رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 60 - السبت 13/9/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الستون
تم النشر السبت
13/9/2025
رقصة المذبوح..
الرسلانية ١٩٩٢..
كان الزلزال حدث استثنائي في مصر، فلم تكن أبدا موضع متكرر لحدوث مثل هذه الكوارث الطبيعية لذا كان وقوعه صادما للجميع، مباغتا حتى أن رد الفعل لم يكن على قدر الحدث بل مضاعفا نظرا لعدم الاعتياد.. وعلى الرغم أن القاهرة كانت أكثر المدن تضررا إلا أن الصعيد لم يسلم كذلك من بعض التداعيات الطفيفة..
كانت حديقة السراي قد تحولت ملجأ لبعض الأسر الفقيرة التي تضررت أعشاشها ودورها المتواضعة المبنية ببعض الطوب اللبن ما دفعهم للجوء لسراي رسلان ليسمح لهم حبيب بالبقاء مؤقتا في حديقة الفيلا حتى يؤمن لهم موضعا لسكناهم..
هتف حبيب مستدعيا شبل، الذي كان ملتهيا بتحضير أكواب الشاي للكل هذا العدد من رجال وأطفال ونساء.. والذي ترك ما بيديه ملبيا في عجالة، ليأمره حببب في حزم: كل اللي يطلبه الناس مچاب، وشوف لي كام راچل كده ياچو معاي.. هِم اچمعهم لحد ما ارچع..
هز شبل رأسه في طاعة، بينما اندفع حبيب لداخل السراي، ومنه للاعلي حيث غرفة منيرة التي طرب بابها وما أن أذنت له بالدخول حتى اندفع متسائلا في لهفة: بجولك يا منيرة!.. إنتي مش معاكي نمرة تلفون بت خالتك!.. ما تاچي تتصلي بها نطمنوا عليهم.. مش واچب برضك!..
هزت منيرة رأسها إيجابا: ايوه عندك حج، استنى أما اشوف أنس كتبت لي النمرة فين! ..
بحثت منيرة هنا وهناك، وأخيرا هتفت في حماس مؤكدة: اهي.. لجيتها..
اندفعت منيرة للأسفل حيث يقبع الهاتف بقلب البهو الواسع، وانتظرت أن يصلها السنترال بنمرة أنس الوجود التي تستمر الرنين دون أي إجابة ما دفعها لتؤكد لحبيب الذي كان ينتظر جانبها مدعيا الهدوء والثبات لكنه داخليا يستشعر قلقلا مبهما لا يعرف له سببا.. هو حبيب رأسه متفهما، أمرا منيرة في هوادة: غيبي وكرري الطلب تاني، لحد ما ترد ونطمن..
أكدت منيرة: مش هتحرك من چار التليفون لحد ما ترد..
اندفع حبيب لخارج السراي ما أن أكد له شبل أن الرجال الذين طلبهم منتظرين بالخارج..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٢..
كانت أنس تقف أمام حجرة العناية الفائقة بشعر مشعث ووجه مغبر تملأه الدموع، تتطلع صوب جسد برلنتي المسجى على الفراش متصل به الكثير من الأنابيب الطبية.. والمشفى يشمله الزحام والفوضى .. فقد كان هو المشفى الأقرب لحيهم الذي تعرض للكثير من الخسائر في الأرواح والمبانِ التي انهارت على رأس قاطنيها.. مخلفة العديد من الضحايا ما بين جريح أو من لا زال محاصرا تحت الأنقاض تعمل قوات الدفاع المدني على إنقاذه..
ظهر الطبيب فاندفعت نحوه تسأله عن حال أمها، ليؤكد مسرعا وهو يندفع نحو غرفة الطواريء في عجالة: لازم تدخل اوضة العمليات.. بأسرع وقت ممكن..
همت بالاندفاع للاتصال بنصير، لكنه ظهر فجأة في طريقها للخارج مندفعا صوبها يسأل في اهتمام: برلنتي هانم بخير!..
هزت أنس رأسها نافية، هاتفة في نبرة باكية: لو معملتش العملية في أسرع وقت فيه خطر على حياتها..
هتف نصير في نبرة رسمية بحتة: يبقى تدخل العمليات حالا.. ومش هنا كمان.. في احسن مستشفى.. ايه رأيك!.. بجملة الاتفاق.. شوفتي أنا كريم إزاي!..
تطلعت أنس الوجود صوبه بنظرة زجاجية لا تحمل أي مشاعر، مؤكدة في نبرة باردة: ده حقيقي، بس خليني أطمع ف الكرم ده أكتر، واطلب شقة كمان لماما، عشان طبعا شقتها مبقتش أمان دلوقت..
ابتسم نصير ابتسامة صفراء باهتة: وماله!.. مع أن مهرك كده غلي أوي أوي.. فلوس وعملية وشقة.. بس وماله ننفذ اتفاقنا.. وليكي كل ده.. تمضي على قسيمة الجواز.. وعلى عقد البيع.. هببقى كل ده يكون تحت إيدك..
هتفت أنس الوجود في عجالة: لو عايز نكتب الكتاب دلوقت أنا موافقة بس ماما تعمل العملية حالا..
هتف نصير في هوادة: لا مش للدرجة دي.. أنا راجل ليا وضعي وكنت عازم أكبر ناس في مجال التجارة والصناعة في مصر.. فلازم أكيد اعوض عن اللي حصل وتأجيل حفلة كتب الكتاب بحفلة تليق فى ميعاد تاني.. وبعدين احنا هنروح من بعض فين!..
همت أنس الوجود بالرد.. لكن هاجر وصلت مهرولة في ذعر.. تسأل عن حال برلنتي، متعجبة من وجود نصير الذي لم يخبرها بما جرى لأنس، ثم ظهر ممدوح ودرية للاطمئنان على صحة برلنتي كذلك..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٢..
أخرج حبيب مفتاح البيت من جيب جلبابه، ادخله في موضعه الواسع بالباب الخشبي الضخم، أداره في قوة محاولا السيطرة عليه رغبة في فتحه بعد سنوات طويلة من الانغلاق.. وأخيرا ربما بعد المحاولة الثالث. لأن المفتاح داخل حلق الباب معلنا المثول لرغبة صاحبه والانفراج بدفعة قوية..
لحظة صمت مشمولة بالرهبة اعترت حبيب ما أن اتفرج باب دار الرسلانية القديم وهبت من الداخل رائحة عجيبة لها عبق مميز لم تكن أشبه بأي روائح اشتمها من قبل.. شملتهم الرهبة وهو يتطلع للفراغ المعتم قبالته وخيل إليه أن أصوات الماضي ترتع في ذاك الفراغ المظلم حتى أنه استشعر سماع صوت أصحابها الراحلين..
سمى الله.. ودفع ضلفتي الباب الخشبي الضخم على مصرعيهما ليدخل المزيد من النور والهواء الطلق.. أمرا الرجال المرافقين له في حزم: عايز البيت ده ساعتين زمن ويكون زي الفل.. واعيين!..
أكد الرجال في طاعة: مفهوم يا حبيب بيه..
أشار حبيب لأحد الرجال مؤكدا: أنت اللي هتبجى الريس جدامي.. وزع الرچالة وشوف ايه المطلوب.. أني عايز الدار تنفع يتبات فيها الليلة دي.. مفهوم!..
اطاع الرجل بإيماءة من رأسه.. ليخرج حبيب من الدار تاركا إياها تحت يد الرجال متطلعا لتفاصيلها التي كاد أن ينساها.. فقد كانت الدار على الجانب الآخر من النجع على طريق ليس بمطروق في ذهابه وايابه.. لكنه كان يأتي إلى هذه الطريق كلما استشعر الوحشة والرغبة في الانس بنفسه بعيدا عن النجع وناسه وكل مشاكله.. هو يعترف أنه أهمل المجيء إلى هنا منذ فترة طويلة وكأن الزلزال ما جاء إلا لتذكيره بما ضاع منه وسقط في خضم الأيام وطاحونتها الدائرة..
وقع ناظره على نوافذ الدار الاراببسك ومشربياته المعشقة بالخشب المفرغ.. وتبتسم حين تذكر كيف أشار له جده فضل يوم ما أن هذه النافذة التي يسلط عينيه عليها اللحظة هي ذاتها النافذة التي كانت تطل منها جدتهم أنس الوجود هانم على الرسلانية كلها.. وأن الحجرة القيمة التي ابتاعها سعد باشا جدهم خصيصا لها حين أعلنت زيارتها الرسلانية برفقة أخيها رستم باشا.. هي ذاتها الحجرة التي تم نقلها لحجرة الضيوف.. نفس الحجرة التي احتلتها أنس الوجود حين قدمت إلى الرسلانية للمطالبة بحقها من إرث لا حق لها فيه من الأساس.. وكأن هذه الحجرة ما صُنعت إلا من أجل كل أنس الوجود.. سواء جدة أو حفيدة.. لتشغلها.. من هذه النافذة عشقت البرنسيسة الرسلانية ونسائمها وعشقت كبيرها وقررت ترك المحروسة وكل فضائلها والبقاء ها هنا بالقرب من محبوبها.. وبهذه الدار ولد جده فضل الله.. حتى رحيل الجدة أنس الوجود عن الرسلانية لتركيا.. كانت الرسلانية كلها قبل بناء السراي والاستقرار بها تدور في فلك هذه الدار العتيقة..
أنس الوجود!.. إنها لا تبرح تفكيره لحظة.. وذاك أكثر من قدرته على. الاحتمال.. ترى كيف حالها الآن!.. وهل أجابت على محاولات منيرة في الوصول لها والاطمئنان عليها!.. ظل سؤال حائر بلا إجابة.. وهو يقفز معتليا صهوة فرسه.. متجها للسراي مجددا.. لعل هناك خبر عنها يهدىء من روع قلبه..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٢..
دخل ممدوح ومريم المقهى حيث ينتظر جمال وهاجر.. أصبح ذاك المقهى القريب من منزل جمال ومريم المفضل للقائهم حين يستدعي الأمر..
كان الجو ماطرا.. كانت القطرات الأولى للمطر هذا الشتاء.. لذا هتفت مريم في لهفة: اطلبو لي حاجة سخنة حالا.. أنا بردانة أوي..
سهر منها جمال كعادته: بردانة إيه! هو الشتاء لسه بدأ.. ده شوية مطرة متجيش حاجة جنب موات اسكندرية.. ولا شكلك نسيتي!..
هتفت مريم تسخر بدورها: لا منستش.. ومنستش كمان أن طول عمرك جبلة رايح جاي فالبيت بالفنلة الحمالات وكلنا متكلفتين شبه الكرنب.. ولا لما كنت بوقف فالبلكونة فعز ما هي بتشتي ترفع كوزين الاسمنت قدام بنت الجيرااا...
وضع جمال كفه فوق فم مريم، يمنعها من الاسترسال في سرد ذكرياته العتيقة، هاتفا: يا ساتر.. ايه ماسورة واتفتحت.. هاتلها يابني حاجة مولعة مش سخنة بس خليها تسد بقها ده..
قهقه ممدوح على ما يحدث كالعادة، بينما تطلعت هاجر نحو جمال في نظرة لها دلالتها، ما دفعه ليهتف مبررا: دي ذكريات بريئة والله..
حاول ممدوح إنقاذ الموقف ما أن تطلع جمال لمريم بنظرة يود لو دقت عنقها، هاتفا لجذب انتباههم لسبب تجمعهم: يا جماعة خلونا بس في موضوع أنس!.. ربنا ستر وكتب الكتاب السريع العجيب ده أتأجل.. وده فرصة عشان نلحق نعمل حاجة..
هتفت هاجر في ضيق: حقيقي اللي بيحصل ده مش طبيعي.. أنا واثقة أن أنس مش عايزة تتجوز نصير، وبعد الملف اللي شفته والمعلومات اللي فيه عن أرض أنس اللي فالصعيد.. اتاكدت أن نصير كمان مش عايز يتجاوزها حبا فيها.. الموضوع كله مصلحة.. بس ايه مصلحة أنس في اللي بيجرا ده، أنا مش عارفة.. ولا هي راضية تتكلم.. ولا حد عارف ياخد منها معلومة.. أنا أول مرة أشوف أنس كده..
هتف ممدوح مؤكدا: السر هناك في الرسلانية.. أنس الوجود الفترة الأخيرة اتعلقت أوي بالبلد هناك.. وأنا حاسس إن اللي بتعمله ده له علاقة بأهلها هناك..
هتف جمال متعجبا: لدرجة إنها تضيع نفسها وتتجوز اللي اسمه نصير ده!..
هتفت مريم مبررة: محدش عارف هي بتعمل كده ليه!.. مش يمكن الموضوع من وجهة نظرها يستاهل.. مش كلنا بنقيس نفس الموضوع بنفس الطريقة ولا لنا فيه نفس وجهة النظر..
هتف جمال، وهو ينهض فجأة: طب ثواني وراجع..
خرج جمال من المقهى تاركا الجميع غارقا فالصمت حتى سأل ممدوح هاجر: ايه أخبار نصير معاكي!.. معلقش على فترة غيابك!..
أكدت هاجر: ولا كأن حاجة حصلت.. حاطط كل تركيزه في موضع أنس.. بس الصراحة حسيت إنه بقى يتجنب يتكلم قدامي في بعض المواضيع.. وحتى لما حصل موضوع الزلزال وطنك برلنتي انتقلت المستشفى روحت لقيته هناك يعني كان عارف ومبلغنيش اجي معاه على الرغم من معرفته بالصلة القوية اللي بيني وبين أنس..
حذر ممدوح: خدي بالك.. الراجل ده مش سهل.. أنا عمري ما ارتحت له.. خلي بالك على نفسك..
كانت الكلمة وقعها طبيعي على مسامع هاجر فلطالما كان ممدوح بمثابة الأخ لها ولأنس الوجود لكن وقع الكلمة على مسامع مريم كان لها أثرا مختلفا، فقد هتفت في حنق: هو حال راح فين كده وسابنا.. أنا زهقت..
سأل ممدوح في أريحية: تحبي ارجعك البيت!..
زاد غيظ مريم هاتفية: لأ.. هرجع ما جمال.. اهو وصل..
جلس جمال متنهدا:حاولت اعمل مكالمة تاني لسراج الحفناوي.. فاكره يا ممدوح صح!..
أكد ممدوح مجيبا: اه زميلك الهادي ده اللي كان بيتكلم صعيدي ساعة حادثة اسكندرية ..
أكد جمال: مظبوط.. كذا مرة رنيت عليه.. فاسكندرية والده قالي بقاله فترة منزلش إجازة وجبت نمرة النقطة فالرسلانية كذا مرة ارن ومحدش يرد.. كنت هسأله عن الأحوال هناك يمكن نعرف حاجة احنا مش عارفنها تفهمنا فيه ايه..
هتف ممدوح: وأنا هحاول مع أنس الوجود تاني.. يمكن أقدر اوصل لسبب اللي هي بتعمله ده.. أنا بس مش عايز اضغط عليها عشان تعب طنط برلنتي.. بس صدقت هاجر.. أنا أول مرة أشوف أنس الوجود كده..
هتفت مريم في نزق: طب هو احنا مش هنروح.. إحنا جينا م الشغل على هنا على طول وأنا جعانة وعايزة انام..
هتف جمال في سخرية: مش قلت لكم جايب بنت اختي.. اسكتي وهعزمك ع الغدا.. ماشي!..
انشرحت اسارير مريم مؤكدة: إن كان كده ماشي.. اهو الواحد يترحم من وقفة المطبخ وغسيل المواعين..
ضمت مريم كوب المشروب الدافئ بين كفيها، والجميع يتطلع نحوها في تعجب.. إلا ممدوح كان يرزقها بنظرة جانبية وعلى شفتيه نصف ابتسامة..
❈-❈-❈
عرابة آل حفني.. ١٩٩٢..
طرقات على باب مكتب سراج، ثم انفراجه بعد أن سمح الطارق بالدخول، جعلته يتنبه للقادم منتفضا، متسائلا في قلق: ايه في يا حسان! عمي بخير!..
هز حسان ابن عمه رأسه نفيا، مؤكدا في نبرة حزينة: عمك بيموت يا حضرة الظابط.. وأني چاي لك من وراه.. تعال كل عليه.. يمكن تكون المرة الأخيرة..
هتف سراج في صدمة: وووه، للدرچة دي!..
ودفع سراج حسان برفق أمامه قائلا: طب ياللاه بينا نروحو له..
خرج سراج بالفعل من حجرة مكتبه متعجلا بصحبة حسان ابن عمه، تاركا الهاتف يرن بجرس ملح غير راغب في العودة للرد..
دخل دار الحفناوية مندفعا نحو حجرة عمه عدنان، متعجبا من تركه بهذا الشكل دون إحضار طبيب أو حتى نقله للمشفى، فهتف أمرا حسان: يدك معاي.. ده لازم يدخل المستشفى حالا.. انت. إزاي سابينه كده..
أكد حسان: هو مش راضي.. وأني لحالي مش جادر عليه..
هتف عدنان في وهن: لاه، مستشفى لاه، هموت على فرشتي ف داري.. جرب بس يا سراچ يا ولدي..
أقترب سراج ملبيا، ليهمس عدنان وهو يلتقط أنفاسه في صعوبة: اتشفع لي عند أبوك يسامحني.. أني رايح يا ولدي.. معدش فالعمر بجية.. ويا بخت من جدر وعفي..
هتف سراج مطالبا: لك اللي تطلبه كله يا عمي.. لكن لازما تروح المستشفى دلوجت.. مش هسمع أي كلام إلا وانت هناك..
لم يمهل سراج عمه فرصة للمعارضة، فقد حمله سريعا متجها نحو العربة الميري يتبعه حسان مهرولا.. للذهاب لأقرب مشفى.. والتي استقر بها عدنان تحت رعاية الأطباء.. الذين عاينو الحالة وشرحوها لسراج.. الذي هتف في حزن: ليه مجلتش يا حسان إن حالة هعي متأخرة كده!.. أنا كنت فاكره تعب عادي نتيجة السن مع إنه لسه صغير مش كبير..
أكد حسان دامع العينين: هو اللي حالف عليا مجولش لحد إن المرض الوحش مبهدل صدره.. روحنا وچينا لدكاترة كتير.. والكل جال مسألة وجت..
ربت سراج على كتف حسان في تعاطف، متسائلاً: هو فين اخواتك! انت مبلغتش حد ولا ايه!
نكس حسان رأسه في خزي مؤكدا: الكل عارف حالة أبوي من اول يوم.. اهتموا شوية ولما الموضوع طول كل واحد راح لحاله والدنيا لهته..
هز سراج رأسه متفهما، دافعا باب حجرة عمه ودخل يقف جوار فراشه والذي ما أن استشعر وجود سراج حتى فتح عينيه باسما في شجن: واااه يا دنيا، غرورة يا ولدي.. مليناها عيال وحريم.. واتاريها بحر غريج واحنا كُبشة ريم.. فينها العيال وفيها الحريم.. معدش باجي حاچة.. ولا تلزم العاجل فحاچة..
هتف سراج مهدئا: اهدا وارتاح يا عمي..
أكد عدنان هامسا: الراحة الكبيرة چاية.. وأني راحتي بحج لما أبوك يسامحني.. اديني سمعت كلامك وچيت ع المستشفى.. اوفي بوعدك واتشفع لي عنس أبوك.. خليه ياچي لو يجدر يا سراچ.. نفسي أملي عيني من شوفته جبل ما افارج..
هتف سراج متأثرا: طولة العمر لك يا عمي.. حاضر.. هجوله..
ربت سراج على كتف عمه متأثرا قبل أن يندفع مغادرا الغرفة في حزن..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٢..
عدة أيام مرت ولا حس ولا خبر جاء من القاهرة يقر بسلامة أنس الوجود، ما دفع حبيب ليقرر السفر للقاهرة باليوم الثاني حتى يطمئن بنفسه.. ظلجالسا النهار بطوله بالتعريشة بعد أن أمن موضع لبقاء المتضررين من الهزات الأرضية ببيت الرسلانية القديم.. عيناه معلقة بنافذة حجرة أنس الوجود.. وتعجب كيف لم يخطر له على بال الدخول إليها بعد رحيلها!.. نهض من موضعه في اتجاه المضيفة ومنها صعد الدرج نحو الغرفة.. توقف لبرهة وكأن شيء ما يستحثه على عدم الدخول.. لكنه أدار مقبض الباب ودفعه في حذر كأنها ما تزال بالداخل.. سخر من نفسه لبرهة.. لكن العجيب أنه استشعر وجودها بالفعل وكأن روحها ما تزال معلقة بالمكان تحتل كل ركن فيه..
وقعت عيناه على الفراش الذي كان للجدة ثم ضم بدن الحفيدة.. حاد بناظريه نحو أثاث الغرفة ثم سار نحو النافذة متطلعا منها نحو موضع جلوسه بالتعريشة.. أعاد ناظريه بنظرة شاملة نحو الغرفة وأركانها واثاثها البسيط القيم في ذات الوقت.. لتسقط عيناه على ورقة مطوية يستقر فوقها قلم.. سار نحوها ومد كفه يستطلعها.. لتتسع حدقتى عينيه في دهشة.. كانت رسالة منها تركتها منذ يوم رحيلها المباغت.. ولم يكتشف وجودها إلا اللحظة..
ابن خالتي.. حبيب..
ثمة أمور كثيرة أنت تجهلها الآن كما كنت أنا أجهل الكثير منذ وطأت أقدامي أرض الرسلانية.. لكن وعلى الرغم من كل شيء .. شكرا..
أعترف أن نعيم الجهل مريح.. لكن جحيم المعرفة أفضل.. وقد آن لفلسفة الوجع أن تكف عن التأقلم وتترك لفلسفة العشق فرصة لتعلن عن نفسها.. ممتنة أنا لكل لحظات الوعي التي جمعتنا.. وأدين لك بالكثير الذي علي سداده..
ابنة خالتك.. أنس الوجود..
أعاد قراءة الرسالة عدة مرات.. حاول أن يفك بعض من طلاسمها لكنه لم يستطع.. بالتأكيد كلماتها تحمل معنى ما لكنه لم يدركه.. غادر الغرفة والرسالة مطوية بجيب جلبابه الأقرب لقلبه.. رن جرس الهاتف فانتفض فزعا نحوه لعله خبرا عن حالها.. رد على الهاتف وظهرت منيرة مندفعة قادمة من أعلى الدرج.. لم تستغرق المكالمة الهاتفية دقيقة.. وضع سماع الهاتف حين أصبحت منيرة جواره.. سألت منيرة عن حال أنس الوجود..
لكن حبيب كان شاردا في مضمون المحادثة التليفونية ولم يجب عن سؤال أخته .. لكنه قرر أن لا داعِ للسفر غدا للقاهرة كما كان مخططا.. فقد اطمأن أنها بخير.. وهذا يكفيه..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٢..
أسبوع كامل مر على إجراء جراحة أمها، أسبوع مر كأنه دهر، والآن حال أمها يتحسن وتم نقلها لغرفة عادية.. ما دفعها لتخرج رغبة في الذهاب لشقتهما لمعرفة كيف أصبح الحال هناك.. حاولت أن تقنع حمدية بالذهاب للشقة وتنظيفها على قدر الإمكان لكنها رفضت في ذعر خوفا من تكرار حدوث الزلزال وهي وحيدة..
دفعت أنس الوجود باب الشقة في هوادة والذي انفرج قليلا نظرا لسقوط بعد الاغراض خلفه ما أعاق حركة الفتح التلقائية.. دفعت أنس الوجود بنفسها عبر فرجة الباب الموارب قسرا، لتجد نفسها بالداخل.. تحركت بضع خطوات حتى اجتازت الرواق القصير لتصبح بقلب الشقة وترى كم الفوضى التي خلفها الزلزال بمحتويات الشقة واثاثها.. لم تطل البقاء بالبهو فقد كانت المهمة محددة.. القدوم لإحضار بعض من حاجيا والدتها التي قد تحتاج لها في المشفى.. توجهت في بطء وحذر نحو غرفة أمها لتقف على أعتاب الباب متطلعة لمحتوياتها المبعثرة.. وموضع صورة أبيها الفوتوغرافية الشاغر على الحائط.. الشيء الوحيد الذي انتزعته أنها قبل هروبه ما خارجها.. خطت للداخل نحو خزانة الملابس التي انفرجت ضلفاتها لافظة بعض من محتوياتها ملقاة أرضا.. تنبهت أنس الوجود لذاك الصندوق المخملي الذي ظهر بقلب الرف قبالتها.. مدت كفها تمسك به جالسة تفتحه مستطلعة محتوياته قد يكون هناك بعض المصوغات الذهبية التي يمكنها بيعها والاعتماد عليها قليلا بدلا من الاعتماد الكلي على نصير وكرمه المرهون بشرطه.. لكنها لم تجد إلا ورقتين مطويتين قد استحال لونهما الاصفر الباهت قليلا.. مدت كفها نحو الورقة الأولى لتكتشف أنه خطاب من أمها لأبيها يحثها فيه على الهرب معه والزواج بعيدا عن سلطة العائلة لأنه.. لأنه ماذا.. لا مستحيل... أبيها قاتل.. قتل خالها أخو أمها.. وامها تزوجت قاتل أخيها ضد رغبة العائلة لذا هربت معه!.. هل هذا يفسر لمَ لم يكن لها عائلة كما كان لجميع أولاد المدرسة باستثناء هاجر بالطبع!.. هل هذا ما تكتم عنه جدتها صفية.. ولم تفصح به حين سألتها حين أدركت أنها لا تعلم من أمور الماضي شيئا..
تركت أنس الوجود الورقة داخل الصندوق بكف مرتجفة.. لتتناول الورقة الثانية.. كانت رسالة آخرى بخط كف أمها موجهة إلى.. لا.. هذا كثير.. أليس هذا هو رؤوف الذي أخذت تهزي باسمه فالمشفى من قبل والذي اكتشف بالرسلانية مؤخرا أنه والد حبيب وزوج أختها أمينة توأمتها التي لم تأتي على ذكرها مرة واحدة!.. وها هي تطلب منه ترك أمينة والزواج بها لأنه تحبه.. ولا تستطيع العيش دونه.. أي عبث هذا!.. ما الذي فعلته يا أمي بحالك!.. وهل قرار هروبك مع أبي لم يكن دافعه الحب، بل الهرب من الحب، حب آخر لم يكن لكِ.. هل عشتي كل هذه السنوات مع أبي وقلبك يعشق رجل آخر!..
وضعت أنس الوجود الخطاب الآخر جوار أخيه مغلقة العلبة المخملية تاركة إياها بموضعها مغلقة ضلفة خزانة الملابس.. يعتريها التيه حتى أنها خرجت من الشقة في حالة شرود لا تعرف كيف وصلت للمشفى.. دخلت غرفة أمها التي كانت تهمس في منامها ما دفعها لتقترب من الفراش في عجالة تتبين أي اسم تناديه هذه المرة.. فظهر اسم أبيها جليا.. نجيب.. كانت أمها تناجيه في رجاء.. سال دمع أنس الوجود في حزن.. فكل تلك الحقائق التي اكتشفتها الليلة والتي كانت سر أمها الدفين لسنوات طوال تشعرها باحتلال عجيب في بوصلة اتزانها وخلل في قدرتها على فهم الأمور ومنطقتها..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٢..
تحسنت حالة برلنتي كثيرا.. وأصبح من اللازم الوفاء بوعدها لنصير فقد وفى بوعده.. أجرى عملية امها الجراحية في أفضل مشفى.. وجهز لها شقة في حي راقِ ودفع بعقده لها.. وما عاد باقِ إلا الوفاء بالشرط الثالث والأخير والمقرر له يوم عقد القران الذي حدد نصير موعده بنفسه منذ مدة حتى يتثنى له ارسال الدعوات لكل من يهمه أمره..
وها قد حان اليوم الموعود.. وكأنه يعاد من جديد بكل تفاصيله ..الثوب الفاخر من أرقى بيوت الأزياء.. والعربية الخاصة التي تنتظرها بالاسفل أمام البناية.. مع اختلاف واحد.. أنها انتقلت مع أمها بعد خروجها من المشفى إلى شقتهما الجديدة.. وعلى ما يبدو أن الأمر سيتم هذه المرة .. فما عاد من زلزال يأتي بشكل مباغت ليؤجل القران مجددا.. عزمت أمرها وبدأت في إعداد نفسها لحفل الليلة.. الذي قرر نصير إقامته مبكرا قليلا عن المعتاد..
بدأ الحفل وطلت بصحبة نصير بين كل المدعوين الذين استقبلوهما بالتصفيق.. بدأ في تعريفها على الجمع هنا وهناك بمساعدة هاجر التي لم تتركها للحظة وظلت تلح عليها بالهرب ورفض الزيجة برمتها لكن أنس لم تستجب وها هي تقف في قلب الحفل وقد شعرت بتشنجات شديدة في عضلات وجهها بسبب تلك الابتسامة المصطنعة التي كانت ترسمها على وجهها طوال الوقت.. لكن ما حدث اللحظة جعل حتى ابتسامتها المصطنعة تلك تغيب عن وجهها ولا يرتسم على قسماته إلا الصدمة حين صدح زاك المزمار الصعيدي وعلا صوت الطبول.. ليسالها نصير في نبرة متشفية حاول أن يكسوها بالفرحة: ايه رأيك في المفاجأة دي!..
لم تكن المفاجأة في الفرقة التي تعزف تلك الألحان الصعيدية بل فيمن ظهر اللحظة قبالة ناظريها من بين المدعوين.. ظنت أنها تحلم أو ربما تهزي.. لكنه قادم نحوهما بكل جلاله وهيبته، مادا كفه نحو نصير في ثقة هاتفا بنبرة ثابتة حادة: ألف مبروك يا نصير بيه..
وتطلع نحوها بنظرة عجائبية لم تستطع لها تفسيرا، هاتفا بنفس النبرة الثابتة: ألف مبروك يا أستاذة..
هتف نصير في مودة مصطنعة: شرفت يا حبيب بيه.. اتفضل ..
تركهما حبيب وجلس على أقرب مقعد متجاهلا النظر صوب موضعها تماما.. لتسأل أنس الوجود في نبرة مهاودة بعد أن استعادت بعض من رباطة جأشها: ليه بعت لحبيب! خير!..
أكد نصير في سلاسة: عشان يبقى وكيلك ساعة كتب الكتاب.. مش هو ابن خالتك برضو!..
تعجبت أنس متسائلة: طب ما هو ممدوح موجود، أخويا فالرضاعة مش كفاية!..
أكد نصير في لا مبالاة: ايه المشكلة يعني.. انتي بدقي على حاجات عجيبة يا أنس..
رفع نصير كفها مقبلا ظاهر بحركة مباغتة لها هي شخصيا.. واستطرد مؤكدا في هوادة: وبعدين ما هو الراجل جه ورحب لما طلبت منه ومعتذرش لما قلت له إنها رغبتك وجوده كشاهد.. حتى شوفي..
تنبهت أنس الوجود متطلعة نحو موضع اشارته، لتجد حبيب وقد تناول إحدى العصي من الفرقة التي كانت ما تزال تعزف في حماس.. وبدأ يرقص بالعصى في احترافية على أغنية.. البت بيضا وأنا أعمل ايه..
لم يكن يرقص كما هو ظاهر للعيان.. كان يترنح.. يتقافز كما الطير الذي جزو رقبته بسكين تالم فصار يتقافز هنا وهناك .. حلاوة روح.. مختصرا.. قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.. لرؤية نصير وهو يقبل ظاهر كفها جعل الدماء الساخنة تمور بشرايينه فلم يجد إلا الرقص وجعا وقهرا حتى لا تدفعه غيرته للانقضاض على نصير واذهاق روحه وليكن ما يكون بعدها..
تعالت الزغاريد معلنة وصول المأذون.. ما دفع نصير ليمسك بكف أنس الوجود مشيرا نحو حبيب ليلحق بهما.. والذي تبعهما نحو الداخل حيث موضع عقد القران داخل الفيلا.. بعيدا عن الصخب الدائر بالخارج.. لكن قبل أن يصل حبيب لداخل الفيلا استوقفه أحد الجرسونات مشيرا نحو ركن ما كان به الهاتف مستقرا.. اتجه حبيب نحوه مسرعا.. رافعا سماعه دقيقة ووضعها في عجالة تاركا الحفل مندفعا للخارج مهرولا وكأن أحد الضواري يلاحقه..
يتبع...