-->

رواية جديدة مقبرة الحب لوفاء الغرباوي - الفصل 4 - الأربعاء 1/10/2025


قراءة رواية مقبرة الحب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى



رواية مقبرة الحب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة وفاء الغرباوي


الفصل الرابع 

تم النشر الأربعاء 

1/10/2025


-حياتنا مثل القطار، يسير على القضبان دون توقف، يقف على أعتاب الكثير من المحطات، في وقتٍ وزمنٍ، ومكانٍ محدد، ونحن أولئك الركاب، لكل منا محطة بداية يبدأ منها، ولكن لا أحد يعرف متى موعد محطة النهاية،  حتى وإن كنت تعلم وجهتك جيدًا، لكنك لا تعرف قدرك أين سيكون!

كثيرون هم من يبتغون ويودون العودة إلى محطة ما من حياتهم، حيث أضاعوا فيها لحظاتٍ عدة من أعمارهم وهم يقفون على عتبات الانتظار، إنما وبكل أسف فإن قطار الحياة هذا، ليس له محطة للرجوع.


"داخل القطار"

-كانت "ليال"، تستقل القطار، ودقات قلبها  تسابقه سرعة،  ولا تدري أيهما أسرع، وصلت لمقعدها بصعوبة بالغة، بعد ما اقتحمت تلك الحشود الغفيرة من البشر العربات بحثا عن المقاعد، قامت بضم ابنتها بين أحضانها وكأنها تحتمي بها من غدر الزمان، والدموع تنساب على وجنتيها وتعالت شهقاتها دون إرادة منها، ومن منا يستطيع في تلك اللحظات أن يسيطر على حزن أو حتى تلك الشهقات التي تعترينا أثناء نوبات البكاء المفاجئة تلك! رفعت ابنتها على كتفها وكأنها تريد أن تطمئن بها وباتت تكتم تلك الشهقات فوق كتف ابنتها، فزعت الطفلة من أنّات والدتها وشدة تشبثها بها، حتى غرزت أظافرها بلحمها دون أن تشعر بذلك الألم الذي تسببه لتلك الطفلة الصغيرة، مدت الطفلة يدها ومسحت على رأس والدتها، وتحدثت إليها برفق بالغ: ماما، وكررتها مرةً أخرى بصوتٍ عالٍ، يملؤه الخوف والرهبة، لكنها لم تنظر إليها، ولم تنتبه لكلماتها، ولا تكاد كلماتها تصل إلى أذنيها.

وفي نفس اللحظة، كان هو يقبض على معصمه بشدة، وهو يحاول كبت جماح المفاجأة، ومشاعره الثائرة المبعثرة تلك، وهو يطيل النظر إليها، لم تغب عنه قط، وبمجرد سماعه لصوت تلك الطفلة؛ تحرك إليهما وابتلع مرارة حلقه وذكرياته الحزينة، المثبتة في عقله إلى ما قبل خمس سنواتٍ، حب الطفولة والشباب، ذلك الحب الذي يصعب اختزانه في الذاكرة وتراه أمام عينيك في كل مكان، إنها "ليال" حب حياته التي هربت دون أي مبرر، لتقضي على جميع آماله وأحلامه بالعيش معًا في رغد الحب والحياة، حتى أنه ومن حينها قد أغلق قلبه عليها، ولم يستطع أن يقوم بفتحه لأي امراة أخرى، ها هى تقف أمامه، وتحتضن طفلة، لقد كان من المحتمل أن تصبح طفلته منها لو أنها لم تختفِ دون سابق إنذار، ابتسم بمرارة، وكيف له أن يلومها! وهو لم يخبرها أبدًا عن حبه الشديد لها، كان دائمًا ينتظر الوقت الملائم، حتى يكون انتهى من دراسته، لكن من منا يعلم الغيب؟ أو ما هو آتٍ إلينا، سواء كان خيرًا لنا، أو شرًا، فلا يعلم كل شيء إلا الله، ونعم بالله العلي العظيم.

لم يستطع أن يشاهدها ولا أن يذهب إليها، أسرع الخطى بين الزحام حتى وصل إليها، وقف أمامها ووضع يده على الطفلة، مربتًا بهدوء على كتفها، وتارة أخرى يلامس خصلات شعرها المبعثرة حول وجهها، متحدثًا إليها بحنوٍ بالغ: متخافيش، ماما كويسة، تعالي معايا. 

وجلت الطفلة كثيرًا من ذلك الغريب الذى يجذبها إليه، وحين شرع في نزعها من بين أحضان والدتها، ازدادت الطفلة تشبثًا بها، ومع ازدياد سرعة حركة القطار، قام بجذبها عنوة، وبصوتٍ عالٍ ومهتز يخرج من بين شفتي ليال: سيبها، البنت خايفة. 

وحين تحدث إليها تعرفت على نبرات صوته القوية والمميزة، مما جعلها تترك الطفلة، لترفع بصرها إليه، رويدًا رويدًا، لتقع عيناها عليه وهو يقف أمامها، ويحتضن الطفلة وهومبتسمًا لها، استرقت النظر إليه سريعًا، ثم خفضت بصرها، كان الخزي يملؤها، وحين لاحظت السيدة التي كانت بجوارها أنه يعرفها، تحركت قليلًا، لتفسح له المجال، ليجلس بجوارهم .

"حياتك بين ماضٍ وحاضر؛ ماهي إلا مجرد ذكريات، تحيا بها، ويأخذك الحنين من وادٍ إلى آخر، قارورة الأحداث تمتلئ عن آخرها، إلا أنك تُفضل عدم تجاوز عنقها، والتطلع إلى المستقبل، حتى إذا ما فكرت بالخروج منها وتجاوز أحداثها، تجد ما فى القاع يقف أمام ناظريك، هل ستمضي قدمًا؟ أم ستعود أدراجك وتستدير للخلف تارة أخرى؟"

هذا هو حال "عمر سعد زناتي" أو كما يطلق عليه أصدقاؤه لقب "زناتي"، فتى يافع، ماهر بعمله، برغم كونه ما زال بعمرٍ صغير، إلا أنه استطاع بذكائه وفطنته أن يرتقي بعمله ويحصل على مركزٍ مرموق، فبالأمس فقط كان قد أتم عامه الخامس والعشرين من عمره، وحين قرر البحث عن مستقبل ناجح يمحي آثار الماضي، إلا أن الماضي أبى ذلك ووقف أمامه يعلن إصراره عن عدم التخلي، ها هي قد عادت "ليال" من جديد، لتقف أمامه بشحمها ولحمها، وبكل تفاصيلها التي كان وما زال يعشقها، أيعقل أن بعد كل هذه الليالي الساهرة التي قضاها بدونها، وهو يناجي طيفها، أن تعود ثانية؟

مر وقت ليس بالكثير، غفت فيه الطفلة وهو يضمها ويجعل من ساقيه سريرًا لها، لكي تطمئن إليه وتنام وهي قريرة العين، وبعد تفكير طويل، عاد من شروده، والتفت ناظرًا إلى تلك السيدة القابعة بجواره، وكان قد تملك الخوف منها، فظلت صامتة ولم تتحدث مطلقًا، إلا حين استطرد متوجهًا إليها بسؤالٍ واحد، ذلك السؤال الذي يظل يسأله لنفسه طوال السنوات الماضية، وهى وحدها فقط من تملك الإجابة عليه:

-ايه اللى حصل من خمس سنين يا ليال؟

-دفنت وجهها بين كفيها، وانهمرت دموعها الحارقة على وجنتيها، والألم يعتصرها من الداخل، وعادت بذكرياتها وهي ما زالت مغمضة عينيها، إلى الوراء حيث ذلك الماضي الأليم، تنهدت بعمقٍ من بين طيات صدرها، لتنفض آخيرًا ذلك السر الذى أثقل كاهلها، ولا يعلمه أحدٌ سواها هي وذلك الطرف الآخر المجهول، استطردت بمرارة حلقٍ، وبدأت تسرد عليه وتحكي له سرًا؛ ضاقت به ضلوعها لسنوات عدة، ولم تستطع أن تبوح به أو تخرجه لأي أحد:لما كنت بروح المدرسة في المركز، إنت عارف إن ده كان أقرب مكان لينا، وفي يوم وأنا بشتري حاجات قبل ما ارجع البيت، اتعرفت على واحد شكله راجل محترم، فى الأول كان بيسأل عن أحوالي  وعن المذاكرة، وقاللي إنه هيساعدنى فيها، لما عرف إني من مكان بعيد شوية، بس بعد فترة كان كلامه اتغير، وبدأ يقوللي كلام حلو، وكنت بقابله كتير وكان بيعمل كل حاجة تفرحني، وفي يوم قاللي إنه عايز يتجوزني، طبعًا زي أي بنت في سني فرحت جدًا، وسألته هتيجى البيت إمتى، علشان تقابل أهلي؟ 

فقاللي آه طبعًا هاجي في أقرب وقت بس يكون ظبط شوية حاجات ويجي، كل حاجة فيه كانت جميلة ومفيش بنت عاقلة ترفضها، زغلل عنيا وقاللي كلام كتير علشان أصدقه، ولما مشيت وسبته ورجعت البيت؛ عرفت إن فيه عريس متقدملي، وإنهم موافقين عليه، وقرروا يقعدوني من المدرسة، ساعتها حسيت إن روحي بتتخنق جوايا وإني هموت بجد لو ده حصل، جريت عليه تاني يوم وقلتله كل اللي حصل، أخدني وقعدني في مكان وفضل يحاول يهديني، ويقوللي متخافيش أنا مش هسيبك ومش هتكوني لحد غيري، وفجأة قاللي إحنا لازم نتجوز، وترجعي لأهلك وإحنا متجوزين، ونحطهم قدام الأمر الواقع، ساعتها كنت صغيرة وبحبه وهو كان ليه تأثير كبير عليا، ومش فاهمة الصح من الغلط، وللأسف وافقته على كلامه، وروحت معاه من غير تفكير، وحتى معترضتش ولا طلبت إنه يجي البيت الأول ويحاول مع أهلي ويطلب إيدي، وافقت علطول ومشيت معاه، من كتر الحلو اللي كنت بشوفه منه، نساني اسمي والشيطان عمى عنيا.

وبدأت دموعها في الإنهمار بشدة، فلم يتمالك أعصابه وكأنه فقد القدرة على النطق، فأدار وجهه بعيدًا عنها، وقام باحتضان الطفلة بقوة من فرط غضبه، حتى رددت عبارة واحدة زادت من لهيب صدره وجعلت عينيه وكأنهما تفيضان جمرًا مشتعلًا من هول ما وقع على أذنيه.

-بس متجوزناش!

كلمة واحدة تحرق كانت قادرة على إشعال الحريق في كل ما هو أخضر ويابس منه، فنظر بدهشة لتلك الطفلة التي ترقد على ساقيه وهوغير مصدق ولا يستوعب أن تكون طفلة غير شرعية، وحين لاحظت شروده ونظراته المتفحصة نحو الطفلة، هزت رأسها بالنفي وهي تردد: والله دي بنت حلال، أنا اتجوزت. 

-استشاط غضبًا وصاح فيها بشدة؛ فتوجهت نظرات جميع من بالقطارصوبهم: احكيلي الحقيقة بسرعة! 

لقد نهش القلق قلبه وأكل من روحه، كل ذلك من أجل حب دفين بصدره منذ سنوات، فعاودت حديثها مرة أخرى، ليحيي رماد قلبه بوزغٍ أكبر مما مضى. 

❈-❈-❈

"لا أعلم إذا ما  كُنت أشكو لكِ منكِ، أم أنني أشكو قلبي إليكِ، ففي كلا الحالتين، أنتِ القاضي والمالك، فسلامٌ على فؤادٍ رمم العشق أوصاله"

-ليلةٌ من ليالي ألف ليلة وليلة أمضتها "حياة" برفقة "حمزة"، ذلك الطبيب الذي قد قرر دون سابق موعد، أن يقوم بتقطيب جراحه، ولكن تلك المرة كانت دون مخدرٍ، وتعلو على شفتيه ابتسامة جذابة، ولكنها كانت تثير حفيظة حياة، الفارق الوحيد هنا؛ أن حياة كانت تنتظر حلول الصباح، لتجد عفو حمزة عنها ويا له من عفو، فهي تعي جيدًا حجم جرمها وتعلم جيدًا ما اقترفته من أخطاء، مرت النصف ساعة الأولى وكأنها ساعات لا حصر لها، فما زال هو يمسك بهاتفه، ويبتسم خلسةً بين حين وآخر، يجلس وهو ممد الساقين، ومسترخيًا بمقعده، ويختلس النظرات إليها خفية، وهى تنام فى فراشها، لكن قلبها بين يديه، وعقلها لا يفكر إلا به، وعيناها لا تبرحانه.

لم تمر سوى لحظات إلا ودق هاتفه، فانتفضت من مكانها وهبت جالسة، نظر إليها ثم  الهاتف بين يديه، وتحرك نحو الشرفة وهو ينظر إلى الهاتف وكأنه على موعد مع مكالمة غرامية.

-دقت ألهبة النار في أوصالها عندما بادرها قائلًا: خليكي مرتاحة، أنا هتكلم بره.

-هبطت مسرعة من الفراش، وتبعته بلا تفكير دون أن ترتدي حتى وشاحها، ولم تلتقط سوى آخر حديثه إلى الطرف الآخر: أنا جاي حالًا متقلقش، إن شاء الله هتبقى كويسة، وحين استدار بوجهه ليعود إلى الغرفة؛ اصطدم بها، فتحدثت إليه بنبرة عالية: إنت رايح فين دلوقت، إيه اللي حصل؟

-أزاحها جانبًا ليتمكن من الدخول إلى الغرفة، ولم يتفوه، ولم يجب على سؤالها سوى بكلمةٍ واحدة: خارج، عندك مانع؟!

-لا معنديش، بس طمني عليك. 

-معتقدتش إنك عايزة تطمني عليا، إنتِ عايزة تعرفي أنا رايح فين وخلاص.

-حمزة، اسمعني، أنا عايزة أتكلم معاك شوية.

-لا، مش فاضي، لما أفضى نبقى نتكلم، ما كان قدامك فرص كتير للكلام، وعمري ما اعترضت لا على كلامك، ولا على صوتك العالي!

تركها مكانها حيث تقف ودلف إلى دورة المياه، وحين خرج توجه إلى خزانة الملابس، ينتقي زيًا مناسبًا، ولكنه احتار في اختياره، فقام بسؤالها: أيهما أفضل؟

ليزيد من جنونها المحبب إليه ويقوم بإثارة غيرتها عليه، فلربما يفلح الأمر وتغير من نفسها، فزفرت غاضبة: هو إنت رايح ميعاد غرامي؟! ما تختار أى لبس وانزل بسرعة، أكيد التعبان مش هيستناك لما تتشيك! 

-ومين قالك إنه مش ميعاد غرامي؟! وبعدين على رأيك ألبس أى حاجة، ما هو كده كده أنا اللي بحلي اللبس، وبعمله قيمة.

وأرسل إليها نظرة خبيثة، وتركها تشتعل غضبًا، وقام بارتداء ملابسه، ونثر الكثير من العطر الفواح، ووقف أمام المرآة؛ ليصفف شعره بعناية ويهندم ملابسه، وهو يختلس النظر إلى إنعكاس صورتها أمامه في المرآة.

كانت تغلي وتفور داخليًا، لكنها لا تملك القدرة على التحدث إليه، لم تعرف ماذا تفعل، لقد شعرت بجرح غائر في كرامتها، أو شبه إهانة لها بسبب طريقته الغريبة معها، نظرت إلى الأسفل وعادت أدراجها متجهة نحو الفراش، تلحفت بالغطاء لتخفي كسرتها ودموعها .

أما عن حمزة فقد شعر وكأن نظراتها خناجر مسومة قتلته حيًا، فانكسارها وضعفها جعل قلبه يدمي جراحًا، لم يكن يتمنى يومًا أن يحدث ذلك، ولكن هى من بدأت؛ وعليها تحمل عواقب أفعالها، ولكنه تساءل كثيرًابينه وبين نفسه، عما إذا كان سيتحمل عذابها وحزنها!. 

-"يا لكِ من حياة تقتلينني دومًا، اعتدتك شامخة عالية، ماذا ستفعلين بي أكثر من ذلك؟"

ألقى عليها نظرة أخيرة بطرف عينيه قبل أن يتوجه إلى باب الغرفة للخروج، جال بخاطره أن يعود للداخل مرة ثانية، دخل حمزة دون أن يطرق الباب، فوجدها تعقد أصابعها والحسرة تملأ وجهها وظهرت ملامح الدهشة والتعجب على وجهها: إنت رجعت ليه؟ نسيت إيه؟

-لم يجبها، ولم يلتفت إليها من الأساس ولكنه وقف أمام المرآة، قام بنثر عطرًا أكثر، وخرج مسرعًا وأغلق الباب من خلفه، لقد بدأ خطوات ترويضها له، وما عليهما سوى التحمل للمرور من عنق الزجاجة، انتابها شعور مؤلم بالوحدة وهي تجلس وحيدة فى الغرفة، أزاحت عنها الغطاء وجلست واضعة رأسها بين كفيها، وقلبها ينعي نفسه، ويكاد ينفطر حزنًا وألمًا، والدموع تنساب من عينيها وتبكي بحرقة على نفسها، ففى تلك اللحظة أصبحت "حياة" بلا حياة.

أفاقت من شرودها على صوت طرقات على الباب، ولكنها لم تأذن للطارق بالدخول، ولكنه دخل من تلقاء نفسه، رَفعت عينيها، التي تحولت إلى اللون الأحمر من شدة البكاء، ووجهها الممتلئ بالعبرات، فوجدت ريهام تقف أمامها مباشرة، حاولت التحدث أو الصراخ، لكن دون فائدة لقد خانتها قواها، رأتها فى أضعف حالاتها، فأعادت خفض رأسها ثانيةً بين ركبتيها، جلست ريهام على مقعدٍ بالقرب منها ولم تتحدث، وكأنه اختبار صامت للنظرات، ومن منهما ستبدأ بالتحدث أولًا، حتى بدأت ريهام بصوتٍ هادئ ممزوج بالقلق:  أنا عايزة اتكلم معاكِ. 

ظلت تنظر إليها دون حديث، أو إجابة، فتابعت ريهام حديثها: أنتِ عارفة إنى مش بحبك، ودى حقيقة مش هقدر أنكرها، بس عمرك سألتِ نفسك مرة؛ أنا بكرهك ليه؟

تحدث صفير الليل، وأعلن عن نفسه بدلًا من صمتها، حتى تابعت ريهام: عشان إنتِ شبهي، وبتفكريني بنفسي زمان، ومش عايزاكِ تعيشي زيي، ولا ابني يتعذب وتعيشي بكبرياء، والناس تاخد عنك فكرة مش صح، وإنتِ قلبك غير كده، حمزة شافك من جواكِ، بس أنتِ بتضغطي عليه، أنا هحكيلك من الأول، ووقتها إنتِ نفسك هتتغيري، وتتمسكي بحمزة أضعاف تمسكه بيكِ.

❈-❈-❈

"يا أحلى امراةً بين نساءِ الكونْ أحبيني
يا من أحببتك حتى احترق الحب احبيبني 
إن كنتِ تريدين السكنة، أسكنتكِ فى ضوء عيوني
حبك خارطتى، ما عادت خارطة العالم تعنيني"
-كانت تلك نغمات انتشرت في الممر بين غرف الأخوات الثلاثة، أبدعت ريم فى اختيارها، فتسنى لحمزة أن يسمعها حين كان خارجًا من الغرفة، ابتسم بسخرية لمعرفته الحقيقة، وتزامن ذلك مع خروج حسام من غرفة ريم، فوقعت عيناه عليه ليجده متأنقًا للغاية، فأطلق صفيرًا عاليًا: إيه الشياكة دي؟ رايح فين كده؟ ده اللي يشوفك يقول عريس، أكيد إنت خارج مع حياة، أيوا يا عم يا بختك. 
-لا، ونظر إليه والحزن يملأ عينيه، فتوقف حسام عن المزاح، وتنقل بنظراته بين حسام وبين غرفته والألم يقطر من ملامحه.
-ربت على كتف أخيه: خير، إن شاء الله كله هيبقى تمام.
-فتنهد بضيق ووجع: مش باين، اشوفك بعدين، سلام.
تحرك كل منهما باتجاهٍ عكس الآخر، فهنالك من يتلهف للوصول إلى حيثما ترك قلبه، والآخر ترك قلبه عندها ورحل، علها تدرك أنه هو البداية والنهاية.
دلف حسام إلى غرفته فوجد إضاءة خافتة، دار بعينيه في أنحاء الغرفة فلم يجدها، لكن عطرها المميز كان يفوح وينتشر من حوله في كل مكان، فانشرح صدره وأخبره أنها هنا، انتبه على حركة خفيفة من خلفه، ففطن بأنها تقف خلف الباب، ليست مختبئة منه، إنما هو الخجل الذي تتمتع به، ولن تتخلى عنه، خجلها ذلك الذي يميزها عن الأخريات، لقد رأى الكثير منهن، لكنها هي وحدها من استطاعت أن تسرق فؤاده وتأسر روحه، بطفولتها وعفويتها وهدوئها الذي يمتص غضبه، لم يزد عليها حتى لا تخجل أكثر، فتوجه نحو الفراش وجلس عليه، وهمس باسمها وكأنه ترياق شفاء لكل شيء يؤذيه في الحياة: حور!
نداء من ثلاثة حروف، فيه دواء لكل داءٍ، ما عدا الخجل الذي يزيد شوقه ويجعله أضعافًا، تحركت بخطى ثقيلة فى اتجاهه، تسحب بيدها وتقبض على ما ترتديه من السندس والإستبرق الأخضر، لون وجهها مخضب بحمرة الخجل، حين تراها يخيل إليك كأنها حورية من أهل الجنة تقف أمامه، لم يصدق ما تراه عيناه حينما دارت حول نفسها كطفلة فى العاشرة من عمرها، تحاول أن تثني خجلها وخوفها جانبًا تجاه معشوقها وزوجها، وتتحلى ببعض الجراءة للمُضي قدمًا بحياتهما الزوجية، انحنى على قدمٍ واحدة أمامها؛ ممسكًا بيدها مقبلًا إياها، ناظرًا إليها بحب وكأنه يحتضنها بعينيه، ألقى على مسامعها من الكلام ما يذهب العقول دون شرب الخمر، ويهوى بالقلوب إلى قاع جبل عالٍ.
تمنت "حور" لو تستطيع الاختفاء عن ناظريه، لقد أشعل الجمر بوجهها، وخرج قلبها من بين ضلوعها، لم تتحمل كثيرًا وهو أيضًا، احتضنها ماحيًا ستار الخجل ذلك، ليحل محله سكينة وهدوء داخلها، وداخل قلبه الذى أصيب باختيار معشوقته؛ ليبدأ حياة زوجية سعيدة، وعلاقة قائمة على أسس دينية صحيحة.
‏"عندما تنتابك مشاعر محددة لا تقهرها، وتحبسها في أعماقك، دعها تخرج فلا شيء أسوأ وأثقل من مشاعر تخرج متأخرة في غير محلها، ابكِ في اللحظة المناسبة، ابسط ذراعيك للفرح حين يأتي، عبر عما تريد، اصمت في الوقت المحدد للصمت، وانفجر غضبًا حينما تحس بالحاجة لذلك، واندم على ما يستحق، عدا أن تكون متأخرًا".
***
-تنهيدة تتلوها أخرى، خرجت من صدر ريهام وباتت أنفاسها تعلو وتهبط من مرارة الذكريات، وتمر أمامها كشريط عرض سينمائي فتغمض عينيها بشدة، حتى تتلاشى من ذاكرتها، بدأ جسدها يرتعش ويخيل إليك حين تراها وكأنها تسير بالخارج فى ليلة شتاء شديدة البرودة، هبط قلب حياة خوفًا عليها، فقامت مسرعة وتحركت من مكانها، واحتضنتها بحنو بالغ حتى تطمئن، وأخذت تربت على كتفيها، وانقلب الوضع وكأن الابنة هي من تحتضن والداتها؛ حتى استكانت بين ذراعيها، وبعد أن هدأت قليلًا، استطردت حديثها: أنا أصلًا أهلى من الريف، بس خالتي كانت متجوزة فى اسكندرية، مكانتش بتخلف وكانت بتحبنا أنا وأختي جدًا واعتبرتنا بناتها، بس هي اختارت تاخد أختي تعيش معاها، علشان جوزها كان مسافر وهي لوحدها، كنت بحس بالفرق بيني وبين أختي لما كانت بتيجي تزورنا، عارفة إنها مكانتش تقصد إنها تبين إنها أعلى أو أحسن مني، بس كنت بغير منها!
تفجر ينبوع من الدموع من عيني "ريهام" لدرجة أنها تناثرت على ملابس حياة، وشددت على احتضان حياة لها، كما لو كانت طفلة في العاشرة تختبئ بحضن والدتها، وليس امرأة تجاوز عمرها الخمسين عامًا. 
-ترقرقت دموع حياة، وانحنت برأسها فوق رأس ريهام مقبلة إياها، وتخبرها بعطفٍ بالغ: كملي أنا سمعاكِ.
-بللت شفتيها بلسانها، فقد بدأت تشعر بأنه قد جف ريقها، ومسحت دموعها بظهر كف يدها، واردفت بشجنٍ، وذكريات عمر مضى، يضاعف عمر "حياة": أنا مش بكرهها يا حياة، أنا كرهت العيشة اللي كنت عايشاها، كرهت إنها تكون أحسن مني، كنت بتمنى أكون معاها، أو أكون أنا مكانها، ولكني أصريت وذاكرت وتعبت، ودخلت كلية تجارة فى القاهرة، بس برضه كنت دايمًا مختلفة عن أهل القاهرة، كنت بكره البنات اللى بيبصولي من فوق، أول ما شفت شريف كان بالنسبالي فرصة كبيرة، يمكن محبتهوش فى الأول، بس بعد كده والله حبيته، بس معرفتش أبين مكانش ينفع، كان لازم أفضل بنفس القوة، وميبقاش في نقطة ضعف واحدة في حياتي، أنا طول عمري قوية! ورفعت بصرها نحو حياة، بعيونٍ دامعة حمراء، وابتعدت بنفسها قليلًا عن حضن حياة، وجففت دموعها، وأردفت قائلة: عرفتي ليه بقا إنتي بتفكريني بنفسي، بس أنا ليا عندك طلب.
-نظرت لها حياة نظرة دهشة، وهي تضم حاجبيها باستفهام؟! 
-خلي بالك من حمزة، هو فاهم إنى مش بحبه، وهزت رأسها بالنفي يمينًا ويسارًا: الحقيقة إني خلفته فى وقت أنا مكنتش لسة اتصالحت فيه مع نفسي، ومعرفتش اسيطر على انفعالاتي وعواطفي، حاجات كتير راحت مني، ومستمتعتش بحياتي، بس أكيد لسة مفاتش الأوان يا حياة، ووضعت يدها فوق يديها، وبنبرة بالغة العطف والحنو: إيدي في إيدك نرجع الحب والدفا للبيت دا، وقبل أن تغادر الغرفة استدرات تجاها: الحب اللي في عنين ابني ليكي، خلاني احكيلك حاجات جوايا محدش يعرفها، بس لو حمزة سامحني، شريف كمان هيسامحني، اللى راح من العمر أكتر من اللي جاي.

"من السهل أن نخطئ، وسهلٌ أيضًا ينكسر الزجاج، لكن من الصعب أن يعود كما كان، أو يستعيد وضعه الحقيقي، لكن علينا أن نستغل تلك القطع الصغيرة؛ فى خلق لوحة أفضل".
توقف القطار فى المحطة، وتوقفت معه ليال وقامت بضم ابنتها إلى صدرها، وصوتها يتهدج وبالكاد يخرج مهزوزًا من أعماقها:
-دي المحطة اللي بنزل فيها، أشوفك مرة تانية يا عمر، وهمست بصوتٍ يكاد يكون مسموع: يا عالم من يجمعنا تاني، وقبل أن تنهي كلماتها، رفع عمر حقيبته فوق كتفه، وهب واقفًا إلى جوارها: 
-يلا بينا.
الجمتها الصدمة من رد فعله، فتحركت بجواره دون أن تتحدث، هبطا كلاهما من القطار، وبدأ القطار يطلق صفيره، وتحرك بضعة أمتار ببطءٍ قبل أن يزيد من سرعته، وظل عمر يتنقل بناظره بين القطار وبين ليال نظرات مليئة بالحزن، وهو يتساءل بينه وبين نفسه:
-يا ترى يا حِلمي البعيد، سيبتك فى القطر؟ ولا نزلت معايا هنا؟
بدأ القطار يزيد من سرعته أكثر وأكثر، ويكأنه يسرق حلم عمر ، ولكن هناك واجب أكبر من الحلم عليه أن يحفظه ويصونه، انتبه عمر إلى اللوحة المدون عليها اسم المحطة، علم أنه بمحافظة الشرقية، فلم يتعجب كثيرًا، وتسير ليال من أمامه، وهو يتبعها من خلفها حتى وصلا إلى موقف الحافلات، واستقلا الحافلة، وبعض مرور نصف الساعة، أخبرته ليال أنه المكان المنشود للنزول، نزلا سويًا ووقفت ليال مترددة أمام السوق، تود أن تقوم بشراء بعض الأغراض للطعام، فقط ما يكفي لإطعام طفلتها، ولكنها ترددت كثيرًا ولم تعرف ماذا تقول، إلا إنه شعر بها فباردها قائلًا:
-تعالي نروح مكان عام نتغدى فيه، وتكمليلي باقي الحكاية وإيه اللي حصلك، أنا مش هسيبك غير لما أعرف كل حاجة، اخفضت رأسها إلى الأرض، كما لو كانت فقدت القدرة على الكلام، ولا تدري ماذا تقول! 
فقام عمر بإعلاء صوته قليلًا ليجذب انتباها، فأومأت برأسها إيجابًا، وبدأ في التحرك والتوجه سويًا لأقرب مكان، حتى عثرا على مطعمًا مناسبًا، دلفا إليه وجلسا في أقرب مكان، وما زالت تحتضن ابنتها، لاحظت هي أنه يثبت ناظره عليها، فسمحت لنفسها بالكلام: 
-شبهي، صح؟
-ارتسمت على شفتيه ابتسامة لا إرادية: تحسيها إنتي وإنتي صغيرة، ثم تذكر بغتة ما كانت تخبره به ليال فقضم الكلام، وتلاشت الابتسامة تدريجيًا، وعاد العبوث يحتل ملامحه: كملي اللي حصل.
-شردت بنظرها قليًلا واعتلت الحسرة وجهها وبدأت قطرات من الدموع تتجمع وتنساب على وجنتيها: آخر يوم ليا في البلد، اليوم اللي خرجت فيه للمدرسة ورحت قابلت الشخص اللي حكتلك عنه ومرجعتش تاني بعدها، اتحركت معاه وروحنا للمكان اللي قال إننا هنتجوز فيه، وقفت جنبه على باب الشقة، وفجأة حسيت بالخوف بيدب جوايا، مش عارفة إيه اللي حصللى، حسيت برعشة في كل جسمي، ومبقتش قادرة أدخل، ولقيت نفسي برجع لورا وبدأت أعيط وكأني بصرخ، وفجأة لاقيته حط إيده على بقي، وبيقول لي اسكتي الناس هتسمع بينا، فبدأت أبعد إيده عني ومعرفتش، ولقيته بيشدني ويدخلني الشقة غصب عني، مر وقت طويل وأنا بحاول أهرب وهو بيحاول يشدني لجوا، وفجأة ظهر راجل كبير في السن كان نازل على السلم وشاف كل اللي حصل، وخلصني من إيده بأعجوبة، وفضل يسمعني كلام وحش جدًا ويغلط فيا وقال لي أبشع الألفاظ، وقال لي يا رخيصة، وسبني أنا وأهلي، وفضل يخوفني ويقول لي وريني بقى هترجعي غزاي تاني لأهلك بعد ما هربتِ منهم، وكل ده والعجوز واقف يسمع، وقتها حسيت إني عريانة، ومبقتش شايفة قدامي، الدنيا دارت بيّ وأغمى عليّ، ولما فقت لقيت الراجل الكبير ده قاعد جنبي، وبيقول لي حمد الله على السلامة.

يتبع...

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة وفاء الغرباوي، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة