رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 61 - الثلاثاء 16/9/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الواحد والستون
تم النشر الثلاثاء
16/9/2025
أطماع وأوجاع..
القاهرة ١٩٩٢..
جلس نصير وأنس الوجود بينهما المأذون معتقدين أن حبيب يتبعهما، لكنه لم يظهر خلفهما.. تعجب نصير فقد تأكد بنظرة سريعة صوبه أن حبيب كان يسير خلفهما نحو الداخل.. ما حثه للنهوض باحثا عنه وقد حضر الشاهد الثاني أحد مساعديه بالشركة والذي يعد من كاتمي أسراره بعد استبعاده مؤخرا لهاجر بشكل كان ملحوظا للجميع ومثيرا للتساؤل في الوقت ذاته.. خرج نصير من غرفة المكتب يتطلع إلى اين ذهب حبيب!. قد يكون أخطأ في الغرفة ودخل إلى آخرى دون قصد .. لكن النادل أخبره أن حبيب جاءته محادثة هاتفية خرج على إثرها مهرولا لخارج الفيلا..
ضرب نصير قبضة كفه اليمنى بباطن الكف اليسرى في حنق.. ولم يكن يدرك أن أنس الوجود تقف على أعتاب حجرة المكتب تتابع ما حدث.. وحين عاد سألته أنس الوجود في نبرة تحمل هدوءا حذرا: قلت لي أنت جبت حبيب ليه من الرسلانية لحد هنا يا نصير!.. عشان ابن خالتي ويشهد على العقد فعلا.. ولا عشان هدف تاني!..
هتف نصير في حنق: هدف ايه! احنا متفقين على كل حاجة والموضوع ميخصش حبيب .. سواء حضر ولا لأ.. أنا كنت بحاول أسعدك مش أكتر.. بس الظاهر مهما عملت مش هعجب.. يمكن عشان القلب متعلق بغيري!..
هتفت أنس الوجود في اضطراب: أنت بتقول ايه! ايه التخاريف دي! وبعدين متهيء لي الاتفاق اللي ما بينا اتفاق رسمي جدا ملوش دعوة بالقلب متعلق ولا لأ..
تنهد نصير في نفاذ صبر مشيرا لداخل الحجرة أمرا: طب ادخلي نتم كتب الكتاب وبعدين نبقى نتفاهم..
أومأت أنس الوجود موافقة، هاتفة وهي تهم بالخروج من الحجرة: تمام.. هنتم كتب الكتاب أكيد بس بعد ما اتصل بالرسلانية وأشوف ايه حصل هناك خلى حبيب يمشي بسرعة كده.. أكيد في..
قاطعها نصير هاتفا في حنق، جاذبا إياها نحوه: احنا مالنا.. يكون هناك اللي يكون .. احنا لينا اتفاقنا.. ياللاه..
وكانت إشارة خفية من نصير لمساعده فهم من خلالها مبتغاه، فنهض بصحبة المأذون للخارج، لتصبح أنس الوجود وحيدة بصحبة نصير، تطلعت أنس للحجرة الخالية التي وجدت نفسها مدفوعة بداخلها عنوة، هاتفة في ضيق بالغ: أنا مش همضي على أي ورقة غير لما أعرف حصل ايه فالرسلانية أنت عارفه ومخبيه..
اقترب منها نصير هامسا: أنا معرفش اي حاجة إلا اتفاقنا.. تبيعيلي الأرض اللي ملكك ف الرسلانية اعمل لك عملية والدتك وتخدي قصاد جوازنا مهرك اللي طلبته وزودت عليه الشقة.. أنا نفذت من ناحيتي كل بنود اتفاقنا.. إنتي بقى فين تنفيذك الشروط!..
هتفت أنس الوجود وهي تشعر بالتهديد من نظراته المليئة بالشهوة: نصير أنت طلبت تتجوزني ليه في وسط الصفقة دي كلها!.. كان ممكن الصفقة تخلص من غير جواز!..
هتف نصير وهو يقترب أكثر هامسا: أخيرا خدتي بالك!.. إنتي المكسب الحقيقي مش الصفقة دي كلها يا أنس.. أنا بحبك وعايزك..
دفعته أنس الوجود عنها في حزم: أنا كنت فاكرة انك طلبت تتجوزني عشان تضمن تمام الصفقة وإني ابقى تحت سيطرتك لحد ما تضمن البيع والأرض تبقى تحت إيدك!..
اقترب نصير من موضعها مجددا، هامسا في وله: إنتي وبعدين تيجي أي صفقة، اه أنا عايز الأرض منكرش.. بس عايزك إنتي قبلها.. وكنت ممكن أخد الأرض بالقوة وبأساليب تانية كتير .. زي إني أخلص على سي حبيب ده بعيار طايش والمواضيع دي في بلدكم مفيش أكتر ولا أسهل منها.. ولا من شاف ولا من دري..
شهقت أنس الوجود في صدمة، ليستطرد نصير متطلعا إليها بأعين تلمع رغبة زادتها شهقة الفزع على مصير حببب، موقدة غيرة عمياء بقلبه دفعته لينقض عليها دافعا بها نحو الحائط، ليأسرها هناك، هامسا في نبرة أشبه بالفحيح: لكن لما زرت قرايبك وأكدوا لي إن أرض الرسلانية كلها تحت إيدك إنتي.. وإنك ملكيش ورث عندهم، وقابلتك فالطريق واكدتيلي كلامهم، قلت بس اضرب عصفورين بحجر واحد اشتري منك الأرض بس بشرط الجواز.. حطيت الشرط ده مخصوص عشان أطولك.. عشان من ساعة ما ضربتيني على راسي فشاليه اسكندرية وأنا فعلا مش عايز إلا إنتي.. انتي وبس يا أنس..
حاولت انس دفعه عنها بلا طائل، كان يلقي بكامل ثقل جسده الضخم نحوها اسرا إياها ما بين الحائط خلفها وذراعيه، صرخت واستغاثت، لكن صوت الموسيقى بالخارج كان عاليا لدرجة كبيرة تمنع وصول صوتها لخارج الغرفة حتى، لتهمس هي في محاولة لإيقافه عن استباحة حدودها: أنا مملكش الأرض، ومليش شبر فيها عند الرسلانية..
همس نصير ساخرا: كدبة مفضوحة، أهلك.. جدك وابن عمك قالوا لي أن الأرض ملكك، وانهم شافو ورقها بنفسهم..
أكدت أنس وهي لا تكف عن دفعه رافضة قربه بهذا الشكل، ما يزيد من رغبته مع تمنعها: كانو بيحاولو يبعدوك عن التفكير في أرضهم هم، لأنهم فاكرين إني جاية النجع اصلا عشان ادور على حقي وابيعه.. وانا حقي الأصلي معاهم هم ورثي من بابا معاهم هم.. وكانو فاكرين انك المشتري اللي أنا جيباه.. فكانو عايزين يبعدوك واخترعو الكدبة دي.. طمعهم خدمني..
هتف نصير وقد بدأ الغضب يبلغ منه مبلغا مقلقا: اه هم كدبو الكدبة وانتي استغلتيها عشان تحمي الأرض، وحبيب القلب، مش كده!.. بس ده بعدك.. انتي مش هاتخرجي من هنا، والأرض اللي عايزة تحميها مش هتلحقي تدفعي من تمنها مليم..
هتفت أنس في ذعر: أنت ناوي على ايه!..
طوقها نصير بين ذراعيه في قوة، دافعا بها لأقرب أريكة صارخا: هاخد حقي، تمن الشقة وعملية أمك.. أنا مفيش حاجة عندي ببلاش..
سقطت دفاعاتها تباعا.. ما عاد لها القدرة على الاستغاثة وقد بح صوتها صراخا وما من مجير.. وخارت قواها أمام مقاومة ذاك الثور الهائج المدعو نصير، والذي كان لديه هدف واحد فقط يستميت لتحقيقه.. الحصول عليها.. كلماته السامة التي كان يبثها بالقرب من مسامعها كانت تثير فيها الشعور بالغثيان.. ما يضعف من استبسالها في منعه من كسر حدودها واستباحة حرماتها.. لكنها ما عادت قادرة على المزيد من المقاومة.. تشعر أنها بدأت تفقد وعيها.. فصرخت بقوة داخلية عجيبة.. يا رب.. واظلمت الدنيا قبالة ناظريها..
❈-❈-❈
الرسلانية.. القاهرة ١٩٩٢..
رن جرس الهاتف بمكتب جمال وكاد أن ينقطع رنينه حين رفع جمال سماعة الهاتف مجيبا وهو يهرول لداخل الحجرة: الووو..
هتف سراج في لهفة: أخيرا رديت.. انت فين يا بني!..
هتف جمال مازحا: أنا اللي فين ولا أنت اللي من ساعة ما رحت الصعيد وقلت عدولي!.. ماشي يا سيدي .. من لقي أحبابه نسي صحابه..
هتف سراج متعجبا: أحبابه ايه وأصحابه ايه بس يا جمال، بقولك!.. تعرف نمرة الفيلا بتاع الراجل اللي اسمه نصير ده اللي هيتجوز أنس الوجود!..
هتف جمال مؤكدا: اه، اهي النمرة.. اكتب عندك..
دون سراج النمرة ليستطرد جمال متعجبا: أنا زرت الوالد فاسكندرية لما رنيت عليك كتير ومردتش، قلت اشوف ايه اللي بيحصل بالظبط.. وقاللي ع الحكاية القديمة.. يعني كده الموضوع مع الآنسة منيرة بقى عال وتقدر تتقدم بقلب جامد.. ما أنت خلاص بقى ابن عمتها فهمي رسمي.. ومحدش أولى بها منك..
تنهد سراج مؤكدا: هيحصل يا جمال بس نخلص من المشاكل اللي عندهم ف الاول.. الموضوع كبير و..
هتف جمال مقاطعة: موضوع الحجز ع الأرض بتاعت الرسلانية.. مش كده!..
هتف سراج متعجبا: عرفت منين!.. من أنس الوجود!.. ما أنا عارف إن هاجر صاحبتها أوي..
أكد جمال: ايوه فعلا، هاجر صاحبتها.. بس انا عرفت الموضوع بالصدفة من هاجر نفسها.. واللي اسمه نصير الراوي ده مش مظبوط.. وإن شاء الله يوقع قريب.. لأني متأكد ان وراه مصيبة كبيرة.. بس أنت عايز تليفون فيلته ليه!.
هتف سراج: مش وقته يا جمال، هقولك كل حاجة بالتفصيل.. بس..
قاطعه جمال هاتفا: استنى ثواني يا سراج.. التليفون التاني بيرن..
رد جمال في عجالة بإجابات مقتضبة ثم عاد سريعا لحديثه مع سراج متعجلا: طب بص يا سراج أنا لازم انزل حالا.. شكلها قربت زي ما قلت لك.. سلام..
هتف سراج بالسلام ايضا، ليعاود الاتصال بالرقم الذي دونه لفيلا نصير الراوي.. مستدعيا حبيب للقدوم على وجه السرعة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.. فقد شكر الله كثيرا أنه مر على سراي الرسلانية حين علم بمغادرة حبيب حتى يسأل جدته صفية إذا ما كان ينقصهم شيء ما من باب الأصول والواجب.. ليجد منيرة تبكي في لوعة ما جرى.. فكان عليه أن يتصرف في سرعة..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٢..
وصلت العربة لمدخل السراي عند السادسة صباحا، اندفع حبيب لداخلها مهرولا، ليتبعه شبل مؤكدا: الدنيا غفلجت بعد أنت ما مشيت يا بيه..
وصل حبيب لداخل السراي وشبل ما يزال خلفه يبلغه بسير الأحداث أثناء غيابه: بس متجلجش الهانم الكبيرة بخير.. الداكتور سرور جه وجام بالواچب..
دفع حبيب باب حجرة صفية في اضطراب، لينتفض سرور موضعه مستيقظا فقد غلبه النوم موضعه، متوجها صوب حبيب ما أن أدرك وجوده، رابتا على كتفه في هدوء مطمئنا: متجلجش.. شوية ضغط عليو ولحجنا الموضوع.. ما هو اللي حصل مكنش هين عليها برضك..
هتف حبيب متسائلا: هو ايه اللي حصل!.. أني چاني التلفون من سراچ چيت چري..
تنهد سرور هامسا في تعاطف: چه مُحضر وطلب حد يمضي له على ورجة مهمة فيها إخطار ومكنش موچود ف السرايا إلا هي تمضي.. ولما شافت الإخطار بعد ما مضت بالعلم.. حصل اللي حصل وتعبت ولجيت شبل چاي رمح يجولي إلحج الحچة صفية..
هتف حبيب متعجبا: إخطار ب ايه!.. ميعاد الحچز ع الأرض لسه عليه واديني بتصرف ويمكن..
قاطعه سرور مفسرا: الإخطار كان بالحچز ع السرايا يا حبيب.. البنك هيحچز ع السرايا عشان يسدد دين الأرض.. لأن الأرض حتى ببيعها مش هتكفي سداد ديون البنك..
هتف حبيب متعجبا في حنق: ليه! هي الديون كد ايه.. أني مجصرتش في دفع الاجساط للدرچة دي.. في حاچة غلط.. كمان السرايا اللي اويانا هيخدوها!.. ما يبيعونا خلجاتنا بالمرة!..
لم يرد سرور مدركا حجم المعاناة التي يعيشها حبيب في هذه اللحظة واعيا تماما لطبيعة صاحبه الذي لا يقبل بأن يظهر ضعيفا أو قليل الحيلة..
ساد الصمت الذي قطعه صوت صفية الواهن الذي دفع حبيب الذي كان يجلس أسفل قدميها في قلق، للاندفاع صوبها هامسا وهو يتطلع نحوها في حنو: ستي! كيفك!..
كررت صفية همسها بأعين دامعة: مش هسيب السرايا يا حبيب، على چتتي.. اسيبها وأرواح على فين!.. اسيب عمري كله وراي واروح على فين يا ولدي!.. أني اتولدت هنا.. هنا ريحة الحبايب اللي غابو ولسه بتونس بيهم فكل ركن .. هنا حس أبوك وچدك.. هنا عشت الفرح ياما.. وحزنت ياما.. شبابيك وبيبان السرايا دي من عمري.. وشافت معاي كل اللي كان.. كل حيط وچدار شاهد على ضحكتي وياما داريت وراه دموعي.. لو خرچت من هنا هموت يا حبيب.. اموت يا ولدي..
دمعت عينى سرور ولم ينطق حرفا، بينما مال حبيب مقبلا جبين جدته في محبة خالصة مغالبا دموعه مؤكدا: بروحي يا ستي.. ما حد يخرچك من دارك وأني لسه حي.. وفيا نفس.. والله ما يحصل أبدا..
تنهدت صفية وسال دمع على جانب وجهها، ليمسحه حبيب بباطن كفه واعدا: اهدي يا ستي.. متشيليش هم أبدا طول ما أني موچود.. وارتاحي..
هتف سرور يحاول أن يغلف الأجواء الحزينة بقليل من المزاح: ايوه ترتاحي عشان مشتغلش شكشكة فيكي.. ولا اچيب الحجنة!..
هتفت صفية ساخرة: عتخوفني كيف العيال الصغيرة يا واد يا سرور!..
ابتسم حبيب بينما قهقه سرور معترضا: ضاعت الدكتوراه اللي الواحد ضيع فيها عمر بكلمة من الحچة يا حبيب.. عليه العوض ومنه العوض.. من داكتور كد الدنيا.. ل واد...
هتفت صفية باسمة في وهن: لاه، داكتور وكد الدنيا كلها يا حبيبي، منساش أبدا يوم ما كانت أمك الله يرحمها تضربك عشان بتاچي هنا السرايا.. وأنت تجولها بحب الرسلانية وسرايتهم.. بالك أنت لو ربنا كان كرم أبوك مع وداد أختي بالخلفة.. كنت زماني خالتك يا مخبل..
هتف سرور وهو يتجه نحو صفية في معزة ملثما ظاهر كفها مؤكدا: طب ما إنتي خالتي يا حچة صفية.. ويمكن أمي كمان.. ده أني عشت هنا في السرايا اكتر ما عشت ف بيتنا.. ربنا يخليكي لينا ويطول لنا فعمرك.. بس برضك.. لازما ترتاحي وإلا هاااا ..
اتسعت ابتسامة صفية لمزاح سرور، وأكدت أنها بالفعل تشعر بالرغبة في النعاس، أمرة كل من حبيب وسرور بمغادرة الغرفة في عجالة.. فنفذا في طاعة..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٢..
تعجبت هاجر من تأخر أنس الوجود ونصير في إجراءات عقد القران، فقد رفض اصطحابها للداخل لتحضره، متعللا بالضيوف وأن عليها ضيافتهم وتهوين الوقت عليهم حتى عودتهم بعد انتهاء المراسم.. لكن الوقت قد زاد.. والضيوف بالفعل أصابهم الضجر على الرغم من وجود كل انواع الترف من موسيقا وغناء وأكلات شهية.. لكن أصحاب الحفل أنفسهما غابا عن الحفل لفترة ليست بالقليلة.. وغيابهما أثار الشكوك والتساؤلات.. فما كان منها إلا إقرار الدخول للفيلا لاستعجال نصير وأنس.. وما أن همت بالتنفيذ إلا وتناهى لمسامعها بعض الهرج القادم من البوابة الرئيسية للفيلا وفجأة انتشر عساكر الشرطة بالحديقة بشكل مريب.. ليظهر بعدها أحد الضباط قادما نحو هاجر متسائلا: فين المدعو نصير الراوي!..
أشارت هاجر للداخل، وسارت يتبعها الضابط في عجالة ومعه بعض عساكره، لتدفع هاجر باب غرفة المكتب لفتحها.. لكنها كانت موصدة من الداخل ما دفعها لتطرق الباب في قوة هاتفة في ذعر: أنس الوجود!.. افتحي.. هو في ايه!..
ابعد الضابط هاجر عن باب الحجرة أمرا عساكره بكسره، عدة ضربات قوية من العساكر بعدها انفرج الباب لتصرخ هاجر في صدمة صرخة مدوية حين وجدت أنس الوجود فاقدة الوعي على إحدى الآرائك، ونصير الراوي ليس بالغرفة.. وتلك الشرفة القابعة بأحد أركانها مشرعة النوافذ، مؤكدة على هربه حين استشعر الخطر..
❈-❈-❈
الرسلانية.. ١٩٩٢..
هل سرور نحو مجلس حبيب أسفل التعريشة، بعد أن قام بالاطمئنان على صحة الجدة صفية، التي استقر حالها إلى حد كبير.. ساد الصمت بينهما.. ليقطعه وصول مدثر الذي ألقى التحية في عجالة وجلس بدوره.. ليسود الصمت المجلس قبل أن يهتف سرور وهو ينهض في سرعة، واضعا كيس بلاستيكي قبالة حبيب على الطاولة، هاتفا في لهجة أمرة: بجولك ايه يا حبيب.. أني مش عايز حديت كتير الله يرضى عنك.. فالشنطة دي .. خمسين ألف چنيه كل اللي احتكم عليه من الدنيا.. تاخدهم من سكات.. أني عارف انهم مش مبلغ كبير بس اهي نواية تسند لحد ما ربنا يئذن ونلم المبلغ..
هم حبيب بالحديث ما أن استجمع شتات نفسه، لكن مدثر قاطعه مؤكدا وهو يضع كيسا بلاستيكيا آخر على الطاولة، هاتفا: ودول تلاتين ألف.. برضك على رأي سرور مهماش حاچة كبيرة.. بس أهو يفكوا أي زنجة..
تطلع حبيب نحو الأكياس البلاستيكية المغلفة و قبالة ناظريه في تيه، وأخيرا همس بصوت متحشرج: تسلموا وتعيشوا.. كفاية عليا تعبكم.. بس دي فلوس چوازكم.. كل واحد فيكم كان مظبط حاله عليها عشان يتچوز عن جريب.. ده إحنا كنا لتحضر سوا ليوم الفرح..
هتف سرور معاتبا: ايوه .. سابينا جاعدين تحضروا ف الافراح والليالي الملاح ومخبي علينا وجعتك الكبيرة يا حبيب.. كده برضك!.. والله لولا اللي أنت فيه لكانت هتبقى زعلة كبيرة صح..
هتف حبيب متنهدا: عندك حج يا سرور، بس كان ايه فيدته الحكي والجوالة.. العملية مطبخة ومحكومة.. هم عايزين الأرض والسرايا ب أي تمن..
هتف مدثر متعجبا: هم مين دول!.. لا هي عافية ولا فرد عضلات!..
هتف سرور متسائلا: ده الموضوع جديم بجى وفيه حكاية..
هز حبيب رأسه مفسرا: مش جديم جوي.. من جبل فرح منيرة على واد المرحوم عزت..
هتف مدثر: وهو.. من الحكاية كبيرة على كده!..
أكد حبيب موضحا: ايوه كبيرة ومعرفش مين وراها.. وفلوسكم دي على عيني وعلى راسي بس لما تعرفو المبلغ المطلوب هيتأكد لكم إن الموضوع فيه إن..
هتف سرور مصرا: بجولك ايه الفلوس اهي.. خليها معاك.. اهو مع بيع دهب الحريم.. يجدر المبلغ يسد جزء من الاجساط والبنك يتراچع عن الحچز..
هتف حبيب متنهدا: البنك مش هيت اچع يا سرور.. وأني محتاچ فوج المبلغ ده كده بتاع أربع مرات..
بحلق مدثر في صدمة بينما هتف سرور في ذعر: وووه!.. ليه! هتشتري البنك بذات نفسه ولا ايه!.. طب حكي.. يمكن يكون لها صرفة..
هتف مدثر في حسن نية: طب بجولك يا حبيب، هي الست الأستاذة مش برضك اتچوزت راچل أعمال كبير على ما سمعنا.. مش ممكن تساعد لچل ما..
قاطعه حبيب هاتفا في حنق بالغ: لاه.. راحت لحال سبيلها لا لها دعوة بالرسلانية ولا ب أرضها.. ربنا يسهل لها..
تطلع كل من مدثر وسرور لبعضهما في صدمة، فقد كانت المرة الأولى التي يدرك فيها كلاهما، أن حبيب معلق القلب بتلك التي فارقته ودعته ليكون شاهدا على عقد قرانها على غيره.. كلاهما يدرك هذه الصرخة التي صدرت عن حبيب اللحظة.. كلاهما ذاق مرارة الفقد ولوعة العشق.. واحتراق القلب عند الفراق..
نهض سرور رابتا على كتف حبيب في مؤازرة، مؤكدا: مدثر ما يجصدش..
ليتبعه مدثر هاتفا في نبرة معتذرة: يابوي يا حبيب.. كل ده شايله على كتافك وساكت.. كتير عليك الوچع ده كله يا واد عمي!.. حمولك تجيلة.. خف حملك.. واحنا سدادين.. احكي..
تنهد حبيب في وجع، وبدأ في سرد الحكاية منذ هل عليه ذاك المدعو سمري وحتى لحظة جلوسهم معا..
❈-❈-❈
القاهرة.. ١٩٩٢..
هرول جمال عبر رواق المشفى باحثا عن هاجر، التي لمحها أخيرا تجلس بصحبة ممدوح وامرأتين متوسطي العمر..
هتف جمال ما أن وصل لموضعهما: ايه اللي حصل!..
هتفت هاجر باكية في قهر وهي تمسك بذراعيه متشبثة: أنس الوجود يا جمال!.. لقيناها مغمي عليها لما البوليس وصل .. كان مقفول عليها الاوضة مع نصير اللي هرب.. ومحدش عارف ايه اللي حصل بينهم وصلها للحالة اللي هي فيها دي.. دي مش بتفوق يا جمال.. مبتردش علينا.. عمل فيها ايه المجرم.. عمل فيها ايه!
ربت جمال على كتف هاجر مهدئا: إن شاء الله تكون بخير.. الدكتور دلوقت يخرج ويطمنا عليها..
