رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 31 - جـ 2 - السبت 14/9/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل الواحد والثلاثون
الحزء الثاني
تم النشر الأحد
14/9/2025
في الخارج وبعد أن ألقى حسان بتهديده الأخير استدار ومشى مبتعداً في ظلام الفجر.
تنهدت صبر بيأس ومسحت دمعة هاربة ثم التفتت لتعود إلى المنزل، إلى حضن زوجها الذي كانت تخونه، والذي كان يمثل لها الأمان الوحيد في هذا العالم.
وما إن دخلت غرفتهما حتى تجمدت في مكانها.
كان أكمل يقف عند الباب، كشبح صامت خرج من العدم
لم يكن يرتدي سوى بنطاله وصدره العاري كان يعلو ويهبط ببطء، لكن نظراته كانت هي ما أصابها بالشلل.
لم تكن نظرات غضب أو صراخ.
كانت أسوأ
كانت نظرات هادئة، باردة، وفارغة تماماً من أي شعور سوى الازدراء والاتهام.
نظرات وكيل نيابة ينظر إلى مجرم مُدان.
ارتبكت صبر، وشعرت بأن روحها تفارق جسدها.
كل الدماء هربت من وجهها، وبدأت ترتجف بشكل لا إرادي.
_ أك... أكمل...
فتحت فمها لتحاول أن تتكلم، أن تشرح، أن تبرر، لكنه رفع يده ببطء، في إشارة قاطعة لتصمت.
_ اسكتي.
قالها بصوت هادئ ومخيف، صوت لم تسمعه منه من قبل.
_ متقوليش ولا كلمة متخلنيش أكرهك... أكتر من ما أنا كارهك دلوقتي.
كل حرف نطقه كان كالسوط يجلدها نزلت دموعها بغزارة، دموع الخوف والندم والفضيحة.
لقد انكشف كل شيء بأبشع طريقة ممكنة.
تقدم نحوها خطوة واحدة، وظل صوته على نفس الوتيرة الباردة والمميتة.
_ أنا خارج دلوقتي لما أرجع... ملقكيش في بيتي.
لم يضف كلمة أخرى
لم يصرخ، لم يهدد لم يسأل
لقد أصدر حكمه النهائي استدار وجذب قميصها ليرتديه ثم أخذ مفاتيحه وخرج من الغرفة ومن المنزل، تاركاً إياها واقفة في مكانها، محطمة تماماً.
سمعت خطواته وهو هينزل إلى الطابق السفلي، ثم صوت باب المنزل وهو يُغلق بهدوء.
هذا الهدوء كان أشد إيلاماً من ألف صرخة.
وقفت صبر للحظات، لا تعرف ماذا تفعل.
لقد طُردت
لقد خسرت كل شيء.
لم يعد لها مكان هنا.
فكرة العودة إلى والدها، إلى الرجل الذي كان السبب في دمارها كانت مستحيلة.
لن تعود إلى هذا الجحيم أبداً.
بخطوات آلية دخلت إلى المنزل وصعدت إلى غرفتها التي كانت تشاركه فيها
لم تأخذ شيئاً سوى حقيبة يدها وهاتفها.
لملمت بقايا كرامتها المبعثرة، ونزلت الدرج مرة أخرى.
ألقت نظرة أخيرة على هذا البيت الذي شهد على أسعد وأتعس أيام حياتها، ثم خرجت منه إلى الأبد.
في الخارج، كان ضوء الفجر قد بدأ في الظهور
أخرجت هاتفها بيدين مرتعشتين، وبحثت عن الرقم الوحيد الذي يمكن أن تلجأ إليه الآن.
انتظرت بقلق، وعندما جاءها الرد، قالت بصوت مبحوح ومختنق بالبكاء:
_ ليان... أنا... أنا محتجالك
❈-❈-❈
بعد أن عاد من الخارج وجد المنزل فارغ إلا من رائحتها لم يستطع أكمل الجلوس.
كان يطوف في الغرفة كوحش حبيس والغضب والألم يخنقانه.
كل ركن في الغرفة يصرخ باسمها، يذكره بكذبتها.
لم يعد يتحمل البقاء في هذا البيت في هذه البلدة ليوم واحد إضافي.
اتخذ قراره
سيرحل.
سيعود إلى القاهرة فوراً.
بدأ يجمع أغراضه بسرعة وعصبية، يلقيها في حقيبة السفر دون اهتمام. فتح خزانة الملابس ليأخذ بذلاته، فوقعت عيناه على ملابسها التي لا تزال معلقة، فصفق الباب بقوة وكأنه يحاول طرد طيفها.
عندما مر بجانب منضدة الزينة، توقف فجأة.
كانت علبة القطيفة الحمراء مكانها
مد يده المرتجفة وفتحها.
كان طقم الذهب الذي أهداه لها لا يزال هناك يلمع بسخرية في الضوء الخافت.
استغرب للحظة
لم تأخذه معها؟ لو كانت طامعة ومادية كما أظهرت المؤامرة، لكان هذا أول شيء تأخذه.
لكنه نفض الفكرة من رأسه بسرعة
ربما لم يكن لديها وقت، أو ربما كانت هذه حركة أخرى من حركاتها لتثير شفقته.
أغلق العلبة بقوة وتركها مكانها
لم يكن يريد أي شيء يذكره بها.
حمل حقيبته ونزل إلى الطابق السفلي ألقى نظرة أخيرة على المنزل الفارغ، ثم خرج وأغلق الباب خلفه بعنف كأنه يغلق فصلاً مؤلماً من حياته.
وصل أكمل إلى منزل عائلته في القاهرة.
كانت عودته مفاجئة لكنها كانت مصدر فرحة عارمة لوالديه.
استقبلته والدته نسرين بأحضان وقبلات.
قالت بسعادة غامرة وهي تتفحص وجهه
_ أكمل حبيبي حمد لله على السلامة وشك أصفر وتعبان ليه كده يا ابني؟
دخل والده إلى البهو على صوتها، وارتسمت على وجهه ابتسامة رضا
_ أخيراً عقلت ورجعت لبيتك ولأهلك أهلاً بيك يا ابني.
جلس أكمل على الأريكة بتعب، وألقى برأسه إلى الخلف.
_ أنا رجعت عشان أباشر شغلي. إجازتي خلصت.
نظرت إليه والدته بفرحة
_الحمد لله
سألته والدته
_بس ايه اللي خلاك ترجع فجأة كدة
لم يجيب أكمل
فهم والده أنه لا يريد الحديث، فغير الموضوع بذكاء.
_ المهم إنك رجعت من بكرة ترجع مكتبك وشغلك، وتنسى الفترة اللي فاتت دي كلها وانت بعيد عننا.
في اليوم التالي ارتدى أكمل بدلته الرسمية وصفف شعره بعناية ووضع قناع وكيل النيابة البارد الذي لا يرحم
عاد إلى مكتبه في المحكمة وغمر نفسه في أكوام القضايا والملفات
كان يعمل بضراوة من الصباح الباكر حتى وقت متأخر من الليل، يستخدم العمل كمسكن، كمهرب من التفكير، كطريقة لقتل أي شعور قد يتسلل إلى قلبه.
كان يجلس في مكتبه، يقرأ في قضية معقدة، عندما دخل عليه زميله وصديقه.
_ حمد لله على السلامة يا أكمل باشا نورت مكتبك.
إيه، قضيت إجازة حلوة في البلد؟
رفع أكمل عينيه عن الأوراق، وكانت نظرته فارغة وباردة.
_ الشغل عامل إيه؟ فيه حاجة جديدة؟
تفاجئ صديقه ببروده، لكنه أجابه
_ كله تمام.
فيه قضية نصب جديدة لسه جاية، شكلها هتاخد وقت.
قال أكمل باقتضاب.
_هاتها
_ بس دي قضية كبيرة، وإنت لسه راجع...
قاطعه أكمل بحدة لم يعتدها منه
_ قولتلك هاتها.
أخذ الملف، وفتح صفحاته، وعاد ليغوص في عالمه الجديد.
عالم من القوانين والمجرمين، عالم لا مكان فيه للقلب أو المشاعر.
لقد قرر أن يدفن أكمل العاشق، وأن يعيش فقط أكمل وكيل النيابة.
❈-❈-❈
كانت نغم في غرفتها تجلس على حافة السرير تحدق في الفراغ.
لقد رحل جاسر لكن وجوده ظل يملأ الهواء وكلماته التي سمعتها وهي تتلصص خلف الباب لا تزال تتردد في أذنيها، كانت تمسح دمعة غادرة تسللت على خدها عندما سمعت طرقة خفيفة على الباب.
لم تجب لم تكن تريد رؤية أحد
دخل جدها بهدوء بخطواته الثقيلة التي تحمل هموم سنين
رأها تمسح دموعها بسرعة متظاهرة بالقوة فتألم قلبه.
لم يعلق بل اقترب منها وجلس بجانبها على السرير تاركاً مسافة صامتة بينهما.
قال بصوتٍ دافئ يحمل حنيناً أبوياً
_وحشني الأكل معاكي على سفرة واحدة يا نغم هتفضلي زعلانة من جدك العچوز لميتى؟
لم ترد ظلت تنظر أمامها وكتفاها متصلبان.
كانت تحمله ذنب كل شيء، ذنب موت عدي الذي رفض طلبه وذنب تخلي الجميع عنها عندما تركها فريسة لجاسر دون أن يحاول استعادتها.
شعرت أنهم جميعاً وهو على رأسهم قد تخلوا عنها وتركوها للجحيم بمفردها.
تنهد الجد تنهيدة طويلة، تنهيدة رجل يحمل جبلاً من الأسف.
_أني خابر إنك شايلي مني كتير وحقك بس عايزك تعرفي حاچة واحدة يا بتي... إنتي وروح أغلى حاچة عندي في الدنيا دي.
أغلى من اسمي ومن أرضي ومن كل حاچة.
صمت للحظة كأنه يجمع شجاعته ليفتح جروحاً قديمة.
_يوم ما رفضت طلب عدي... مكنش عشان بقلل منه ولا بحرمه منيكي.
كان عشان خايف عليكي إنتي
عدي الله يرحمه كان حتة من جلبي، بس أني كنت عارفه زين كان بطبعه انطوائي ومتهور.
دمه حامي وعقله ساعات بيسبق تفكيره، مكنش هينفع معاه غير واحدة بتحبه حب يخليها تتحمل اندفاعه وتقلبه.
وأنتي... أنتي مكنتيش بتحبيه الحب ده كنت هظلمك وهظلمه لو وافجت.
ثم انتقل إلى الجرح الأعمق، الجرح الذي لا يزال ينزف في قلبها.
_ولما جاسر خطفك... أني غلطت، غلطت غلطة عمري، كنت جادر أرجعك غصب كنت جادر ألغي العجد ده وأخرب الدنيا بس خفت... خفت من الفضيحة وكلام الناس، خفت على اسم العيلة اللي بنيته طول عمري، ونسيت أحمي أغلى حاچة في العيلة دي... نسيت أحميكي إنتي.
نظر إليها وعيناه تلمعان بدموع الندم.
_بس ده ميمنعش إننا مكناش ناسيينك عمك سالم مكنش بيبطل يچيبلي خبارك.
كنا خابرين إن جاسر على كل جبروته مستحيل يسمح لحد يهين مراته أو يكسرها.
كنا مطمنين من الناحية دي بس الأهم... كنا واثقين فيكي إنتي.
اقترب منها قليلاً ونبرته تحمل فخراً وألماً في آن واحد.
_كنا واثقين إنك تجدري تليني الحديد في إيدك بطيبة جلبك، وبعجلك وحكمتك، جولنا... نغم هي الوحيدة اللي هتجدر تمحي التار ده من حياتنا هي الوحيدة اللي هتجدر تطفي النار اللي بين العيلتين.
راهنا عليكي... ونسينا إن الرهان ده كان على حساب روحك.
أمسك بيدها الباردة وشعر بارتجافتها.
_أني تعبت يا نغم تعبت جوي، فراج عدي كسرني، وخوفنا عليكي كان بينهش في جلبي كل يوم.
مبجاش فيا حيل لوچع تاني سامحيني يا بتي... سامحي چدك اللي حط حمله كله على كتافك وضعف وجت ما كان لازم يكون أجوى واحد عشانك.
كانت كلماته الأخيرة بمثابة انهيار كامل لدفاعاتها، رأت في عينيه حباً صافياً وأسفاً حقيقياً.
رأت رجلاً عجوزاً أثقلته الهموم والأخطاء ويطلب الغفران من حفيدته التي هي كل ما تبقى له من روح ابنه.
لم تعد تحتمل وارتمت في حضنه وانفجرت في بكاء عنيف، بكاء طفلة وجدت حضن أبيها أخيراً احتضنها الجد بقوة وضمها إلى صدره وترك دموعه تسيل على شعرها دون خجل.
كان حضناً يحمل كل اعتذارات العالم، وكل وعود الحماية وكل ألم الفقد والندم.
وفي ذلك الحضن شعرت نغم لأول مرة منذ شهور طويلة بأنها ليست وحيدة.
❈-❈-❈
بعد مرور ستة أشهر
كانت غرفة المستشفى تضج بالحياة والفرح.
ضحكات مكتومة، همسات سعيدة، ونظرات مليئة بالحب، كلها كانت موجهة إلى وعد التي تستلقي على السرير بتعب جميل، وإلى الكائن الصغير الذي ينام بهدوء في مهده بجانبها.
لقد أشرقت شمس جديدة على عائلة الرفاعي، شمس حملت اسم عدي.
كان الجميع حولها سند لا تفارق عيناه زوجته وابنه، وعلى وجهه ابتسامة فخر وحب لم تفارقه منذ لحظة الولادة.
اقتربت روح من وعد وقد برز حملها بوضوح ووضعت يدها على بطنها بمرح.
_ شايف يا سي عدي؟ أنا جايبالك العروسة معايا أهي.
بس لازم تطلع راجل وحنين زي عمك مالك عشان أوافق أجوزهالك.
ضحكت وعد وقالت وهي تنظر إلى سند بحب
_ وليه ميطلعش لأبوه؟ إيه مش عاجبك ولا إيه؟
رد مالك وهو يحيط كتف روح
_ لأ طبعاً سند على راسنا من فوق
بس أنا عايز اللي ياخد بنتي راجل رومانسي كده يعرف يقولها كلام حلو، مش واحد عملي زي أبوه ميعرفش غير الشغل وبس.
قال سند وهو يغمز لـوعد
_ العملي ده هو اللي جاب نتيجة في الآخر.
اسأل أختك كده هتقولك إني بعرف أقول كلام حلو أوي بس في الوقت الصح.
انفجر الجميع في الضحك في جو عائلي دافئ ومحب غابت عنه الأحزان لفترة، وحل محله الأمل بمستقبل مشرق.
❈-❈-❈
بعد عدة دقائق كان موعد تطعيم عدي الصغير.
طلب سند من نغم أن تذهب معه، ففي ساعات قليلة أصبحت نغم متعلقة بالطفل بشكل كبير وكان وجودها يمثل دعماً كبيراً لـوعد وسند
في عيادة الطبيب، وبعد فحص الطفل طلب الدكتور من سند شراء بعض الأدوية ومستلزمات الأطفال من الصيدلية المجاورة.
_ خليك هنا يا نغم إنتي وعدي، هروح أجيب الحاجات دي وأرجع على طول.
جلست نغم على أحد الكراسي في منطقة الانتظار، والطفل عدي ينام بهدوء بين ذراعيها.
كانت تتأمل ملامحه الصغيرة، أنفه الدقيق وشفتيه الصغيرتين.
وجدت نفسها تفكر في عدي الكبير في أخيها.
تذكرت آخر أيامه وتذكرت كيف ضحى بحياته في النهاية لينقذها من ذلك الجحيم.
شعرت بوخزة حزن وأسى، لكنها ابتسمت بحنان للطفل النائم، وكأن وجوده يعوض جزءاً من هذا الفقد.
كانت غارقة في أفكارها وذكرياتها عندما سمعت صوتاً رجولياً ينادي باسمها، صوتاً تعرفه جيداً صوتاً حُفر في ذاكرتها، صوت ارتبط في عقلها بكل الألم والدمار الذي عاشته.
_نغم.
تجمدت في مكانها للحظة مستحيل لا يمكن أن يكون هو، لابد أنها تتخيل لكن الصوت كان حقيقياً قريباً ويحمل في طياته ستة أشهر من الشوق والألم.
رفعت رأسها ببطء وقلبها يخفق بعنف كطائر محبوس لتلتقي عيناها بعيني
كان يقف أمامها جاسر لم يكن شبحاً، بل كان حقيقة من لحم ودم، أكثر إرهاقاً وأكثر وسامة بشكل مؤلم.
كل الكلمات التي حضّرها جاسر في عقله طوال ستة أشهر من الجحيم كل التهديدات كل خطط المواجهة، كلها تبخرت في لحظة واحدة تبخرت ما إن رأى نظرتها، لم تكن نظرة كره أو غضب كما توقع، بل كانت نظرة صدمة خالصة نظرة امرأة رأت شبحاً من ماضيها المؤلم، نظرة حفرت خنجراً جديداً في قلبه.
ستة أشهر، ستة أشهر ذاق فيها الموت في كل يوم وهي بعيدة عنه ستة أشهر وهو يبني آماله على وهم على احتمال واحد كان يعيش من أجله.
وفي تلك اللحظة، انزلقت عيناه بشكل لا إرادي إلى بطنها يبحث عن أي أثر أي دليل على الأمل الذي كان يتشبث به
لكنه لم يجد شيئاً بطنها كانت مسطحة لا تحمل أي دليل على وجود ثمرة ليلتهما الوحيدة.
شعر بلكمة باردة وقاسية في قلبه لقد تبخر آخر أمل كان يتشبث به.
لم يكن هناك طفل يربطه بها، لم يكن هناك سبب يجبرها على العودة لقد كان وحيداً في هذه المعركة.
شعر بخيبة أمل مريرة، لكن لهفته لرؤيتها كانت أقوى حاول أن يتكلم، أن ينطق اسمها مرة أخرى لكنها كانت أسرع منه
نهضت من مكانها بسرعة واحتضنت الطفل النائم بقوة كأنها تتحامى فيه من العالم كله، واستدارت لتذهب بل لتهرب
لكنه لم يسمح لها في حركة سريعة مد يده وأمسك بذراعها لم تكن لمسة قاسية، بل كانت تشبث رجل يغرق يتشبث بآخر قشة نجاة.
_استني.
حاولت أن تسحب ذراعها، لكن قبضته كانت قوية لا كقبضة سجان بل كقبضة رجل يخشى أن يفقد كل شيء.
قالت بصوت يرتجف، دون أن تلتفت إليه
_سيب إيدي...
قال برجاء لم يعتده رجاء لم يقلل من شموخه، بل أضاف إليه بعداً إنسانياً مؤلماً.
_لا مش هسيبك اسمعيني... أرچوكي اسمعيني بس.
_مفيش حاچة أسمعها كل الكلام اتجال وخلص.
قال بإصرار وأدارها برفق لتواجهه، لكنه حرص على ترك مسافة بينهما احتراماً للطفل الذي تحمله.
_مخلصش أنا مستعد اتنازل عن كل حاچة عشانك.
نظرت إليه بسخرية مريرة، تحاول أن تحمي بها قلبها الذي بدأ يضعف.
_تتخلى عن إيه؟ عن مراتك اللي اتچوزتها في نفس اليوم اللي خدعتني فيه مثلاً؟
_كان غصب عمي ضغط عليا مكنش قدامي حل بس كل ده ميغيرش إني بحبك أنا مستعد أبيع الدنيا كلها عشانك يا نغم.
ردت بقوة تستمدها من الطفل الذي بين ذراعيها.
_وأنا مش عايزة أتباع ولا أشترى أنا عايزة أعيش في سلام سلام إنت حرمتني منه.
قال برجاء لكن كبرياءه منعه من الانهيار الكامل كانت نبرته تحمل ثقل ملك يتنازل عن عرشه من أجل جوهرته الوحيدة.
_وأنا هرچعلك السلام ده هرچعهولك وهحميكي من الدنيا كلها بس ارچعيلي.
هزت رأسها برفض قاطع والدموع بدأت تتجمع في عينيها، دموع الخيانة التي لا تزال حارقة.
_كدب كل كلامك كدب أنا مش هصدجك تاني مش هجع في نفس الفخ مرتين.
قال بصوت أعلى قليلاً، ثم خفضه عندما تحرك الطفل بانزعاج.
_ده مش فخ ده حبي ليكي أنا بحبك يا نغم ومستعد أعمل أي حاچة عشان أثبتلك ده، اطلبي أي حاچة.
قالت نغم بكلمات نهائية وحاسمة، كأنها تطعنه في قلبه ببطء.
_طلبي الوحيد... إنك تخرچ من حياتي.
نظر إليها طويلاً يرى الإصرار في عينيها يرى الجدار الذي بنته حول قلبها، جدار يبدو من المستحيل اختراقه.
شعر بالهزيمة مرة أخرى لكنه لم يكن مستعداً للاستسلام ليس بعد.
أفلت يده ببطء كأنه يحرر طائراً يعرف أنه لن يعود.
ظل ينظر إليها وهي تخرج من المبنى، تسبقها دموعها التي تنزل بغزارة، تحرق روحها.
كانت تسير بخطوات سريعة، لكن قلبها كان يصرخ بها لتعود كيف وقعت في حب ذلك الرجل؟ ماذا قدم لها كي تحبه بهذه القوة؟ لو حكمت قلبها، لأجبرها أن تترك كل شيء وتسرع إليه تلقي بنفسها في أحضانه وتخبره أنها اشتاقت إليه حد الموت.
لكن عقلها الذي يحمل ندوب كل خيانة وكل كذبة، أبى الرضوخ بشدة.
لا لن تعود حتى لو كانت روحها بيده.
وقف جاسر يراقبها حتى اختفت عن الأنظار لم يتحرك ظل واقفاً كتمثال من الجليد، لكن بداخله كانت هناك براكين من الألم واليأس.
لقد خسرها لكنه لن يستسلم إذا كان عليها أن تكرهه لتبقى على قيد الحياة فليكن.
لكنه لن يتركها وحيدة في هذا العالم مرة أخرى سيبقى في الظل، يحميها من بعيد حتى يأتي اليوم الذي ينهار فيه جدارها أو يموت هو وهو يحاول.
يتبع...
