتشفون الشاي ووجوههم تفيض بالراحة.
قال أحدهم وهو يسبح بمسبحته
"الحمد لله الحمد لله الذي ألف بين قلوبهم.
كنا خايفين الدم يوصل للركب ربنا يجعل في الچوازة دي نهاية للشر وبداية للخير."
أضافت آخرى
"الواد ده طلع أصيل حب ووجف جدام الدنيا كلها عشان حبه والبنت وشها فيه الجبول والبركة ربنا يهنيهم."
وكان هناك فريق الحاسدين...
بالطبع، لم يخلُ الفرح من العيون التي تملؤها الغيرة والحقد فتيات كن يحلمن بالزواج من جاسر، وعائلات كانت تطمع في مصاهرته.
قالت فتاة بمرارة لصديقتها
"مش خابرة شاف فيها إيه زيادة عننا؟ لا هي أحلى مننا ولا حسبها ونسبها زينا ده الحظ لما بيلعب."
ردت صديقتها وهي تنظر إلى فستان نغم ومجوهراتها بحسد
"حظ إيه بس دي دنيا قايمة على الواسطة شوفي الفرح اللي عاملهولها، كأنه فرح بنت ملوك واحنا ميرضاش بينا."
كانت نغم تسمع بعض هذه الهمسات، وترى تلك النظرات، لكنها لم تكن تهتم
لقد تعلمت أن تتجاهل العالم كله طالما أن "هو" بجانبها.
لقد أدركت في تلك الليلة أنها لم تتزوج رجلاً عادياً لقد تزوجت أسطورة البلدة، وأن حياتها معه ستظل دائماً تحت الأضواء ومحط أنظار الجميع لكنها كانت مستعدة لذلك، مستعدة أن تكون ملكة هذا الرجل وأن تواجه العالم كله وهي في حماه.
❈-❈-❈
كانت أجواء الفرح الصاخبة قد هدأت أخيراً، ولم يتبق في السرايا سوى الصمت المريح وأصداء ليلة أسطورية.
في غرفة نغم، كانت الأجواء أكثر هدوءاً وحميمية بمساعدة روح ووعد خلعت نغم فستان زفافها الثقيل وارتدت بيجامة حريرية بسيطة وشعرت أخيراً بأنها تستطيع التنفس.
نظرت وعد إلى هاتفها الذي أضاء بصورة طفلها النائم وتثاءبت قائلة
_ أنا فصلت خلاص عدي نام، هلحق أناملي ساعتين أنا كمان جبل ما يصحى ويعلن حالة الطوارئ.
احتضنت نغم بحب.
_ ألف مبروك مرة تانية يا أجمل عروسة.
ثم غمزت لها.