رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 5٩ - الثلاثاء 9/9/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل التاسع والخمسون
تم النشر الثلاثاء
9/9/2025
أعراض انسحاب..
الرسلانية ١٩٩٢..
هلت المغارب، ومعها تناهى لمسامع أهل الرسلانية ذاك الشدو القادم من الطريق الرئيسي المفضي إليها، كان الصوت يتعالى متعاظما مبتهلا في خشوع..
هچروني مع المچاريح في هواهم جلبي دايب..
سچنوني وخدو المفاتيح.. جالو سچانك غايب..
رقوا انظروا حالي.. الله..
چسمي صبح بالي.. الله..
على فراج الحبايب .. يابا على فراج الحبايب..
كانت المسيرة السنوية التي تشد رحالها للنجع كل عام في نفس ذاك الموعد لتحيي مولد الشيخ السماحي.. رفرفت الاعلام الخضراء التي تتقدم المسيرة ومن خلفها جاءت عربات المنشدين والسييطة.. ثم عربات الحلب التي سيُقام على أطراف النجع مضاربهم وتُنصب خيامهم..
مرت المسيرة من أمام السراي وتباطأت قليلا كعادتها منذ قديم الأزل.. من أيام عبدالمجيد رسلان ثم من بعده سعد باشا ولده.. وكأنها تعلن عن تواجدها على أرض الرسلانية وتأخذ الإذن وتصريح البقاء على أرضها من كبيرها مع وعد بالأمان والحماية.. كان يخرج عبدالمجيد رسلان من أعلى شرفة بدار الرسلانية القديمة، ملوحا لمرة واحدة لمتقدمي الركب حتى يعلم كل من بالقافلة أن الاذن قد حصل ما أن ترتفع المزامير وترفرف الأعلام في فرحة..
وظل هذا التقليد كابر من بعد كابر حتى بعد أن انتقل آل رسلان من دارهم القديمة إلى السراي.. أصبح مسار الركب لابد وأن يمر بالسراي ليخرج كبير الرسلانية آن ذاك ملوحا بالإذن ليهلل قادة الركب وحملة الأعلام وتستأنف المسيرة طريقها نحو موضع ثابت لم يتغير غرب النجع على أطرافه الأقرب للجبل الشرقي..
وصل لمسامع الجدة صفية صوت الانشاد القادم من الخارج فأدركت أن مولد الشيخ السماحي قد حان أوانه.. تطلعت لحبيب الذي كان يجلس على مائدة الإفطار ساهما، ربتت على ظاهر كفه متعاطفة، وسألت في تردد: مولد الشيخ السماحي يا حبيب، أكيد واجفين جصاد السرايا مستنظرين الإذن!..
هز حبيب رأسه متفهما، وما أن هم بالنهوض نحو الطابق العلوي، حتى استوقفته صفية متسائلة من جديد: هتديهم الإذن يا حبيب!..
تطلع حبيب نحو جدته مجيبا في نبرة منكسرة: ايوه يا ستي، اومال نتقضح جدام اللي يسوا واللي ميسواش، ويجولو بيت رسلان رفضو الإذن لينا لچل ما يوفرو عشانا!..
هتفت صفية في اشفاق: بس ده كتير عليك يا ولدي.. كتير جوي اللي بيحصل ده..
ربت حبيب على ظاهر كف جدته، باسما في وجهها القلق القسمات، مؤكدا في نبرة حاول أن يكسوها ببعض الطمأنينة: متخافيش يا ستي.. أني شديد.. وكله هيعدي على خير..
لم تنطق صفية حرفا لكن نظراتها لم تفارق حفيدها وهو يتجه صوب الدرج في عجالة، ودعوات المسيرة على باب السراي قد علت منتظرة، ليقف حبيب في شرفة الطابق الثاني حيث كان يقف جده سعد ومن بعده جده فضل ثم أبيه رؤوف وها هو يفعلها.. يلوح بيده اليمنى عاليا لمرة واحدة، لتعلو أمارات الفرحة وتمر المسيرة بالسراي في حبور.. فقد ضمنو عشاءهم الأول على أرض الرسلانية حتى يتم لهم أداء مهمامهم.. ونصب خيامهم..
عاد حبيب لموضعه على المائدة، لتسأله صفية في اضطراب: وهتجيب عشاهم منين دول!..
هتف حبيب مؤكدا دونما اكتراث: اللي فالزريبة يتدبح يا ستي ونفضلو بهيبتنا.. ايه اللي هيچرا يعني.. هو اللي فالزريبة ده لو اتباع هيسد الديون ويرچع الأرض يا ستي!.. دول نص مليون چنيه..
هتفت منيرة في محاولة لتقديم المساعدة: طب نبيعو دهبنا.. اهو يعمل حاچة..
هتف حبيب في حنق: على آخر الزمن هبيع حريم الرسلانية دهباتهم بدل ما ازودها!.. وبعدين لا دهبك ولا دهب ستي هيكفي يسد خمس المبلغ المطلوب..
صمت الجميع، وساد السكوت فما عاد هناك من كلام يقال، ما دفع حبيب لينهض مؤكدا: متشيلوشي هم.. كل ضيجة وبعدها وسعة.. ربكم كبير وهتعدي على خير.. جولو يا رب..
همهم الجميع مرددين في تضرع..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٢..
ألقى نصير الراوي قنبلته وانتظر ردود الأفعال، ساد الصمت ولم ينطق مخلوق حتى أنس الوجود التي كان الأمر يخصها، لم تنطق حرفا أو تحرك ساكنا وكأن الأمر لا يعنيها، وذاك ما استرعى انتباه هاجر، وتعجبت.. هل أنس الوجود على علم برغبة نصير وتوافق على مطلبه!.. لو كان ذاك صحيح فهذا بحق جنون مطبق.. لابد وأن بالأمر سرا ما.. فهي لم تعهد صديقتها بهذا الخنوع والخضوع.. ما دفعها لثقتها في رجاحة عقل أنس الوجود بالهتاف في فرحة مصطنعة: حقيقي!.. قررتو تتجوزو!.. ايه الخبر الحلو ده!..
واندفعت هاجر لتحتضن أنس الوجود مباركة الخبر السعيد: ألف مبروك يا أنس.. ربنا يتمم لكم على خير..
ليهتف ممدوح بدوره وبفرحة مصطنعة: ألف مبروك..
ليهتف نصير باسما: الله يبارك فيكم.. هستأذن أنا عشان الموضوع محتاج تجهيزات كتير ولا ايه يا أنس!
هزت أنس الوجود رأسها توافقه الرأي، ليستطرد نصير: أي حاجة عايزاها بلغيني فورا تكون عندك.. ثلاث أيام باقية على الخميس.. هيبقى الوقت فعلا ضيق جدا..
تطلعت هاجر نحو أنس التي كانت أشبه بتمثال شمعي بلا روح تصدر عنها ردود فعل عجيبة لا تخصها أبدا.. ما تأكد لها أن أنس تخفي أمرا ما.. وعليها معرفته لمساعدتها.. لكن نصير أشار لهاجر في تعجب متسائلا: ايه يا هاجر، مش راجعة معايا الفيلا ولا ايه!..
هزت هاجر رأسها في اضطراب مؤكدة: طبعا حالا..
ومالت على أنس تحتضنها، هامسة جوار مسامعها: في كلام كتير لازم تعرفيه، كنت عايزة افضل معاكي بس مش هينفع دلوقت.. هرجع لك وقت تاني.. وممدوح اهو قاعد ممكن يقول لك تفاصيل الموضوع.. سلام..
نزعت هاجر نفسها من أحضان أنس وابتعدت تتبع نصير الذي خرج لتوه مغادرا، معطية إشارة لممدوح أن لا يتركها..
ساد الصمت لبرهة بعد رحيل نصير وهاجر، لتهتف برلنتي في سعادة: أخيرا جالك راجل يعرف قيمتك يا أنس.. نصير راجل محترم ومقدرك.. شايفة ملهوف على جوازكم بسرعة إزاي!.. ربنا يتمم لك على خير..
نهضت برلنتي في هوادة تسير نحو غرفتها مؤكدة: الواحد كده يرتاح ويطمن.. أما أدخل اريح شوية وأنت يا ممدوح متمشيش.. أنا كلمت درية وهي زمانها على وصول عشان نتغدا سوا..
هز ممدوح رأسه في طاعة، وكل تركيزه على حال أنس الوجود التي ما أن طالعها للوهلة الأولى منذ عودتها من الصعيد مع نصبر وهو يدرك أن هذه ليست أنس الوجود التي يعرفها.. فقد تبدل حالها وكأنها عادت شخص آخر لا يمت لها بصلة..
أقترب ممدوح من أنس هامسا في تساؤل: أنس!.. هو ايه اللي بيجرا بالظبط!.. فهميني في ايه! عشان أنا عارف ومتأكد إن أنس اللي أعرفها واللي اتربيتا سوا مش ممكن تقبل باللي بيحصل ده!..
نهضت أنس مبتعدة، توليه ظهرها وهي تقف قبالة النافذة تتطلع منها للخارج في شرود، هاتفة بلا رغبة: متقلقش يا ممدوح.. تقدر تقول دين قديم وجه دوري عشان أسدده..
نهض ممدوح ليقف جوارها محتدا: دين ايه وقديم ايه!.. الناس دي مكنتيش تعرفيهم إلا من شهور قليلة، ولا كان ليكي أي فكرة عن وجودهم.. تقوليلي دين وقديم!.. الموضوع كده ميطمنش يا أنس، وخاصة إن نصير ده مش مريح وعليه علامات استفهام كتير.. واللي أكد لي الكلام ده.. هاجر وجمال.. و..
قاطعته أنس متعجبة: جمال مين!..
ضرب ممدوح على جبهته لائما: يووه.. ده إنتي فايتك كتير.. وإنتي غبتي فترة فعلا فيها حاجات كتير حصلت.. تعالي اقعدي احكيلك..
جلست أنس جواره، هاتفة: احكي.. واضح فعلا إني غبت أوي..
بدأ ممدوح في الحكي عن كل ما جرى في فترة غياب أنس الوجود بالرسلانية، وهي تستمع في هدوء عجيب أصبح هو سمة تعاملها مع كل أمر جديد.. مهما كانت درجة غرابته، وكأنها فقدت عامل الدهشة تجاه كل ما هو جديد.. دهشة لم تكن تحظى بها إلا هناك.. في أرض العجائب.. بالرسلانية..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٢..
منذ أن غادر دارهم وهو على هذه الحال الشاردة، لم تكن المريضة الأولى التي يطيب لها جرحا، إذن ما سبب هذه الرجفة التي تعتريه ما أن يذكر كيف تلاقت نظراتهما حين رفع رأسه عن جرح قدمها التي كانت تمدها مظهرة موضع الجرح النازف حين صرخت عاليا ما دفعه لينتفض نحوها ليجد أن أرض المطبخ حيث كانت تقف ملوثة بدماء قدمها المصابة أثر شظية زجاجية من شظايا كوب ما قد تحطم قبلها بثوانِ.. ما دفعه لتهدئتها محضرا مقعد لتجلس عليه قبل أن يأمرها بمد قدمها ليفحص الجرح.. ترددت لبرهة لكنها اطاعت في اضطراب.. كان القطع ظاهر بباطن القدم.. ما دفعه ليرفع قدمها قليلا مسندها على باطن كفه.. ليفحصها حتى يتأكد أن ما من شظايا آخرى باقية داخل قطع الجرح الطولي النازف.. تأوهت بألم لمرة وحيدة حين ضغط برفق فاحصا، فاختل ميزان إدراكه لبرهة.. قبل أن يستعيده سريعا وقد بدأ في تضميد الجرح بعد تطهيره.. وما أن انتهى ورفع رأسه مؤكدا أنه أنجز مهمته، حتى قابل نظراتها الخجلى التي كان يمتزج فيها الإمتنان بالاضطراب.. بشعور ثالث لم يمكنه تفسيره أو حتى توصيفه..
همست برقة: تسلم يا داكتور سرور.. تعبتك..
لم يجد صوته، وتذكر أنه ما زال يأسر قدمها فوق كفه كهدية قدريةثمينة يرفض ردها.. فتنبه لذلك.. تاركا قدمها برفق أرضا.. ولم يرد لبرهة قبل أن ينهض جامعا أدواته، هاتفا في اضطراب: لاه.. مفيش تعب ولا حاچة.. هبعت لك مع التمرچي دوا تخديه ضروري.. سلام عليكم..
اندفع سرور في عجالة لخارج دار العمدة بعد أن أنهى مهمته، لكنه منذ ذاك اليوم لم تبرح مجيدة مخيلته مدركا أنه ترك شيئا غاليا بحوزتها والعجيب أنه لا يرغب في استرداده..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٢..
كانت تجاهد نفسها كثيرا كي لا تقدم على ذلك خوفا من أن تنهار دفاعاتها ولا تقدر على استكمال ما بدأته بالفعل، لكن هذه المرة كان شوقها لسماع صوته طاغيا على تعقلها وسلامة منطقها.. تطلعت للورقة التي دونت بها رقم الهاتف الذي تم تركيبه بالسراي قبل رحيلها بيومين فقط.. تحاول أن تقنع نفسها بعدم جدوى الاتصال.. وأن من الجائز أن يقوم شخص آخر بالرد عليها.. فما من داعي لتكبير الأمور.. ففرصة رده على اتصالها تكاد أن تكون معدومة بالنسبة علدد الأفراد المتواجدين بالفعل داخل السراي..
تطلعت أنس من جديد نحو الورقة الحاملة للرقم.. وبلا رغبة في التردد مجددا.. اندفعت نحو الهاتف مستغلة فترة قيلولة أمها.. حتى تستطيع أن تتحدث بأريحية.. طلبت الرقم عن طريق السنترال وانتظرت حتى اعلمتها العاملة بالرد..
هتف صوته أولا متسائلا عن المتصل.. ما جعلها تخرس عن النطق، ونبرته المحببة تخترق دواخلها لتسكب مخدرا من نوع خاص سكّن كل دوافع القلق ومثيرات الكآبة .. وسكب في دمها أطنان من أمان افتقدتها بشدة منذ غادرته..
انتبهت أن عليها الإجابة، فاستجمعت شتات نفسها، وهمست في نبرة تحمل شوق طاغ لا يمكن اغفاله: أنا أنس يا حبيب..
ساد الصمت لبرهة على الطرف الآخر حتى أجاب في نبرة رسمية: أهلا يا أستاذة.. ثواني..
قال كلمته الأخيرة.. وسمعته ينادي منيرة في صوت جهوري يغلب عليه الشدة وتفوح من نبرته العصبية التي لم تكن يوما من صفاته.. هل أخطأت حين استسلمت لنوبة الشوق العاتية التي قذفت بكل ثوابتها وحثتها على الاتصال فقط لسماع صوته!.. لم يمهلها صوت منيرة الفرح على الهاتف من الإجابة على تساؤلها، وهي تهتف في سعادة غير مصدقة: أنس!.. اتوحشتك!.. فينك.. روحتي مصر وجلتي عدولي!..
هتفت أنس تحاول أن تركز في ما تقوله منيرة نازعة نفسها من الغرق في نبرة الصوت الرخيم التي اجتاحتها.. تحاول أن تتجاوب معها في فرحة متبادلة: وانتي كمان وحشتيني يا منيرة.. ايه أخباركم!.. ستي صفية ومحمود.. والرسلانية كلها.. احكي لي كل حاجة..
سحبت منيرة الهاتف لتجلس في ركن يمكنها أن تحكي فيه دون مقاطعة أحد وخاصة أن حبيب ترك السراي لتوه بعد أن ناولها سماعة الهاتف في عجالة.. مندفعا للخارج كأنما مسكت في ذيل جلبابه النيران، وجدتها صفية بداخل حجرتها تأخذ قيلولتها المعتادة، وبدأت تحكي في حماس: مشفتيش اللي حصل يا أنس!.. مش حضرة الظابط طلع جريبنا..
هتفت أنس باسمة: طب ما أنا عارفة إن في صلة قرابة بعيدة بين الرسلانية والعرابة اللي هي بلده.. ايه الجديد!..
هتفت منيرة مفسرة: لاه، ده طلع واد عمتي سعاد الله يرحمها وصبري الحفني..
هتفت أنس في دهشة: عمتك سعاد.. مش دي اللي سابت النجع مع اللي كانت بتحبه.. صح!..
أكدت منيرة في حماس: ايوه هي.. وكان أبوه وأمه مخبيين عليه الحكاية لحد ما الحادثة بتاعت الچبل دي الله لا يعيدها خلته يعرف تفاصيل الحكاية كلها من أبوه..
هتفت أنس مشاكسة: ابسطي بقى.. طلع مش بس من معارفنا.. ده ابن عمتك لزم.. محدش أولى بيكي منه.. ولا ايه!..
هتفت منيرة ممتعضة: يعني شفتيه اتكلم ولا جال حاچة..
قهقهت أنس ساخرة: ده إحنا عايزينه يتكلم بقى !..
قهقهت منيرة بدورها مؤكدة: يعني.. نعرفو نيته وايه غرضه!.. بدل ما هو مجضيها كده سلامات وتحيات.. بس يمكن عشان موضوع الأرض هو..
صمتت منيرة فجأة، مدركة أنها تجاوزت في الإفصاح عما لا يجب الإفصاح عنه.. فقد أكد عليهم حبيب أن يظل موضوع الأرض المرهونة وعدم قدرتهم على سداد ديون رهنيتها.. طي الكتمان.. لكن أنس قد وجدت الفرصة سانحة لتعلم ما يحدث في هذا الأمر من خلف ظهرها ما دفعها لتستحث منيرة على الاعتراف متسائلة: مالها الأرض يا منيرة!.. اتكلمي..
أكدت منيرة في اضطراب: مفيش يا أنس متجلجيش، يعني شوية مشاكل كده عادي وحبيب هيحلها بعون الله..
أصرت أنس: ايوه مشاكل ايه!.. احكي لي يا منيرة يمكن أقدر أساعد..
همست منيرة متسائلة: لو المساعدة هتاچي من خطيبك يبجى بلاها يا أنس.. حبيب مش هيجبل مساعدة من حد غريب..
هتفت أنس تتعجلها: طب بس احكي لي بسرعة قبل ما السكة تقطع.. الأرض فيها مشكلة..
أكدت منيرة: الأرض عليها ديون فوج النص مليون چنيه لازما تسدد للبنك وإلا هيتحچز عليها.. شوفتي يا أنس!.. لو ده حصل والله حبيب يروح فيها.. ده روحه في الأرض دي.. وهي الحاچة الوحيدة هي والسرايا اللي باجية من ريحة الحبايب..
همت أنس الوجود بالرد على منيرة مطمئنة أن الأمر سيتم حلها خلال ثلاثة أيام.. لكن المكالمة انتهت.. ووضعت السماعة في هدوء..
