-->

رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 51 - جـ 2 - الخميس 2/10/2025

 

قراءة رواية ثنايا الروح كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية ثنايا الروح

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رانيا الخولي


الفصل الواحد والخمسون 

الحزء الثاني 

تم النشر الخميس

2/10/2025


هنا انفجرت صبر مرة أخرى لكن هذه المرة لم يكن بكاء ضعف بل بكاء قهر وألم دفين.

_ عشان تعبت!


نظرت إليها نسرين باستغراب فأكملت صبر بصوتٍ يرتجف من فرط المشاعر

_ أنا طول عمري مفروضة على اللي قدامي كنت مفروضة على أبويا ومراته، كنت باكل وأشرب وأنام في بيتهم غصب عنهم ولما اتجوزت أكمل... اتجوزته وأنا مفروضة عليه اتجوزته عشان يستر عليا وينقذني هو عمل الصح عمل اللي يمليه عليه ضميره وأصله، بس أنا كنت عبء عليه.


نظرت إلى حماتها بعينين تائهتين كأنها تكشف عن أعمق جرح في روحها.

_ أنا عايزة ولو لمرة واحدة بس في حياتي... أحس إن حد اختارني أحس إن حد بيحاول عشاني عايزة لما أبعد حد يجي ورايا ويترجاني أرجع، مش عشان ده الصح ولا عشان ده المفروض لكن عشان هو مقدرش يعيش من غيري، عايزة أحس إني مرغوبة مش مجرد واجب.


صمتت للحظة وأخذت نفساً عميقاً

_ ولما شفته معاها... حسيت إني رجعت تاني لنقطة الصفر حسيت إني مجرد "الواجب" اللي في حياته، وإن "الاختيار" ممكن يكون أي واحدة تانية أنا عارفة إن تفكيري غلط، وعارفة إني بظلمه... بس ده إحساس أقوى مني.


فهمت نسرين الآن كل شيء لم تكن المشكلة في ليلى، ولم تكن غيرة زوجة عادية كانت المشكلة أعمق من ذلك بكثير. 

كانت صرخة روح مجروحة تبحث عن قيمتها في عيون من تحب.


ضمتها نسرين إلى صدرها بقوة ومسحت على شعرها بحنان أمومي خالص.

_ يا حبيبتي... يا بنتي كل ده في قلبك وساكتة؟ أكمل مش بس اختارك، ده حارب الدنيا عشانك حارب أبوكي وحارب أفكاره هو نفسه وحارب الماضي كله عشان يكون معاكي لو مكنتيش اختياره مكنش في قوة في الدنيا قدرت تجبره، كان سابك من زمان 

هو بيحبك حب محدش حبه لحد

بس إنتي اللي لازم تصدقي ده لازم تصدقي إنك تستاهلي الحب ده كله.


ابتعدت عنها قليلاً وأمسكت وجهها بين يديها.

_ اسمعيني كويس أكمل دلوقتي خرج وهو غضبان ومكسور سيبيه يهدا شوية وبكرة الصبح هتلمي هدومك وهدوم ابنك، وهتروحي لجوزك وبيتك وهتفتحي قلبك ليه زي ما فتحتيه ليا دلوقتي

هتقوليله على كل مخاوفك دي صدقيني هو الوحيد اللي هيقدر يداوي الجرح ده هو الوحيد اللي هيقدر يثبتلك كل يوم إنك مش واجب... إنك روحه اللي ميعرفش يعيش من غيرها.


نظرت صبر في عيني حماتها وشعرت لأول مرة بأن هناك أملاً. 

ربما كانت مخطئة في طريقتها لكنها الآن عرفت أصل الداء وربما... ربما كان أكمل هو الدواء الوحيد.


❈-❈-❈


كانت الخطة التي وضعها جاسر ومالك وأكمل محكمة ودقيقة، تعتمد على استدراج صخر إلى الفخ بنفسه وجعله يعترف بكل شيء وهو يظن أنه يحقق انتصاره النهائي. 

كانت الطاولة قد أُعدت في مكتب جاسر القديم في سرايا التهامي، وهو المكان الذي شهد بداية كل المؤامرات.


