رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 48 - جـ 2 - الإثنين 29/9/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل الثامن والأربعون
الحزء الثاني
تم النشر الإثنين
29/9/2025
نظر كل منهما في عيني الآخر، ورأى كل منهما صورته في عين الآخر .
صورة شخص محطم يحمل ذنب العالم على كتفيه، لم يكن هناك لوم لم يكن هناك عتاب، كان هناك فقط حزن مشترك وألم واحد وذنب يتقاسمانه رغم أن كلًا منهما يصر على حمله وحده.
شد جاسر على يدها بكل ما تبقى له من قوة، وسحبها أقرب إليه رغم الألم الذي شعر به في جسده لم تكن هناك حاجة للمزيد من الكلمات لم يكن هناك عزاء يمكن أن يقال، كل ما كانا يملكانه هو وجودهما معًا في قلب هذه المأساة.
بقيا هكذا صامتين يداهما متشابكتان وشفاههم الصامتة تحكي قصة حبهما الذي وُلد من رحم الألم، والذي يبدو أنه محكوم عليه بأن يعيش فيه، لم يكونا غريبين بل كانا روحًا واحدة انشطرت إلى نصفين من الألم وكل نصف يحاول يائسًا أن يداوي الآخر دون أن يدرك أنه هو نفسه ينزف.
❈-❈-❈
عاد الهدوء الحذر ليسود قصر الرفاعي بعد أن اطمأن الجميع على نجاة جاسر.
تجمعوا في البهو الرئيسي لكن الأجواء كانت مثقلة بالترقب والقلق، والوجوه شاحبة من أثر الصدمة كان فنجان القهوة في يد كل منهم بارداً لم يلمسه أحد.
كسر الحاج وهدان الصمت الثقيل بصوته الذي يحمل وقار السنين وقلق الجد.
_ محدش عرف مين اللي عملها؟ مين اللي كان سايج عربية النجل دي؟
نظر الجميع إلى مالك الذي أصبح بحكمته وهدوئه مرجعهم في الأزمات
تنهد مالك تنهيدة متعبة.
_ لأ يا جدي العربية كانت مسروجة والسواج هرب بس أكمل بنفسه ماسك الجضية، ومفيش حاچة هتستخبى عليه، إن شاء الله هيوصل للي عمل اكده.
هز وهدان رأسه ببطء، وعيناه تائهتان في الماضي كأنه يرى خيوطاً لا يراها غيره قال بنبرة واثقة ومظلمة
_ مفيش حد له مصلحة في موت جاسر غير واحد بس... صخر.
ساد الصمت للحظة ثم قال سالم باستنكار وعدم تصديق
_ صخر! يجتل ابن أخوه؟!
التفت إليه وهدان وفي عينيه بريق حاد كشف عن معرفته العميقة بنفوس أعدائه.
_ صخر يجتل أخوه نفسه لو لزم الأمر
الراجل ده مبيشوفش غير مصلحته وبس الفلوس والسلطة عميت جلبه من زمان
جاسر كان العقبة الوحيدة اللي فاضله عشان ياخد كل حاچة، وأي حد يجف في طريجه... بيزيله على طول.
استوعب الجميع خطورة كلمات وهدان، لقد كان الأمر أكبر من مجرد حادث كان محاولة قتل مدبرة والصراع الذي ظنوا أنه انتهى كان لا يزال يلقي بظلاله القاتمة عليهم.
❈-❈-❈
كان الليل قد انتصف لكن أضواء غرفة المكتب لا تزال مشتعلة.
كان أكمل غارقًا حتى أذنيه في كومة من الأوراق والتقارير القانونية، كانت تفاصيل قضية معقدة تتراقص أمام عينيه، كل سطر فيها يحتاج إلى تركيز مطلق وكل كلمة قد تكون مفتاحًا لإدانة مجرم أو براءة مظلوم.
كان يشعر بثقل المسؤولية على كتفيه، فمصير أحدهم يعتمد على قدرته على فك شفرات هذه الأوراق.
في الصالة، كانت صبر تسير ذهابًا وإيابًا لا تهدئ، كانت تحمل طفلهما قاسم بين ذراعيها، تهزه برفق وتهمس له بكلمات مهدئة، لكن لا شيء كان يجدي نفعًا.
كان قاسم يبكي بكاءً حادًا متواصلًا، بكاءً لا تعرف له سببًا.
لقد فحصت حرارته، وتأكدت من أنه ليس جائعًا وغيرت له لكن صراخه لم يتوقف، بل كان يزداد حدة مع مرور الوقت، وكأنه يعبر عن كل التعب والإرهاق الذي تشعر به هي.
بدأ صوت بكاء قاسم يتسلل إلى غرفة المكتب، في البداية كان ضجيجًا في الخلفية، لكنه سرعان ما تحول إلى إزعاج حاد، كأنه إبر تخترق تركيز أكمل.
حاول أن يتجاهله أن يركز على الأوراق أمامه لكنه كان يفقد خيط أفكاره مع كل صرخة جديدة.
شعر بالضغط يتزايد ضغط القضية وضغط الضجيج في المنزل.
أخيرًا لم يعد قادرًا على التحمل.
قام من على مكتبه بعصبية، وفتح باب الغرفة ووجهه متجهم من فرط التركيز والغضب المكتوم.
_ صبر ممكن تاخدي الولد وتدخلي الأوضة شوية مش عارف أركز خالص.
نظرت إليه صبر بعينين يملؤهما الإرهاق واليأس.
كانت تقف على حافة الانهيار، وجاءت كلماته الباردة كأنها الدفعة الأخيرة التي أسقطتها في الهاوية.
انفعلت بشكل لم تكن تتوقعه من نفسها، وصوتها خرج متحشرجًا بالبكاء والتعب.
_ أدخل الأوضة أروح فين يعني، أرميه في الشارع؟ الولد بيعيط بقاله ساعة وأنا مش عارفة أسكته وإنت قاعد هنا ولا على بالك.
تفاجئ أكمل من رد فعلها، فرد بانفعال هو الآخر مدافعًا عن نفسه وعن عمله.
_ وأنا المفروض أعمل إيه يعني أسيب الشغل اللي في إيدي وأجي اسكته؟
مش شايفه إن عندي قضية مهمة ومحتاجة تركيز ولا ده كلام مش مهم بالنسبالك.
اتسعت عينا صبر بصدمة من قسوة كلماته.
_ قضيتك مهمة وأنا وابنك مش مهمين، مش كده؟
أنا اللي شايلة مسؤوليته لوحدي طول النهار وطول الليل تغيير ورضاعة وعياط وسهر وإنت كل اللي بتعمله بقالك يومين ترجع من الشغل تقفل على نفسك في المكتب وكأننا مش موجودين في البيت.
_ وإنتي فاكرة إني قاعد بلعب هنا؟ دي حياة ناس، وإنتي عارفة القضية دي بالذات معناها إيه بالنسبة ليا.
كانت الكلمات تخرج منهما كأنها طلقات نارية، كل منهما يلقي بألمه وتعبه في وجه الآخر.
_ وحقنا إحنا فين؟ حق ابنك عليك إنك تشيله وتلعب معاه، وحقي أنا إنك تكون جنبي وتحس بيا أنا مش عايزة منك عدالة للناس كلها، أنا عايزاك إنت معايا عايزاك تحس بيا وبـتعبي مش تحسسني إني مجرد حاجة ثانوية في حياتك بعد شغلك.
_ حاجة ثانوية؟ أنا بحسسك إنك حاجة ثانوية يا صبر بعد كل اللي بعمله عشانك بتقولي كده؟
ساد صمت مريع في الغرفة، لم يقطعه سوى بكاء قاسم الذي شعر بالتوتر المشحون بين والديه.
نظرت صبر إلى أكمل نظرة طويلة نظرة مليئة بالخذلان والحزن ثم استدارت دون أن تنطق بكلمة أخرى ودخلت إلى غرفة نومهما وأغلقت الباب خلفها.
بقي أكمل واقفًا في مكانه، يشعر بالذنب يعتصر قلبه، لقد فهمت كلامه بشكل خاطئ
لم يكن يقصد أن يجرحها، لكن ضغط العمل أعمى بصيرته.
نظر إلى أوراقه المبعثرة على المكتب، فلم تعد لها أي قيمة.
لقد كرس حياته لتحقيق العدالة للآخرين لكنه الليلة، فشل في تحقيق أبسط أنواع العدالة في بيته العدالة لزوجته التي لم يعد يعرف كيف يصل إليها.
بقي أكمل واقفًا في مكانه لعدة دقائق يستمع إلى الصمت الذي حل فجأة بعد إغلاق الباب، صمت كان أشد إيلامًا من أي صراخ.
نظر إلى أوراق قضيته المبعثرة، فرآها مجرد حبر على ورق، بلا معنى وبلا قيمة أمام ما يحدث في عالمه الحقيقي خلف هذا الباب.
ترك كل شيء وسار بخطوات ثقيلة نحو غرفة نومهما.
فتح الباب بهدوء شديد، فوجدها تجلس على حافة السرير وظهرها له.
كانت تهز قاسم الصغير بين ذراعيها برقة، وقد هدأ بكاؤه أخيرًا وتحول إلى أنين خافت، كأنه يشاركها حزنها.
كان المشهد يقطر بالوحدة والتعب، وشعر أكمل بقلبه ينقبض من الألم والندم.
اقترب منها ببطء وجلس بجانبها على السرير لم تقل شيئًا، لم تلتفت حتى ظلت عيناها مثبتتين على طفلهما النائم.
مد يده بتردد ووضعها على كتفها، فشعر بارتعاشة خفيفة سرت في جسدها.
قال بصوت خافت، صوت رجل يعترف بهزيمته.
_ أنا آسف.
لم ترد لكنه شعر بأنها تستمع
أكمل بنفس النبرة المكسورة.
_ حقك عليا أنا عارف إنك فهمتي كلامي غلط بس والله ده مش مقصدي
انا اقصد إني مش بقصر معاكي في تربيته مش أكتر، كنت قاسي معاكي بس غصب عني ضغط الشغل والقضية عموني وخلوني أنسى كل حاجة أنسى أهم حاجة.
صمت للحظة يجمع كلماته التي كانت تخرج بصعوبة.
_ ساعات بنسى نفسي في الشغل وبنسى إن عندي بيت وحياة تانية أهم من أي قضية ومن أي مجرم، بنسى إن عندي كنز هنا لازم أحافظ عليه بس في نفس الوقت لازم انتي كمان تكوني داعم ليا
دي روح بين ايديا مينفعش أي تهاون فيها.
عند هذه الكلمة التفتت إليه أخيرًا، وعيناها كانتا بحيرتين من الدموع الصامتة.
_ وإنت كنزي يا أكمل، إنت وابننا كل كنوزي بس أنا بحس إني لوحدي، بحس إني شايلة كل حاجة فوج كتافي وبخاف بخاف أكون مش جد المسؤولية دي.
أمسك بيدها التي كانت لا تزال تهز طفلهما برفق، وقبلها بحنان.
_ إنتي مش لوحدك يا صبر، أنا معاكي وجنبك يمكن أكون بقصر غصب عني بس عمري ما هسيبك لوحدك أبدًا، إنتي روحي والواحد ميعرفش يعيش من غير روحه.
اقترب منها أكثر وضمها إليه بذراع واحدة، محتويًا إياها هي والطفل معًا في حضنه.
استندت برأسها على كتفه، وشعرت بالأمان والدفء الذي كانت في أمس الحاجة إليه.
_ سامحيني.
همس في أذنها فأغمضت عينيها وتنهدت بعمق، كأنها تطلق كل الحزن والتعب الذي كان حبيسًا في صدرها.
_ مسمحاك يا أكمل.
بقيا هكذا لبعض الوقت في صمت لا يتكلمان، فقط يتنفسان معًا.
لم تكن هناك حاجة للمزيد من الكلمات.
لقد كان اعتذاره صادقًا، وكان غفرانها حقيقيًا.
وفي حضرة طفلهما النائم، تصالحا ليس فقط بكلمات الأسف، بل بوعد صامت بأن يكونا سندًا لبعضهما البعض، وأن يتذكرا دائمًا أن بيتهما الصغير هو أهم قضية يجب أن يربحاها معًا كل يوم.
بعد وقت طويل
تأكد أكمل من انتظام انفاسها فنهض من جوارها بهدوء وخرج من الغرفة كي يتابع باقي الأوراق.
❈-❈-❈
كانت نغم نائمة بجانبه وأنفاسها الهادئة والمنتظمة هي الصوت الوحيد الذي يكسر صمت الغرفة الثقيل.
كان وجهها يبدو مسالمًا في نومها، كأنها هربت إلى عالم آخر لا وجود فيه للألم أو الحزن.
لكن جاسر كان مستيقظًا تمامًا، يحدق في الظلام وعقله ساحة معركة لا تهدأ.
لم يكن الألم الجسدي هو ما يمنعه من النوم، بل كان ألم الروح، ألم الذنب الذي ينهشه بلا رحمة.
وفجأة اخترق اهتزاز صامت هذا السكون، اهتزاز هاتفه على الطاولة بجانب السرير.
مد يده ببطء وأخذه ونظر إلى الشاشة
رقم غير مسجل، لكنه كان يعرفه جيدًا.
كانت هذه هي المكالمة التي كان ينتظرها، المكالمة التي ستشعل فتيل الجحيم من جديد.
نظر إلى نغم النائمة وتأكد من أنها لم تستيقظ.