نهضت في تثاقل لتدخل إلى غرفتها.. وقد بات جليا لها أن موافقتها على إتمام زواجها من نصير أصبحت حتمية لا تقبل الرفض..
كان قرار زواجها من نصير اقتراحه هو ليضعها في المحك أمام حقيقة ما سمعته ببيت جدها بين نصير ومظهر في وجود جدها عزام.. لكن موضوع الحجز على الأرض الذي بات وشيكا جعل من أمر زواجها حلا مفروغا منه.. وأمر واجب النفاذ..
تنهدت أنس وهي تغلق عينيها في وجع، وصوت فيروز عبر شرفة الجيران يسكب الملح على الجرح الحي.. وهي تشدو في شجن..
زعلي طول أنا وياك.. وسنين بقيت.. جرب فيهن أنا أنساك.. ماقدرت انسيك..
سال دمع أنس على خديها.. فتركت له العنان.. متسائلة في نفسها.. من أين تأتي كل هذه الدموع!.. من أي معين لا ينضب تتفجر!.. الدموع التي تحمل الكثير من أوجاعنا وأتراحنا وبعض من فرحنا أحيانا.. كلها.. لهي سحر خلق على هيئة ماء عين يجري بلا حسبان.. آه لو باع المرء دمع عينيه لأضحى أغنى الناس.. فما أكثر الدموع التي يملكها المرء.. وقد تذرف بلا طائل.. فكم هي بخسة الثمن.. كوم هي ثمينة أيضا!.. الغالية الرخيصة على حد سواء.. فما أعجبها!.
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٢..
كان يكفيه ما يعانِ من سهاد كلما مر طيفها حتى يأتي صوتها فيذهب بكل محاولاته للنسيان مع الريح.. وكأنها ما غادرت.. عادت كل ذكرى لهما معا لتوقظ بنفسه ذاك الشعور الحلو الذي حاول وأده مرارا وتكرارا بلا أمل في اذهاق روحه.. وكأنه كلما حاول قتله زاد توحشا وتسلطا على قلبه فيصبح كمارد ما عاد القمقم مناسبا لتحجيمه..
يا الله!. كيف يكون لبضع كلمات قصيرة قالتها مثل هذا التأثير الطاحن لتصبره الذي ظل يرعاه وينميه طوال فترة غيابها التي عانى فيها من أعراض انسحاب إدمان حضورها.. فأتى صوتها وبضع كلمات عادية فتضعضعت كل دفاعته.. وعاد قلبه لنقطة الصفر.. وعاد حاله أسوء منه يوم رحيلها المباغت.. تطلع لركوة الشاي ولموضع جلوسها المحبب ثم رفع ناظريه صوب نافذة حجرتها الشاغرة الآن منها.. ظل ناظره معلقا بها على أمل أن تطل منها ويتحقق حلم راوده بأنها قد عادت وتركت ذاك الخطيب المريب الذي اختارته دون عن رجال الأرض ليكون زوجا لها.. لكنه يدرك تمام الإدراك أنها محض أحلام.. وأنها لن تترك واقعها الفخم المعبد بالرفاهية لتعود إلى هنا.. ثم إلى أين تعود!.. إلى هذه الأجواء الملبدة بالمشاكل والتهديد!.. إلى الضيق والشدة!..
تنبه حبيب فجأة لوجود مدثر، الذي ناداه ربما للمرة الثانية دون إجابة، ليرد حبيب في تيه: ايه يا مدثر، ايه في!..
سأل مدثر في قلق: أنت تمام! بجالي شوية بنادم عليك.. وأنت فعالم تاني.. ايه يا واد عمي.. اللي واخد عجلك يتهنابه..
ابتسم حبيب ولم يعلق، ماذا عليه أن يقول!.. طل سرور قادما نحوهما وقبل أن يجلس حتى هتف في لهجة تقريري مباغتة: بجولكم ايه.. أني شكلي وجعت على بوزي وخلاص.. عايز اتچوز.. چوزوني وإلا هعملكم مصيبة ف النچع ده!..
تطلع مدثر وحبيب لبعضهما قبل أن ينفجرا ضاحكين، ليهتف مدثر من بين قهقهاته: طب اجعد كده واهدا وجولنا بت مين دي اللي چابتك على بوزك وخلتك مدهول كده!..
هتف سرور معترضا: عايز أشرب شاي.. وبعدين احكي لكم كل حاچة..
اتسعت ابتسامة حبيب مؤكدا وهو يضع ابريق الشاي على نار الركوة: أنت چيت في چمل.. اها الشاي بنعملوه.. جول.. ايه في!..
هتف سرور معترفا: أني عايز اتچوز مچيدة بت أبو زكيبة..
هتف حبيب مرحبا: وماله.. مچيدة طول عمرها مع منيرة ومشفناش منها حاچة عفشة.. ده هي خسارة فالعيلة دي.. غلبانة وبت حلال..
هتف مدثر مؤيدا: ايوه.. صح.. ده هي اللي فالعيلة دي.. بس لسه أخوها متوفي من كام شهر.. الدنيا مش هتبجى تمام دلوجت عشان چواز وفرح.. ما هي نفس العجدة اللي عندي مع نچية..
هتف سرور في حنق: يعني ايه!.. هستنى كد ايه على كده!.. لاه مليش فيه الكلام ده.. شوفو لي حل دلوجت.. أني عايز اتچوز..
انفجر حبيب ضاحكا وتبعه مدثرا ساخرا من سرور، ليضع حبيب كوب الشاي بين يدي سرور رابتا على كتفه في هوادة مطالبا في مرح: خد بس أشرب الشاي وأنت تبجى تمام.. ربنا يهديك..
رشف سرور عدة رشفات من كوب الشاي الساخن هاتفا في ضيق وكأن الشاي لم يأتي مفعوله المطلوب مكررا من جديد: أني عايز اتچوز..
هتف مدثر ساخرا من حال سرور: جوم يا حبيب كبر له ف ودنه يمكن يفصل.. ويهدا..
قهقه حبيب بينما هتف سرور معاتبا مدثر: بجي تاچي منك يا واد عمي.. وأني وأنت في نفس الواجعة.. ومخلي حبيب يتشفى فيا.. أيوه ما هو خالي ومرتاح.. اشوف في جلبك يوم يا حبيب يا واد رسلان..
ابتسم حبيب ولم يعقب.. ليعلو صوت جراموفون الجدة صفية، ليهتف سرور معترضا وهو يندفع مغادرا بصحبة مدثر: لاه.. أم كلثوم كمان.. أني ماشي.. مش ناجصة وچع جلب..
رحلا صديقيه وتركاه وحيدا مع وجع القلب.. كما وصفه سرور بكل تلقائية وعفوية.. لا يعلم أحدهما وهما الأقرب إليه كما يعانه قلبه من مشاعر قهر وحرمان.. كلاهما بات القرب من محبوبتيهما وشيكا لا يفصلهما عن الوصل إلا ظرف الوفاة ومراعاة العرف.. بضعة أشهر ويكون كل منهما برفقة حبيبته.. لكن هو.. ما عساه أن يفعل وهو يدرك تمام الإدراك أن وصلها أصبح مستحيل.. وأن ذاك الحلم حتى ما عاد له الحق في مسايرته إذا ما مر طيفها متبخترا قبالة ناظريه في خلوته وحيدا..
فهي على وشك أن تحمل اسم رجل آخر وما عاد من اللائق أن يفكر فيها كامرأة..
صدح صوت أم كلثوم.. وهي تؤكد..
غصبت روحي على الهجران وأنت هواك يجري فدمي.. وفضلت أفكر في النسيان.. لما بقى النسيان همي..
حتى كلمات الأغاني أصبح لها وقع آخر بنفسه.. كان يستمتع بأم كلثوم وينتشي للكلمات والألحان فقد نشأ على صوتها الصادح من جرامفون الجدة منذ نعومة أظفاره.. لكن اليوم.. أو بالادق منذ وعى أنه يعشق أنس.. وهو يدرك أن الكلمات أصبح لها معنى أعمق وأكثر تأثيرا على نفسه.. بات يستشعر الكلمة بكل معانيها وكأنها وصف دقيق لحالة الوجد التي تنتاب قلبه.. وحالة الوحشة التي تسكن روحه منذ غادرت..
تنبه لأم كلثوم من جديد وهي تشدو..
لو خطر حبك في بالي.. ولا زار طيفك خيالي..
حاولت أهرب من الأفكار اللي تشعلل نار حبي..
هتف حبيب مؤكدا يرد: اه والله يا ست.. حاولت.. بس أهرب على فين!.. دي ساكنة الروح والنن..
تمدد حبيب على الأريكة متطلعا لسقف التعريشة وقد غامت عيناه بدمع أبي، هاتفا لنفسه في حسرة: فاكريني خالي.. يا ريت.. بس اها خليني الوچيعة مستورة.. معدش له لازمة البوح..
ثم تنهد في وجع هامسا في تضرع: يا رب..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٢..
هل اليوم الموعود.. ساعات وتصبح زوجة لنصير الراوي.. وساعات أيضا وتملك ما يخول حبيب من سداد دينه والحفاظ على أرضه وصون هيبته..
حادت بناظريها من الأفق البعيد صوب فراشها الذي كان ثوب عقد قرانها مفروش عليه في رقة وقد تم احضاره اليوم من أرقى بيوت الأزياء بناء على اختيار نصير الذي تركت له حرية الاختيار..
كان ثوب بالغ الأناقة تحلم كل فتاة بارتدائه.. لكنها لا تشتهي حتى لمس نسيجه الحريري الفاخر الذي تستشعره كالاشواك..
عادت تطل على الأفق مجددا تحاول أن تقتل دمعة تجاهد لتنساب على خدها.. لكنها منعتها في استبدال فقد قررت أن تكون قوية اليوم وتواجه ما اختارته بشجاعة.. حتى ولو كلفها ذلك مواجهة غير مأمونة العواقب مع نصير حين يكتشف بعض الحقائق.. ساعتها ستكون قد خرجت بمكاسبها وليكن بعدها ما يكون..
تنبهت أنس لطرقات حميدة على الباب والتي دفعته مؤكدة: الست برلنتي بتقولك الغدا جاهز ياللاه عشان العربية اللي هتجيلك عشان تاخدك عن الفيلا باقي عليها ساعة.. يا دوب..
هزت أنس رأسها في إيجاب، وتبعت حميدة للخارج، وما أن جلست جوار أمها لتناول الغذاء حتى شعرا بدوار خفيف.. ثم بدأت الأرض تميد بهما، لتصرخ حميدة في ذعر: ايه اللي جرا.. القيامة قامت ولا ايه!..
صرخت أنس الوجود في هلع: ياللاه يا ماما على تحت بسرعة.. شكل العمارة هتقع..
صرخت برلنتي بلا وعي.. واندفعت للداخل نحو غرفتها بدلا من أن تهرول هاربة للخارج.. لتلحق بها أنس صارخة فيها لأفعالها الغير محسوبة العواقب..
لتخرج برلنتي من الحجرة حاملة صورة نجيب، لتضمها أنس الوجود مندفعة معها لخارج الشقة والصرخات تتعالى من هنا وهناك.. لكن يبدو أن قلب برلنتي الضعيف لم يحتمل كل هذا الفزع فسقطت بين ذراعي أنس غير قادرة على التقاط أنفاسها.. لتصرخ أنس الوجود عاليا في لوعة.. وما من أحد في وسط كل هذا الهرج.. يمد يد المساعدة والعون..
يتبع...