-->

رواية جديدة مقبرة الحب لوفاء الغرباوي - الفصل 5 - الإثنين 6/10/2025

 

قراءة رواية مقبرة الحب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى



رواية مقبرة الحب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة وفاء الغرباوي


الفصل الخامس 

تم النشر الإثنين 

6/10/2025


إنها الحياة يا صديقي، لا تأمنها، ولا تأمنيه، فإما أسود أو خرفان.

لا تأمن


-دخلت ريهام إلى غرفتها مسرعة فوجدت شريف مضجعًا في أحد زوايا الفراش ويطالع أحد الكتب، رفع بصره مسترقًا نظرة سريعة إليها، ثم عاود النظر إلى الكتاب مرة ثانية، ترددت كثيرًا ما بين الحديث أو التوجه إلى النوم مباشرة، ولكنها آثرت الحل الثاني، فذهبت لاستبدال ملابسها، وعادت إليه لتتخذ زاوية الفراش الأخرى ملجأً لها، قامت بتخفيف الإضاءة قليلًا، وتزاحمت في صدرها العديد من الأفكار، وشعرت بأن نظرة شريف لها مختلفة كليًا عن ذي قبل، وباتت لا تدري لماذا يعتريها كل ذلك القلق، فإنها ليست أول مرة يتحدثان، ولكن تلك المرة مختلفة كليًا، هي واثقة من ذلك، مرت حوالي خمس دقائق قبل أن تقوم بإشعال الضوء تارة أخرى، فاعتدلت بجلستها ونطقت بتلعثم:

-أنا عايزة أتكلم معاك! 

-ظل على وضعه، وما زال صامتًا لا يعطي لها اهتمامًا.

-تابعت حديثها بإصرار أكبر: أنا مش وحشة، ولا بكرههم، أنا خايفة اللي حصل بيننا زمان يتكرر تاني، أنا نفسي أصلح اللي عملته زمان، ويا ريتك تفهمني وتقدر، وتساعدني علشان أقدر أصلح كل اللي فاتنا، في حاجات كتير أنا عملتها غلط، وعارفة كويس إنك اتحملتني بكرم بالغ وكتير جدًا، وسامحتني أكتر، وحاولت معايا كتير إني أصلح من نفسي وأكون أحسن، لكن والله غصب عني، أنا وقتها كنت لسه جاية من البلد وكنت بعاني من حاجات كتير وجعتني في حياتي قبلك، وكان جوايا ضعف قد الكون، وكنت فاكرة إن لو ظهرت حقيقة مشاعري هكون ضعيفة، وإن القوة اللي كنت بتظاهر بيها دايمًا مجرد قناع، علشان خوفي من إني أتظلم أو أتجرح تاني، وهمست برجاء بالغ من القلب، وقد بات واضحًا بنبرات صوتها المنكسرة: سامحني وأنا هتغير زى ما انتم عايزين، وإن شاء الله أصلح اللي حصل قبل فوات الأوان.

وحين انتهت من كل كلامها، أغلق شريف الكتاب الذي كان بين يديه وهم بالرحيل من الغرفة، وتوجه خارجًا ثم قام بإغلاق الباب من خلفه، ابتسمت بمرارة والألم يعتصر قلبها، ورفعت يديها إلى السماء تناجي الله عز وجل، وتتضرع إليه، بأن يحمي أسرتها، ويجمع شملهم مرة أخرى من جديد، ويصلح ذات بينهم، وأن يرزق أولادها الذرية الصالحة، واسترجعت وعادت بذكرياتها إلى الوراء مرةً أخرى، إلى ما قبل ذلك بسنوات عدة، ذلك العمر الذي أرهقها ولم تستطع حصره، وتعبت من كثرة عده: هتندمي إنك هتبيعي حبي علشان الفلوس، وبكرة تشوفي!

-وهو أنا كنت من امتى بحبك؟!

-كان عندي أمل إنك تحبيني يا ريهام! 

-وأفضل عايشة هنا في الريف! مستحيل أقبل إني أكمل باقي عمري هنا، أنا لازم أبنى حياة أحسن لنفسي، انساني أحسن أنا مش هنفعك، شوف واحدة غيري تريحك وترتاح معاها وتقبل إنها تكمل حياتها جنبك هنا في البلد دي، أنا خلاص أخدت قراري، وتذكرت كلماته الأخيرة إليها قبل أن ترحل تاركة إياه حين باغتها بجملة واحدة: يا رب تحققي السعادة اللي بتحلمي بيها،  واشوفك مرتاحة دايمًا مرتاحة.

أفاقت من شرودها وعادت من رحلة ذاكرتها على تلك الكلمات، وهي تردد في نفسها، ربما دعوته الصادقة هي ما أفادتها، لأنه حقًا كان صادقًا في مشاعره، ولكن الغلبة دائمًا للنصيب، ولعبة القدر تلك التي لا تتوقف.

           ****

"لَمْ أُحِبَّ الصَّيْد يومًا،  لَكِن حين أحببتك سقطت في عشقه، حَتَّى أتعلم المعنى الحقيقي لأن أصبر عَلَى مَكْرِك يا صغيرتي وَنِصْفِي الْآخَر".

-خرج حمزة من السرايا وهو لا يدري أي وجهة سوف يوليها، وضع إحدى يديه في جيبه، والأخرى يحمل بها الهاتف، وظل يسير حتى رفع عينه، وأرسل نظره إلى السماء؛ فوجد القمر بدرًا مكتملًا، إنها ليلة نصف الشهر، يا لجمال القمر وهو تحيطه نجمات صغيرة وكأنها ترسم عقدًا مضيئًا من حوله! رأى وجه حياة يملأ القمر، على حين غفلة؛ يبدو وكأنه قد ضغط زرًا في هاتفه عن طريق الخطأ، ليرتفع صوت عبدالحليم وهو يشدو:

"كل حاجة فكرت فيها في لحظة واحدة، ردت عليها بنظرة حلوة من عنيها، الأمان في عنيها"

وأي عينان تلكما،  فإنهما تملكان حنانًا لامثيل له، وقوة مثل الصقر، وطفولة مختبئة بداخلها يراها هو فقط، إنها حياته وحياة قلبه وعمره، نظر إلى التُرعة بمحاذاة الطريق الترابي، فتذكر بعض الأشخاص وهم يرمون نهارًا بسناراتهم في المياه ويظلون بالساعات يتابعون  الأسماك وينتظرون أن تلتقط ذلك الطعم، إنه يكره الصيد للغاية، ولكن هرب من حياة بعض الوقت لتفتقده ولو قليلًا، سيحبه من الآن فصاعدًا، ويتعلم فنونه ولو القليل منها. 

على بعد خطوات سمع صوت ينادي باسمه، فالتفت مستديرًا للخلف ليجد والده أمام عينيه، فتوقف قليلًا عن السير، حتى وصل إليه، وسارا سويًا دون حديث لوقت ليس بالقليل، فهناك مشاعر متضاربة ومختلطة، ومزيج من الأفكار التي تشغل عقل وبال كل منهما، فتساءل شريف بينه وبين نفسه، عما إذا كان يمكنه  التحدث إلى ولده، وإفراغ ما بداخله، عله يستريح ولو قليلًا، من تلك الهموم المتلاطمة والتي تجثم فوق صدره، فقام بهز رأسه وكأنه يتحدث إلى أحدهما، وبابتسامة ساخرة أخذ يتحدث بصوتٍ مسموع قليلًا: يعني بدل ما تهون عليه، عايزه هو اللي يسمعك، وتاخد رأيه، الظاهر إنك خرفت يا شريف.

-ولكن بالفعل قد سمعه حمزة وشعر بما يجول بخاطره: وإيه يمنع يا بابا؟! دا أنت لسه قايل من شوية إني سندك وعكازك.

-لم يدر بخلد شريف أن صوته كان مسموعًا، ولكنه آثر التحدث إلى ولده؛ لكي يزيح عن صدره تلك الأعباء، التي ظل يحملها طيلة حياته: هحيكلك يا بني.

وبسرعة شرع شريف بسرد كافة التفاصيل كاملة لولده، وقص عليه ذكريات من عمر مضى، ومشاعر مكبوتة داخله، لم تعرف يومًا طريقها إلى النور، فهناك ألم ينخر بقلبه من أفعال والدته، ولكنه ونظرًا لحبه الشديد لها؛ تغاضى عن كل شيء، ولكن بسبب وجوده هو وإخوته، وخاصةً "ريم" أبى أن يجعل الفراق هو مصير تلك العلاقة التي كانت تثقل كاهله كثيرًا.

-تفهم حمزة وضع والده، وقام بالتربيت على كتفه، وفهم ما يرمي إليه والده، وهو أنه يحاول أن يتحلى بالصبر على حياة، لعل الأيام ترمم تلك الشروخ.

❈-❈-❈

"اقتحمت دنياي دون سبب، وكلما سألتك كان جوابك، بأن تاهت روحي ولم أجدها، فلما عَثرتُ عليكِ

عادت لي روحي ثانيةً، فالروح للروح سكنًا، وإني سكنتُ إليكِ قبل أن ألقاكِ"

حضر النادل وقام بتقديم الطعام، وبدأت ليال تلوك بعض الطعام بفمها، وإطعام طفلتها تحت نظرات "عمر"، التي لم تبرحها هي والفتاة الصغيرة: وبعدين حصل إيه بعد كده؟، والبنت دي بنت مين؟

-هدأت وتيرة صوتها قليلًا، وبدأت تشعر بالارتياح؛ لإزاحة هم ثقيل يجثم على قلبها، وقد كاد أن يقتلها: الراجل ده كان كريم معايا جدًا، وحكيت له كل اللي حصل، قال تعالي وأرجعك لأهلك.

-فقاطعها متسائلًا والدهشة تعلو تقاسيم وجهه: ليه مرجعتيش؟

-أنا سيبت فضيحة لأهلي ومشيت، لو كنت رجعت كانوا هيستقبلوني بالأحضان يعني، مؤكد كانوا قتلوني.

-وبدأ الغضب يجتاح صدره: يعنى عارفة إن اللي عملتيه فضيحة وعار لأهلك؟! متعرفيش هم عاشوا ازاي، ولا إخواتك، والناس مبترحمش، مفكرتيش غير في نفسك وبس، وحتى أنا؟

-قامت بقضم اللقمة التي كانت بفمها، ووضعت بقيتها بالطبق، وحمدت الله علانيةً، وضمت صغيرتها لصدرها بعد أن بدأ النعاس يداعب عينيها، بعد أن امتلأت معدتها وهدأ أنينها، على عكس والدتها، فهناك غصة تركت بحلقها مرارة الحديث، والماضي الذي يلاحقها بأي أرض حلت ويلحق عارًا بابنتها مستقبلًا: خليك عارف إن الأصل غلاب، ولما أنا غلطت مرة وربنا سترها معايا، كان لازم أخد بالي كويس، أنا فكرت كتير أرجع لأهلي، بس كنت عايزة جوزي يكون معايا، وحد يقف ويدافع عني؛ حتى وأنا غلطانة، عشان كده مقدرتش أرجع ليهم.

-وأنتِ شايفة إنك كده اللي عملتيه هو الصح؟! فين جوزك؟ 

-عادت بذاكرتها قليلًا إلى الوراء قبل خمس سنوات حينما أحضر لها الحاج محمود عريسًا:

-اتجوزيه يا بنتي، ده السواق بتاعي، وراجل أمين وهيحفظك ويصونك، وأنا أعرفه وأعرف أهله كويس.

-بس ممكن يعايرني عشان  مليش أهل، ويجي عليا ويظلمني، كان عقلي فين وقتها لما سمعت كلامه ومشيت ورا وسوسته ليا، أنا اللي عملت ده كله في نفسي. 

-فاقترب منها وربت على كتفها بحنو: هاخد عليه عهد زي عهد الدم، بكل اللي تحبيه، ولما تتجوزوا ارجعي لأهلك، وأنا هاجي معاكم.

فعادت من ذكرياتها، وفاضت دموعها أكثر مما سبق، فنهرها عمر بحدة:

-أنتِ بتنقطيني بالكلام ليه، احكي متخافيش، أرجوكِ طمنيني.

-فانهارت أكتر وبدأت تسرد عليه كل ما حدث: اتجوزنا شهر وقررنا نرجع، وقبل يوم من الرجوع عمل حادثة هو والحاج محمود، وماتوا! ولما فقت من الصدمة عرفت إني حامل، أهله طردوني وهانوني جامد وحاجات كتير حصلت منهم، وفجأة لقيت نفسي لوحدي، لكن ربنا كريم ومش بيسيب حد، الناس عطفت عليا لحد ما خلفت، واهو زي ما أنت شايف، بربي بنتي.

-بضحك تهكم وسخرية: وأنتِ بقى عايزاني أصدق الفيلم ده، الحكاية دى تحكيها لعيل صغير، يمكن يصدقك، لكن أنا لا! وهب واقفًا، واستعد للرحيل، ومد يده إليها وجذبها بعنف: من النهار ده متمشيش من دماغك، اصبري لما نشوف الدنيا واخدانا لغاية فين، وأخرج بعض النقود من محفظته، ووضعها على الطاولة، وسار بمحاذاتها والطفلة تسكن أحضانها. 


بعد وقت قليل من السير، توجب عليهما ركوب إحدى وسائل النقل العام، انحشر بصحبتها داخل الميكروباص للوصول إلى بيتها، جلس إلى جوارها وهي محتضنة طفلتها، وهو يضم إليه حقيبته، وبعد قرابة خمسة عشر دقيقة، وصلا إلى المكان المراد، فنزلا سويًا، وباغتته هي بسؤالها: هشوفك تاني؟

-دون أن ينظر إليها، وهو يتلفت بعينيه إلى الحارة التي تقطنها، ولكنه أجابها بكلماتٍ صادقة: مش هسيبك أبدًا، من النهاردة أنتِ بقيتِ أمانة معايا، والأمانة بتبقى حمل فوق كتاف صاحبها، ادخلي شقتك مش هينفع ادخل معاكي، ولكن قبل أن يرحل ويتركها، تذكر أنه كيف سيتواصل معها: أنتِ معاكي موبايل؟

-فأخرجت هاتفها الصغير: معايا ده!

-فالتقطه بخفة، ونسخ الرقم لديه ودون لها رقمه: أنا سجلتلك رقمي، لو عوزتي أي حاجة كلميني. 

فتركته واستدارت لتدلف إلى داخل شقتها، وبعد أن سارت خطوتين، سمعت صوته يحدثها:

-متخرجيش من البيت أبدًا بدون علمي، وهتلاقيني قريب منك!

التفتت إليه بوجه مظلم وعابس: هترجعني لأهلي؟ 

-تنهد بصوتٍ عالٍ، وكاد أن يقترب منها، ويقوم بتكسير عظامها، ويدكها دكًا، ولكنه لا يستطيع: مش قلتي لازم لما ترجعي يبقى معاكي جوزك، وحد يقف يدافع عنك قدام أهلك، اطلعي دلوقتي، دا كلام سابق لأوانه.

وصعدت إلى المبنى، وظل ينظر إليها ويتبع أثرها حتى اختفت عن ناظره، فأعاد وضع الحقيبة فوق ظهره مرةً أخرى، وبدا التجول في الشوارع، باحثًا عن سكنٍ له بالقرب من المكان الذي تقيم به، فهو لا يريد تركها أبدًا، وقف حائرًا لا يدري ما يمكنه فعله، لكنه وجد يدًا قوية فوق كتفه الأيسر، وصوت خشن أجش: 

أنت مين؟ بقالك ساعة واقف تلف هنا، ورايح جاي، قول لي إنت مين، وعايز إيه؟ ولا أشوف لي صرفة معاك؟

أدار عمر وجهه، ونظر بقوة لعيني الرجل، نظرة أسد لا يهاب صفعاته على كتفه، ولا صوته القوي ذلك، فوجد رجلًا يبدو أنه فاق الخمسين من عمره، لكن له هيبة وحضورٌ قوي، فأجابه: أنا غريب عن المنطقة وبدور على سكن، ده باختصار شديد، يا ترى تعرف مكان ولا تدلني على حد!

-الشارع ده كله أهل ومعارف، إيه نزلك المكان ده؟ وليه عايز هنا بالذات؟

-رجلي دبت هنا، والظاهر ربنا كاتب ليا أكل لقمة عيش في البلد دي، ودي أرزاق يا حاج، ملناش فيها. 

-نظر بهدوء وخفف من حدته: أنت منين؟  شكلك باين عليه أنك ابن ناس ومتربي. 

-من أرض الله الواسعة، كنت قاصد مكان، وربنا بعتني لمكان تاني بعد عمر، علشان أمانة حملها تقيل أوي، قال جملته تلك وهو ينظر حيث تسكن ليال، فلاحظ الرجل نظراته:

فمد الرجل يده له مصافحًا إياه: اسمي "منصور حسنين" مقاول، اسم الكريم إيه؟

-عمر زناتي، بشتغل نقاش 

-أشار الرجل إلى حيث تسكن ليال: في أوضة فوق سطوح البيت ده، ده بيتي على فكرة، أنا صاحبه وساكن في الدور التاني. 

-معلش يا حاج، لو في مكان تاني غير البيت ده بالذات!

-تعجب الرجل كثيرًا من أمره، فقبل قليل لاحظ دخوله إلى الشارع بصحبة ليال وابنتها، وبرغم أنه يبحث عن سكن، إلا أنه يرفض نفس العقار التي تقطن فيه، سولت إليه نفسه أن هذا العُمَر يخبئ الكثير والكثير، فبرغم أنه لم يرتقِ في التعليم إلى مراكز عليا، إلا أن خبرة الحياة أكبر بكثير، فشعره الأبيض ليس عمرًا وإنما تجارب وخبرات اكتسبها من حياة السوق، تنحنح لإجلاء صوته: تعال اقعد معايا على القهوة نتكلم شوية، نشرب شاي وندردش.

-امتثل عمر لكلام الرجل الوقور فور سماعه، وتوجها معًا إلى مقهى قريب من منزله.

❈-❈-❈


"هناك من يعشقك دون شروط، ويكون شرطه الوحيد هو أن تحفظ قلبه من الغدر، فليس هناك أمر من ألم القلوب".
-مع أذان الفجر قرر حمزة ووالده الذهاب إلى أقرب مسجد لأداء فريضة الصلاة، ومن ثم العودة إلى السرايا، وصلا إلى مشارف البوابة الخارجية، رفع بصره إلى الأعلى فوجدها تقف في شرفتها، رغم الضوء الخافت والمسافة البعيدة؛ إلا أن قلبه يكاد يُقسم برؤية عينيها، الدموع تغيم بداخلهما، ويصحبها القلق، ولكنها فور رؤيتهما دلفت إلى الغرفة وأغلقت الباب عليها.
دغدغ نسيم الفجر أوصاله، ورؤيتها جعلت قلبه مسرورًا، فمازالت متعلقة به وبوجوده في حياتها، بل وتهتم لأمره، لكنه همس لنفسه: مهلا حبيبتي وزوجتي، مازال الوقت مبكرًا للعفو عنكِ.
دخل إلى السرايا فوجد والدته تقف أمامهما والقلق يعتريها: اتأخرتوا ليه يا حمزة، في إيه يا شريف؟
-توجه شريف إلى الغرفة مباشرةً، ولم يعرها أي انتباه، ونطق حمزة بعفوية: أنتِ غيرانة عليه يا ماما ولا إيه؟
-ولكنها داهمته وبدون أي مقدمات بسؤال يعتصر قلبها: أنت بتحبني يا حمزة؟!
-رغم سهولة السؤال، إلا أنه يحتاج لتفكيرٍ عميق، فجلست وسحبت يد ولدها للجلوس أمامها: سامحني يا حمزة، أنا عارفة إني جيت عليك كتير وظلمتك، يمكن أنت أكتر واحد في إخواتك حاسة ناحيته بالذنب، إني مكنتش بعاملك كويس وبحاسبك على ذنب مش ذنبك، بس كنت صغيرة، وفي حاجات كتير أنت متعرفهاش عني، مش ده وقت الحكي فيها، بس اللي بطلبه منك إنك تصبر على مراتك، هي بتحبك والله، بس الزمن بيعيد نفسه!
-لم يفهم حمزة كلام والدته كاملًا، لكنه ابتسم في وجهها بِحُبٍ بالغ، وطبع قبلة حانية على جبينها، واستأذن منها للذهاب إلى النوم: تصبحي على خير يا ماما.
-صعد حمزة وترك والدته، وهي تردد: اللهم حظًا أفضل، ومغفرة من عندك.
وحين وصل حمزة إلى الغرفة، وجد حياة قد استغرقت في نومها، فداعب النوم جفونه وبدأ يشعر بثقليهما وغلب القلب العقل وقوانين التفكير، تمدد إلى جوارها واضعًا يده فوق كتفها، حتى في أصعب الأوقات يحتاج إلى حضنها، وقلبها الذى شب على براعم حبها بقلبه. 

❈-❈-❈

لم يزر النوم عينيه، حتى أول ساعات الصباح، واستيقظ بنشاط كعادته، فقام بتفقد هاتفه متلهفًا لقراءة بعض التغريدات بحسابها أو المنشورات التي قامت بها، فلم يجد اسمها "ريم رشوان"، وجال بخاطره، ربما وضعته على قائمة الحظر، مؤكد أنها لن تفعلها، فهو متيقن من إحساسه الداخلي، بعد وقت من البحث تملكه الجنون، وبلحظة تذكر حساب أشقائها، فقام بفتحه، ولأنه يحفظ تعليقاتها عن ظهر قلب على صورهم، فابتسم ملئ وجهه، وقد غيرت اسمها إلى "جنة في وادي الريان"، حملق في الاسم وقتًا طويلًا، ثم أغلق الهاتف، وعزم على الحديث مع والدها هذا الصباح.
بعض وقت حضر ريان وجد والديه يتسامران، وعند حضوره توقفا عن الحديث، ابتسم وفهم فيمَ يتحدثان:
صباح الخير، بدون مقدمات، أنا عايز أتجوز.
-هم والداه للحديث في حين رفعت والدته، صوتها بإطلاق الزغاريد، ووقفت إلى جواره: هى يا ريان، صح؟ أنا عارفة إن عينك منها من زمان.
-هي يا أم ريان، بس إيه رأيك فيها؟
-ربنا يتمم على خير يا بنى فرحت قلبي، عقبال ما أشيل عيالك يا رب يا حبيبي، برغم حديث والدته، إلا أنه ينظر إلى والده، الذي ما زال صامتًا إلى أن نطق أخيرًا: خلاص، جوزتِ ابنك يا "سمية"، وعايزة تشيلي عياله، ومش ضروري موافقة أبوه!
-كشرت سمية وجهها: أهو أنت كده يا أبو ريان، دايمًا واقفلي على الكلمة.
-لم يجد ريان مفرًا من مواجهة أبيه بالحديث الواضح عن الفتاة التي يريدها، رغم إحساس والده وتأكده ممن تكون هي: بابا، أنا بعد إذنك عايز أتجوز ريم، أخت حسام وحمزة.
ما زال والده ينظر إليه بصمتٍ مطبق ولا يفهم ريان ما يدور بعقله: إيه رأي حضرتك يا بابا؟ 
-أنا مش موافق يا ريان، أنا عايزك تفكر تاني كويس، دول مش مننا يا بني، ولا عيشتهم زينا! 
-تجلس سمية بجوار زوجها، وتضع يدها فوق يده، لينظر إليها: سنين أنت عارف وساكت، جاي يوم ما يتكلم، ويقول إنه عايزها، تقول مش موافق؟
-لو كان بيتعذب زمان شوية، دلوقتي هيزيد عذابه أكتر برضه.
-كنت قوله من زمان، مش بعد العمر ده كله، أنت اللي لازم تفكر تاني يا أبو ريان مش ابنك. 
-تجاهل ريان كلام والداته، وذلك الغيظ المصاحب لنظرات والده: حضرتك قول لى السبب!
-أطلقت "سمية" ضحكة حزينة، ووجهت حديثها إلى زوجها: لو تقدر قول له السبب الحقيقي، مش اللي أنت قلته، ولا هتقوله!
-أنتِ بتقولي إيه؟ مالك كده كلامك بيرمي على إيه؟
-ابتسمت باستهزاء، وبقلب زوجة يرى ويشعر جيدًا بما لا يراه الغير: خرفت بقول أي كلام، المهم متضيعش فرحة ابنك.
-نظر إليها وبركان الغضب يشتعل داخل عينيه: ليا معاكِ كلام تاني بعدين. 
-تأهبت سمية لتخرج من الغرفة، تاركة الابن وأبوه، بعد أن ألقت عدة كلمات مبهمة، وتوجه "سمير" إلى ريان: هتعيش طول العمر حاسس بفرق إنها أعلى منك ماديًا، هتقدر تعملها فيلا زي اللي عايشة فيها؟ ولا تجيبلها عربية؟ ولا تسفرها بره؟ ولا هتعمل إيه ولا إيه؟ مش من توبنا يا بنى، أي واحدة في الدنيا، إلا هى يا ريان.
-مش زي أمها متقلقش!
فاجئه ذلك الرد وصمت مطبق قاتم سيطر عليه، والفزع بادٍ على وجهه، وعيون حادة تبحث عن مصدر ذلك الصوت الذي بعث بتلك الكلمات، كانت تلك كلمات سمية، التي خرجت منها ولكن صحبت بنزيف داخلي: دي بنت أصول، وبتحب هنا وعايشة هنا، أنت بس اللي متعرفهاش، ولا اتكلمت معاها، متعرفش يعني إيه ريم!.
-توقف ريان عن الحديث وبعد برهة نطق والاستجداء يكسو حروفه: فكر شوية يا بابا بعد إذنك، أنا عمري ما هعمل حاجة غصب عنك، ولو فيها روحي وحياتي، أنت مثلي الأعلى يا بابا، عشان خاطري فكرتاني. 
وسحب نفسه وترك الغرفة وغادر المنزل، وخرج بحثًا عن هواءٍ عليل، يمحى أثر الحزن، وربما آثار الأيام القادمة، التي لا يدرك حتى الآن كيف ستكون.
-وحين تأكد "سمير" من خروج ابنه، التفت إليها: بتلمحي على إيه بالكلام ده يا سمية، عايزة تقولي إنك عارفة إيه ومخبياه؟
-تأهبت للخروج من الغرفة قائلة: الماضي، يجي من تلاتين سنة وأكتر. 

❈-❈-❈

-لاحظ الحاج "منصور" الإرهاق على وجه "عمر"، بدأ جسده يسترخى في بداية الحديث، ورغم شوق منصور لسماع ما يستعد عمر لسرده، إلا أنه آثر راحته أولًا، فالصباح سوف يأتي بنوره، ومعه الحكاية بأكملها: قوم يا عمر نروح عشان ترتاح، وبعدين نكمل كلامنا، بس قبل أي حاجة، أنت تعرف ليال؟ 
-تنهد بعمق، وزفر بألم بالغ: أيوا أعرفها، وعشان كده مش عايز اقعد في بيتك، يمكن قعدتنا تطول شوية، ومش عايز حد يجيب سيرتها، لحد ما ربنا يحلها.
-ماشي يا ابني، ربنا قادر يحلها، وأشار إلى منزل قريب من منزله الخاص به قائلًا: هكلم صاحب البيت ده، هو صاحبي وشريكي، ومش هيمانع إنك تقعد في بيته، الصبح هفوت عليك، شكلها كده لينا لقمة عيش سوا.
وبالفعل توجه عمر بصحبة منصور إلى العقار، وبعد مدة قصيرة خرج منصور، وترك عمر وحيدًا، فجلس فوق الفراش المتهالك قليلًا، واضعًا يديه فوق رأسه، محدثًا نفسه:
-ما العمل؟ أمانة ثقيلة، وعليّ حملها فوق عاتقي، واستغرق في التفكير قليلًا، إذا ما كان عليه أن يخبر أخاها ووالدها؟ أم يستمع إليها، وينتظر حتى ينفذ لها رغبتها بالعودة إلى أهلها بصحبة زوجها؟ ولكن، من هو زوجها؟ هل سيتزوجها؟
وعندما وصل إلى ذلك السؤال، خارت قواه وذهب في نومٍ عميق، أخيرًا انتهى اليوم الذى كان بدايته الأمل في المستقبل، ولكن الماضي ما زال يداهم حياته.

يتبع...

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة وفاء الغرباوي، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة