-->

رواية جديدة مقبرة الحب لوفاء الغرباوي - الفصل الأخير - الإثنين 13/10/2025

 

قراءة رواية مقبرة الحب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى



رواية مقبرة الحب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة وفاء الغرباوي


الفصل الأخير 

تم النشر الإثنين 

13/10/2025


"لهفة البدايات ليست حبًا،

إذ لا يُحب الإنسان بأسبوع أو شهر، لا يُمكنك أن تُحب البحر وأنت تقف على الشاطئ، يجب أن تغُوص في أعماقه، تضْرِبُك أمواجُه المتلاطمة، وترى قاعه المُظلم، فتَلْمس عُيُوبه، وتعْرف كيفَ يغضب، وبعدها فقط إما أن تُحبه كله أو تكرهه كله، يبدأ الحب عنْدمَا ينتهي الحَماس".


"داخل مكتب حور الجديد"


-ما زالت تتعلم المشاكسة من سيفها وحسام قلبها، تحاول ربما مرة أن تنجح في الانتصار عليه والتقدم بخطوة، فنظرت نحو مكتبها الجديد بنصف عين زائغة: المكتب مش أوي، عادى يعني، بكرة أنا أغير الديكور بتاعه واعمل أحسن منه.


-ابتسم لمكرها الواضح في عينها بقوة، هو يعلم أنها تكابر برأيها كنوع من الدلال الأنثوي، فرد عليها: لما أنتِ تنوريه هيكون أحلى من مليون ديكور يا قلبي وأنا أقف لك حارس عليه.


-مدت يديها نحو عنقه: أخنقك ولا أعمل فيك اي بس؟


-مال بعنقه نحو أذنها هامسًا: وأكون شهيدك موافق ده أنا أتمنى وأدخل جنتك.


-صرخت فيه بمزاح: اديني فرصة أغلبك مرة.


-ضحك وهو يهز رأسه بالنفي: وأخسر مرة أستمتع بأنك غضبانة أو فرحانة، يا متمردة بوضعك الجديد.


-رن هاتفه بجيبه فأخرجه وأجاب دون تردد، استغلت  حور الفرصة وبدأت برسم صورة له والتركيز يغلب عليه.

أتقنت الرسم بشدة ولكنها وضعت له شاربًا ووضعت سكينًا فوق رقبته، ووقفت عاقدة ذراعيها أمام الصورة، انتهى من هاتفه وضحك مليء فيه بصوت عال: مقدرتيش على الحقيقة،  قلت تقومي بالواجب في الصورة.


-ردت بغضب طفولي زاد من جمالها: يارب  أقدر بس مش بالسكين، بالكلام وبس وتذكرت الهاتف فسألت: صح مين كان بيكلمك؟


-رد عليها وهو يتصنع اللامبالاة: واحدة ست.


-اقتربت نحوه بحدة قالت: ده كده السكينة هتتكلم وتقول هي.


-تحدث رافعا يديه باستسلام: خلاص راجل بهزر يا عم.


-ببعض الحدة قالت: مين هو انق؟


-بابتسامة مكر: مش لازم تعرفي عن رجالة، هحكيلك عن ستات وبس.


-شمرت عن ساعديها واستعدت للخناق: مكتوبة لك الخناقة وهتعلم فيك كل حاجة، ضرب وكلام وكله. 


-احتواها بين ذراعيه مقبلا جبهتها، انخرطت بداخله، وبدا حبها رغما عنها، فنظر لها وسمعته يهمس في أذنيها: وأنا موافق.


بعدها خرجا من المكتب وهي تتأبط ذراعيه والسعادة تغمر قلبها في اتجاه السرايا.

❈-❈-❈

داخل غرفة ريم


بعد أن قامت بتغيير ملابسها، واكتسبت شيئًا من الراحة وشعرت بالهدوء يجتاح اوصالها، وبينما هي جالسة ومستغرقة في أفكارها، قاطعها صوت رنين هاتفها ينبئ عن وصول رسالة، وحين قامت بفتحتها لتقرأ محتواها، سقط قلبها صريعًا بين قدميها، فقد كان ريان هو المرسل:

-أخدت إذن من أخوكي علشان أكلمك، اسمحيلي هكلمك ومن فضلك ردي على اتصالي، ولو حابة تتأكدي من أخوكي الأول قبل ما تردي عليا هيأكدلك كلامي!.