ثم نهض من السرير بصعوبة بالغة متجاهلًا الألم الحاد الذي ضرب جسده مع كل حركة.
استند على الجدران وهو يسير بخطوات بطيئة وثقيلة، وخرج إلى الشرفة الواسعة وأغلق الباب الزجاجي خلفه بهدوء.
وقف في برودة ليل الجبل، وأخذ نفسًا عميقًا من الهواء النقي كأنه يستعد للغوص في وحل الماضي مرة أخرى، ثم ضغط على زر الرد.
لم يقل شيء بل انتظر بصمت.
أتاه صوت رجل من الطرف الآخر صوت خشن ومكتوم.
_ تم يا باشا
قال جاسر بصوت هادئ، بارد كبرودة الليل.
_ لجيته؟
_ أيوه لقيناه زي ما توقعت كان مستخبي في شجة جديمة على اول البلد بيچهز نفسه عشان يهورب الصبح.
_ كويس.
_ هو دلوجت في المخزن الجديم متكتف ومستني أوامرك يا باشا.
صمت جاسر للحظة، وعيناه تحدقان في الظلام الشاسع أمامه.
كان بإمكانه أن يأمر بقتله الآن، أن ينهي هذا الفصل من حياته بكلمة واحدة لكن شيئًا ما تغير بداخله، لم يعد الانتقام السريع هو ما يريده
قال بصوت قاطع.
_ خليه حداك يومين.
_ يومين يا باشا؟
_ أيوه يومين من غير أكل ولا مية، خليه يعرف إن الموت أرحم من اللي مستنيه، خليه يحس بالخوف اللي حست بيه مراتي وهي بين الحياة والموت، أنا جاي بنفسي عشان أسمع منه كل حاچة وأعرف مين اللي وراه بالظبط.
_ أوامرك يا باشا.
أغلق جاسر الخط دون أن ينطق بكلمة أخرى.
بقي واقفًا في الشرفة لبعض الوقت، يشعر بالبرودة تتسلل إلى عظامه.
لم يكن يشعر بنشوة الانتصار أو بقرب الانتقام، بل كان يشعر بثقل هائل على صدره.
عاد إلى الغرفة بنفس البطء المؤلم، واستلقى على سريره مرة أخرى.
نظر إلى نغم النائمة بجانبه، وشعر بمسافة شاسعة تفصل بينهما، مسافة من الأسرار والدماء.
لقد عاد إلى عالمه القديم، عالم الظلام والعنف العالم الذي حاول أن يهرب منه من أجلها.
لم يستطع النوم.
أغمض عينيه فرأى صورة ابنه الذي لم يولد ورأى صورة السائق المربوط في المخزن، ورأى ظلال أعدائه القدامى والجدد وهي تحوم حوله.
شعر وكأن القدر يعاقبه على كل ما فعله في حياته، وكأن السعادة التي وجدها مع نغم كانت مجرد استراحة قصيرة، والآن حان وقت دفع الحساب.
وأدرك في تلك اللحظة أن المعركة الحقيقية لم تكن مع من حاول قتله، بل كانت مع نفسه، مع الوحش الذي يسكن بداخله والذي استيقظ من جديد، وهو لا يعرف ما إذا كان سيتمكن من السيطرة عليه هذه المرة، أم أن هذا الوحش سيبتلعه هو وكل من يحب.
❈-❈-❈
❈-❈-❈
كان أول ما تسلل إلى وعي نغم هو شعور بالأمان، شعور دافئ ومألوف يغلفها بالكامل
لم يكن هناك ألم حاد، بل مجرد وجع خفيف باهت، يذكرها بأن جسدها قد نجا من التحطم.
فتحت عينيها ببطء، لتجد نفسها ليست في سريرها، بل في حضن جاسر.
كان ذراعه يلتف حول خصرها برفق، ورأسه يستريح على الوسادة بجانبها، وأنفاسه المنتظمة الهادئة تلامس شعرها كأنها لحن السكينة.
تجمدت للحظة، تتأمل المشهد الذي كان قبل أيام مجرد حلم مستحيل.
هذا هو الرجل الذي اخترق الموت ليعود إليها.
الرجل الذي كان جسده درعا لها.
نظرت إلى ملامحه الهادئة في ضوء الفجر الخافت الذي تسلل من النافذة، ورأت آثار الإرهاق حول عينيه والندبة الصغيرة التي بدأت تلتئم على صدغه
لم تعد ترى فيه القسوة أو الغضب بل رأت فيه ملاذها، بيتها الرجل الذي ارتبطت روحه بروحها بطريقة أعمق من أي رابط.
غمرها شعور جارف بالحب حب ممزوج بالخوف عليه، خوف يجعلها تريد أن تبقيه في فقاعة آمنة بعيداً عن كل شر.
تحركت ببطء شديد وبحذر فائق محاولةً أن تنسل من بين ذراعيه دون أن توقظه أو تسبب له أي ألم في جسده الذي مازال يؤلمه
كانت حركتها أشبه بحركة فراشة تخشى إزعاج زهرة، لكنه شعر بها على الفور.
فتح جاسر عينيه ببطء وتلاقت نظراتهما في صمت الفجر.
لم يقل شيئاً فقط شدد من احتضانه لها قليلاً كأنه يطمئن نفسه أنها حقيقية أنها هنا.
_ صباح الخير كنت خايفة أكون بوجعك.
ابتسم مغمغمًا بنعاس
_ وجعي بيروح لما بتكوني هنا.
ابتسمت ابتسامة صغيرة وشعرت بقلبها يذوب.
مدت يدها ومسحت على شعره برقة.
_ لازم أجوم عاد مش عايزة أضغط عليك.
تنهد جاسر وأرخى ذراعه، سامحاً لها بالنهوض ثم راقبها وهي تقف وتتحرك ببطء وحذر، ولا يزال أثر الألم واضحاً في حركتها.
لقد تغير كل شيء بينهما لم يعد هناك حاجة للكلمات الصاخبة أو المواجهات العنيفة.
لقد تحدث الموت نيابة عنهما وأزال كل الحواجز ولم يترك سوى حقيقة واحدة: أنهما لا يستطيعان العيش بدون بعضهما البعض.
نزلت نغم إلى الطابق السفلي تبحث عن ونس وسامية
وجدت ونس تجلس وحيدة في بهو الصالون الواسع، تحمل فنجان قهوة لم تلمسه وعيناها شاردتان في الفراغ.
كان الحزن يلفها كوشاح ثقيل، حزن الأم التي كادت أن تفقد ابنها.
عندما رأت ونس نغم نهضت بقلق.
_ نغم؟ إيه اللي نزلك يا بنيتي؟ أنتِ لساكى تعبانة والدكتور جال لازم ترتاحي.
_ زهجت من الرجدة، حسيت إني محبوسة جلت أتحرك شوية.
نظرت ونس إليها ورأت في عينيها قوة لم تكن موجودة من قبل.
تنهدت وجلست مرة أخرى.
_ حمدلله على سلامتكم أنا... أنا كل ما بفتكر اللي حوصل، بحس إن جلبي هيجف.
صمتت للحظة ثم نظرت إلى نغم مباشرة وفي عينيها دموع محبوسة.
_ أنا السبب يا نغم أنا اللي حاسة بالذنب مكنش المفروض أطاوعك واخدك عند زينة في اليوم ده من وراه، لو مكنتش عملت اكده مكنش كل ده حوصل
أنا اللي عرضتكم للخطر.
أمسكت نغم بيد حماتها بقوة، ونظرت في عينيها بحنان.
_ أوعي تجولي إكده تاني يا امي ده نصيب، ومكتوب ربنا اللي جدر ده ومحدش فينا يجدر يغير المكتوب
وبعدين يمكن اللي حوصل ده كان فيه خير واحنا منعرفش.
_ خير ايه بس انا من وجت الدكتور ما جال انك سجطتي وانا جلبي بيتطجع.
_ يمكن الحمل ده مكنش فيه خير فربنا صرفه عنا بالطريجة دي، الأهم من كل ده إن جاسر رچعلي ورچوعه من الموت بالدنيا كلها، كل حاچة تانية تهون.
كانت كلمات نغم البسيطة والعميقة هي البلسم الذي كانت ونس تحتاجه.
شعرت بأن حملاً ثقيلاً قد أزيح عن صدرها.
لقد سامحتها هذه الفتاة بل ورأت حكمة إلهية فيما حدث
احتضنتها بقوة وهي تشعر لأول مرة أنها لم تكسب زوجة لابنها فقط، بل ابنة حقيقية.
في وسط هذه اللحظة المشحونة بالعاطفة، انقطع سكون المنزل بصوت جرس الباب الحاد.
ابتعدت المرأتان عن بعضهما، ونادت ونس على سامية لتفتح الباب
ذهبت سامية وعادت بعد لحظات، وعلى وجهها حيرة وارتباك.
سألتها ونس
_ مين يا سامية؟
ارتبكت سامية اكتر
_دي...دي..... ست شروق جات.
يتبع...