تم إيهام صخر بأن جاسر قد انهار تماماً بعد مواجهته الأخيرة، وأنه قرر التنازل عن كل شيء والسفر خارج البلاد، وأنه يريد مقابلته لتسوية الأمور وتوقيع الأوراق النهائية التي تمنحه السيطرة الكاملة على الأرض والممتلكات. 

كان الطُعم مثالياً لغرور صخر الذي لا حدود له.

وصل صخر إلى السرايا ومعه ذراعه الأيمن وشريكه في كل الجرائم هاشم.


دخلا إلى المكتب ليجدا جاسر يجلس وحيداً خلف المكتب، وعلى وجهه قناع من الهزيمة والإرهاق. 

كانت الأوراق مبعثرة أمامه في مشهد يوحي بالاستسلام الكامل.

_ أخيراً يا ابن أخويا أخيراً عرفت حچمك وعرفت إنك مش جدي.


قالها صخر بابتسامة منتصرة وهو يجلس أمام المكتب، وهاشم يجلس قبالته بانتصار.

نظر إليه جاسر ببطء وقال بصوت مهزوم

_ خلاص يا عمي أنا تعبت ومش رايد اكمل في البلد دي، كفاية لحد اكدة انا هاخد امي ومراتي وأسافر.


تحدث صخر أولاً بصوت يقطر شماتة ونشوة انتصار

_ اني مكنتش رايد الأمور توصل بينتنا لىى

إكدة، بس انت اللي وصلتها يا ولدي، طول عمري واني عاملك دراعي اليمين بس انت اللي دمرت كل حاچة. 

لو كنت سمعت الكلام من الول مكنش حصل ٱكدتيتى بس أنت حبيت تلعب لعبة أكبر منيك.


مد جاسر يده إلى الأوراق وقال بصوت مهزوم، بالكاد يُسمع

_ دي كل التنازلات بس قبل ما أمضي، عايز أفهم حاچة واحدة بس.

ليه؟ ليه كل ده؟ إحنا كنا عيلة إيه اللي يخليك تدمر أخوك، وتدمر ولده وتولع نار بين عيلتين بجالها سنين؟


شعر صخر بنشوة النصر وبدأ غروره يدفعه للكلام ليتفاخر بذكائه ودهائه أمام خصمه المهزوم.

_ عشان أنا اللي أستاهل كل ده، مش أبوك. 

جدك الله يرحمه كان دايماً بيفضله عني في كل حاچة الأرض الكبيرة ليه، التچارة المهمة ليه حتى الاحترام كان ليه. 

وأنا كنت مجرد ضل كان لازمن أكسره، وأكسر كل حاچة تخصه.

_ لدرچة إنك تصنع تار مش موچود؟


_ ومين جال إنه مش موچود؟ أنا اللي أوجدته كانت حكاية بسيطة

شوية كلام هنا على شوية إشاعات هناك قصة الأرض من البداية كانت ملك جدي، وبما إنه كان صديق لرضوان الرفاعي، فقالوا إنهم هيجسموا الأرض بينهم. 

جدي بالأرض وهو بتعبه وشغله فيها

لما مات چدي أبوي طالب بحقه في الأرض كلها، بس الرفاعية رفضوا وجالوا إن في عجد بينهم إن لهم النص فيها. 

بس أبوي رفض وجالهم إن تعبهم خدوه في الخير اللي دخلهم من وراها

رضوان رفض وجال إن الأرض دي هو اللي تعب فيها، والأرض عرض واللي يتنازل عنها ميستاهلش يعيش. 

هو وعمي رفعوا سلاحهم على بعض بعدها التار بدأ.

هنا شعر هاشم بالضجر فقطع الحكاية بحدة

_ أنا مش چاي أسمع حكاوى، أنا جاي آخد العجود وأسلمكم الفلوس وأمشي.


تطلع إليه جاسر بنظرة حيرة مصطنعة كأنه غافل تماماً.

_ بس في حاچة برضك شغلاني إيه اللي يخليك تدفع مبلغ زي ديتى في أرض مش متسچلة ولا قانونية، وكمان تحارب كل السنين دي عشانها؟

ابتسم هاشم بسخرية معتقداً أنه يكلم رجلاً مهزوماً.

_ مبقاش يخصك أنت، اتنازلت وسلمتنا العجد وانتهت الجصة بالنسبالك.


في لحظة تغير كل شيء. 

سحب جاسر الأوراق من أمامه بحركة خاطفة، واختفى قناع الهزيمة ليحل محله قناع من الجليد والقوة المطلقة

نهض واقفاً وقال بصوت كأنه هدير رعد مكتوم

_ جبل ما أسلم أي شيء، لازم أعرف الحجيجة الأول.

_ وإيه يجبرني أجولك؟ وإيه اللي شاغلك في حاجة زي دي؟


_ لإنها أرضي، ومن حجي أعرف كل حاچة، يا تعرفني كل شيء يا إما رچالتك اللي چايبهم معاك بره دول، مش هيخرجوا على رجلهم.

انفعل هاشم 

_انت بتهددني؟

أكد جاسر بثقة

_انا مبهددش أنا بنفذ، وأظن إنك عارف إكدة زين 

كانت قوة جاسر ونظراته الحادة قد جعلت هاشم يرضخ له.

_ عايز تعرف إيه؟


رد جاسر بلهجة رغم هدوئها إلا أنها تحمل قوة لا يستهان بها

_الحجيجة كاملة، لإن على جد فايدتها على جد تمنها.

_ بس أنا اتفاقي كان مع عمك وسعر الأرض كان على الأساس ده، ومش هزود جنيه تاني.


صاح به جاسر بقوة جعلت صخر نفسه يلتفت إليه بذهول

_ اتفاجك مع عمي غير اتفاجي معاك 

دلوجت مش أنا اللي أطلع مغفل وأبيع أرضي زي اللطخ، يا تشاركوني معاكم وتدخلوني في لعبتكم، يا إما تاخد شوية العيال اللي متكتفين بره دول وتمشي من اهنه

قطب هاشم جبينه بغضب.

_ أنت بتجول إيه ياولد المحروج انت؟ رجالة مين اللي متكتفين؟

أكد جاسر بثقة مطلقة وهو يشير برأسه نحو النافذة.

_ رجالتك أنت ولو عايز تتأكد شوف بنفسك.

نهض هاشم بسرعة ونظر من النافذة ليرى المشهد الذي جمد الدم في عروقه. 

كان رجاله العشرة جاثيين على الأرض في الحديقة مكبلين وتحت تهديد أسلحة رجال جاسر الذين ظهروا من العدم.


نظر إلى جاسر بحنق وغمغم بتهديد

_ أنت عارف نتيجة عملتك دي إيه؟


أومأ جاسر بثقة وهو ينهض من مكتبه ويتجه نحوه ليقف قبالته بشموخ وقوة كاسحة.

_ خابر عشان أنا مش أجل منك ولما بخطي خطوة ببجى خابرها ودارسها زين. 

دلوجت هكون شريك تالت معاكم، ومش هتنازل لأي سبب. 

هنجعد دلوجت وتعرفوني كل حاچة من الأول ولعلمكم أني اكتر واحد هجدر اساعدكم


أمام قوته وإصراره وأمام حقيقة أنهم أصبحوا محاصرين رضخ هاشم أخيراً.

_لإن الأرض دي عايمة على كنز، كنز حجيجي.

نظر إليه جاسر بتركيز.

أكمل هاشم بمرارة كأنه يكشف عن سر يؤلمه أن يشاركه

_ الأرض دي تحتيها مجبرة فرعونية كاملة محدش لمسها جبل إكده. 

مجبرة لواحد من كبار الكهنة في الدولة القديمة. 

ورضوان الرفاعي لما عرف كان عايز يمنعنا بس إحنا اتخلصنا منيه ومن عم صخر

بطريجة تبين أن رضوان اللي بدأ وهو اللي جتل الأول

وكدة شغلناهم بالتار


من سنين وإحنا بنشتغل في صمت، بنطلع جطع بسيطة ونهربها عن طريق رجالتنا. 

جطع صغيرة تمنها ملايين كنا بنجهز لأكبر عملية نفتح فيها المجبرة الرئيسية، ونطلع التابوت الذهبي والكنوز اللي معاه. 

الصفقة دي كانت هتخلينا ملوك مش بس في الصعيد في البلد كلايتها

كان لازمن أي حد يجف قدامنا نتخلص منيه.


تطلع إليه جاسر بثبات كي لا يشك أحد منهم بشيء وسأل عمه

_يعني كل التار والدم ده عشان خاطر شوية دهب مدفونين من سنين

كمل يا عمي.

اشاح صخر بوجهه

_معنديش حاچة أكملها.

صاح به جاسر

_لأ عندك، عايز أعرف ابوي جتل عامر كيف.

بعد اعتراف هاشم لم يعد هناك شيء يخفى.

_لما أهل البلد وجفوا جصادنا وأمروا بوجف التار والأرض تتجسم

أبوي وافج بس أني خططت بطريجة تانية لإن الجسمة إن نص أرضهم هيكون فيها المقبرة الكبيرة

فمكنش ينفع نفض التار

حطيت عمتك في طريق سالم لجل ما يعشجها ووجتها هيبجى هما اللي اتعدوا علينا في حريمنا وأرچع التار من تاني واشغلهم به.

بس معملتش حساب إن هي كمان تعشجه وتوهرب إمعاه وتجبلنا العار

وجتها البلد كلها وجفت مع سالم وجالوا إن النسب ده هو اللي هينهي التار وإن ورد بجيت مش بس في حماية الرفاعية دي كمان في حماية البلد كلايتها.

مكنش ينفع اسكت

أجنعت أبوك إن عامر الرفاعي بيحوم ورانا بيطمع في أرضنا، وأجنعت عامر بالحديت من ناس تباعنا إن أبوك عايز يخطف مرته جصاد اخته اللي اخدوها شوية غضب على شوية كبرياء وولعت. 

الناس في الصعيد مبتستناش تتأكد، بتمشي ورا كرامتها وبس.

كان جاسر يستمع بهدوء، لكن عينيه كانتا تسجلان كل كلمة.

_ وجتل عامر الرفاعي؟

هنا نظر صخر إلى هاشم بابتسامة ماكرة.

_ دي كانت ضربة المعلم كارم أخوي كان شاب دمه حامي بس متهور

وسهل جوي تسخنه بكلمتين.

تطلع إلى هاشم باتهام

_ هاشم عرف إزاي يلعب في دماغه، وجاله أنه لازم يتخلص منه عشان نجدر نرفع راسنا في البلد بعد اللي عملوه مع اخته

اجنعناه انه مينفعش يجتل سالم لأننا رايدين نعذبه بموت أخوه، كارم راحله وهو اللي بدأ معاه بالحديت واتغزل في مرته جدام الناس وده اللي أكد لعامر إن كارم عايز يخطف مرته صوح.

أكمل هاشم الحديث بصوت أجش كي لا يلقي صخر التهمة عليه

_ عامر رفع سلاحه عشان يهدده بس مكنش هيجتل وأبوك اخدها فرصة وطلع سلاحه بس كنا واثجين انه ممكن يتراجع أو ميجدرش يعملها او حتى الناس تمنعهم وعملنا حساب حاجة زي دي

بس عمك كان زارع رجالته في كل اتجاه وفي اللحظة اللي رفع فيها سلاحه، طلعت طلقة من مسدس واحد من الرجالة، طلقة واحدة خلصت الحكاية.


تطلع إليه صخر بحنق وابعد التهمة عنه

_كانت رچالتي صحيح بس اخدوا الأوامر منيك انت مش مني، لو كنت اعرف ان أخوي هيروح فيها مكنتش وافجت.

سخر هاشم منه وبدأ الاثنين يلقوا على بعضهم التهم وهذا ما كان يريده جاسر


شعر جاسر بغصة في حلقه لكنه حافظ على تماسكه.

_مش هتفرج يا عمي، بس انا دلوجت رايد اعرف أبوي؟ ليه سيبتوه يتعدم وهو بريء؟

رد هاشم ببرود قارس

_ بريء من إيه؟ هو اللي راح وهدد وبعدين، كنت محتاج حد يلبس التهمة عشان التار يولع أكتر. 

ضغطت عليه وقلتله إن دي هيبة العيلة وإني هخرجه منيها زي الشعرة من العجين

وهو صدقني ووثج فيا ولما لجى حبل المشنجة حوالين رجبته، حاول يصرخ ويجول الحجيجة بس كان الأوان فات. 

ومحدش كان هيصدج واحد محكوم عليه بالإعدام، بس موته مكنش هدفنا


أومأ جاسر بتصنع

_وانتو بجى فاكرين ان بعد حديتكم ده ممكن أجبل اشاركم في حاچة.

ضيق هاشم عينيه بشك

في هذه اللحظة ضغط جاسر على زر صغير مخبأ تحت المكتب.


فجأة انفتح باب جانبي للمكتبة وخرج منه سالم وحامد ووهدان، شيوخ عائلة الرفاعي، وعلى وجوههم صدمة وغضب لا يوصفان.


وفي نفس اللحظة انفتح الباب الرئيسي للمكتب ودخل منه قوة من الشرطة بقيادة ضابط كبير، ومعهم أكمل الذي كان يحمل في يده ملفاً ضخماً.


تجمد صخر وهاشم في مكانهما واتسعت أعينهما بالرعب وعدم التصديق نظر صخر إلى جاسر ورأى أن قناع الهزيمة قد اختفى، وحل محله قناع من الجليد والانتصار البارد.

_ إيه ده؟ ده فخ؟

قال الضابط بصوت حاسم وهو يتقدم نحوهم

_ لأ دي النهاية كل كلمة قلتوها متسجلة صوت وصورة اعتراف كامل بكل جرائمكم من أول التحريض مروراً بالقتل وانتهاءً بتضليل العدالة.


نظر سالم إلى صخر بنظرة تحمل كل ازدراء العالم.

_ سنين طويلة وإحنا عايشين في نار أنت اللي ولعتها. 

سنين من الدم والكره بين عيلتين كانوا أهل، كل ده عشان طمعك وحقدك.

حاول هاشم أن يتحرك، لكن رجال الشرطة كانوا قد أحاطوا به وبصخر ووضعوا الأصفاد في أيديهما.


صرخ صخر وهو ينظر إلى جاسر بجنون

_ أنت اللي عملت فيا إكده أنا هجتلك يا جاسر هجتلك.

لم يرد عليه جاسر فقط وقف ونظر إليه وهو يُقتاد خارج المكتب، خارج السرايا خارج التاريخ الذي حاول أن يزيفه نظر إليه وهو يرى نهاية حقبة من الظلام وبداية فجر جديد فجر تم شراؤه بثمن باهظ من الألم والدموع، ولكنه أخيراً قد أشرق.


بمجرد أن خرجت الشرطة وهي تقتاد صخر وهاشم، ساد صمت ثقيل ومُهيب في المكتب. 

لم يكن صمت مواجهة بل صمت رجال يستوعبون للتو نهاية كابوس امتد لعقود، كابوس شرب من دمائهم وسمم أرواحهم. 

كانت رائحة الخيانة والدم لا تزال عالقة في الهواء لكن الآن بدأ يتسلل إليها عبق الحقيقة النقي، حقيقة مُرة لكنها شافية.


كان سالم وحامد ووهدان يقفون، وعلى وجوههم مزيج معقد من المشاعر: غضب بارد من حجم الخديعة وحزن عميق على سنوات العداء الضائعة، وألم على الأرواح التي أُزهقت ثمناً لكذبة وراحة خفية لأن العدل قد أخذ مجراه أخيراً.

تقدم سالم بخطوات بطيئة نحو جاسر الذي كان يقف بهدوء، يراقب من النافذة ظلال رجال الشرطة وهي تختفي كأنه يرى فصلاً من الجحيم يُغلق أمامه. 

وضع سالم يده على كتف جاسر، وقال بصوت يحمل كل وقار السنين وثقلها

_ اللي عملته النهاردة يا جاسر... محدش كان يجدر يعمله غيرك. 

أنت مش بس رچعت حج أبوك... أنت رچعت حج عيلتين كاملين. 

رجعت شرفنا اللي اتمرمغ في الوحل سنين بسبب كدبة وحقد.

التفت جاسر إليه، ينظر إليه بنظرة خالية من أي تحدي أو دفاع نظرة رجل لآخر يجمعهما الآن جرح مشترك.

_ أنا معملتش كل ده لوحدي أنا كنت القوة بس العقل والقلب كانوا في مكان تاني.


وهنا التفت جاسر ونظر بامتنان حقيقي إلى مالك وأكمل الواقفين بجانبه.


أكمل مالك الذي كان يقف كعادته هادئاً لكن عينيه تلمعان بذكاء حاد

_ جاسر هو اللي رسم الخطة الكبيرة أنا كنت مچرد عينيه اللي بتشوف في الضلمة بچمع المعلومات، وبوصل الخيوط ببعضها كنت براجب تحركاتهم وبوصل لجاسر كل همسة وكل خطوة، عشان يجدر يبني عليها جراره.


ثم تقدم أكمل الذي حول القضية الشخصية إلى قضية عامة، صوته كان هادئاً لكن كل كلمة فيه كانت تحمل وزناً قانونياً قاطعاً.

_ وأنا كنت بحول المعلومات لأدلة

كل تسجيل كل ورقة كل شاهد، كنت بوثقه وببني بيه قضية متكاملة

الخطة مكنتش مجرد فخ عشان يعترفوا، كانت شبكة قانونية كاملة بتتقفل عليهم من كل اتجاه

حتى لو مكنوش اعترفوا النهاردة الأدلة اللي جمعناها كانت كافية تحبسهم باقي عمرهم، اعترافهم ده كان مجرد المسمار الأخير في نعشهم.


نظر حامد بإعجاب حقيقي إلى الشابين.

_ شهادة حج تتقال ذكاء مالك في جمع الخيوط، وحنكة أكمل في القانون هما اللي خلوا خطة جاسر تنجح.

لولاكم كانت الجوة لوحدها ممكن تبجى تهور

أنتم التلاتة كل واحد فيكم كان ركن أساسي في اللي حوصل النهاردة.


أما عن مصير الأرض، فقد أوضح أكمل الأمر بحسم

_ بالنسبة للأرض الموضوع منتهي قانوناً العقد القديم اللي كان بين جدودنا، قانون وضع اليد الحالي لغاه

والأهم من كل ده، بمجرد إثبات وجود مقبرة أثرية الأرض بتنزع ملكيتها فوراً وتصبح ملك للدولة. 

ده حق البلد ومحدش فينا يقدر ياخده

الكنز ده مش بتاعنا ده بتاع التاريخ.

أضاف وهدان بحكمة

_ وده أحسن، الأرض دي اتشربت دم كتير، مينفعش حد فينا يزرع فيها تاني

خليها ترجع لأصحابها الحجيجيين أصحاب التاريخ وتكون شاهدة على نهاية التار.

ساد الصم مرة أخرى لكنه كان صمتاً يحمل تفاهماً عميقاً.

كسر جاسر الصمت بصوت ثابت يحمل قراراً لا رجعة فيه.

_ الدم اللي سال بينا، مفيش حاچة تجدر تمحيه بس نجدر نوجفه نجدر نخليه آخر دم.

نظر إلى أعمام نغم.

_ بكرة مع شروج الشمس هنچيب رچالتنا ورچالتكم، وهنجف كلنا على حدود الأرض دي.

مش عشان ناخدها

لأ عشان نسلمها للدولة جدام البلد كلايتها وهنعلن إن تار التهامي والرفاعي... انتهى وإن اللي فات مات.

أضاف سالم بقوة وهو ينظر إلى أكمل ومالك ثم إلى جاسر

_ وهنعلن إن شباب العيلتين دول، هما اللي طفوا النار هما اللي بعجلهم وجوتهم عرفوا يرچعوا الحج وينهوا زمن الجهل والدم. 

المستجبل ليهم هما مش لينا إحنا اللي عشنا عمرنا في الكره.


أومأ جاسر برأسه موافقاً وهو يشعر لأول مرة منذ سنوات طويلة بأن حملاً كالجبال قد أزيح عن صدره

لم تكن نهاية سهلة ولن يكون المستقبل بسيطاً، لكنها كانت البداية بداية حقيقية مبنية على أنقاض الماضي، وعلى أرض صلبة من الحقيقة والعدل وبقيادة جيل جديد أثبت أن العقل والحق، أقوى من أي سلاح.


يتبع...

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رانيا الخولي، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة