رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 62 - السبت 20/9/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الثاني والستون
تم النشر السبت
20/9/2025
ـ وانكشف المستور..
الرسلانية.. الإسكندرية ١٩٩٢..
كان رنين الهاتف قد تخطى المرة الثالثة تقريبا حينما أنهى صبري الحفناوي ركعته الرابعة والأخيرة من صلاة العصر.. والتي فات أوانها ولم يلحق بها جماعة في الجامع القريب.. حين أخذته سِنة من نوم.. كان متكدرا وظهر ذلك جليا في نبرة رده السريعة، ما حث سراج على المزاح مجيبا: ايه يا حاچ! مين مزعلك!..
انفرجت أسارير صبري حين أتاه صوت ولده فتهلل مرحبا: يا مرحب يا حضرة الظابط!.. كيفك!.. ايه! روحت وجلت عدولي على رأي چمال!..
اتسعت ابتسامة سراج هاتفا: هو حد ياخد على كلام چمال برضك!.. هو جاللي إنه كان عندك .. وحكيتو كتير..
قاطعه صبري متخابثا: ايوه صح!.. ووجع بلسانه على موال بت الرسلانية.. جال صح يا سراچ!..
هتف سراج في اضطراب مقسما أن يفصل رأس جمال عن جسده: ايوه، بص يا حاچ، سيبك بس م الموضوع ده خليه لأوانه، وطالب منك يعني تاچي ع العرابة فأجرب وجت..
هتف صبري متعجبا: خبر ايه يا سراچ!.. ما أنت عارف إني حالف ما اعتبها برچلي..
تنحنح سراج مفسرا: معلش.. بس لازما تاچي.. عمي عدنان تعبان جوي..
سأل صبري متوجسا: تعبان كيف يعني!.. ما كلنا بنكبر وتعبانين..
هتف سراچ موضحا: عمي ف المستشفى يا حاچ، ومرضه صعب ملوش دوا.. خلاص.. هي مسألة وجت مش أكتر..
هتف صبري مذعورا: وووه..
استطرد سراج: نفس مرض أمي الله يرحمها وف مرحلته الأخيرة.. أركب أول جطر وتعالى..
ساد الصمت لبرهة، ليهتف صبري بعدها: أني چاي ف أول جطر.. بس مش النهاردة.. أول ما يطلع النهار هطلع ع البنك أسحب فلوس .. اهو محدش عارف الدنيا هيبجى فيها ايه عندك.. وتني چاي..
هتف سراج مؤكدا: عين العجل يا حاچ.. أول ما تحچز بلغني عشان استناك ع المحطة..
أكد صبري هامسا: بإذن الله..
أنهى صبري المكالمة الهاتفية مع ولده، ورأسه يدور بها ألف خاطر..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٢..
مرت عدة أيام منذ سمح الطبيب لأنس الوجود بمغادرة المشفى مع وضع بعض المحاذير على مرافقيها بعدم التحدث أمامها بما قد يثير حفيظتها وعدم ذكر أي ذكريات قد تكدرها وتثير حزنها أو غضبها على حد سواء مع الالتزام بتعاط الدواء في موعده المحدد والبعد عن أي مؤثرات خارجية تؤثر على سيرها نحو التشافي..
كانت عودة أنس الوجود مع برلنتي أمها لبيتهما الأصلي حتمية بعد أن تأكد لهما أن عقد الشقة التي وعد نصير أنس الوجود لاستقرار أمها بها بعد حادثة الزلزال عقدا وهميا، ومع بعض تحريات الأمن عرفت هاجر التي لم تفارق أنس الوجود للحظة أن حتى ذاك المأذون الموكل به عقد القران كان مزيفة أيضا.. نصير وضع خطة للايقاع بأنس بأقل الخسائر الممكنة، لكنها نجت من مكائده في اللحظات الأخيرة..
كانت أنس الوجود تتمدد على فراشها معلقة نظراتها بالسقف كعادتها عند استيقاظها من نومها..
تتداعى أمام ناظريها الكثير من الذكريات المشوشة و المتداخلة.. كثير من الأحداث والشخصيات ترتسم صورتهم أمام عينيها فيمروا مر الكرام.. إلا واحد فقط.. تسمرت صورته أمامها وأبت أن تتزحزح.. حبيب.. وبلا أي مجهود يذكر منها.. انسابت ذكرياتهما معا على شاشة الذكرى صوب ناظرها.. منذ وطأت قدماها أرض الرسلانية وحتى لحظة افتراقهما..
كان يقاطع انسياب ذكرياتها صوت الحديث الهامس بين أمها وهاجر بالخارج.. لم يكن عندها الفضول لتتابع ذاك الحديث فقد كان جل اهتمامها منصبا على تداعِ الذكريات المبهج الكائن أمام ناظري خيالها المنشرح لطلته من بين غيوم عقلها المشوش قليلا.. وارتسمت ابتسامة شاحبة واهنة على شفتيها.. لحظة.. وتعالى صوت مذياع أمها المعتاد والذي عافته منذ عادتا للمنزل.. وكانت هذه المرة الأولى التي يعلو فيها صوته بأرجاء المنزل منذ دخلتاه.. يبدو أن ذاك كان اقتراح هاجر للتسرية عن أمها..
أنساب صوت الألحان إلى غرفتها متناغمة مع ذكرياها عن حبيب.. وصوت أم كلثوم ذكرها بجرامفون الجدة صفية ومجلسهما هي وحبيب تحت التعريشة.. وانسياب الأنغام مع نسائم الليل اللطيفة.. الآن.. صوت أم كلثوم حزينا.. ومعاتبا..
كنت بشتاق لك وأنا وأنت هنا.. بيني وبينك . خطوتين.. خطوتين.. خطوتين..
شوف بقينا إزاي يا حبيبي.. أنا فين!.. وأنت فين!..
والعمل.. ايه العمل!.. ما تقولي أعمل ايه!..
سال خيط من دمع على جانبي وجنتيها في صمت مرافقا لوصول هاجر إلى الغرفة متطلعة نحو أنس في تعاطف، متسائلة: ايه ده إنتي صحيتي!.. طب سيبانا نقعد بره لوحدنا ليه! تعالي ياللاه اقعدي معانا احنا مستنيينك نفطر سوا..
همست أنس الوجود في هدوء، وهو تمسح دموعها عن خديها: مليش نفس يا هاجر.. كلوا انتو..
أكدت هاجر: لو مكلتيش أنا مش هاكل، وبعدين الدكتور مأكد على الأكل كويس عشان الأدوية.. مينفعش كده يا أنس.. إحنا ما صدقنا خرجنا من المستشفى.. ولا ايه!..
هزت أنس الوجود رأسها توافق صديقة عمرها في صمت، ونهضت في تكاسل مغادرة غرفتها للخارج.. حيث وضعت حميدة أطباق الإفطار على المائدة.. والتي ما زالت تتذكر الزلزال وصدمتها فتقفز فزعة نحو باب الشقة إذا ما استشعرت حركة مريبة أو سقط مصادفة شيء من أدوات المطبخ أرضا.. فتثير الضحكات على أفعالها المجنونة..
جلست أنس الوجود إلى المائدة تضع في فمها لقيمات هزيلة لا تسمن ولا تغني من جوع.. وصوت أم كلثوم يرسل بخواطرها وأفكارها إلى الرسلانية.. لتهتف في هدوء مريب تقر أمرا محتوما بالنسبة لها: إحنا هنرجع الرسلانية..
ساد الصمت لبرهة وبرلنتي قد تسمرت وتعكرت صفحة وجهها لثوان.. ثم تطلعت لهاجر كأنها تستغيثها فما عادت تعرف كيف يمكن أن تتعاطى مع ما يجري.. ما دفع هاجر لتسأل في هدوء: ليه يا أنس!.. عايزة تستجمي وتغيري جو! .. دي حاجة ممتازة.. الدكتور نصح بها.. هكلم جمال ناخد الشاليه بتاعهم اللي ف ال..
قاطعتها أنس الوجود مؤكدة في هدوء صارم: هنسافر الرسلانية عشان نتحامى ف أهلنا يا هاجر.. نصير ممكن يظهر عشان ينتقم في أي وقت.. مش هو هرب برضو!..
اضطربت هاجر لبرهة قبل أن تسأل في تعجب: عرفتي منين إنه هرب!.. ده محدش اتكلم قدامك عليه أو جاب سيرته بناء على تعليمات الدكتور..
أكدت أنس الوجود وهي تضم جسدها بذراعيها حين ذكرت نصير مؤكدة في نبرة مضطربة: نصير قال إن هو راجع.. لما حس بالقلق يومها.. هرب وسمعته جنب وداني بيقولي اوعي تفتكري إن اللي بينا خلص.. أنا مبسبش حقي.. ولسه حسابنا مخلصش..
شهقت هاجر في فزع، هاتفة وهي تهم بالنهوض: الكلام ده لازم يتبلغ لجمال.. لازم يحط عليكي حراسة.. محدش ضامن فعلا ايه ممكن يجرا..
هتفت أنس الوجود في ثقة: هناك.. وسطهم.. انتي متحامية، ولا حد يقدر يمسك طول ما انتي في حمايتهم.. عشت هناك لأيام واسابيع طويلة وعارفة أنا بقولك ايه.. وانتي كمان هتيجي معانا يا هاجر.. أكيد نصير مش هيسيبك انتي كمان..
همست هاجر مؤكدة: مطرح ما هتكوني هكون معاكي يا أنس.. هبلغ جمال بكل اللي قلتيه واشوف هيقول ايه..
كان الحوار دائرا بين أنس الوجود وهاجر وكأن برلنتي غير موجودة، لم ترد بحرف أو حتى الإدلاء برأيها فيما تسمع.. وكأن الأمر لا يعنيها وابنتها... وفجأة عند نهاية المحادثة ظهر صوت برلنتي الخافت هامسة في تردد: انا مقدرش أنزل الرسلانية .. أنا بنفذ وصية ابوكي.. يا ريتني كنت سمعت كلامه ولما رجعتي بعد أول مرة رحتي فيها كنت منعتك تعتبيها تاني.. مكنش كل الهم ده حصلنا.. ولا اتجرينا ف أمور ملناش يد فيها..
هتفت أنس الوجود في نبرة مهاودة، فيها بعض من تخابث: إنتي متأكدة يا ماما إن ده سبب عدم مرواحك هناك!.. هاااا..
اضطربت برلنتي مع هجوم ابنتها المبطن، مجيبة في نبرة متقطعة الأحرف: اه، وصية ابوكي لازم نحترمها.. هيكون ايه يعني!..
استشعرت هاجر أن الحديث أصبح خاصا وفيه كثير من الأمور الشخصية التي لا يجب عليها الجلوس والاستماع إليها.. فانسحبت في هدوء للداخل حيث الغرفة التي خُصصت لها، ولم تتنبه واحدة منهما لمغادرتها الهادئة، وأنس تستأنف حديثها في نبرة على الرغم من هدوءها، لكنها تحمل حنقا مبطنا: كتير كنت بستغرب من علاقتك بستي صفية.. فكراها يا أمي!.. أمك.. إزاي جالك قلب تقاطعيها السنين دي كلها!.. أنا مقلتش تزوريها عشان عرفت اللي خلاكي انتي وبابا بعاد كأنكم مقطوعين من شجرة، لكن ولا جواب ولا رسالة.. ولا حتى سألتي عليها مرة من المرات اللي رجعت فيها من الرسلانية!..
كانت برلنتي أشبه بأرنب مذعور وقع في شرك صياد وما عاد قادرا على الفكاك، فقط ينتفض بين الشباك في محاولة للهرب والافلات لكن بلا جدوى.. لذا ما كان منها إلا النهوض مندفعة نحو حجرتها لتغلق عليها بابها بعيدا عن جو التحقيقات الذي بدأته انس الوجود وعلى ما يبدو لن ينتهي إذا ما ظلت تجلس قبالتها ما دفعها للفرار.. لكنها كانت مخطئة.. فقد وجدت أنس الوجود تتبعها نحو الغرفة مفسرة في نبرة متهكمة: كنت زي العبيطة فاكرة إنك وبابا عشاق هربو من ظروف اتفرضت عليهم وكانوا عايزين يفرقوكم عن بعض بس انتو اختارتو تبعدو بحبكم..
هتفت برلنتي مؤكدة في اضطراب: ايوه.. هو كده.. هو ده اللي حصل..
قهقهت أنس عاليا، هاتفة في تهكم: إنتي لسه مصرة يا أمي تعيشي وتعيشيني ف الكدبة دي!..
أكدت برلنتي في حنق: مكنتش كدبة.. هو ده اللي حصل.. أنا وابوكي هر..
قاطعتها أنس الوجود صارخة: هربتو عشان كان قاتل.. أبويا كان قاتل.. قتل بالخطأ اه.. يعني مكنش يقصد.. مش متعمد.. بس إنك تتجوزي قاتل اخوكي الوحيد وتهربي معاه.. ده كان عادي بالنسبة لك!.. ولا كان في سبب تاني!..
بهت لون برلنتي مع كل الحقائق التي تكشفها أنس الوجود في قسوة، وسألت في نبرة مرتجفة: إنتي عرفتي الكلام ده منين!..
لم تجبها أنس الوجود، بل استطردت وكأنها لم تسمع تساؤلها من الأساس، مستمرة في كشف اللثام عن الكثير من الحقائق المطمورة تحت رماد الزمن الغابر: أقولك أنا ليه!.. عشان انتي عمرك ما حبيتي إلا رؤوف ابن خالك فضل.. واللي محبش إلا أختك أمينة.. فكراها دي كمان ولا نستيها يا أمي.. أختك التوأم اللي جيتو الدنيا فنفس اللحظة واللي كنتو روح واحدة.. إزاي جالك قلب تبقي عايزة تكسري قلبها وتطلبي من حبيبها اللي إنتي متأكدة إنه بيحبها إنه يتقدم يطلب ايدك إنتي مش هي!.. إزاي فكرتي تبني سعادتك على حسابها.. وازاي اعتقدتي إن ابن خالك رؤوف كان ممكن يوافق على عرضك المخزي ده!..
هتفت برلنتي وقد بدأت الدموع تنساب على خديها: أنا.. أنا عمري ما كرهت أمينة.. بس.. أنا..
هتفت أنس الوجود في نبرة حزينة: بس إنتي محبتيش إلا رؤوف.. كنتي بتهزي باسمه وانتي فالغيبوبة ف المستشفى وانا مكنتش أعرف مين رؤوف ده.. ولما رحت الرسلانية انكشف لي حاجات عمري ما توقعت إنها تتحجب عني واعيش كده وحيدة وأنا من أكبر عائلات الصعيد.. إنتي اختارتي بابا اللي فعلا كان بيحبك وعارف إن فرصة جوازه منك بقت مستحيلة بعد حادثة قتله الخطأ لخالي مصطفى.. ولما بعت لك الجواب بالهرب في نفس يوم الرفض من رؤوف لعرضك.. قلتي ههرب من الرسلانية واكون مع نجيب اهو واحد بيحبني.. ومقعدش قدام رؤوف وأمينة واشوفهم سعدا مع بعض.. واحسر قلب اهلي عليا.. وتعقبيهم على ذنب محدش ارتكبه غيرك..
ساد الصمت، ولم يتوقف بكاء برلنتي.. لتقترب منها أنس الوجود جالسة جوارها، تربت على كتفها في تعاطف مؤكدة: إحنا لازم نرجع الرسلانية.. وانتي قبل مني.. لسه في فرصة ترجع الميا لمجاريها.. وت..
هتفت برلنتي منتفضة معارضة: مينفعش ارجع يا أنس.. مينفعش.. إنتي مش فاهمة حاجة..
هتفت أنس متعجبة: فهميني..
اضطربت برلنتي ولم تجب، بل زاد نحيبها.. لتهتف أنس مهدئة: ماما!.. هنسافر الرسلانية مهما كان اللي مخوفك.. لأن اللي مخوفك تواجهيه هناك.. عمره ما هيجي حاجة جنب خوفك من ظهور نصير قدام الشقة ف أي لحظة.. هناك الأمان الحقيقي.. هناك الدفا اللي بجد..
نهضت أنس الوجود مغادرة الغرفة، تاركة أمها وحيدة لا تعرف ما عليها فعله لتغيير قرار ابنتها الصادم.. فبكت مجددا..
❈-❈-❈
المشفى.. قنا.. ١٩٩٢..
دخل صبري للمشفى بخطوات مثقلة بصحبة سراج ولده متجهين نحو غرفة عدنان، ليجدا حسان ابن عدنان الأصغر يقف في حزن أمام باب الغرفة، اندفع سراج نحوه متسائلا: ايه اللي جرا يا حسان!.. عمي بخير!..
هز حسان رأسه نافيا.. والدموع تملأ مآقيه مؤكدا: عمك الدكاترة عنده چوه .. تعب چامد من شوية وشكلها خلاص يا واد عمي..
خرج الأطباء تباعا من الغرفة، ليسأل سراج في لهفة: ايه يا دكتور!.. طمنا..
أكد الطبيب في نبرة محاولا بث طمأنينة زائفة: كله على الله.. عملنا اللي علينا بس مش هكدب عليك.. الحالة بتسوء.. نصيحة.. خليه يشوف حبايبه.. هو كان طالب أخوه اسمه صبري.. تقريبا..
انتفض صبري الذي كان جالسا على أحد المقاعد ما أن سمع الأخبار المتعاقبة، مؤكدا في لهفة: أني اهاا.. أني صبري..
أكد الطبيب: يا ريت تدخل له.. ده كان قاعد يكرر ف اسمك كتير.. بس متطولش..
هز صبري رأسه متفهما، واندفع نحو الداخل مغلقا باب الحجرة خلفه في هوادة، ظل مستمرا موضعه لبرهة يتطلع لجسد أخيه المسجى على الفراش الأبيض في هذه الغرفة البيضاء الباردة.. فانقبض قلبه.. اقترب نحو الفراش وما أن أصبح ملتصقا به حتى انحنى ممسكا بكف أخيه الأكبر هامسا: عدنان!.. أني هنا.. أني چيت..
فتح عدنان عينيه في بطء وتثاقل، وما أن وعى حقا أن صبري قبالة ناظريه، حتى ابتسم ابتسامة شاحبة تحمل فرحة واهنة، وهمس بنبرة خافتة: كنت عارف إن جلبك الطيب مش هيفوتني أروح من غير ما تطل عليا ولو مرة.. لآخر مرة..
همس صبري متأثرا بصوت متحشرج: متجولش كده يا ود أبوي.. هتجوم منها وتبجى عال..
همس عدنان وهو يتشبث بذراع صبري متسائلا في لهفة واهنة، وصوت أنفاسه يتقطع: لساتني بصح واد أبوك يا صبري!.. لساتني فنضرك أخوك الكبير..
ربت صبري على كف أخيه المتشبثة بذراعه مؤكدا بايماءة من رأسه: ووه يا عدنان.. ايوه.. أخوي.. هنكرها كيف طيب دي.. إحنا ولاد عامر الحفناوي.. اتربيتا فدار الحفناوية سوا.. وكلنا من طبج واحد.. ونمنا ففرشة واحدة.. و..
همس عدنان في حسرة: وچيت أني وضيعت كل ده.. بتغفيلي وجلة عجلي.. الدنيا دي غرورة صح يا صبري.. عملة واحدة غلط تعملها فحياتك.. تضيع حياتك كلها.. متفاتة.. ولا حد يعرف ميتا ولا كيف.. بس الحمد لله إنه كان لي نصيب ف شوفتك يا غالي.. بس بجولك... اسمعني زين.. كل الاوراج المهمة هتلاجيها مع حسان.. ضامن بها حجك كله.. في كل حاچة.. البيت والأرض.. البيت كله كتبته باسمك.. و..
هتف صبري معترضة: ليه كده!.. ما كل واحد ياخد حجه بالمعروف يا عدنان.. بلاها تزعل عيالك..
هتف عدنان ساخرا وهو يسعل: عيال!.. هم فين عيالي دول!.. وبعدين اعتبره تعويض عن أيام بعادك عن الدار وعيشتك فيها.. وانسى العيال.. ده لولا حسان ربنا يبارك له ويراضيه.. كان زماني مش لاجي اللي يناولني كباية الميا.. مش بجولك غرورة.. مليتها عيال بدل الواد عشرة.. ومن الحريم مرا واتنين.. وجلت عزوة وسند.. تاريها مش بالعدد يا واد أبوي.. كل واحد فيهم دنيته لهياه عني ومبجاش چاري إلا الصغير ده.. وصيتي تخلي بالك من حسان يا صبري.. ده مش هيبجاله حد بعدي.. وخايف عليه من أخواته.. خليه فطوعك وتحت چناحك.. و.. سامحني..
قال عدنان كلمته الأخيرة وما كان هناك من مجال لينطق صبري بكلمة بعدها إلا الاندفاع نحو الباب مطالبا بحضور الطبيب حين تغير وجه عدنان.. وبدأ في السعال الذي لم ينقطع.. ولكن عيناه كانت مثبتة على محيا صبري أخيه.. والأطباء يحاولون وسعهم لإنقاذه.. لكن قدر الله كان نافذا..
❈-❈-❈
الرسلانية.. ١٩٩٢..
نهب فرس حبيب الأرض نهبا حتى وصل لتلك القمة العالية التي يحلو له الانعزال فيها اذا ما ضاقت نفسه،واليوم الضيق مضاعفا.. ليس فقط من أجل ديون البنك التي لم يجمع حتى ثلثها.. ولكن لأنه أتخذ قراره لبيع فرسته.. التي كانت لأبيه وكان اباءها من نسل غرسة جده سعد العربية الأصل والنسب.. ترجل عن فرسته وأخذ في الربت على عنقها وجبينها الكهرماني لتصهل في رقة..
امسك حبيب بلجامها وتطلع الرسلانية كلها من موضعه.. وتوقف ناظره لنهاية زمام أرضهم.. قال له أبيه يوما أن كل أرض الرسلانية التي يرى حدودها من فوق هذه الربوة كانت ملكا لعبدالمجيد رسلان.. وسعد ولده من بعده.. حتى جاء الاصطلاح الزراعي بقوانينه الجائرة واقتص منها قطع من هنا وقطع من هناك.. ليعطي من لا يملك.. لمن لن يقدر قيمة أرض لم يشق ليجمع ثمن كل شبر فيها لسنوات وسنوات..
تنهد حبيب هامسا: واهو اللي باجي منها ممكن ف لحظة يروح..
تنهد حبيب يحاول أن يجمع أفكاره ليتذكر ذاك المدعو سمري.. الذي طلب شراء الأرض بأعلى سعر وهو رفض وقتها.. كان قادما من طرف أي رجل أعمال.. هو لم يهتم ساعتها لأن العرض كان مرفوض من البداية.. لكن الآن لم يعد الأمر مجرد عرض وتم رفضه.. ذاك إصرار غير مبرر على أرض هناك مثلها الكثير بكل الناحية.. أرض الحرانية على سبيل المثال.. لم لم يسع ذاك السمسار لشرائها!.. الأمر محير ويحمل الكثير من الأسئلة التي تحتاج لإجابة لا يملكها.. ولا يعرف من أين يمكنه البدء في البحث.. لا يملك طرف خيط يسير خلفه حتى ليعرف من هو عدوه.. وماذا يريد بالضبط!..
اندفع لصهوة فرسه منحدرا التلة نحو السراي.. عليه البحث في الأوراق القديمة لعله يجد أي خبر عن ذاك السمري والوصول إليه وإلى من هم ورائه.. فلعل معرفة العدو.. تسهل إمكانية محاربته.. فما بقى إلا أيام قليلة على تنفيذ الحجز ليس فقط على الأرض بل على السراي أيضا.. والعودة إلى العيش ببيت الرسلانية القديم..
وصل للطريق الترابي الطويل بأول النجع..فترجل مجددا ممسكا بلجام فرسته شاعرا برغبة في المسير حتى السراي بين غيطان الأرض التي يتلمس ريح اديمها فيحيي روحه.. ليمر بالمقهى المتواضع من تعريشة الخوص ومقاعد البوص والقش ملقيا التحية.. ليرد روادها في ترحاب.. وصوت الراديو الذي لم يخرس لعقود طويلة داخلها.. يرسل إليه مع النسيم البارد قليلا في مثل هذا الوقت من العام صوت محمد فوزي الشجي شاديا:
تعب الهوى قلبي والحلو مش داري..
ولأمتا هنخبي على بعض ونداري..
ابتسم حبيب في شجن، هامسا لنفسه: اهي راحت لحال سبيلها وصاحب نصيبها.. لا محتاچ أداري ولا أبوح.. لمصلحتها برضك.. كانت هتجعد تعمل ايه ب اللي أني فيه ده كله.. حجها..
صمت حبيب لبرهة، ولم ينتبه إلا وهو يكرر مع الأغنية التي كانت تصله نغماتها: مهما يودعني.. حبه ملوعني.. وحتى لو بعني.. برضو أنا شاري.. تعب الهوى.. قلبي..
❈-❈-❈
سويسرا.. القاهرة.. مطلع ١٩٩٣..
اقتربت تلك الطيارة من الأجواء المصرية ما دفع ذاك العجوز جاك للتطلع نحو الخارج عبر النافذة الزجاجية.. هامسا في شوق: انظري ماتيلدا، ستظهر الأهرامات بعد لحظات.. كم اشتقت إلى مصر.. أكثر من خمسة وأربعين عاما.. وأنا بعيد عن أجوائها..
ساد الصمت لبرهة، فقد أدركت ماتيلدا بخبرتها من طول معاشرة هذا العجوز ، متى عليها أن تتحدث ومتى عليها أن تصمت.. وهذه اللحظة كان الصمت هو الخيار الأنسب تاركة له المساحة ليستمتع بالمناظر العزيزة بالخارج قبل أن يحد ناظريه موجها حديثه لها، متسائلا: بالتأكيد جواسيس مارك عرفوا أني لم استخدم طائرتي الخاصة.. فأنا لم أكن كثير الأسفار في الفترة الماضية!..ما رأيك بخطتي!.. السفر بعد حفلة الكريسماس مباشرة وكأن الأمور تسير في رتابتها المعتادة..
ابتسمت ماتيلدا مؤكدة: كانت فكرة ذكية استخدام الخطوط الجوية السويسرية وعدم السفر بطائرتك الخاصة چاك.. فقد كان من السهل على مارك وجواسيسه تعقبها ومعرفة وجهتها.. وهذا من شأنه تدمير خطتك كلها..
ابتسم جاك وهو يتطلع للخارج مجددا، والمضيفة الرقيقة تؤكد أن على الجميع ربط أحزمة الأمان فالطائرة في سبيلها للهبوط بمطار القاهرة..
❈-❈-❈
الرسلانية.. ١٩٩٣..
توقفت أنس الوجود وبرلنتي عند موقف سيارات الأجرة وبدأت أنس الوجود بخبرتها التي اكتسبتها من الذهاب والآياب عدة مرات، من عقد صفقة مع أحد سائقي العربات، لتوصيلهما وحيدتين حتى باب سراي الرسلانية بأجر لا يقبل المساومة.. فوافق بالطبع في فرحة.. وبدأ رحلته نحو نجع رسلان..
كانت الرحلة بالنسبة لأنس الوجود رحلة حنين وشوق لكل شبر في ذاك الطريق الذي لطالما مرت عليه من وإلى السراي.. تطلعت في اشفاق نحو أمها.. لتجد برلنتي تجلس في تيه.. بوجه شاحب ونظرات زائغة.. ربتت أنس الوجود على كفي أمها الباردتين والمتشابكتين بحجرها، تحاول طمأنتها وهي تراها تفركهما في اضطراب كلما نهبت السيارة الطريق وشعرت بقرب الوصول لوجهتهما..
عبرت السيارة الجسر المفضي للطريق الترابي مارة بباب الزريبة الجانبي وشجرة الجميز.. لتقف أمام باب السراي.. نقدت أنس الوجود السائق أجرته وسقط ناظرها على محيا أمها الذي وللعجب.. لم يكن شاحبا كما توقعت.. بل كانت برلنتي هادئة تماما.. هدوء مريب وقد ترجلت من العربة قبل أن تترجل أنس الوجود التي ظنت أن أمها أدركت أن لا محالة من المواجهة.. لكن ما كان يحدث مع برلنتي أمر آخر تماما.. سارت الخطوات التي تفصلها عن البوابة الحديدية ووقفت تتلمسها في حنين جارف كأنها تربت على كتف عزيز غائب منذ زمن بعيد.. حتى أن وقوفها استرعى انتباه شبل الخفير فجاء مندفعا يستطلع من تكون المرأة الغريبة التي تقف عند البوابة الحديدية تتشبث بقضبانها كأنها مزار مقدس..
وصل شبل وما أن هم بالسؤال حتى ظهرت أنس الوجود بالصورة بعد أن تأكدت أن السائق انزل كل الحقائب من السيارة.. هلل شبل مرحبا وهم بالاندفاع ليخبر الجميع بعودة أنس وتلك الضيفة التي بصحبتها لكن أنس استوقفته أمرة: لا يا شبل.. أنا عملاها مفاجأة.. هات بس أنت الشنط من بره..
نفذ شبل أوامر أنس الوجود في طاعة عمياء، تاركا إياها وضيفتها تدخل السراي.. سارت برلنتي نحو الدرج المفضي للداخل في هوادة.. عيناها تلتقط كل تفصيلة حولها تقارنها بالصورة القديمة التي ظلت مطبوعة بذاكرتها كوشم مهما لا تبهت أو تزول مهما حاولت أن تمحها.. كان كل شيء كما كان.. جار عليه الزمن ولطخته فرشاة سنواته.. لكن ما من شيء اختلف عن تلك الصورة في الذاكرة..
صعدت برلنتي الدرج درجة درجة.. حتى توقفت جوار أنس على أعتاب السراي.. أنس التي ألقت نظرة جانبية خاطفة نحو التعريشة لعل حبيب قابعا هناك كعادته .. وهنا خانتها شجاعتها المؤقتة.. وبدأت برلنتي تشعر أنها ترتجف داخليا فتطلعت لأنس الوجود تطلب الدعم .. ربتت أنس على كتفها مشجعة هامسة: أنا موجودة جنبك ومعاكي اهو.. أدخلي..
وطأت أقدام برلنتي السراي في حذر.. وكانت مجرد خطوات ظهرت بعدها الجدة صفية قادمة من الداخل على كرسيها المدولب نحو غرفتها.. الغرفة الأقرب لباب السراي الداخلي..
ساد الصمت.. بل توقف دوران الزمن.. وبرلنتي تتطلع لأمها في تيه.. وصفية تتطلع لأبنتها بأعين مشدوهة غير مصدقة أنها حقيقة من لحم ودم تقف ماثلة قبالة ناظريها..
قررت أنس الوجود التدخل للمساعدة.. رابتة على كتف أمها تساندها.. دافعة بها برفق لتتحرك للأمام بديلا عن تخشبها بهذا الشكل.. اطاع جسد برلنتي وبدأت قدماها السير صوب موضع ثبات صفية وما أن وصلت إليها حتى انحنت في هوادة ترتكز على مشط قدمها لتصبح في مجال رؤية أمها.. تستزيد من النظر نحوها.. تتشرب قسماتها التي افتقدت.. وترى ما فعلت يد الزمان القاسية بملاحة ملامحها المتغضنة.. مدت صفية كفا مرتجفة نحو وجه برلنتي تتحسسه وكأنها ما تزال غير مصدقة أنها هنا.. ولحقت بها الكف الآخرى لتحتضن وجه برلنتي كاملا بين كفيها كأن لمسه لم يكن كافيا.. لتهمس صفية في صوت متحشرج قادم من بعد آخر: برلنتي!.. ايوه.. برلنتي.. بتي..
هزت برلنتي رأسها في تأكيد عدة مرات قبل أن تنفجر باكية مندفعة نحو أحضان أمها التي طوقتها بذراعيها في شدة حانية يعتصرها الشوق..
وأنس الوجود تشهد ما يجري ودموعها تسيل في غزارة.. تنبهت لظل قادم من الخارج فاستدارت قليلا ليكون وجهه أول ما طالعته.. هل حبيب وتوقف وقد أخذته صدمة وجودها بهذا الوجه الباكي.. هم بالحديث مرحبا.. لكنها أشارت لموضع أمها وجدتها فتنبه وظل موضعه يتابع ما يحدث ونظراته تحيد صوب أنس الوجود رغما عنه.. تطفيء قليلا بعضا من نيران الشوق المستعرة داخله منذ غادرت..
هتف صفية من بين دموعها، معاتبة: كده تعملي ف أمك العملة دي يا برلنتي.. كده!.. وتتچوزي مين! نچيب!.. نچيب واد سميح الحراني بعد كل اللي عمله فينا.. وجعد هو وولده يعملوه!..
لم تنطق برلنتي حرفا واحدا دفاعا.. ولاحظ حبيب ضيق أنس الوجود حين تم ذكر والدها.. لكنها نكست رأسها في هدوء.. وقد أدرك منورد فعلها أنها على علم بكل هذه الحقائق التي يتم ذكرها.. لتستطرد صفية مسترسلة: نچيب الحراني اللي سرج مني نور عيوني.. اخوكي مصطفى!.. ليه كده يا بتي!.. أختك أمينة اهي..
قاطعتها برلنتي صارخة، وكأن لحظة البوح قد جاءت أخيرا بعد صمت سنوات طوال: أمينة ومصطفى!.. كل الحكاية كانت أمينة ومصطفى.. مصطفى الواد الحيلة حبيب أبوه وأمه.. وأمينة الهادية العاقلة الراسية الي الكل بيحلف بعقلها وهدؤها.. لكن برلنتي.. برلنتي المجنونة.. برلنتي المتمة.. برلنتي العاصية أم دماغ ناشفة.. المدح كله كان لأمينة والحلو كله لأمينة.. حتى اسمي.. ستي أنس الوجود اللي اخترتهولي مش بابا.. اللي أختار اسم أمينة.. وعلى الرغم من أننا شبه واحد.. فولة واتقسمت نصين زي ما بيقولوا.. إلا إنه محبنيش.. عملت كل حاجة ممكن تتعمل عشان يحبني.. لكن حتى هو حب أمينة ومحبنيش..
كتم حبيب شهقة كادت أن تخرج من بين شفتيه حين سمع ذاك الاعتراف من خالته التي هز مرآها أوتار قلبه.. فكأنها أمه وقد بُعثت للحياة من جديد وتذكر صدمة أنس الوجود حين رأت صورة أمه مع أبيه بحجرته.. فعذرها الآن.. وعذرها أكثر اللحظة ودموعها تنساب على خديها وجعا على حال أمها التي استرسلت في اعترافاتها هاتفة: ايوه.. كنت بحب رؤوف.. ومحبنش حد زي ما حبيته.. أو كنت فاكرة كده.. كنت بموت وأنا شيفاكم كلكم متفقين إن هو لأمينة وأمينة له.. طب وأنا!.. وقلبي اللي كان بيتقطع كل أما اشوفهم سوا.. ومشاعري وأنا دايما بره الحسبة ف كل حاجة.. محدش حس بالنار اللي جوايا وأنا شيفاكم مهتمين بالعروسة ولبس العروسة وفستان العروسة.. لدرجة خلتني أتنازل عن كرامتي وابعت لرؤوف جواب.. قلت له فيه إني بحبه.. تفتكري رد عليا ب ايه!.. رجع الجواب لأوضتي كأنه مشفهوش.. زي صاحبته تمام.. مش متشافة.. كنت هكمل واقعد إزاي وده كله فوق طاقة احتمال عيلة يا دوب ١٨ سنة .. مكنتش تعرف م الدنيا إلا حدود السرايا دي.. والنجع ده..
هتفت صفية وهي تمسح دموعها معاتبة: تجومي تهربي مع نچيب!.. ملجتيش إلا نچيب يا برلنتي!.. نچيب اللي راح على يده اخوكي..
صرخت برلنتي صرخة مدوية في قهر وكأنها اكتفت من الإتهامات.. مؤكدة في قوة: نجيب مقتلش حد.. نجيب الوحيد اللي حبني بجد.. نجيب الوحيد اللي شاف برلنتي وشاف خوفها وضعفها وبرغم ده كله.. حبها.. حبها لدرجة تخليه يشيل ذنب مش ذنبه طول السنين دي عشان خاطرها.. نجيب مقتلش مصطفى يا ماما.. أنا اللي ضربت مصطفى بالنار..
شهقة عالية تشبه الصرخة اندفعت من قلب صفية لا شفتيها.. مصاحبة لصدمة حبيب وأنس الوجود.. ليسود الصمت..
يتبع...