رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 68 - الأربعاء 15/10/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الثامن والستون
تم النشر الأربعاء
15/10/2025
ـ مواسم العشق..
الرسلانية ١٩٩٣..
أغلق الباب خلفه في بطء وعيناه تبحث عنها بأرجاء الغرفة لعله يطمئن أن ما حدث حقيقية وواقع لا بعض من خيال يعاوده إذا ما اشتد الشوق لمرآها.. تنبه لوجودها عند ذاك الركن البعيد على الأريكة المخملية، تجلس في هوادة على الرغم من الاضطراب الذي يشملها..
اقترب بقلب وجل، حتى إذا ما أصبح قبالتها انحنى قليلا ليمسك بذراعيها حتى تنهض ليطل على محياها من خلف الستار التلي المسدل على وجهها.. تطلع مدثر في تيه نحو ملامحها هامسا في هيام: أني مش مصدج.. بعد السنين دي كلها.. بعد وچع الجلب والعمر اللي راح ف البعاد.. بجيتي جدامي يا نچية.. بجيتي حلالي..
دمعت عينى نجية في محبة متطلعة نحوه بنظرة عشق كانت كفيلة لتحثه على رفع الترحة التلية من على محياها لتتجلى قسمات وجهها الصبوح المسرب بحمرة الخجل.. ليهتف في استحسان: ووه يا نچية.. أني من الفرحة حاسس إني طاير طير مش ع الأرض.. ده كرم ربنا ده كبير جوي..
همست نجية في حياء: ونعم بالله.. يا سي مدثر..
أكد مدثر في إصرار: مدثر بس يا نچية.. من غير سي.. سمعيني اسمي منك..
همست نجية في خجل: مدثر..
هلل مدثر في سعادة، مؤكدا في عشق: واااه يا فرحة العمر اللي چت متأخر.. بس كنها متأخرتش ولا دجيجة..
اقترب مدثر متطلعا لعمق عينى نچية، هامسا في هيام: والله.. لو اللي راح ده كله تمن اللحظة دي بس.. ف أني راضي يا رب.. وده تمن جليل على فرحتي الليلة دي.. جربي يا نچية.. أني بجالي سنين طويلة بدعي ربنا بالساعة اللي تبجي فيها حلالي.. عشان اخدك بين درعاتي ومفتكيش أبدا..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٣..
قلبت أنس الوجود السراي رأسا على عقب ولم تجد سالم، بينما جلس محمود في قلق متعجبا من اختفائه العجيب الغير مبرر.. بينما جاب حبيب ورجاله أروقة النجع ودروبه بحثا عنه في حذر حتى لا يثير ظهورهم نوبة من القلق والتوتر بين الناس بعد ليلة طويلة من الفرح والسرور..
انتهى البحث على اللاشيء وقد تجاوزت الساعة الثالثة صباحا.. اين ذهب ذاك الصبي!.. اندفع أحد الرجال صوب حبيب حاملا قطعة من ملابس سالم.. أو ما يظن أنها له.. هاتفا: لجيت دي يا حبيب بيه جرب الطريج اللي طالع ع الچبل!..
هتف حبيب وهو يقلب الشال بين كفيه مؤكدا: ايوه ده شال سالم.. بس ايه اللي هيطلعه الچبل المسدوح ده!..
لم يكذب حبيب خبرا، بل اندفع ورجاله حاملين المشاعل صوب المدق المفضي لأول طريق الجبل.. وقد أمر حبيب الرجال بالانتشار هنا وهناك.. ليزعق كل منهما في عزم باسم سالم.. لعله صعد الجبل بالفعل ونام من شدة تعبه أو سقط رعبا لأي عارض.. فيتنبه مجيبا..
مرت ساعة بطولها في البحث والنداءات المتكررة من هنا وهناك باسم الصبي.. يتردد صداها بجنبات الجبل في قوة.. لعلها تكون سببا في إدراكه أنه ليس وحيدا فيظهر من مخبئه..
وأخيرا.. صرخ أحد الرجال من خلف صخرة ضخمة، مؤكدا: لجيته.. اهااا.. الواد هنا يا حبيب بيه..
اندفع حبيب وشبل وباقي الرجال نحو موضع العثور على الصبي ليهتف حبيب في تنهيدة راحة: ايوه.. هو سالم.. الحمد لله..
هم حبيب بحمله، لكن ضلعه الملتئم حديثا لم يمكنه من ذلك، فاندفع شبل مقترحا: عنك يا حبيب بيه..
حمل شبل سالم في سلاسة وانحدروا من الجبل في هوادة.. ليشكر حبيب الرجال عند وصلهم للسراي.. اندفع شبل فالبداية واضعا الصبي على الأريكة تحت التعريشة وحبيب في اعقابه، ليقترح شبل هاتفا: انادم داكتور سرور لچل ما..
قاطعه حبيب متعجبا: داكتور سرور مين يا أبو المفهومية.. هتچيب الراچل ليلة فرحه.. روح حضر العربية هنطلع به على مستشفى المركز..
اندفع شبل منفذا، بينما ظهرت أنس الوجود على أعتاب الاستراحة مهرولة نحو التعريشة حين وعت من نافذتها لوصولهما بصحبة سالم.. هاتفة في قلق: ايه! لقيتوه الحمد لله!.. كان فين!..
أكد حبيب: لجيناه طالع الچبل.. طب كان رايح فين ولمين!.. معرفش..
وضعت أنس الوجود كفها على جبين سالم، مؤكدة في ذعر: ده سخن..
حضر شبل مؤكدا: العربية بره يا حبيب بيه!..
أمر حبيب: طب ياللاه خده وتعال معاي..
هتفت أنس الوجود مقترحة: اجي معاكم!..
هتف حبيب في هوادة: ملوش داعي.. خليكي.. احنا هنطمنوا عليه ونرچع على طول..
اومأت أنس الوجود برأسها في تفهم، وخلعت عنها شالها تدثر به سالم في حنو.. ليبتسم حبيب لها في محبة قبل أن يغادر في أعقاب شبل نحو المشفى العام..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٣..
طرق الباب في عجالة.. وما قام بدفعه لينفرج إلا بعد أن أخذ الإذن ممن بالداخل في نبرة مترددة.. دخل سرور في عجل لقلب الغرفة.. هاتفا في سعادة: ألف مبروك يا عرو..
قطع كلمته حين تطلع نحو الفراش ولم يجد مجيدة عروسه تنتظره فجال بنظرة نظرة سريعة نحو الأريكة ثم الجانب الآخر من الغرفة وأخيرا هداه تفكيره ليبحث أسفل الفراش لعلها هناك.. فهو سمع صوتها تدعوه للدخول في خجل.. ولولا ذلك لأعتقد أنها ليست بالغرفة من الأساس.. لكنه يقسم أنها دعته للدخول.. أين هي إذن!.. لم يبق إلا خزانة الملابس لم يبحث بها، لكن لم قد تكون هناك!.. فتح جميع الضلف ولم يجدها.. ما دفعه ليهتف في قلق: مچيدة!..
تناهى لمسامعه صوتها الهامس: نعم يا داكتور..
تنبه أن الصوت يأتيه من خلف ضلفة الباب التي انفرجت وتركها على حالها.. جذب الباب ليتم إغلاقه فشهقت هي حين اكتشف موضعها.. هتف سرور في نبرة مازحة: طب إنتي هنا وسيباني اجلب عليكي ضرف الدولاب.. جلت يمكن عندها غسيل عايزة تاخده فومين..
اتسعت ابتسامة مجيدة ما حثه ليمد كفه ممسكا بكفها جاذبا إياها.. والتي قاومته لبرهة قبل أن تطاوعه لتسير خلفه نحو الأريكة ليجلسا جنبا لجنب، ليسأل سرور بروحه المرحة المعتادة: كيفك النهاردة!.. بيجولو الليلة دي ليلة العمر وكده.. ناوية تبجى ولا هتبجى ندم العمر ولا ايه!..
هتفت مجيدة في طاعة وسذاجة: لاه.. ربنا ما يچيب ندم.. ده أنت هتنبسط مني ع الآخر..
هتف سرور في حنق مفتعل: ايه اللي بتجوليه ده يا مخبلة!..
هتفت مجيدة مستدركة: جصدي يعني.. احنا هنبسط بعضينا..
هتف سرور متعجبا: يا دي النيلة.. أني بجول خلاص يا مچيدة.. الرسالة وصلت من غير كلام كتير بيروح في حتت مش مظبوطة..
هتفت مجيدة مستدركة: أعمل اللي يريحك يا داكتور سرور.. اهم حاچة بس تكون مبسوط..
هتف سرور مازحا: اسمي سرور.. هو في اكتر من كده انبساط!..
قهقهت مجيدة في أريحية، ما دفع سرور ليهتف في سعادة فائقة: وووه.. ده تاريني كنت غشيم وطلع في انبساط بزيادة اهو..
همست مجيدة في حياء: داكتور سرور!.
حملها سرور بغتة فصدرت عنها شهقة صدمة وهي تسأله في اضطراب: على فين!.
هتف سرور في فرحة: هوصلك للمچد يا مچيدة.. بس بلاها داكتور دي..
همست مجيدة في تعجب مضطرب: ليه!..
أكد سرور وهو يضعها على طرف الفراش باسما: هتچيب لي حساسية في ليلة مفترچة زي دي.. يرضيكي!..
قهفهت مجيدة وبتلك الضحكات التي رافقته الليل بطوله.. اكتملت سعادة سرور..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٣..
كانت الساعة قد تعدت السادسة صباحا حين ظهر شبل على بوابة السراي حاملا سالم بعد أن استفاق وتعافى قليلا.. وبصحبتهما حبيب..
اندفعت أنس الوجود نحوهما وقد دخلوا بالفعل للسراي متجهين للدار صوب غرفة محمود.. الذي نهض متيقظا هاتفا باسم سالم في اضطراب، لتطمئنه أنس الوجود رابتة على كتفه مؤكدة: متقلقش يا محمود.. سالم بقى كويس وزي الفل اهو..
وضع شبل سالم على الفراش واستأذن مغادرا، بينما أمر حبيب أنس الوجود ومحمود بالبقاء بالخارج للحظات، اصطحبت أنس الوجود محمود لخارج الغرفة منفذة أمر حبيب، وما أن أغلقت الباب حتى جلس حبيب على طرف الفراش متطلعا نحو سالم، الذي كان يحيد بناظريه عن موضع حبيب في حرج، ليهتف حبيب بنبرة حازمة: اللي عملته ده.. عمايل رچالة!.. طالع الچبل ليه ولمين يا سالم!.. بص لي كده وجول لي.. حد عاجل يعمل اللي عملته ده!..
تطلع سالم نحو حبيب وقد لمعت بعينيه الدموع، مؤكدا في نبرة خاضعة: أني معرفش ليه عملت كده ولا ليه.. بس امي.. امي بجت لراچل تاني.. ليه تتچوز.. مش أني طول عمري راچلها.. و..
لم يكمل سالم لغصة تملكته.. تفهم حبيب ما كان يقصد، رابتا على كتفه بحنو هامسا: برضك يا سالم.. وأني اللي كنت بجول سالم فاهم وحنين على أمه.. امك اللي طلع عينها في تربيتك.. وشافت المر بسبب أبوك وخالك.. ايه!.. نستكتروا عليها تبجى ف عصمة راچل يعوضها الهم اللي شربته ويكون سند لها.. أنت راچل ايوه معلوم.. بس كلها سنة ولا اتنين وتروح مصر تدرس في الأزهر مع الشيخ محمود.. وهتسبها لحالها.. هيرضيك برضك تشوف أنت حالك.. وهي تجعد لحالها وحدها!..
هز سالم رأسه متفهما، ليستطرد حبيب في مودة: وبعدين يا شيخ سالم.. ده شرع ربنا.. حد يجدر يعارضه.. عجبال ما نفرح بك أنت كمان وأنت چاي م الأزهر بالعالمية.. وبعدين العروسة.. ولا ايه!..
همس سالم باسما: معلوم يا حبيب بيه..
همس حبيب باسما بدوره: اللي حصل ده هيكون بينا ومحدش غيرنا هيعرفه.. بس تشد حيلك ف حفظ القرآن مع محمود والشيخ معتوج.. ماشي يا شبخ سالم..
هز سالم رأسه في طاعة.. لينهض حبيب مغادرا الغرفة تاركا محمود يعود لحجرته برفقة سالم..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٣..
انتهى حفل الزفاف أخيرا.. ووصلا لشقتهما بسلام، وما أن هم بتوجيه الحديث إليها.. حتى وجدها تتركه خلفها بالردهة الخارجية مندفعة للداخل حيث غرفة النوم.. مغلقة الباب خلفها.. ظن ممدوح في نفسه أنها دخلت لتبدل فستان الزفاف بشيء أكتر راحة.. طال الوقت بالخارج وهي لا تبين.. ما حثه على التوجه نحو غرفة النوم طارقا بابها في تردد، مناديا باسمها: مريم!.. بتعملي ايه كل ده!..
لم تحر جوابا، ما دفعه لوضع كفه على مقبض الباب ليديره في حذر ليتفرج الباب قليلا مدخلا رأسه يستطلع الأمر فإذا به يشهق في صدمة.. فقد كان ذاك آخر ما توقعه.. كان يعلم أنها مجنونة حرفيا وذاك كان واحدا من أسباب عشقه لها.. لكن أن يصل بها الجنون حد النوم في ليلة زفافهما.. فهذا قد تخطى حدود المنطق والمعقول..
دخل معتقدا أنه يهزي.. وأنها ربما ترتاح قليلا من إرهاق الحفل.. لكنه اقترب في حرص ليجدها تتوسط فراشهما الواسع المغطى ببعض أوراق الزهر الجافة.. وتنام ملء جفونها حتى أنه سمع صوت غطيطها من موضعه على طرف الفراش..
ماذا عليه أن يفعل في هذه المخبولة!.. ايوقظها!.. فمن غير المعقول أن تنام للصباح وهي بهذا الرداء الثقيل وكل هذه الزينة والكثير من الدبابيس بشعرها وتاجها المرصع باللؤلؤ.. تنهدت في راحة تاركة إياه يشتعل غيظا من أفعالها.. وبنفس اللحظة تأمل ملامحها المستكينة على غير عادتها فابتسم وزال كل حنقه.. وفجأة وبلا سابق إنذار لمعت بخاطره فكرة.. كيف لم يفطن لها!..
اندفع لخارج الغرفة باحثا عن منقذه.. بحث هنا وهناك حتى وجده فما كان له دراية بعد بموضع الأشياء في منزله الجديد.. اندفع به للغرفة.. ذاك الراديو الصغير الذي يبث دوما أغاني عبدالحليم حافظ.. ضغط زره وقربه نحو الفراش لتستيقظ مريم في سرعة متنبهة.. زاعقة في فرحة وهي تزغرد: خلي السلاح صاحي.. صاحي.. إن نامت الدنيا.. صاحي مع سلاحي..
قهقه ممدوح على أفعالها هاتفا: كده معملتيش بالنصيحة وتنامي.. اهي النكسة ركبتنا..
قهقهت مريم وهي تدعك عينيها متناسية ذاك الحكل الذي كان يزينهما قبل نعاسها، لتصبح اللحظة أشبه بالباندا وسط أعواد الخيزران.. ارتفعت ضحكات ممدوح على مظهرها هاتفا: ده شكل عروسة ليلة دخلتها يا ربي!..
امتعضت مريم أمرة: تعالى ساعدني افك الترحة والدباببس دي كلها جابت لي صداع..
وضع ممدوح الراديو جانبا، وبدأ في مساعدتها، لتهتف مريم معترضة: هتسيب الأغاني الوطنية دي كده كتير!..
أكد ممدوح باسما: والله لو حتى مارشارت عسكرية وهتخليكي فايقة لهسبها..
قهقت مريم مازحة: قلبك اسود.. ايه يعني قيلت لي نص ساعة..
هم ممدوح بمعارضتها، إلا أن عبدالحليم هتف شاديا: بلاش عتاب.. بلاش العتاب يا حبيبي..
ليهتف ممدوح مازحا: أوامرك يا حولم.. ما أنت جميلك كبير علينا ومقدرش ارد لك طلب..
قهقهت مريم مؤكدة: اشتغل ياللاه.. الدبابيس تعبت دماغي والله.. أنا عارفة بيعملوا فالعرايس كده ليه!.. ماله ما نتجوز بالبجامة ونخلص..
قهقه ممدوح: اه ومنها للسرير أنام وأنا سايبة العريس بره يضرب أخماس ف اسداس.. ما احنا بنتعذب معاكم اهو.. و..
نساب شعر مريم على كتفيها متوجا بعد أن تم تخليصه من كل مشابك الشعر و دبابيس الترحة التلية.. ليشهق ممدوح في فرحة: ايه ده!.. وريني كده!..
ابتسمت مريم لسعادته ولم تعقب كعادتها.. ليهتف ممدوح متعجبا: ايه يا مريم ده!.. عندك شعر ح..
قاطعته مريم في رعونة كعادتها: ايه عندك شعر دي.. هو أنت كنت فاكرني قرعة!..
هتف ممدوح مؤكدا: الصراحة اه.. كنت حاسس إني هاخد مقلب.. بس كان هيبقى احلى مقلب على قلبي.. عشان بحبك..
اتسعت ابتسامة مريم وقد هدأت حدة اعتراضاتها.. لتهتف في خجل لم يكن من عاداتها: وأنا كمان بحبك..
طالعها ممدوح متصنعا الكبر: طب ما أنا عارف.. ده الطبيعي على فكرة..
استشاطت مريم غضبا.. فعلم ممدوح أن عليه الهرب من أمامها اللحظة.. فهرول لخارج الغرفة وهي تحمل فستان زفافها في أعقابه.. يركض ضاحكا بأرجاء الشقة وهي خلفه تتوعده.. حتى تعثرت بطرف إحدى البسط وسقطت موضع اختبائه عنها.. تلقفها ممدوح مشاكسا: بقى ف ذمتك.. في عروسة عاقلة تجري ورا عريسها كده!.. اللي كنت بشوفه فالأفلام العكس.. مريم!.. إنتي وديتي المنطق ف داهية..
كانت مريم تلتقط أنفاسها في تتابع ولم يكن لها القدرة للرد عليه، لكنه تمسك بها في قوة يدنيها إليه هامسا في عشق وهو يتطلع لعمق عينيها: بس كل اللي بتعمليه مهما كان غريب.. على قلبي زي العسل.. قوليلي.. هتفضلي تجري ورايا كده على طول!..
همست مريم وهي مأخوذة كليا: هجري وراك أنت واللي يتشدد لك كمان..
قهقه ممدوح وهو يضمها إليه في شوق، وعبد الحليم حافظ يصدح مؤكدا.. أنا لك على طول خليك ليا..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٣..
تطلعت له في تعجب لا تدري ما تفعل، لأكثر من ساعة منذ انتهاء حفل الزفاف وصعودهما لشقتهما وهو على هذه الحالة الغريبة، يجلس قبالتها متفرسا فيها بهذا الشكل المريب.. لا يتحرك ولا حتى يرمش له جفن فقط يبحلق فيها بعينين مذهولتين كأنه يراها للمرة الأولى.. كان ذاك ما يخطر ببال هاجر وهي تجلس ساكنة تشعر باضطراب وغرابة مما يصدر من جمال الذي كان يدير بينه وبين حاله حوارا خاصا لم يشركها فيه.. يمني نفسه: يا سلام بقى ع الجمال الفرنساوى الأصلي.. آه يا واد يا جمال لو ربنا يرزقك ببنت عيونها حلوة كده زي امها.. اللون الأزرق ده شاحح ف السوق.. تقعد تحط رجل على رجل كده وأنت بترفض العرسان.. بس برضو.. هتطلع عينك وأنت عامل لها حارس خصوصي ف الرايحة والجاية واللي يبص لها بصة متعجبنيش اطلع عينه.. بس.. وماله.. ما..
خرج من خواطره أخيرا مع هتاف هاجر للمرة الثانية، تسأله في قلق: جمال أنت كويس!..
هز رأسه نافيا: لا..
همت بالنهوض لتتصرف لكنه أعادها فورا لمكانها هاتفا في اعتراض: رايحة فين!..
أكدت هاجر: هشوف لك دوا أو أي حاجة..
أكد جمال في عشق: طب ما الدوا قدامي اهو.. شفا..
اتسعت ابتسامة هاجر هامسة: كده ابتديت اطمن.. خضتني عليك ..
هتف جمال في لهفة: بجد!.. اتخضيتي عليا..
هزت هاجر رأسها مؤكدة: ايوه يا جمال.. هو أنا ليا غيرك يا جيمي..
أدعى جمال الاغماء، لتنفجر هاجر ضاحكة وهو يهتف بعينين مغمضتين: يا بنتي حرام عليكي براحة عليا ده أنا غلبان.. اتخضيتي وجيمي.. الجرعة كده كترت عليا.. هدخل منك ف غيبوبة..
اعترضت هاجر: بعد الشر عليك..
هتف جمال مازحا: لا ده إنتي قصداها بقى!..
همست هاجر في خجل: طب أقول ايه!..
هتف جمال في عجالة وهو يجذبها نحوه: متقلويش حاجة.. سبيني أنا أقول كل حاجة.. أنا كاتم ف قلبي وساكت بقالي سنين.. وآخر كام شهر أمي كانت معتقلاكي عندها.. كنت هموت واستفرد بيكي.. وها قد جاء وقت الاستفراد.. ف سبيلي بقى الطلعة دي..
اتسعت ابتسامة هاجر ولم تعقب بكلمة، ليتطلع جمال بعينيها وهو يدنيها نحوه في هوادة: هاجر!.. أنا بحبك.. بحبك من أيام ما كنتي بت ورا عربيات الرش فحارتنا.. وبعد ما كبرتي شوية بقيتي ما شاء الله بتجري ورا عربية رش الناموس.. وف كل مرة كنت بشوفك.. مكنتش بقول العبيطة اهي.. لا أبدا..يتقطع لساني..
لم تستطع هاجر إمساك ضحكاتها، وهو يستطرد في ثبات: كنت بقول البت أم عيون حلوة دي بلون بحر إسكندرية هتبقى عروستي.. ونمت وصحيت وأنا بحلم باليوم ده.. لحد ما في ليلة اختفيتي.. عمري ما قلت لحد ع الليلة اللي عرفت فيها إنك روحتي ومش راجعة.. حبست نفسي في اوضتي وقعدت اعيط الليل بطوله من قهرة قلبي على فراقك..
همست هاجر باسمه بصوت متحشرج تأثرا: جمال!..
همس جمال مستطردا: راح جمال وياكي.. بقى يدور عليكي ف كل الوشوش.. سنين وأنا عامل نفسي بدور على بنت الحلال وواخد أخواتي حجتي عشان مش عايز اظلم واحدة معايا.. لحد ما فجأة لقيتك قدامي ف المستشفى.. عارفة يومها كان حالي ايه!..
هزت هاجر رأسها نفيا وقد لمعت بعينيها الدموع، وهو جمال يستطرد في وجل: والله أنا نفسي ما عارف اوصف لك حالي.. وكأن أول نظرة ليكي بعد طول الغياب ده.. أول نفس يخش صدر واحد بعد صدمة الانعاش.. وحس جمال أخيرا إنه لسه عايش..
اندفعت هاجر نحو أحضان جمال باكية، ليطوقها بذراعيه في عشق وشوق طاغِ.. ليدرك أن الحياة يمكن أن تكون عادلة أحيانا..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٣..
كان يسير بالسيارة في هوادة، هي تجلس جانبه ومنيرة تجلس بالخلف.. يدنو الطرف نحوها كل برهة يستزيد من حسنها.. وحضورها الذي اشتاقه..
جاء ليقلهما بعد حضورهن زفاف صديق سراج المدعو جمال على هاجر صديقة أنس الوجود.. وكذا ممدوح على مريم أخت جمال..
كان لا يرغب في بعادها.. لكنه لم يقدر على رفض طلبها بالذهاب لحضور الزفاف بصحبة منيرة.. في وجود سراج.. ما جعله يطمئن ويقبل.. فما عاد يرتاح في وجودها بعيدا عن عينيه بعد التجربة المريرة التي مرا بها وكان ضحيتها زفراني المسكين..
وصلا للسراي أخيرا ليترجل الجميع وتسبق منيرة للداخل يتبعها زفراني حاملا الحقائب وحبيب وأنس الوجود في اعقابهما، وقد هتف حبيب مازحا: بجي بعد ده كله، يطلع الأستاذ ممدوح صديج العيلة.. أخوكي ف الرضاعة.. أني اتغفلت كتير بسبب الحكاية دي..
قهقهت أنس الوجود وهو يستطرد مفسرا: كنت كل ما اشوفه چارك.. ولا رايحة چاية معاه.. اجول لروحي.. يا مين يلامني على رجبته.. عشان اخلص من النار اللي كان والعة بحشاي وأني شايفة جريب منك.. وأني مش طايل.. تاريه الراچل مظلوم.. ياللاه.. ربنا يهنيه ويسهل له حاله.. ويسهل لنا حالنا إحنا كمان.. ولا ايه!..
هزت أنس الوجود رأسها في حياء.. وقبل أن يصلا لمدخل السراي الداخلي.. هلّ عزام الحراني مندفعا للداخل صارخا بحبيب يستوقفه.. ليندفع شبل بدوره يستوقف عزام عن الدخول لعمق السراي دون إذن حبيب.. الذي تعجب من ظهور عزام الحراني على أعتاب داره ملهوفا طالبا للغوث بهذا الشكل.. ما دفع حبيب ليأمر زفراني في حزم: سيبه يا شبل.. ايه في يا عزام يا حراني!..
هرول عزام صوب موضع حبيب وأنس الوجود المتعجبة من ظهور جدها بهذا الشكل الذليل على غير عادته، وهو يهتف مستنجدا: خدوا مظهر يا حبيب بيه.. خدوا واد عمك يا أنس..
هتف حبيب متسائلا في تعجب: مين دول اللي خدوه!..
ظهر سراج على أعتاب البوابة مقرا: الحكومة اللي خدته يا حبيب!..
وهتف سراج ساخرا وهو يوجه حديثه لعزام: جولهم سحبناه ليه من وسطكم يا راچل يا طيب!.. ظلم ولا عن حج..
هتف عزام موجها حديثه لسراج بنبرة مستكينة مدافعا عن حفيده: مظهر معلش حاچة يا سراچ بيه.. والنعمة مظلوم..
هتف حبيب محاولا الاستفسار ليفهم: ايه هو ليه وعشان ايه! ما تفهمنا يا سراچ ايه في!..
هتف سراج مقرا: لما انتي جلت لي يا حبيب إن كور النار كانت بتترمي عليكم من بره.. حججت ف الموضوع وفي ناس شهدت إن مظهر الحراني هو اللي رمى كور النار چوه الدار اللي كانت هتولع بكم..
شهقت أنس الوجود في صدمة، بينما جز حبيب على أسنانه في عيظ مكظوم وعزام يصرخ معترضا: كدب.. والله ما حصل الكلام ده.. هيعمل كده في بت عمه برضك!..
صرخت أنس الوجود في قهر: آه يا جدي يعمل.. زي ما عملت أنت وهو وبعتوني لنصير الراوي وقبضتوا التمن وعد منه إنه يقنعني ميطالبكوش ب ميراثي من أبويا عندكم..
هتف عزام يحاول تبرئة نفسه: كداب.. لو المچحوم ده هو اللي جالك كده، يبجى كداب ف أصل وشه، والعيب عليكي إنتي إنك تصدجيه.. كان..
هتفت أنس الوجود صارخة: كان إيه يا جدي!.. محدش قالي حاجة.. ودي المصيبة.. أنا اللي سمعتكم يومها بنفسي.. كنت جاية أسلم عليك.. وملقتش حد في الجنينة.. اتكسفت أدخل.. لفيت عشان انادي عليك من تحت شباك اوضتك.. شفت نصير قاعد معاك أنت ومظهر.. وقاعدين تبيعوا وتشتروا فيا.. ولا كأني لحمكم.. ومش كده وبس.. ده انتوا كدبتو عليه وفهمتوه إن جزء كبير من أرض الرسلانية مكتوب لي بيع وشرا.. وأنكم عارفين الحكاية دي من زمان وشوفتوا ورق الأرض بعنيكم.. عشان تبقى العداوة بين نصير وبين حبيب اللي طبعا مسيطر على أرض الرسلانية كلها..
نكس عزام رأسه في خزي ولم ينطق حرفا، لتستطرد أنس الوجود باكية: عرفت بعدها إن نصير مصدقش حرف من موضوع الأرض المكتوبة باسمي ولا كان ف باله أرضي اللي عندكم.. كان كله همه أرض الرسلانية وخدني أنا مجرد طعم انتو قدمتوه بكل ندالة عشان يوصل لحبيب وأرض الرسلانية.. وشكلكم مستكفتوش.. بعت مظهر وأنا حبيب جوا البيت الملعون ده عشان يولع فيه.. اهو نضمن إنهم ماتوا وخلصنا منهم سوا.. ليه كده!.. أنا عملت لك ايه.. ده أنا بعد ما عرفت إني فعلا ليا حق عندكم وده من على لسانك وأنت بتكلم نصير.. مجاش في بالي اطالبكم به..
هتف حبيب بعد أن استشعر أن أنس الوجود قد أفرغت كل ما بجعبتها، أمرا في حزم: ايوه.. مكانش في بالها تطلب ورثها يا عزام يا حراني.. لكن دلوجت چاي على بالها تطلبه كله وعلى داير مليم..
بهت عزام وكذا أنس الوجود التي تعجبت من طلب حبيب لكنها لم تعقب، تاركة له إدارة الأمر بالشكل الذي يراه مناسبا، ليستطرد حبيب باسما في سخرية: مش أنت چاي دلوجت عشان أنس الوچود
تشهد مع واد عمها الغلبان وتخرچه م الحبس.. وأني كمان من ضمن.. نروحو نتنازلوا لچل ما يخرچ منها الغرجة السودا دي!..
أكد عزام بإيماءة من رأسه، ليستطرد حبيب في نبرة صارمة: تمام.. يبجى حج أنس الوچود من ورث أبوها اللي كلتوه ف كروشكم لسنين وسنين وفوجه حج خالتي برلنتي من چوزها.. وكده نبجى خالصين.. نروحوا نخلصوا مظهر بيه م التأبيدة اللي ممكن يلبسها ب الراحة.. ويبجى يا دار ما دخلك شر.. جلت ايه يا عزام يا حراني!.. يا ريت ترد دلوجت عشان أنس لساتها چاية م السفر ورايدة ترتاح.. مش جدامنا النهار بطوله.. هاااااا!..
ساد الصمت لبرهة.. قبل أن يهتف عزام في محاولة أخيرة للمراوغة: طب ارچع الدار.. وأشوف الورج والحسابات..
هتف حبيب في صرامة: بجولك ايه يا عزام يا حراني!.. لو خرچت من هنا يبجى أنسى إننا نخرچ لك ولدكم.. وبطل بجى شغل ملاعيب شيحة دا.. أنت حافظ كل شبر من أرض الحرانية وعارف ده لمين وعارف كل جرش ف خزنتك وچه منين!.. فبلاها لف ودوران.. هتمضي ولا تروح من غير رچعة!..
ساد الصمت لبرهة، لتؤكد أنس الوجود في عزم: وحقي وحق أمي مش هاخده فلوس.. هاخده أرض..
هتف عزام معترضا: لاه.. ده كتير.. من ميتا الحريم لهم في الأرض!..
أكد حبيب في نبرة واثقة: هتاخد اللي هي ريداه طالما حجها يا عزام.. جولت ايه!.. أني خلجي ضاج!..
هز عزام الحراني رأسه موافقا.. ليندفع حبيب نحو المكتب ليحضر أوراقا وقلما.. وكتب الصيغة المتغق عليها.. ليزيلها عزام الحراني بامضائه بيد مرتعشة حنقا وقهرا.. قبل أن يؤكد عليه حبيب في نبرة مبتهجة: هنعدو عليك بكرة نوثق ف الشهر العقارى..
هم عزام بالمغادرة إلا أن سراج استوقفه أمرا: امضي ع الورجة دي كمان..
تعجب حبيب ليفسر سراج: دي إقرار عدم تعرض لك او لأنس الوچود يا حبيب.. الخلج دي ملهاش ضامن..
هز حبيب رأسه استحسانا لفعل سراج، ليزيل عزام الورقة في طاعة دون أن ينطق حرفا اعتراضا قبل أن يغادر في مذلة يكلله الخزي..
تناول سراج الورقة واستأذن مندفعا لداخل السراي ليطمئن على حال خطيبته.. بينما ترك حبيب بصحبة أنس الوجود متجهان للتعريشة.. دفع حبيب لانس الوجود بورق ملكية أرضها وأمها.. هامسا في محبة: حجك رچع لك يا ست البنات.. چيتي لچل ما تاخدي أرضك.. واهي أرضك وحجك بما يرضي الله..
دفعت أنس الوجود بيد حبيب برفق رافضة أخذ الورقة، هامسة وهي تتطلع نحوه في عشق: هاخدها ليه!.. استأمنتك على نفسي مش هستأمنك على مالي..
همس حبيب وهو يتطلع لكفها التي تركن على كفه في رقة، هامسا يتساءل بصوت أبح: هو إحنا جلنا فرحنا ميتا!..
همست أنس الوجود باسمة في حياء: بيقولوا الخميس يا واد خالتي..
همس حبيب في شوق: ما مطول الخميس عشان ياچي.. يا مجرب البعيد يا رب..
اتسعت ابتسامة أنس الوجود وهي تبعد كفها في هوادة قبل أن تهرول مبتعدة نحو باب الإستراحة.. لتطل عليه من نافذتها وصدرها يتسع لفرحة بعرض ذاك البراح قبالة ناظريها وصوت جرامفون الجدة صفية يعلو صوت أم كلثوم الشجي.. متعجبا من حالها وحال العشاق.. إزاي!.. إزاي!.. إزاي!.. اوصفلك يا حبيبي إزاي!. قبل ما أحبك كنت إزاي يا حبيبي!..
يتبع...