اقترب ممدوح متسائلا في نبرة تنضح وجعا: هو البوليس ليه كان جاي لنصير!.. أنت تعرف حاجة أكيد يا جمال بيه!..
أكد جمال في نبرة متشفية: كنت حاسس إن الراجل ده وراه مصيبة كبيرة، والملف اللي جابته هاجر بالغلط من خزنته وديته لظابط زميلي في الأموال العامة.. وفعلا طلع احساسي في محله.. مصايب مش مصيبة واحدة.. ولما خلصوا تحرياتهم واتاكد لهم المعلومات.. أصدروا قرار بالقبض عليه يوم كتب الكتاب.. أنا مكنتش أعرف.. ده لسه مبلغني باللي حصل.. بس للأسف نصير هرب.. بس هيروح مننا فين ..هنجيبه..
هم ممدوح بالحديث، إلا أن الطبيب خرج من الغرفةليندفع الجميع نحوه في لهفة، وهو يفسر حالة أنس الوجود في نبرة رسمية: الآنسة تعرضت لصدمة عصبية شديدة وصلتها للحالة اللي هي فيها دي.. لكن مع الاهتمام والبعد عن أي ضغوط هتستعيد طبيعتها.. بإذن الله..
استأذن الطبيب مغادرا ليرافقه جمال الذي أكد على رغبته في سؤال الطبيب بعض الأسئلة التي قد تفيدهم في التحقيقات، كانت مجرد حجة مقنعة ليسأل الطبيب في اضطراب، بعد أن شرح له زميله الحالة التي وجدوا عليها أنس الوجود لحظة الاقتحام: أنا آسف في السؤال يا دكتور، بس هل المريضة ساعة توقيع الكشف عليها، ظهر عليها أثر اعتداء من أي نوع!..
هتف الطبيب متسائلا: تقصد ايه باعتداء!.. اغتصاب مثلا!.. لا يا حضرة الظابط.. كان فيه اثر كدمات بسيطة واضح إنها كانت بتقاوم فعلا اعتداء واقع عليها.. لكن مفيش أي أثر لاغتصاب.. اطمن..
ابتسم جمال هاتفا: متشكر يا دكتور.. ربنا يطمن قلبك..
عاد جمال لموضع جلوس ممدوح وهاجر، جلس جوارها في محبة، ومال هامسا وهو يضع كف هاجر الرقيقة بين كفه رابتا عليها: أنس بخير.. اطمني.. الدكتور أكد لي إنه مقدرش يأذيها.. أنس بخير والصدمة دي من أثر اللي حصل لها..
شهقت هاجر باكية: يعني هي بخير.. بجد أنس بخير!.. اوعى تكون بتضحك عليا يا جمال عشان تطمني!..
همس جمال مقسما: والله العظيم الدكتور أكد لي إنها زي الفل.. تفوق بس م الصدمة وهترجع زي الأول وأحسن..
سألت هاجر في تردد: تفتكر نبلغ أهلها فالصعيد.. ولا بلاش!..
هتف جمال مفسرا: من اللي فهمته من سراج أن الحالة مش ولابد هناك.. وده سبب سفر حبيب من الفيلا قبل كتب الكتاب ورجوعه الرسلانية.. اعتقد بلاش.. دي وجهة نظري.. هم فيهم اللي مكفيهم.. واعتقد ده هيكون رأي والدتها اللي لها الرأي الأخير ف الموضوع ده..
هتفت هاجر متنهدة: صدقت.. ولو على طنط برلنتي.. معتقدش إنها هتبلغهم.. أنت مشفتش كان شكلها ايه لحظة ما شافت حبيب قريبهم ده وهو داخل الفرح.. كأنها شافت عفريت.. وشها كان أصفر وعنيها مليانة دموع.. ولما بدأ يرقص اختفت خالص من الحفلة، لدرجة إني ملمحتهاش تاني إلا لما البوليس وصل والدنيا اتكركبت.. ونقلنا أنس ع المستشفى..
تطلع جمال صوب برلنتي التي كانت تجلس ساهمة لا تنطق حرفا بنظرة جانبية مطولة، قبل أن يغض الطرف عنها.. رابتا من جديد على ظاهر كف هاجر الرقيق القابع بأحضان كفه، مطمئنا..
❈-❈-❈
برن.. سويسرا.. ١٩٩٢..
طرقات على ذاك الباب الفخم من خشب الماهوجني صنعت دويا أشبه بالطبول تردد صداه في الغرفة الواسعة قليلة الأثاث.. دُفع الباب وتناهى لمسامعه صوت طرقات الحذاء العالي الكعب على أرضية الغرفة متأكدا من دنوها حتى توقفت عند بعد معين.. لتهتف في إنجليزية متقنة وبلهجة رقيقة: مرحبا جاك.. لازلت رائعا كما كنت دائما..
قهقه جاك ولم يحد ناظريه عن النافذة الزجاجية العريضة التي تطل على قلب برن.. عاصمة سويسرا.. هاتفا في نبرة عميقة وصوت متحشرج قليلا: وأنتِ ماتيلدا.. لا زلتِ مجاملة كبيرة تمطريني بالاطراء حين يكون الأمر متعلقا برغبة ما تسعين إلى تحقيقها..
قهقهت ماتيلدا مؤكدة: كان ذاك منذ زمن طويل چاك.. كنت ما أزال طفلة.. الآن قولي حق.. وأنت من تسعى لخدماتي بالمناسبة..
اتسعت ابتسامة جاك مبعدا ناظريه عن النافذة متطلعا نحو ماتيلدا الفائقة الجمال، هاتفا في نبرة رسمية: حسنا.. هاتي ما عندك..
تقدمت ماتيلدا الخطوات التي تفصلها عن مقعد جاك الوثير، مقدمة له ملف به بعض الأوراق.. وضع جاك نظارته الطبية القيمة في هوادة، وفتح الملف متطلعا للأوراق الواحدة تلو الآخرى.. هامسا في نبرة ساخرة: ما زال العبث مستمرا، ماتيلدا.. كنت أعتقد أن الأمر مؤقتا، ولن يستمر طويلا..
هتفت ماتيلدا مؤكدة: أخبرتك أن قرارك ترك الإدارة لمارك ليس بصائب.. لكنني غريبة عنك على كل حال وليس لي أن أعيب في أقربائك الأعزاء..
رفع جاك رأسه عن الملف متعجبا في نبرة معاتبة: كيف يخطر ببالك مثل هذا الخاطر الأحمق!.. ماتيلدا، أنتِ ابنتي التي لم انجبها.. منذ جاء بكِ سام صديق عمري.. والدكِ.. وأنت ابنة السابعة.. واضعا مقدراتك بين يدي.. موصيني برعايتك قبل وفاته.. وأنا اعتبرك بالفعل ابنتي.. عشرون عاما مرت.. وأنتِ ما زلتي صغيرتي العزيزة الغالية على القلب..
نهضت ماتيلدا منحنية تطبع قبلة حانية مفعمة بالامتنان على وجنة جاك المتغضنة، والذي ابتسم في سعادة متنهدا، قبل أن يعاود التطلع نحو أوراق الملف مجددا.. حتى ما أن وصل للصفحة الأخيرة.. طال تفحصه للمعلومات المدونة بها.. ليهتف أخيرا بنبرة حازمة: العبث وصل لمراحل لا يمكن السكوت عنها ماتيلدا..
هزت ماتيلدا رأسها في إيجاب موافقة، متسائلة: هل من خطة علينا اتباعها!.. أنا رهن إشارتك..
أكد جاك في صرامة: ما عاد اللعب من وراء الستار ممتعا، علينا الخروج لخشبة المسرح.. ذاك أكثر متعة.. أليس كذلك!..
تساءلت ماتيلدا في قلق: على ماذا تنوي چاك!.. نبرة صوتك غير مطمئنة بالمرة..
لم يجبها چاك، بل ترك الملف على الطاولة الرخامية قبالته، فوقه وضع منظاره الطبي.. معاودا التطلع نحو معالم برن من خلف النافذة العريضة من هذا الارتفاع الشاهق لناطحة السحاب التي يملكها.. لتسرح عيناه بالأفق البعيد..
يتبع...