-->

رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 44 - جـ 2 - الخميس 25/9/2025

 

قراءة رواية ثنايا الروح كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية ثنايا الروح

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رانيا الخولي


الفصل الرابع والأربعون

الحزء الثاني 

تم النشر الخميس  

25/9/2025

.


هدأت كلمات ونس من روعها قليلاً. 

جلستا تتحدثان حتى عاد جاسر حاول أن يرسم ابتسامة على وجهه، وجلس معهما لبعض الوقت ثم استأذنا وصعدا إلى غرفتهما.

ما إن أغلق باب الغرفة خلفهما حتى تغير كل شيء.

اقترب منها جاسر وفي حركة سريعة وقوية جذبها إليه فى حضن عنيف، كأنه يخشى أن تتبخر من بين يديه. 

وبدون مقدمات دفن وجهه في عنقها يستنشق رائحتها بعمق كغريق يتعلق بقشة نجاة.

تفاجأت نغم من قوة احتضانه، لكنها لفت ذراعيها حوله تحاول أن تهدئه

ثم رفع وجهها وقبلها.


لم تكن قبلة حنونة كالتي اعتادتها كانت قبلة جائعة يائسة فيها حدة لم تحبها. 

كانت قاسية ومتطلبة كأنه لا يقبلها بل يحاول أن يطبع ملكيته عليها، أن يؤكد لنفسه أنها هنا أنها حقيقية.


للحظة أرادت أن تصده أن تسأله عن سبب هذه القسوة المفاجئة. 

لكنها رأت في عينيه ألماً عميقاً صراعاً لا تعرف عنه شيئاً. 

فأدركت أن هذه ليست قسوة بل هي صرخة يأس صامتة. 

فاستسلمت له وقررت أن تكون هي ملاذه حتى لو لم تفهم سبب عاصفته.

ومع مرور الوقت بدأت القسوة تخفت تدريجياً تحولت القبلات اليائسة إلى قبلات أكثر حناناً. 

تحولت يداه التي كانت تمسك بها بقوة إلى لمسات رقيقة حائرة، تتفقد كل جزء من وجهها، عاد جاسر الذي تعرفه، الرجل الذي يغلف حبه لها بخوف من فقدانها.


لقد كانت ليلة غريبة بدأت بالصمت، ومرت بالخوف، وانتهت بعاطفة جياشة لكنها تركت في نفس نغم سؤالاً كبيراً: 

ما هو السر المظلم الذي يحمله جاسر في قلبه ويجعله يتحول من عاشق حنون إلى رجل يائس على حافة الهاوية؟


❈-❈-❈


كانت نغم مستلقية على صدر جاسر، تستمع إلى دقات قلبه المنتظمة التي عادت إلى هدوئها بعد العاصفة

كان ذراعه يلتف حولها بقوة كأنه لا يزال يخشى أن يفقدها. 

كان يجب أن تشعر بالأمان المطلق، لكن صورة واحدة ظلت تتكرر في ذهنها ترفض أن تتركها بسلام.

صورة مالك وهو يحمل ابنته "نورين".


تذكرت نظرته تلك النظرة المليئة بالفخر والحب الخالص الذي لا يمكن تزييفه. 

تذكرت سعادته وهو يتأملها كأنها معجزته الخاصة هذه الصورة أشعلت في قلبها حنيناً مؤلماً، وأيقظت كل مخاوفها التي حاولت دفنها.


لم تستطع الصمت أكثر رفعت رأسها قليلاً، وسألته بصوت خافت كأنها تخشى سماع الإجابة.

_ جاسر...

عاد جاسر من شروده لأجلها

همس وهو يمرر يده على شعرها.

_ عيونه.

_ أنت... نفسك في طفل؟

تغيرت نبرة جاسر على الفور 

انشغل بالحديث معها، كأنه يهرب من التفكير إلى هذا الأمر بالذات ولأول مرة منذ وقت طويل لم يلاحظ الحزن الخفي في صوتها، أو ربما تجاهله عمداً لانشغاله في أمر آخر 

_ نفسي في طفل؟ يا نغم أنا نفسي في فريق كورة منيكى.


حاولت أن تبتسم لكن ابتسامتها لم تصل إلى عينيها.

_بجد؟

_ بجد والله، نفسي في أطفال كتير يملوا علينا البيت ده، ستة... سبعة... اللي يچيبه ربنا المهم يكونوا منك أنتِ شبهك اكده، عشان أعرف أعيش.


كانت كلماته تهدف إلى التعبير عن حبه لها، لكنها سقطت على قلبها كالحجارة 

ستة أطفال وهو لا يعلم أنها حتى الآن لم تحمل في طفل واحد زاد قلقها أضعافاً مضاعفة شعرت ببرودة تسري في أوصالها.

تظاهر هو بالنعاس، وأعادها إلى حضنه وأغمض عينيه لكن النوم جافى عينيها تماماً ظلت مستيقظة طوال الليل والأفكار السوداء تدور في رأسها كدوامة لا نهاية لها.


عندما أذن الفجر تسللت من جانبه بهدوء توضأت وصلت ودعت ربها بقلب مثقل بالخوف. 

بعد الصلاة لم تستطع العودة إلى الغرفة. 

كانت تعلم أن ونس تستيقظ دائماً لصلاة الفجر وتظل مستيقظة بعدها.


توجهت إلى غرفتها ووجدتها كما توقعت، تجلس في الغرفة ومعها سبحتها ومصحفها ما إن رأت ونس وجه نغم الشاحب وعينيها المتورمتين، حتى أدركت أن ليلتها لم تكن هانئة.

_ نغم؟ منمتيش يا بنيتي؟

هزت نغم رأسها وجلست بجانبها، لم تعد قادرة على التحمل وحدها.

_أمي... أنا خايفة جوي.

سألتها ونس بقلق

_ خايفة من إيه يا بنيتي؟


_ جاسر... جاسر جالي انه نفسه في أطفال كتير وأنا... أنا لحد دلوجت محملتش، أنا خايفة يكون فيا حاچة تمنعني، خايفة مجدرش أچيبله الطفل اللي نفسه فيه.


ربتت ونس على يدها بحنان.

_ يا حبيبتي ما إحنا اتكلمنا في الموضوع ده وجولنا ده رزج.


_ خابرة والله بس أنا رايدة أطمن عايزة أجطع الشك باليقين، لازم أروح لدكتورة.

_ طيب وفيها إيه؟ خدي جاسر معاكي وروحوا اطمنوا سوا.

قاطعتها نغم بسرعة.

_ لأ... جاسر لأ.

نظرت إليها ونس باستغراب.

_ ليه يا بنيتي؟ ده جوزك.

_ مش عايزاه يعرف، يعني مش عايزاه يجلج معايا، ولو طلع فيا حاچة بچد... مش عايزة أشوف نظرة الخذلان في عينيه، هروح لوحدي لول.


فهمت ونس مخاوفها ورأت الإصرار في عينيها فكرت للحظة، ثم قالت بهدوء.

_ خلاص جاسر هيسافر القاهرة الصبح بعد ما يمشي نروح أنا وأنتِ عند زينة بنت عمه هي دكتورة شاطرة ومحدش هيعرف حاچة. 

نطمن الأول وبعدين لكل حادث حديث.

شعرت نغم براحة طفيفة لم تعد وحدها في هذا القلق.

_ بجد يا امي؟ هتاچي معايا؟

_ طبعاً يا حبيبتي هو أنا عندي كام نغم؟


اتفقتا الاثنتان على الخطة ستنتظر نغم حتى يسافر جاسر، ثم ستواجه أكبر مخاوفها، على أمل أن تجد الطمأنينة التي تبحث عنها.


❈-❈-❈


بعد جلسة دافئة مع حماتها، صعدت نغم إلى جناحهما وقلبها يفيض بالسكينة. 

كانت تتوقع أن تجد جاسر لا يزال نائماً، لكنها تفاجأت به واقفاً أمام المرآة الطويلة وقد ارتدى ملابسه بالكامل. كان يرتدي قميصاً رسمياً داكناً وبنطالاً، مظهره يوحي بأنه يستعد للخروج لموعد هام.


اقتربت منه بابتسامة هادئة، ووضعت يدها برفق على ظهره.

_صحيت ميتى يا حبيبي؟


لم يلتفت أمسك بفرشاة الشعر من على منضدة الزينة، وبدأ يمررها في شعره بحركة ميكانيكية خالية من أي مشاعر.

_لسة صاحي.


كانت إجابته مقتضبة حادة كشظية زجاج. 

نبرة صوته كانت خالية من الدفء الذي اعتادت عليه، نبرة أعادتها بالذاكرة إلى أيام "جاسر" القديم، الرجل الذي كان يخفي كل شيء خلف جدار من الجليد.


اختفت ابتسامتها على الفور، وحل محلها جلج خفي. 

اقتربت أكثر حتى وقفت بجانبه، تحاول أن تلتقط نظرة من عينيه في المرآة، لكنه كان يتجنب النظر إليها.

_جاسر... فيه حاچة؟


أنهى تسريح شعره ووضع الفرشاة مكانها بقوة طفيفة غير مقصودة لكنها أحدثت صوتاً خافت في صمت الغرفة. 

ثم استدار ليواجهها، وحاول رسم ابتسامة على شفتيه لكنها لم تصل إلى عينيه. 

كانت عيناه تحملان ظلاً غامضاً عمقاً مقلقاً لم تره فيهما منذ زمن.

_مفيش يا حبيبتي صباح الخير.


مد يده ومسح على خدها لكن لمسته كانت شاردة، كأنه يفعلها بحكم العادة لا بحكم الشوق.

_شوية شغل بس جضية جديمة ورجعت فتحت تاني. متجلجيش.


لم تكن كلماته مطمئنة على الإطلاق

 "قضية قديمة"؟ 

أي قضية؟ هل لها علاقة بعائلتها؟ أم بعمه صخر؟ أم شيء آخر لا تعرف عنه شيئاً؟


حاولت أن تقرأ ما يدور في عقله، لكن وجهه كان قناعاً من الغموض المتقن. 

لقد عاد ليبني الجدار بينهما، ليس جداراً من القسوة بل جداراً من الأسرار.

_شغل إيه اللي يخليك بالمنظر ده؟ شكلك كأنك شايل هم الدنيا كلايتها.


اقترب منها وقبل جبينها قبلة سريعة وباردة.

_جولتلك متجلجيش كل حاچة هتبجى زينة.


ثم التقط مفاتيحه وهاتفه من على المنضدة، واتجه نحو الباب.

_عندي مشوار ضروري احتمال أتأخر.


وقبل أن تتاح لها فرصة لسؤاله عن أي تفاصيل أخرى، كان قد خرج وأغلق الباب خلفه بهدوء.


وقفت نغم في منتصف الغرفة، تشعر ببرودة غريبة تتسلل إلى قلبها. 

لم يكن هذا هو جاسر الذي نامت بجانبه الليلة الماضية لقد استيقظ رجل آخر رجل يحمل أسراراً ثقيلة، وعاد ليلعب لعبته القديمة في إخفاء أوراقه. 

وشعرت بخوف لم تشعر به منذ زمن، خوف ليس منه بل خوف من المجهول الذي عاد ليطرق بابهما من جديد. 

ما هي "القضية القديمة" التي يمكن أن تعيد الوحش النائم بداخل زوجها إلى الحياة مرة أخرى؟


ما إن انطلقت سيارة جاسر متجهة إلى القاهرة، حتى كانت نغم وونس تستعدان للخروج. 

كان قلب نغم يخفق بعنف، ويداها باردتان كالثلج. 

كل خطوة نحو السيارة كانت تزيد من توترها.


في الطريق لم تستطع نغم إخفاء قلقها.

_ أنا خايفة.

ربتت حنان على يدها بحنان أموي.

_ من إيه بس يا حبيبتي؟


_ من زينة، يعني... هي أخت شروق أكيد زعلانة عشان أختها، وممكن...


قاطعتها ونس بابتسامة مطمئنة.

_ زينة دي أنا اللي مربياها على يدي هي غير شروق وأمها خالص. 

عاقلة ومحترمة وعمرها ما تدخل شغلها في مشاكل شخصية، دي دكتورة جبل ما تكون أي حاچة تانية اطمني خالص.

هدأت كلمات ونس من روعها قليلاً، لكن القلق ظل ينهش قلبها حتى وصلوا إلى عيادة الدكتورة زينة.

كانت عيادة أنيقة وهادئة مما أراح أعصاب نغم بعض الشيء.

استقبلتهم زينة بنفسها عند الباب بابتسامة مهنية وترحاب حار، خاصة عندما رأت ونس.

_ مرت عمي نورتي الدنيا.

عانقتها بحب واحترام ثم التفتت إلى نغم بابتسامة لطيفة.

_ أهلاً يا نغم اتفضلوا.

لم يكن في نظراتها أي أثر للحساسية أو العداء، كانت تتعامل معها كمريضة لا كزوجة الرجل الذي تزوج على أختها. 

هذا الاحتراف خفف من توتر نغم كثيراً.


بعد أن جلسوا، نظرت زينة إلى نغم نظرة ودودة.

_ خير يا نغم؟ مرت عمي جالتلي إنك عايزة تطمني بس أنتم لسه عرسان جداد، ليه مستعچلة على الجلج ده كله؟

أجابت نغم بصوت خافت وهي تفرك يديها بتوتر.

_ مش استعجال والله يا دكتورة بس... عايزة أطمن بس مش أكتر.

أومأت زينة بتفهم.

_ ولا يهمك ده حجك طبعاً خلينا نعمل كام فحص وتحليل، ونجطع الشك باليقين.


قامت زينة بعملها بمنتهى الحرفية أجرت الفحوصات اللازمة، وطلبت التحاليل، وتعاملت مع نغم برقة وهدوء مما جعل نغم تشعر بالراحة والثقة.

بعد فترة من الانتظار عادت زينة وهي تحمل نتائج التحاليل والأشعة جلست خلف مكتبها، ووضعت الأوراق أمامها ساد صمت متوتر في الغرفة، ونغم وونس تراقبان تعابير وجهها باهتمام شديد تحاولان قراءة أي إشارة قبل أن تنطق.


❈-❈-❈


كان صخر يجلس خلف مكتبه محاطاً بهالة من الشر المعتاد، لم يكن يقرأ أوراقاً أو يراجع حسابات بل كان عقله يعمل كآلة تخطيط دقيقة، ينسج خيوط مؤامرة جديدة. 

كان الهدوء الذي يسبق العاصفة وهو يستمتع بهذا الهدوء قبل أن يطلق العنان لدماره.


فجأة اخترق هذا الصمت رنين حاد لهاتفه نظر إلى الرقم غير المسجل بلامبالاة، ثم أجاب بصوته الأجش.

_أيوة.


صمت للحظات وهو يستمع للطرف الآخر ببطء 

بدأت ملامحه تتغير، اختفت اللامبالاة وحل محلها تركيز حاد ثم انقبضت عضلات فكه، وظهر وميض خطير في عينيه.

_أنت متأكد من الكلام ده؟


استمع مرة أخرى وعيناه تضيقان كعيني صقر رأى فريسته.

_مين اللي خبرك؟... تمام... تمام... اسمعني زين.


انحنى بجسده إلى الأمام ووضع مرفقه على المكتب وخفض صوته إلى همس مميت، همس يحمل أمراً لا يقبل الجدال.

_يبجى مش لازمن يوصل فاهم؟ بأي تمن وعلى أي وضع، لازمن تمنعه إنه يوصل. 

لو وصل... كل اللي خططناله هيروح على الفاضي اتصرف.


أغلق الخط بقوة وألقى الهاتف على المكتب. 

ظل جامداً في مكانه لثواني وعقله يدور بسرعة ألف ميل في الساعة. 

لقد حدث شيء لم يكن في الحسبان شيء يهدد بنسف كل خططه من أساسها.


في تلك اللحظة كانت شروق قد وصلت إلى باب مكتبه، وكانت على وشك أن تطرق الباب لتسأله عن شيء ما. 

لكن يدها تجمدت في الهواء عندما سمعت نبرة والدها، ووصلت إلى مسامعها كلماته الأخيرة: 

"مش لازمن يوصل... اتصرف."


لم تكن بحاجة لسماع المزيد لقد عرفت تلك النبرة جيداً. 

إنها نبرة والدها عندما يقرر التخلص من عقبة ما

وفهمت على الفور أن هذه العقبة هي جاسر لا يوجد شخص آخر يمكن أن يثير كل هذا الخوف والغضب في نفس والدها.


تراجعت بهدوء وقلبها يدق بعنف، لم تعد تشعر بالغضب من جاسر بل شعرت بخوف حقيقي عليه. 

مهما فعل بها مهما تجاهلها يظل ابن عمها الرجل الذي كبرت وهي تحلم به. 

وفكرة أن والدها قد يؤذيه أثارت فيها رعباً لم تتوقعه.


عادت إلى غرفتها بسرعة وأغلقت الباب خلفها، أمسكت بهاتفها بأصابع مرتعشة وبحثت عن اسم "جاسر" وضغطت على زر الاتصال. 

رن الهاتف مرة اثنتين ثلاث... لكنه لم يجب ذهب الاتصال إلى البريد الصوتي.


حاولت مرة أخرى وثالثة ورابعة

نفس النتيجة. 

كان اليأس يتسلل إلى قلبها، ربما يكون في اجتماع أو ربما لا يريد الرد عليها.


نظرت من نافذتها وشعرت بأن الوقت يمر بسرعة وأن كل دقيقة تأخير قد تكون قاتلة لم يعد هناك وقت للانتظار. 

بعد كل ما فعله والدها، وبعد أن يئست من أن يكون جاسر لها، لم يعد يهمها شيء سوى سلامته.


اتخذت قرارها في لحظة لن تسمح لوالدها بإيذاء جاسر حتى لو كان هذا يعني أنها ستخونه وتقف في وجهه لأول مرة في حياتها.


ألقت نظرة أخيرة على هاتفها الصامت ثم ارتدت عباءتها بسرعة وتسللت خارج غرفتها، متجهة نحو باب المنزل. 

ستذهب إليه بنفسها ستحذره حتى لو كان هذا هو آخر شيء ستفعله.


❈-❈-❈


كان يجلس في سيارته المتجهة إلى القاهرة يراجع أوراق قضيته الهامة لكن عقله كان في مكان آخر تماماً، كان في بيت الجبل مع نغم، ظلت صورتها ليلة أمس عالقة في ذهنه عيناها القلقتان صمتها الممزوج بالحزن سؤالها الخافت عن الأطفال وكيف أنه في خضم انشغاله وهمومه لم يمنحها الطمأنينة التي كانت تبحث عنها.

حتى لهجته معها في الصباح الذي حاول اخفاءها لكنه فشل وأخافها منه.


شعر بوخزة حادة من تأنيب الضمير

كيف انشغل عنها إلى هذا الحد كيف لم يلاحظ أن هناك شيئاً عميقاً يؤرقها، لقد وعد نفسه أن يكون ملاذها وأمانها وها هو يتركها وحدها مع مخاوفها ويسافر.


في منتصف الطريق اتخذ قراره هذا الاجتماع هذه القضية كل شيء يمكن أن ينتظر لا شيء أهم من نغم.


رن هاتفه فنظر به ليجدها شروق.

لم يعيرها انتباه 

رن هاتفه مرة أخرى وكان مساعده على الطرف الآخر

_ جاسر بيه، الجلسة اتأجلت للأسبوع الجاي القاضي عنده ظرف طارئ.


كانت هذه هي الإشارة التي كان ينتظرها لم تكن مصادفة

_ تمام الغي كل مواعيد النهاردة وبكرة أنا راجع البلد.


أدار السيارة وعاد أدراجه بنفس السرعة التي انطلق بها وقلبه يخفق بشعور غريب، مزيج من القلق واللهفة كان عليه أن يصل إليها أن يعرف ما الذي يخفيه قلبها أن يطمئنها ويمحو كل تلك المخاوف من عينيها

وأن يؤجل مشواره الهام إلى الغد.


وصل إلى بيت الجبل في وقت أسرع مما توقعه أي شخص، كان البيت هادئاً بشكل مريب لا صوت لنغم ولا لونس.

وجد "سامية" في المطبخ وما إن رأته حتى تجمدت في مكانها وارتبكت بشكل واضح.

_ جاسر بيه، أنت رچعت ميتى؟


نظر إليها جاسر بنظرة حادة وقد شعر على الفور أن هناك شيئاً خاطئاً

_ فين نغم وفين أمي؟

تلعثمت "سامية" وحاولت اختلاق كذبة

_ هما هما راحوا مشوار عند...

لم يمهلها جاسر فرصة لتكمل، اقترب منها خطوة وبنبرة صوت باردة وحاسمة جعلتها ترتعد قال

_ سامية..

ارتجفت العاملة من نبرته

_ نعم يا بيه.

غمغم من بين أسنانه

_ أنا شكلي هادي؟

_ لأ يا بيه.

_ طيب كويس عشان مش عايز أزعج اكتر من إكدة انطوجي وجولي راحوا فين.


انهارت مقاومة سامية تحت نظرته المخيفة وقالت بصوت مرتعش

_ راحوا راحوا عند الدكتورة زينة في العيادة

سقطت الكلمات على مسامع جاسر كالصاعقة... زينة.... العيادة

شعر بتوقف قلبه عن النبض وسألها بلهفة

_ليه؟ في حاچة حوصلت؟

ازدردت لعبها بوجل

_لأ ه مفيش بس سمعت ست نغم بتجول رايحة عند زينة وخلاص، بس كانت كويسة.

ربط الخيوط في لحظة واحدة، قلقها ليلة أمس، سؤالها عن الأطفال ذهابها إلى طبيبة نساء في الخفاء ومع والدته لقد كذبت عليه، لقد أخفت عنه أمراً جللاً واستغلت سفره لتذهب من وراء ظهره.


لم يشعر بالغضب بل شعر بشيء أسوأ شعر بالخيانة، شعر بأنها لا تثق به وأنها تتعامل معه كغريب، تخفي عنه أسرارها ومخاوفها هذا الجرح كان أعمق من أي شيء آخر.


لم ينطق بكلمة أخرى استدار وخرج من المنزل بنفس السرعة التي دخل بها، ركب سيارته وانطلق بها كالسهم نحو عيادة زينة وفي عينيه عاصفة هوجاء وقلبه قد تحول إلى قطعة من الجليد، مستعداً لمواجهة لم يتخيل يوماً أنها ستحدث.


❈-❈-❈


نظرت زينة في الأوراق بتركيز، ثم رفعت رأسها ببطء وعلى وجهها تعابير غامضة لم تستطع نغم تفسيرها. فتحت فمها لتبدأ الحديث...


وفجأة، انفتح باب العيادة بقوة، دون طرق أو استئذان.


انتفضت النساء الثلاث على أصواتهن، والتفتن نحو الباب في حالة من الصدمة.

كان يقف هناك.

جاسر.

لم يكن جاسر الحنون ولا العاشق ولا حتى المحامي القوي، كان شيئاً آخر. 

كانت ملامحه جامدة كالصخر، وعيناه تقدحان بنار باردة نظرة لم ترها نغم في عينيه منذ عودتها إليه كانت نظرة رجل اكتشف خيانة لا تغتفر.


تجمد الدم في عروق نغم

كيف؟ ماذا يفعل هنا؟ ألم يسافر إلى القاهرة؟


نظر جاسر إليهن جميعاً بنظرة واحدة فاحصة استقرت أخيراً على نغم. 

لم ينطق بكلمة، لكن صمته كان أعلى من أي صراخ، وملامحه كانت تبشر بعاصفة لا قبل لأحد بها.


يتبع...

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رانيا الخولي، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة