رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 45 - جـ 1 - الجمعة 26/9/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل الخامس والأربعون
الحزء الأول
تم النشر الجمعة
26/9/2025
كانت الشقة غارقة في هدوء الليل لا يقطعه سوى صوت أنفاس طفلهما النائم في غرفتهما، كانت صبر تجلس على حافة السرير بينما كان أكمل يخلع ساعة يده ويضعها على المنضدة، كان يستعدان للنوم لكنه لاحظ أنها شاردة، وأن هناك ظلاً من القلق يكسو ملامحها الهادئة.
اقترب منها وجلس بجانبها ومرر يده على ظهرها بحنان.
_ مالك يا حبيبتي، من ساعة ما قولتلك إننا هنسافر البلد بكرة عشان نبارك لمالك وروح وأنتِ مش على بعضك.
أخذت نفساً عميقاً كأنها تستجمع شجاعتها لتقفز من فوق حافة الهاوية، لم تعد قادرة على التحمل والصبر أكثر من ذلك
_ أنا أنا خايفة يا أكمل.
قطب جبينه بقلق
_ خايفة من إيه؟
_ خايفة أشوف أبويا.
زاد قلقه لكنه حاول أن يطمئنها
_ وأنتِ من إمتى بتخافي منه، أنا معاكي ومستحيل أسمحله يضايقك بكلمة واحدة.
هزت رأسها وبدأت الدموع تتجمع في عينيها
_ الموضوع أكبر من إكده يا أكمل، فيه حاجات أنت متعرفهاش حاجات أنا خبيتها عليك عشان....عشان خايفة من رد فعلك.
أمسك بيديها ونظر في عينيها مباشرة بنظرة جادة وحنونة.
_ صبر مفيش حاجة تخبيها عني، مهما كانت هنواجهها سوا احكيلي.
شعرت بالأمان في نظرته وبدأت تروي له القصة من بدايتها القصة الحقيقية التي لم يعرفها أحد.
_ فاكر زمان لما كنت بتنزل البلد عند جدك وأبويا كان شغال هناك؟
أومأ أكمل وهو يسترجع ذكريات بعيدة
_ أيوه.
_ وقتها كان بيلاحظ نظراتي ليك كان شايف اهتمامي حتى باسمك ولو من بعيد وفي يوم جه قالي "إيه رأيك أشغلك عنده ده باين عليه غني وتقيل لو لفتي حواليه هتعملي مصلحة حلوة"
اتسعت عينا أكمل بصدمة وغضب لكنه ظل صامتاً وتركها تكمل
_ أنا وجتها رفضت طبعاً وزعقت معاه، بس هو فضل يزن على دماغي ولما أنت اكتشفت إنه بيسرق جدك، هو مجاش قالي الحقيقة هو قالي إنك ظلمته، وإنك عشان تسامحه لازم أنا أروح أشتغل عندك في البيت وأخدمك لحد ما أسدد الدين اللي انت لفقّتهوله.
ضغط أكمل على قبضته بقوة وقد بدأ يفهم حجم الخداع الذي تعرضت له.
_ أنا مكنتش أعرف إنه بيرميني ليك كطعم عشان يرجع يشتغل تاني، أو عشان يبتزك بيا بعدين كنت فاكرة إني بساعد أبويا المظلوم.
واصلت وصوتها يرتجف من ألم الذكرى.
_ ولما لما اتجوزنا، بدأت لعبته الحقيقية بدأ يبتزني.
كان بيقولي يا إما أسرقك وأديله الفلوس اللي هو عايزها يا إما هيروح يقولك إني كنت على علاقة مع واحد غيرك قبل الجواز، وإني ضحكت عليك عشان أتجوزك قالي "زي ما كنت سبب في جوازك منيه هكون سبب في طلاقك"
شعر أكمل بأن الأرض تميد به كل هذا حدث تحت أنفه وهو لا يعلم شيئاً.
لقد أخبرته صبر بأنه هو من أجبرها على سرقته بالتهديد، وعندما رفضت أخبرها بأنه سيطلقها منه ويعيدها لعذابه لكن لم تقول كل ذلك.
_ وأنتِ ليه مقولتليش يا صبر، ليه سكتي على كل ده؟
انفجرت في البكاء بكاء مكتوم ومؤلم
_ عشان هو أبويا يا أكمل، مهما عمل هو أبويا مقدرتش أكسره قدامك، مقدرتش أجي أقول لجوزي وكيل النيابة إن أبويا حرامي وبلطجي، كنت بحاول أداري عليه وأبعده عني وأرفض طلباته على أمل إنه يزهق ويبعد.
تذكر أكمل الآن كل شيء تذكر تلك الليلة التي سمعها فيها تتحدث معه عند أكمل فى المنزل.
_ والمرة اللي سمعتك فيها لما كان بيهددك كان عايز إيه وقتها؟
_ كان عايزني أسرق مبلغ كبير من خزنتك ولما رفضت جالي الكلام اللي أنت سمعته، قالي إنه هياجي يفضحني عندك ويخرب بيتي، وقتها أنت دخلت وطردتني.
لم يستطع أكمل التحمل أكثر، جذبها إلى حضنه بقوة ودفن وجهه في شعرها وهو يشعر بغضب عارم من نفسه قبل أي شخص آخر.
كيف كان أعمى إلى هذا الحد، كيف حكم عليها بهذه القسوة دون أن يستمع للحقيقة.
_ أنا آسف، أنا آسف يا صبر سامحيني.
تشبثت به وهي تبكي بحرقة كأنها تخرج كل الألم الذي حبسته لشهور.
_ أنت ملكش ذنب، أنا اللي كان لازم أكون أجوى وأجولك من لول.
رفع وجهها بيديه ومسح دموعها بأصابعه.
_ لأ الذنب ذنبي أنا، أنا اللي كان المفروض أحميكي منه، مش أرميكي له تاني بس خلاص كل ده انتهى.
نظر في عينيها بنظرة حاسمة قوية لا تعرف التردد.
_ الراجل ده مش هيقرب منك تاني ولا هيشوف ضفرك، من النهاردة حسان ده اتمحى من حياتك ومن حياتنا، أنا هعرف إزاي أتعامل معاه بالقانون، أما أنتِ فأنتِ في حضني وفي حمايتي ومفيش مخلوق على الأرض يقدر يأذيكي طول ما أنا بتنفس.
كانت كلماته هي الملاذ الذي كانت تبحث عنه، لم تكن مجرد وعود بل كانت حقيقة لقد كشفت عن أعمق وأقبح أسرارها، وبدلاً من أن يدينها احتواها وحماها ووعدها بالأمان الأبدي، وفي تلك الليلة لم تلتئم جراحها فقط، بل ولدت من جديد حرة وقوية في حضن الرجل الذي أثبت لها أنه يستحق كل ثقتها وكل حبها.
❈-❈-❈
كانت سرايا الرفاعي تتنفس فرحاً، لم تكن مجرد جدران وأثاث بل كانت كياناً حياً يترقب عودة قطعة جديدة من روحه، كانت الشمس ترسل خيوطها الذهبية عبر النوافذ العالية كأنها تشارك العائلة احتفالها، ورائحة المسك والبخور الفاخر تفوح من كل زاوية معلنةً عن استقبالٍ يليق بأميرة صغيرة.
عندما توقفت سيارة مالك أمام المدخل الرئيسي، كان الجميع في انتظاره الجد وهدان الذي استعاد الكثير من عافيته بفضل هذه الفرحة، يقف شامخاً بعصاه وبجانبه ورد وليل اللتان كانتا تشرفان على كل التفاصيل الصغيرة، وحتى سند ووعد اللذان تركا "عدي الصغير" مع والدته، كانا يقفان بلهفة.
فتح مالك باب السيارة بحذر شديد كأنه يخشى أن يخدش الهواء صغيرته، ثم انحنى وساعد روح على النزول برفق، كانت روح تبدو متعبة لكن عينيها كانتا تلمعان بسعادة صافية، سعادة الأم التي تحمل معجزتها بين ذراعيها.
ما إن خطت روح أولى خطواتها داخل السرايا وهي تحمل طفلتها الملفوفة بغطاء أبيض ناعم مزين بالدانتيل، حتى انطلقت زغرودة قوية من ورد تبعتها زغاريد أخرى من ليل والخادمات لتملأ المكان ببهجة كانت غائبة عنه لوقت طويل.
اقترب الجد وهدان بخطوات بطيئة ونظر إلى وجه حفيدته الصغيرة النائمة بسلام، ارتسمت على وجهه ابتسامة حنونة ومد يده المرتجفة قليلاً ليمسح على رأسها.
_ نورتي بيتك يا نور عين جدك، نواره البيت انتي .
نظر إلى روح حفيدته الأغلى عنده وقال بحب
_ حمدلله على سلامتك يا روح يا بنيتي.
قبلت روح يده باحترام
_ الله يسلمك يا جدي، فضلك علينا كبير.
اقتربت ورد وليل وعيونهما تلمع بالدموع والفرح احتضنت، ورد روح بحب.
_ حمد لله على سلامتك يا حبيبتي نورتي البيت من تاني.
ثم نظرت إلى الطفلة وهمست
_ بسم الله ما شاء الله قمر ربنا يحميها ويحفظها، دي نسخة منك يا روح.
أخذتها ليل من بين ذراعي روح برفق وقبلتها على جبينها.
_ تتربى في عزك يا روح يا بنتي، وفي عز أبوها.
اقترب سند من مالك وربت على كتفه بقوة.
_ مبروك يا أخويا، بقيت أب رسمي، مرحباً بك في نادي قلة النوم وتغيير الحفاضات.
ابتسم مالك ابتسامة عريضة وهو ينظر إلى زوجته وابنته.
_ مستعد لأي حاجة عشان اللحظة دي وعشان خاطر عيونهم.
أخذت وعد الطفلة من ليل وبدأت تداعبها بحنان.
_ يا روحي عليها صغيرة جوي
نظرت إلى روح تشاكسها.
_فاكر يا سند عدي لما اتولد كان أكبر من إكده.
ردت روح بكيد
_ دي بنت يا وعد لازم تطلع رقيقة وصغيرة زيي، وبعدين دي بنت الرفاعية لازم تطلع هادية مش مزعجة زي ابنك اللي بيصحيني انا من النوم.
كانت الأحاديث تدور والضحكات تتعالى، والطفلة تنتقل من حضن إلى حضن، وكل فرد في العائلة يشعر بأن هذه الصغيرة هي ملك له، وأنها جاءت لتربط قلوبهم ببعضها البعض أكثر.
صعدوا جميعاً إلى جناح مالك وروح الذي كانت ورد قد أشرفت على تجهيزه بالكامل، كان السرير الصغير بجانب سريرهما مزيناً بالدانتيل الوردي، والغرفة تفوح برائحة عطر الأطفال المريحة.
جلست روح على السرير وأخذت ابنتها في حضنها مرة أخرى كأنها لا تشبع من النظر إليها.
جلس الجد وهدان على مقعد قريب وقال بصوت عميق يحمل حكمة السنين
_ البيت ده كان ضلمة من وجهت ما نغم خرجت منيه، ودلوج ربنا رزقنا بنورين نور من روح ونور من نغم، ربنا يجعلها وش السعد عليكم ويجعل أيامكم كلها نور وفرح.
سألته وعد بصدمة مصطنعه.
_وانا يا جدي، فين في كل ده؟
رد وهدان بصدق
_ربنا اللي عالم بغلاوتكم كلايتكم في جلبي قد ايه، وانتي اكتر واحدة تشبهي المرحومة عشان إكدة معزتك في القلب من جوة.
نظر الجميع إلى بعضهم البعض وشعروا بصدق كلماته، لقد كانت هذه اللحظة أكثر من مجرد استقبال مولودة جديدة، كانت إعلاناً بأن بيت الرفاعي بعد كل العواصف التي مر بها، قد وجد نوره من جديد نوراً صغيراً هادئاً لكنه كان كافياً ليبدد كل الظلام.
❈-❈-❈
كانت زينة تمسك بالأوراق في يدها وشارفت على النطق بالكلمات التي تنتظرها نغم بفارغ الصبر، كلمات قد تحمل الطمأنينة، أو ربما تحمل الخوف.
كانت ونس تراقب وجه زينة بترقب شديد، بينما حبست نغم أنفاسها وقلبها يخفق بعنف كطائر سجين.
في تلك اللحظة بالذات انفتح باب العيادة فجأة بقوة ودون أي استئذان
تجمدت الكلمات في حلق زينة وتجمد الدم في عروق نغم وونس معًا.
وقف جاسر على عتبة الباب.
لم يكن هذا جاسر الحبيب أو العاشق الذي يغمرها بحنانه، ولم يكن حتى جاسر المحامي الواثق بل كان شيئًا آخر تمامًا، كان ظلًا من الماضي وحشًا استيقظ من سباته العميق كانت عيناه باردتين حادتين كشفرات الجليد تحملان غضبًا أسود مكبوتًا يجعله أكثر رعبًا من أي صراخ مسموع، لقد تحول شموخه المعتاد إلى هالة من التهديد الصامت الذي ملأ الغرفة الصغيرة وخنق الهواء فيها.
سقط قلب نغم إلى قدميها وشعرت بصدمة كهربائية تسري في جسدها كله، وشحب وجهها حتى كاد يصبح بلون ملاءة السرير البيضاء، لم تستطع أن تنطق ولم تستطع حتى أن ترمش فقد كانت عيناها مثبتتين عليه تريان فيه الرجل الذي خطفها وعذبها، الرجل الذي كانت تخشاه أكثر من أي شيء في هذا العالم.
ونس التي تعرف ابنها جيدًا شعرت بالرعب يزحف إلى قلبها، رأت في عينيه تلك النظرة التي لم ترها منذ زمن طويل، نظرة لا تعرف الرحمة ولا تقبل النقاش، ارتبكت وحاولت أن تجد الكلمات المناسبة لتهدئة الموقف لكنها علمت أن أي كلمة ستقولها الآن ستكون كمن يصب الزيت على النار.
زينة التي لم تفهم سبب هذا الدخول المفاجئ أو هذا التوتر المشحون، حاولت أن تتصرف بمهنية ورسمت ابتسامة باهتة وهي تقول.
_ جاسر مفاجأة زينه اتفضل اجعد كنت لسه هجول لنغم نتيجة التحاليل.
لم يحرك جاسر عينيه قيد أنملة عن نغم، كانت نظرته ثاقبة تخترقها وتجردها من كل دفاعاتها، نظرة واحدة سحبت الهواء من رئتيها وجعلتها تشعر بأنها عارية وضعيفة أمامه، ثم وبصوت قاطع بارد وهادئ بشكل مرعب قال دون أن ينظر إلى زينة.
_ مش عايز أسمع حاجة.
تحرك أخيرًا لم تكن خطواته سريعة، بل كانت بطيئة ومحسوبة كخطوات نمر يقترب من فريسته، تجاهل ونس وزينة تمامًا ووقف أمام نغم الجالسة على المقعد، لم يلمسها ولم يقل شيئًا آخر فقط مد يده نحوها في إشارة صامتة آمرة لا تقبل أي جدال بأن تنهض وتتبعه.
لم تجرؤ نغم على الرفض، فالخوف قد شل إرادتها تمامًا وضعت يدها المرتجفة في يده وشعرت ببرودة أصابعه وهي تطبق على يدها بقوة، ليست قوة مؤذية بل قوة تملّك مطلق.
سحبها خلفه بهدوء قاتل وهي تتعثر في خطواتها وعندما وصلا إلى الباب توقف للحظة ودون أن يلتفت قال بصوته البارد نفسه لوالدته
_ السواج مستنيكي تحت يا أمي.
ثم خرج وهو يجر نغم خلفه، التي كانت تسير كالمسحورة لا ترى شيئًا سوى ظهره العريض الذي يسد عنها العالم كله، لم يمنحهما أحد فرصة للاعتراض أو حتى للسؤال لقد دخل كالعاصفة وفي لحظات اقتلع زهرته وغادر تاركًا خلفه صمتًا مدويًا ورعبًا ونذيرًا بأن الجحيم الذي هربت منه نغم قد عاد ليفتح أبوابه من جديد.
كانت يده قابضة على معصمها بقوة محسوبة، قوة لا تترك أثراً على جلدها لكنها تطبع بصمتها على روحها.
سحبها جاسر خلفه عبر ممرات المستشفى الطويلة، لم تكن تسير بل كانت تنجرف في تياره الصامت كانت رؤوس الممرضات والمرضى تلتفت نحوهم لكن هالة التهديد التي أحاطت بجاسر كانت كفيلة بأن تجعل الجميع يخفضون أبصارهم بسرعة، لم يجرؤ أحد على النظر طويلاً في وجهه الذي كان قناعاً من الغضب البارد.
كانت نغم تشعر وكأنها في كابوس مألوف، لقد عادت إلى نقطة الصفر إلى الأيام الأولى من اختطافها، هذا هو جاسر الذي عرفته أول مرة.
جاسر القاسي الذي لا يرحم الذي لا تحتاج كلماته إلى صوت لتُفهم نظراته وحدها كانت كافية لجلدها، لم يكن هناك أثر لذلك الرجل الحنون الذي سمحت لنفسها بالاعتماد عليه، كل لمسة دافئة وكل كلمة مطمئنة تبخرت في لحظة وحل محلها هذا الجليد الحارق.
وصل بها إلى السيارة المركونة أمام المدخل فتح الباب الأمامي ودفعها للداخل برفق عنيف، حركة متناقضة لم تؤذها جسدياً لكنها أهانت روحها ثم أغلق الباب بقوة ودوى صوته في صمت الموقف، دار حول السيارة واستقل مقعده في ثواني معدودة.
انطلقت السيارة باندفاع عنيف جعل جسد نغم يرتطم بالمقعد، أدارت وجهها نحو النافذة تتظاهر بمشاهدة الطريق لكنها في الحقيقة كانت تهرب من مواجهة صورته المنعكسة على زجاج النافذة، كانت أنفاسها متقطعة ويداها ترتجفان على قدميها، حاولت أن تجمع شتات أفكارها أن تجد مبرراً لكن عقلها كان مشلولاً بالخوف.
كان جاسر يقود بصمت مطبق قبضته على عجلة القيادة كانت بيضاء من شدة الضغط عليها، وعيناه مركزتان على الطريق أمامه لكن نغم كانت تشعر بنظراته الجانبية تحرقها بين الحين والآخر، كان الصمت في السيارة أثقل وأشد رعباً من أي صراخ.
بعد دقائق بدت كدهر، ابتعدت السيارة عن صخب المدينة وسلكت طريقاً جانبياً هادئاً ثم توقفت فجأة تحت شجرة ضخمة في مكان شبه مهجور.
أطفأ جاسر المحرك وعم السكون فجأة سكون لم يقطعه سوى صوت أنفاس نغم المرتجفة.
بقي على وضعه لثواني ثم التفت إليها ببطء شديد، حركة مدروسة زادت من رعبها، لم تكن في عينيه نظرة غضب صاخبة بل هدوء مميت هدوء ما قبل العاصفة.
قال بصوت خفيض أجش كأنه يصدر من أعماق بئر سحيق.
_ إزاي تطلعي برة البيت من غير ما تعرفيني؟
تجمدت الكلمات في فمها، كان قلبها يقرع بعنف في صدرها حتى ظنت أنه سيقف، حاولت أن تفتح فمها لتتكلم لتبرر لكن لم يخرج أي صوت، حنجرتها كانت جافة ولسانها ملتصق بسقف حلقها، كل ما استطاعت فعله هو هز رأسها بخفة في محاولة يائسة للنفي أو الشرح.
لم يرفع صوته لكن حدة نظراته اشتدت
_ أنا بسألك سؤال.
عندما رأى صمتها وعجزها انفجر فيه شيء ما، لم يعد يحتمل صمتها الذي فسره تحدياً أو خوفاً لا يهمه، فضرب عجلة القيادة بكلتا يديه فجأة محدثاً صوتاً قوياً جعل نغم تنتفض في مكانها، ثم صرخ فيها بصوت جعل زجاج السيارة يرتجف
_ انطجي.
كانت تلك الصرخة هي القشة التي قصمت ظهر مقاومتها الهشة، انفجرت في بكاء صامت ومؤلم اهتزت كتفاها بعنف وانسابت الدموع على خديها بغزارة تحدثت أخيراً بصوت متقطع مختنق بالبكاء.
_ كنت... كنت عايزة أطمن... عشان... عشان الحمل... كنت عايزة أعرف لو فيا حاچة... حاچة هي السبب في التأخير... عشانك.
كانت تأمل أن تلمس كلماتها قلبه أن ترى دموعها شفيعاً لها لكنها كانت مخطئة.
اقترب منها فجأة حتى كاد وجهه يلامس وجهها، ورغم دموعها التي كانت تمزق قلبه لم يتراجع، أمسك بذقنها بأصابعه وأجبرها على النظر في عينيه مباشرة، كانت عيناه لا تزالان تحملان تلك القسوة وذلك الغضب.
_ مشكلتي مش في اللي كنتي عايزة تعرفيه، مشكلتي إنك اتصرفتي من ورايا، خرچتي من البيت من غير إذني وچيتي لمكان زي ده لوحدك في موضوع يخصنا إحنا الاتنين، جررتي فيه لوحدك كأني مش موچود في حياتك.