أصابتها الحيرة كثيرًا من أمرها، ولم تعد تدري ما يتوجب عليها أن تفعله، ولكنها أخيرًا قررت أن تتحدث إلى أخيها أولًا، وتتأكد من صحة كلام ريان:

-هو ريان كلمك وأخد منك إذن إنه يكلمني؟

-أيوا، ردي عليه!

لم يمر سوى خمس دقائق، وأخذ هاتفها يدق، وقامت بالرد عليه واللهفة تملأ قلبها وحمرة الخجل تكسو ملامح وجهها، كما لو أنه يقف أمامها ويرى كل منهما الآخر:

-السلام عليكم ورحمة الله، عاملة إيه يا ريم؟

-اكتفت برد التحية عليه، وأنها بخير وفي أحسن حال، وعادت للصمت مرة أخرى.

-فباغتها بسؤاله المفاجئ إليها: موافقة نتجوز، ونعيش هنا؟ حبيت أسمع منك الإجابة، قبل ما أجي بكرة.


-حاولت أن تكون شجاعة قدر الإمكان وتجيب سؤاله بطريقة تبعث الطمأنينة إلى قلبه: هتعرف الرد من حسام إن شاء الله، مع السلامة يا دكتور، وأنهت المكالمة ودقات قلبها كطبول الحرب، وتتساءل هل أحب حديثها وصوتها وتُرى كيف كان وقعهما عليه. 

أما عنه، فهو لا يختلف عنها في شيءٍ، لقد كان سعيد للغاية والفرحة تملأ قلبه، لأنه سمع صوتها، وأقسم بينه وبين نفسه ألا يجعلها حزينة يومًا، أو يتسبب في تغيير نبرة صوتها المحبب إلى قلبه، والسعادة التي كانت واضحة عليه، إنها غزالته الصغيرة وابنة قلبه، وحبيبة عمره وحياته.


غرفة حياة وحمزة بعد الثامنة مساءً


دخل حمزة وألقى عليها السلام، ردت بصوت مليء بالحزن والشجن، نبرة الحزن تلك التي مزقته من الداخل وشعر بحزن كبير من أجلها، فطلب منها أن تقوم بارتداء ملابسها، وانها ستذهب لزيارة والديها، وأخبرها أنه سينتظرها فى الأسفل، كان نبرته صوته بمثابة أوامر يمليها عليها، فهزت رأسها بالإيجاب، وترك الغرفة وخرج مسرعًا من الغرفة، فامتثلت لأوامر دون أن تنبث ببنت شفة، ولا تدرى ما الذي أصابها،  ولكن هناك شيئًا ما قد تغير بها.


وحين خرج هو من الغرفة، وهبط الدرج وجد والديه في الردهة وهما يتناقشان بشأن ريان وأهله، سأله والده:

-هتروحوا؟

-فاكتفى بهز هز رأسه إيجابًا.

-شكرًا أنك تفهمت يا ابني، مرة بالشدة، وأخرى باللين، ربنا يصلح ما بينكم. 

خرج من باب السرايا في انتظارها، وتذكر مكالمة والده، وطلبه منه أن يأخذها إلى والديها، ربما يطمئن قلبها، أولًا وأخيرًا فهو أب ولديه ابنة، كان وقتها جالس أمام الترعة يصطاد، لقد أرد أن يمارس هواية الصيد حتى يتسنى له الهرب من الجلوس برفقتها، لقد أصبح يفكر فيها أكثر من ذي قبل، إنه يحبها للغاية، وارتباطه بها هو ارتباطًا روحيًا، عشق أبدي، لا يستطيع كسرها، وإلا سيكون بمثابة كسر نفسه وروحه قبلها، طيلة ستة أشهر وهو يجهز لها منزلها الخاص في أقصى الأراضي بالقرية، وبمساعدة  كلًا من حور وحسام، ودون علمها، وسيفاجئها عن به عما قريب...

وقاطع أفكاره ظهورها، لقد خرجت ووقفت أمامه، انتهى الحديث بينهما، دلفت إلى السيارة لتجلس بالمقعد المجاور له، فلأول مرة منذ أن عرفها، يراها ترتدي الجلباب الأسود، حزن كثيرًا لأجلها وأقسم ألا يراها حزينة أبدًا. 


فى موقع العمل 


أنهى عمر اتصاله وشرد قليلًا، وأطال النظر إلى الهاتف طويلًا، فوضع الحاج منصور يده على كتف عمر، فأخرجه من شروده، والتفت إليه ليجده ينظر إليه والابتسامة تعلو شفتيه:

-تعالى نرتاح شوية، وناكل لقمة، وندردش شوية.

-ماشي.

جلسا سويًا وبدأ في تناول الطعام واستغرقا في حديثٍ طويل، سرد فيه عليه عمر كافة التفاصيل كاملة، ماعدا ما يسيء إلى ليال أو يجرحها.


-ياه يا ابني، كل دا حصل! وهتعمل إيه؟

-شور عليا إنت، أنا مش عارف أعمل إيه.

-بص يا ابنى الرجالة مواقف، وإنت راجل وسيد الرجالة كمان، إنت بتقول إن أخوها صاحبك، ومتعلم يعني مخه كبير وبيفهم وهيقدر، اتكلم معاه وروح قابله، واحكي معاه، وهو اللى هيساعدك ويقف معاك، وهى هتفضل أمانة فى بيتي ووسط أولادي، وإنت بكرة بإذن الله تروح تقابل أخوها، كل تأخير زيادة هيعيبك إنت، وربنا قادر على كل شيء، ويارب يصلحلكم الحال، كلمها يا بنى بعلم أهلها، وإنت بتقول إنك مش هترجعها، وهتتجوزها. 

-بدت السعادة على ملامحه ونبرة الحب تملأ صوته: دا اللي ناوي أعمله والله، بس خايف يعملوا فيها حاجة.

-متخافش، إن شاء الله مفيش حاجة هتحصل، دى إرادة ربنا إنكم تتقابلوا، وكل حاجة ترجع لأصلها. 


فى منزل والد حياة


دخلت حياة، فانقبض قلب والدها لرويتها هكذا ذابلة، عيناها تخفي الكثير من الحزن، ويظهر مكانها شعيرات حمراء من كثرة البكاء، احتضنها والدها واستقرت بحضنه لبعض الوقت، إلى حين سحبتها والدتها نحوها، واحتضنتها هي الاخرى بشدة، رغم زواجها إلا أنها ما تزال ابنتها البكرية، وأول ما رأت قلوبهم قبل أعينهم جميعًا، استاذن حمزة في الرحيل لأمرٍ هام، ولم يستطع أحدهما التفوه معه بكلمة واحدة.

دخلت حياة وجلست في منتصف المقعد بين والديها، مالت على كتف والدها، وقامت والدتها لإحضار بعض الشراب إليهما، ودون سابق إنذار أو ترتيب، بدأت بالفضفضة لوالدها، عما حدث الفترة طوال السابقة، ولم تنس خطأها بحق حمزة، واستمع والدها بعناية لكل ما قصته عليه، وحاولت ألا تنسى كلمة واحدة، ولكن قلب والدها كاد يتآكل حين رأى دموعها وحزنها، وحينما انتهت من سردها صمتت لبعض الوقت وهي تتنفس بصعوبة بالغة بعد أن أفرغت كل ما في جوفها:

-كوني له أمة، يكن لك عبدًا، فاكرة وصية "إمامة بنت الحارث" لابنتها وإنك اعترضتي عليها لما قريتيها إنك تكوني أمة، ولما بقيتي أميرة ونفذتي كلامك، وصوتك أعلى منه هو بقى إيه؟ جوزك أحسن راجل في الدنيا، أنا مش بلومك يا بنتي ولا بعنفك، أنا غلطت لما خليت الأرض قوت قلبك، ونسيت إنك بنت جميلة، وأنا بقولك إن ربنا خلق الست من ضلع أعوج؛ لتستقيم بالراجل، يكملها وتكمله، خدي جوزك فى حضنك يا بنتي، الأيام اللي بتروح مش بترجع تانى، وإنتم في عز شبابكم، وقدموا لبعض الحلو، هتلاقوا الحلو. 

شعرت حياة بالراحة كثيرًا، واطمأنت بحديث والدها، وفرقت معها كثيرًا هذه الزيارة وقررت أن تصلح كل شيء قد كُسر.


فى السرايا 


حضر ريان بصحبة والديه، وعمه وزوجته؛ لطلب ريم للزواج من والدها وأخويها، استقبلهما حسام أولًا، ثم جاء حمزة بعده بقليل، وفى جو أسري سعيد تسوده الابتسامة، والسعادة واضحة على الجميع، يبتسم العريس ابتسامة عريضة، والتي زاد اتساعها عند دخول العروس "ريم"، فاتنة وجميلة في هدوئها، ترتدي فستانًا جعلها كالغزالة الصغيرة حقًا، ألقت التحية وسلمت على الجميع يدًا بيدً عدا ريان، جلست بالقرب من والدته، فى هذه الليلة السعيدة، وقاما بالاتفاق على كل شيءٍ في سلاسة، وقاموا بتحديد موعد الزفاف، واتفقوا أن يكون في خلال أشهر وليس أكثر، ثم قاموا بقراءة الفاتحة، وطلب شريف من ريان أن يُلَّبس الشبكة للعروس، فقام والبسها خاتمها، وأصبح الآن اصبعها يحمل ويضم اسمه، المنقوش على جانبي الخاتم:


-مبروك يا أحلى عروسة في الدنيا. 

شعرت بالخجل كثيرصا ولم تستطع الرد عليه واكتفت بابتسامة جميلة يملؤها الخجل.

-فاقترب منها قليلًا ومال إلى أذنها هامسًا: بيننا كلام كتير جدًا جدًا، هيبقى ليا الحق أخيرًا أقوله وأحكي معاكي كل اللي في من قلبي من أكثر من خمستاشر سنة. 


-نفسي بجد اسمعه. 


ابتسم واعتدل في جلسته حتى لا يتلمز عنه حسام، فهو يعرفه حق المعرفة، وقف الجميع يقبلون بعضهم البعض بفرح وسعادة داخلية، ولكن أكثر ما أثار دهشة الجميع وتعجبوا منه ألا وهو فرحة ريهام الواضحة، ولكن لم يتحدث أبدًا أيًا منهم، فكل منهم يسعى إلى طلب الراحة والفرحة، ولكن حياة ما زالت حزينة، وحور غلب عليها الحزن لأختها، اقترب حمزة منهما، واستأذن لجذب انتباه حياة له والتحدث معها: 

-ممكن تنسي أى حاجة، وتفرحي شوية، نفسي أشوف ابتسامتك، أو على الأقل عشان خاطر ريم، وريان، بلاش عشان خاطري.

حاولت جاهدة أن تبتسم لكنها لم تنجح في ذلك، فما يؤلم القلب لا يمكن تناسيه حتى لو لحظة تمثيل، وفي تلك اللحظة تأكد حمزة أن الهدية التي يجهزها لها، هى ما ستأخذها من حزنها، وحضر حسام وأخذ حور ليتحدث إليها، ظلا يتسابقان ببعض عبارات الحب بينهما، حتى تحدث حمزة قائلًا:

-نقدر نروح البيت إمتى؟

-أجابه حسام وهو يمزح معه: ابقى استأذن الأول وإنت جاي يا دكتور، مش كده! 

شعرت حور بالخجل وأدارت وجهها، فأردف يقول والضيق يبدو عليه، لم يكن في حال يسمح له بالمزاح:

-اخلص يا حسام


-إيه يا عم، كل حاجة جاهزة في الوقت اللي تحبه.

التفت ليغادر المكان ويتركهما بعد أن اطمأن لكلام حسام.

❈-❈-❈

"أولئك الذين يحبون شعاعها الذهبي، ويعشقون انعكاس قمرها، ينتظرون رحيلها ليضيء عتمة ليلهم بنجوم لامعة، يهتدون بها في محراب عشقهم، فالصب هوى لنجمة لمعت في سمائه، وأرضه، ظلا يدوران في فلكٍ، متتابعان، مترابطان لا ينفصلان".

❈-❈-❈

-وقف الحاج منصور ثابتًا أمام مصطفى والد ليال ليحاول تهدئته ويسيطر على الغضب الجاثم في قلبه:

-غلطت وندمت، واتبهدلت كمان، ادبحها بالسكينة، وبالمرة بنتها كمان، هي غلطت مقولناش حاجة، بس ربنا بيسامح، وبيغفر، والحمد لله مش هتخسر لها حاجة، بنتك هتتجوز والراجل ده محبش يغلطها مرتين، النهاردة بيقولك أنا مش عايز غير موافقتك ولو مش عايز تشوفها خالص براحتك. 


-ضحك مصطفى بتهكم والجرح يدمي قلبه: أنا مليش بنات، بنتي ماتت من زمان، وموافقتي زي عدمها، ملهاش لزمة أصلًا! 

-تدخل أخوها صابر في الحديث بهدوء موجهًا كلامه إلى أبيه:

يا بابا عمر عمل الصح، هو حكى لي على كل حاجة، وإنه عايزها بالحلال، وهو قابل باللي فات وراضي بنصيبه.

- والحزن يقطر من بين كلماته:

هيتعاير بيها العمر كله زينا، ولما يتعب هيسيبها، وأهله مش هيسيبوها في حالها!

-هنا تحدث عمر عنها ولم يستطع السكوت أكثر: كلمتي عهد قدامكم دلوقت، أنا قابل، ولو اشتكت يوم مني، أو جاتلك في يوم حزينة بسببي ادبحني أنا، ياعم مصطفى انا متربي معاكم، وإنت عارفني.

-يا بنى ما أنا كنت مربيها، وعملت كده!

-تحدث الحاج منصور بقوة وبحدة بالغة: ربنا رايد ده يحصل، غيّره لو كنت عايز أو تقدر.

وبعد جدال طويل وعذاب، انتهى بموافقة "مصطفى" ، ولكنه اشترط على عمر أن تخرج له عروس من منزل والدها، وفي تلك اللحظة دخلت "ليال" مسرعة وألقت بنفسها أمام والدها، وانحنت لتقبل يده، ولكنه لم يلق لها بالًا ولم ينظر إليها، فانحت تحت قدميه لتقبلهما وتطلب منه العفو والغفران، وما زال ثابتًا لا يتحرك وكأنه لا يراها، لكن الدموع تأكل عينيه حتى تخرج للنور، لم يتمكن أكثر من المقاومة وفاضت من عينيه، عند رؤية حفيدته أمام عينيه، لم يحتضن والدتها، وإنما احتضنها هي، وصدق من قال أن "اعز الولد ولد الولد".

-ما زال الوقت باكرا للسماح يا ليال، جملة قالتها والدتها والحزن يعتصر قلبها!

-هبت مسرعة وقامت واحتضتنت والدتها التي كانت تحترق شوقًا لاحتضانها، ولكنها كانت تبعدها عنها، وبالأخير رق قلبها لها، ولم تستطع أن تمنع نفسها أكثر. 

-فقام والدها بخبط عصاه بالأرض بقوة وكأن زلزال يهتز من تحت أقدامهم، فانتبه الجميع له: شهد هتنستنى معايا هنا، تعالى بكرة خد عروستك بعد ما نكتب الكتاب.

            ****

-دخل حمزة الغرفة وجدها تحتضن رأسها بين ركبتيها، تناكس رأسها خجلا منه لطالما كانت الأقوى،  لكن ماذا جنت من تلك القوة؟ "إن الحب إذا أوقعك في فخاخه صرت أسيرًا لمن تحب، تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه وتتنفس حبه، ومع ذلك أنت سعيد، لذا فالمحب أحيانا يكون أحمق!"


الآن اعترفت بخطئها كاملًا، رفعت رأسها اليه وبنبرة تخالطها الأسف: لو نطقتها يا حمزة مش هلومك، طلاقي ده نهايتي، للأسف فهمت كل حاجة بس متأخر.

-تنهد بصوت مسموع وأخرج زفيرًا عاليًا، لكنه ما زال صامتًا، يحاول إخراج ما يجيش به صدره ولكن لا فائدة، هيئتها عصفت بكيانه، انكمشت قسوته المزعومة وذابت وتحولت إلى عصير حنان، ود لو يحتضنها ويخبئها داخل صدره، ما زالت حياة "حياة حمزة".

في لحظة ما ودون توقع غلب القلب العقل، مد يده محتضنا كفها وجذبها حتى وقفت أمامه، رفع وجهها إليه وقال بصوت جليدي: عشر دقايق وتكوني جاهزة هنخرج.


وخرج صافعا الباب خلفه ولم يمهلها فرصة لطرح أي سؤال، لذلك لا جواب.


قبل انتهاء الوقت كانت هندمت ملابسها ولفت حجابها كاملًا، ألقت نظرة بائسة إلى المرآة وجدت عيناها تملأهما خيوط حمراء، لا داعي للحزن إذًا، يكفي ما بها، لقد رآها بأكثر من هذا سوءً


خرجت إليه، حزن لرؤيتها، لا يريدها حياة الضعيفة، الهشة، المنكسرة، المنطفئة، لكن الحزن يفعل كل هذا وأكثر، بل يريد الأخرى القوية الشامخة ولكن مهلا سيدتي كان عليكِ أن تتعلمي أن هناك للحب فنون مثل فنون الحرب، وأنني لست ضعيفًا لكن قويا بكِ، وجودك إلى جواري زادني قوة، واليوم سأثبت لكِ أنني الزوج المناسب لكِ والحبيب العاشق.


-طال صمت حمزة، مدت يدها برفق لتخرجه من صمته.


انتبه إليها؛ ابتسم وشبك يدها بيده وقال بهدوء ومرح: من غير أي سؤال، لا رايحين فين ولا جايين امتى ولا أي كلمة، مفهوم يا حياة!


-كان يتوقع منها الموافقة دون عناد خاصة بعد فترة الخصام التي عصفت بقلبه قبل قلبها، لكنها حياة إن لم تتمرد ويعلو صوتها لن تكون حياة فقالت بضيق: يعنى ساحبني وراك من غير حتى ما أعرف ليه، ولا رايحة فين!


-هز رأسه علامة على أنها لا فائدة منها، في الوقت ذاته لا  ينكر فرحته أنها ما زالت أبية قوية، ولكنه كشر بوجهها، فخفضت من صوتها وسكتت عن الكلام.


-خرجا من السرايا؛ استقلا سيارته، ملامح وجهها تنم عن كثير من الكلام مما يجعله مبتسما لإثارة غضبها، سارت السيارة حوالى خمسة عشر دقيقة حتى خرجا من البلدة تمامًا وأصبحا وسط الأراضي الزراعية.


انتبهت إلى الطريق فلمحت منزلا قريبًا، توقف حمزة أمامه ونزل من السيارة، وفتح الباب من ناحيتها وقال بحنان: انزلي يا حياة.


وقفت أمام المنزل تنظر في دهشة وذهول، لاح لمخيلتها انها أخبرت حمزة ذات مرة عن جمال هذا المنزل وما يميزه كونه بعيدًا عن الناس، وأنهاكم تود مكانا مثله، بل تحلم بامتلاك مثله ذات يوم، حيث البساطة والهدوء.


-رآها صامتة فأدرك ما تفكر به وما ينتهك حرمات عقلها بلا هوادة وأنه بمساعدة حور وحسام أوصلا هذا المكان إلى ما تريده حياة وتتمناه، سمع صوتها المضرج بالفرحة واللهفة والذي أخرجه من ذكرياته: دي رسمة حور، كنت بشوفها برسمها وتصميمها من فترة، يعنى كلهم كانوا عارفين وأنا لا.


-ضحك حمزة قائلا:  قبل ما تدخلى برجلك اليمين سيبي النكد بره وادخلي أنتِ، انسي مين عارف ومين لا؟ فكري في المفاجأة وبس.


-أجابته بعتاب هادئ وبهجة: عشان كده كنت دايما مختفي الفترة اللي فاتت! 


-رد مشاكسًا: لا كنت بصطاد سمك، مش وقته يا حياة. 


دخلت من البوابة الرئيسية عندما أمسك بيدها وأغمض عينيها وقادها نحو الداخل، ما إن أزاح يده عن عينيها قائلا بدلال: فتحي عنيكِ يا ست البنات.


-فتحت عينيها فشاهدت نسخة مصغرة من السرايا، قطعة من الأناقة على هيئة منزل، الفرق أن هناك حمام سباحة، لمعت الفرحة بعينيها، جذبها مقتربا منها: مش ده كل اللي كان نفسك فيه، بيتك وحمام السباحة المتغطي، وشوفي هناك كمان اللي بتحلمي به.


-صرخت بصوت مرتفع: كوخ!


-قهقه عالياً: اصرخي براحتك هنا مفيش حد يسمعنا ولا يقول صوتها عالي يا مجنونتي، ويلا بسرعة بقى على ما أجهز هنا اطلعي فوق هتلاقي لبس البسيه.


-مر وقت ليس بالكثير انتهى حمزة من تجهيزات المسبح بالإضاءة الخافتة وأشعل النار على جنباته فانعكس ضوئها على مياهه فازداد المكان جمالا ورونقا،  والموسيقى الهادئة تبعث بالاسترخاء.


-هبطت حياة ملكة ترتدي فستانًا أسودَ لامعًا بشريط يضم خصرها، وحذاء سندريلا الفضي وتاج مرصع بالألماس فوق شعرها الأسود المتطاير على كتفيها يتلاعب به الهواء يمنة ويسرة، رغم أنها تمتلك بشرة خمرية إلا أنها ملكة كأنما 


شربت من أجمل بقعة في الأرض، وأخذت منها أجمل قطعة.


-عقد حمزة ذراعيه، ورفع حاجبيه دهشة من فتنتها، قد تكون امرأة عادية، لكنه كان يراها حياته، وكأنه أغلق عينيه وقلبه إلا منها.


استقبلها بين ذراعيه مودعا إياها قبلة فوق جبينها بثها حبا وشوقا غير معهود.


تجذبه برائحتها الزكية، وبأنفاسها البريئة، وروحها الطاهرة الحنونة.


شعر بأنينها الصامت وهو يهمس في أذنها: افتكري أننا سيبنا النكد بره يا حياة، دي صفحة جديدة عاوزينها تكون حلو وبس، نسيب كل اللي فات ونفكر ازاي نسعد نفسنا.


-قبلت يده: آسفة يا حمزة على كل اللي عملته أنا عارفة إنك استحملت كتير، حقك علي و.... 


-لم يمهلها لتكمل الحديث ولثم فمها بيده: انسي أي حاجة النهار ده، أنا عايز أعيش ليلة من ألف ليلة وليلة تعرفيها!


من أول مولاي العزيز "شهريار"


لحد وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح! 


-ابتسمت واحمّرا خديها خجلا، وامتثلت للأمر ووقفت رافعة يدها: أمر مولاي.


-رد عليها بحب اجتاحه: مولاتي تسمح لي بالرقصة دي!


رقصا سويا على ربين إيديك أنا بنسى روحي


بين إيديك أنا بنسى روحي"


وقضيا ليلة كاملة، مليئة بالسعادة بين الرقص والمرح 


والسباحة والجلوس أمام النار للتدفئة، ولأول مرة كانت تتزمل بعناقه وتتشبث به.


حقا كانت ليلة ساحرة، تعد من أولى لياليهم السعيدة سويا.


❈-❈-❈

   "في منزل مصطفى" 


-قال المأذون جملته الشهيرة 


"بالرفاء والبنين"


احتضن عمر يد ليال وخرجا من المنزل بعد وداع أهلها


حتى وصل إلى الشقة في منزل الحاج منصور كما اتفقا. 


دخلا الشقة وأغلق الباب خلفهما.


وقفت أمامه بلباس عرسها ولم يحرك ساكنا.


اليوم ليال عروسته بعد حلم طويل لسنوات، وقف في ذهول لا يدري ماذا يقول! وكأن الكلام تاه منه، لم يسلك طريقا إليه


وجدها تنحني إلى الأسفل


ركعت لتقبل قدميه، فأسرع ليوقفها ويربت على رأسها وكتفيها: مفيش كلمة شكر ممكن توفي اللي عملته معايا، وقفت جنبي وصنتني ورجعتني لأهلي ودي كانت الحاجة اللي بتمناها، أنا هفضل مديونة لك طول عمري.


-نظر لها وهاله جمالها الذي لم يره من قبل: كنت طول عمرى بحلم باليوم اللي يجمعنا سوا


وأشوفك عروستي.


-تنهدت قائلة: هو أنت ليه رفضت تتجوزني قبل ما أرجع لأهلي الأول؟


-تنفس بهدوء: عشان مخنش الأمانة والعهد.


-ضمت حاجبيها بعدم فهم، فتابع قائلًا: وابقى فرقت اي عن اللي قبلي؟ ابقى سرقتكم، واستغليت موقفك أنت وبنتك، ومعملتش بالجيرة، أنت غالية أوي يا ليال ومقامك كبير أنت بس اللي مش عارفة قيمة نفسك، مينفعش غير تكوني في مكانة عالية وأهلك لازم يفرحوا بيكِ، ولو غلطتِ مرة مينفعش أعاقبك بالسيف كلنا بنغلط،


وأهم حاجة تكوني مبسوطة إنك رجعتِ لأهلك.


-قبلت رأسه وضمته بين ذراعيه ممسكة برقبته وكأنها حبل النجاة: مبسوطة دي كلمة شويه يا عمر، يا أجمل راجل شفته في حياتي، واختبأت داخل أحضانه أكثر، فعلمت في ذلك الوقت أنها في أيد أمينة، وأن الله كتب لها فرحتها، ولكن في أوانها.


❈-❈-❈

"بعد مرور ستة أشهر"


"من السعادة تارة والحزن تارة هكذا الدنيا"


-أشرقت شمس الصباح، وشدت "أم كلثوم" أعذب الألحان 


بإذاعة الشرق الأوسط في السابعة صباحاً. 


"يا صباح الخير يا اللي معانا


الكروان غنى وصحانا


يا صباح الخير يا اللي معانا


الكروان  غنى وصحانا"


تحركت ريهام بأرجاء السرايا في سعادة، هذه المرة سيدة السرايا الأولى اسما ومكانة تليق بها، ولكن عكس كل المرات السابقة التي وطئت فيها أرض هذه البلدة والسرايا خاصة.


اليوم الجمعة كالعادة يجتمع لديها ابنيها  حمزة وحسام، وزوجاتهما حياة وحور، وابنتها ريم وزوجها ريان. 


وكم تنتظر غداء الجمعة لتراهم ملتفين حولها في حب وألفة،


واعترفت أنه بصلاحها أولا صلح أبناءها وتيسرت حياتهم، 


وسعد شريف لرؤيتها هكذا.


اليوم له ذكرى حفية


مر عام كامل على زواج الأبناء واحتفل به بوجود العائلة كاملة،


أهل حياة وأهل ريان أيضا، 


تغيرت الحياة وأصبحت ذات معنى عندما تآلفت القلوب واقتنع كل فرد أنه بحاجة لغيره، وأنه لا يتم الترابط إلا بإكمال بعضهم بعضا. 


حضر الأبناء والعائلة كاملة في جو يسوده المودة والرحمة، تبودلت الزيارات والهدايا، وأصبحت ريهام تحب الجميع وأحبها الجميع لحنانها الذي كان مخفيا. 


وكانت هناك مفاجأة سارة من الجميع أنه بعد مرور سبعة أشهر أخرى سيصبحون أجدادًا.


اصبح الجميع بغاية السرور وقيد الانتظار لتلك الفرحة التي تزيد هم غبطة وسعادة.

تمت بحمد الله

إلى حين نشر الرواية الجديدة للكاتبة وفاء الغرباوي، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة