رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - حلقة خاصة - الخميس 13/11/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
حلقة خاصة
تم النشر الخميس
11/10/2025
كان جاسر غارقاً في كومة من الأوراق والعقود التي أمامه على مكتبه الضخم
منذ أن تولى كل شيء لم يعد لنهاره ليل، ولا لليله نهار.
لقد نجح في إعادة ترتيب الأوضاع في ممتلكات عائلته بعد الفوضى التي خلفها عمه صخر، بل ونقلها إلى مستوى جديد من النجاح.
لكن وسط كل هذا العمل كان هناك ملف شخصي مفتوح على الدوام، ملف لا علاقة له بالصفقات والأرباح بل بالدم والواجب.
طُرق الباب طرقات خفيفة ومنظمة فرفع جاسر عينيه عن الأوراق.
_ ادخل.
دخل رجل في منتصف الأربعينات يرتدي ملابس رسمية أنيقة ويحمل حقيبة أوراق صغيرة
كان "خالد" المحقق الخاص الذي استعان به جاسر في عدة أمور سابقة والذي يثق في قدراته ثقة عمياء.
_ أهلاً يا خالد اتفضل.
تقدم الرجل بخطوات واثقة وسلم على جاسر باحترام ثم جلس على الكرسي المقابل للمكتب بعد أن أشار له جاسر بالجلوس.
_ خير وصلت لحاجة جديدة؟
فتح سيد حقيبته وأخرج منها ملفاً صغيراً وضعه على المكتب أمام جاسر.
_ للأسف يا جاسر بيه الأخبار مش قد كده.
قطب جاسر حاجبيه وترك القلم من يده وأعطى الرجل كل انتباهه.
_ اتكلم سامعك.
_ زي ما حضرتك طلبت، كثفنا البحث عن الأستاذ فايز صخر التهامي في أمريكا
فريقنا هناك راح للسفارة المصرية في العاصمة وبالفعل سجله موجود عندهم لكن آخر عنوان مسجل له كان من سنتين، ولما رحنا العنوان ده طلع إنه ساب البيت من أكتر من سنة ونص.
تنهد جاسر وأسند ظهره إلى كرسيه الجلدي
_ والجيران؟ أصحابه؟ شغله؟ محدش يعرف راح فين؟
_ سألنا الجيران اللي لسه ساكنين هناك، قالوا إنه كان شخص منعزل جداً ملهوش صحاب كتير وبالنسبة لشغله هو كان شغال هو مكنش شغال أصلا، وكان متجوز من واحدة امريكية ومعاه بنت منها بس اطلقت
ولما تواصلنا معاها قالت إنهم انفصلوا ومن وقتها انقطعت أخباره تماماً.
صمت جاسر لبرهة وهو ينظر إلى نقطة بعيدة في الفراغ كأنه يحاول تجميع خيوط القضية في ذهنه.
فايز ابن عمه صخر الشاب الذي سافر إلى أمريكا منذ سنوات طويلة وانقطعت أخباره تقريباً الآن وبعد أن سُجن صخر ومات وبعد أن استقرت كل الأمور تحت يد جاسر، كان من أول قراراته هو البحث عن فايز.
_ يعني إيه انقطعت أخباره؟ إنسان مشي من بيت وساب شغل أكيد له أثر حسابات بنوك كروت ائتمان أي حاجة.
_ للأسف آخر حركة على حسابه البنكي كانت من سنة وشهرين سحب كل الفلوس اللي فيه وقفل الحساب كأنه... كأنه بيختفي عن عمد كأن فص ملح وداب.
مرر جاسر يده على وجهه بتعب لم يكن هذا ما أراد سماعه
لقد كان الأمر بالنسبة له أكثر من مجرد بحث عن قريب مفقود كان واجباً فبعد وفاة عمه أصبحت كل ثروة التهامي تحت تصرفه
ورغم أن صخر قد سرق ونهب الكثير، إلا أن جاسر كان يعلم أن لفايز حقاً أصيلاً في إرث جده، ثم في أملاك أبيه التي أصبحت في عهدته
شعر جاسر أنه مسؤول أمامه عن هذا الحق لم يكن مهماً أن أباه كان عدوه اللدود، فالابن لا يحمل وزر أبيه.
_ اسمعني كويس يا خالد أنا مش عايز أعذار أنا عايز نتيجة.
_ يا جاسر بيه أنا مقدر اهتمام حضرتك بس إحنا بنتكلم عن واحد في بلد بحجم أمريكا، وبيحاول يختفي بنفسه الموضوع صعب.
_ مفيش حاجة صعبة زود الفريق اللي بيبحث هناك انشروا صورته في الجرايد المصرية والعربية اللي بتتوزع في أمريكا حطوا مكافأة مالية كبيرة للي يدلي بأي معلومة توصلنا له، تواصلوا مع كل الشركات الكبيرة اللي ممكن يكون بيشتغل فيها اقلبوا أمريكا حتة حتة لحد ما تلاقوه.
نظر خالد إلى جاسر بدهشة وإعجاب في آن واحد كان يعلم قصة العداوة بين جاسر وصخر، وكان يرى أنه من الطبيعي أن يتجاهل جاسر أمر ابنه تماماً، بل ويفرح باختفائه حتى لا يظهر له منافس أو مطالب جديد في الميراث لكن جاسر كان يفعل العكس تماماً كان ينفق آلاف الدولارات من ماله الخاص ليبحث عن ابن عمه فقط ليعطيه حقه.
_ أوامرك يا جاسر بيه بس ده هيتكلف كتير أوي.
_ الفلوس مش مشكلة المشكلة إن فيه حق ضايع وصاحبه لازم ياخده فايز له حق في مال جدي وله حق في أملاك أبوه أنا عايز لما يظهر، أقوله حقك محفوظ وموجود مش عايز أحس في يوم من الأيام إني أكلت حقه
كانت كلماته تنم عن أصالة ومعدن نقي عن شهامة ورجولة بعيداً عن جشع وطمع عمه.
_ مفهوم من بكرة الصبح الإجراءات الجديدة هتكون بدأت وإن شاء الله نوصل له في أقرب وقت.
_ ياريت وأي معلومة جديدة مهما كانت صغيرة تبلغني بيها فوراً.
وقف خالد ثم غادر المكتب
ظل جاسر جالساً مكانه ينظر إلى الملف الفارغ أمامه لقد حارب وانتصر في معاركه كلها، لكنه كان يعلم أن انتصاره الحقيقي لن يكتمل إلا حين يعطي كل ذي حق حقه، ويغلق كل الملفات المفتوحة ليضمن أن اسم "الرفاعي" الذي يحمله سيظل دائماً مرادفاً للحق والعدل وليس للظلم والطمع.
جاسر ونغم...
كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل والهدوء يلف منزل الجبل كغطاء من حرير.
في جناحهما كانت نغم قد أنهت للتو معركتها اليومية اللذيذة مع طفليها التوأم تاليا وليال.
بعد أن تأكدت من أنهما غرقا في نوم عميق انسحبت من غرفتهما على أطراف أصابعها وشعرت بثقل اليوم كله يهبط على كتفيها.
كان يوماً طويلاً ومرهقاً والدتها "ونس" كانت تعاني من نزلة برد وأصرت على عدم الاقتراب من الصغيرتين خوفاً من العدوى، وهذا يعني أن مسؤولية رعاية "يامن" و"تميم" معهما بكل طاقتهما التي لا تنضب وقعت على عاتق نغم وحدها.
كل ما كانت تحلم به الآن هو حمام دافئ يريح عضلاتها المتعبة وسرير تغوص فيه وتنسى العالم حتى الصباح.
توجهت إلى الحمام الفسيح وتركت الماء الدافئ ينساب على جسدها ويغسل معه كل تعب النهار.
خرجت بعد فترة وقد لفت نفسها برداء حمام ناعم وشعرت بالاسترخاء يتسلل إلى أوصالها جففت شعرها بسرعة، وارتدت ثوب حريرياً بسيطاً ثم ألقت بنفسها على السرير الضخم، بنية أن تنتظر جاسر الذي كان من المفترض أن يعود من سفره في أي لحظة.
لكن التعب كان أقوى من الشوق ما إن لامس رأسها الوسادة الناعمة حتى استسلمت جفونها وغطت في نوم عميق، لم تشعر حتى بالغطاء الذي سحبته على جسدها.
بعد حوالي ساعة انفتح باب الجناح بهدوء تام دخل جاسر يحمل في عينيه إرهاق السفر وفي قلبه شوق عارم لرؤية زوجته وأطفاله.
وضع حقيبته الصغيرة جانباً وتوجه مباشرة إلى غرفة الصغيرين فتح الباب بحذر ووقف للحظات يراقبهما وهما نائمان فارتسمت على وجهه ابتسامة أبوية حنونة.
أغلق الباب بنفس الهدوء وتوجه إلى غرفة نومه قلبه يخفق بشدة لرؤيتها وجدها هناك... نائمة.
كانت مستلقية على جانبها وشعرها البني الطويل مفرود على الوسادة كشلال من الليل، وبعض خصلاته تغطي جزءاً من وجهها.
كانت أنفاسها هادئة ومنتظمة وملامحها البريئة مسترخية تماماً.
توقف للحظات يتأملها كلوحة فنية لا تقدر بثمن لم يهن عليه أن يوقظها لقد رأى في استسلامها للنوم عمق التعب الذي مرت به قرر أن يتركها ترتاح.
دخل إلى الحمام بهدوء وأخذ حماماً سريعاً ليزيل عنه غبار الطريق
خرج بعد قليل وقد ارتدى منانة قطنية وقطرات الماء لا تزال تلمع على شعره وذراعيه القويين.
توجه إلى الفراش وانسل بجانبها بحذر شديد حتى لا يزعجها.
استلقى على جانبه مواجهاً لها وسند رأسه على ذراعه، لم يستطع أن يغمض عينيه. كيف ينام وجنته التي اشتاق إليها بجانبه؟ كيف ينام وهذا الوجه الملائكي أمامه؟
بدأ يتأملها بنظرات عاشقة وكأنه يراها لأول مرة
كانت عيناه تتجولان على كل تفصيلة في وجهها:
رموشها الطويلة التي ترسم ظلاً رقيقاً على خديها شفتيها الممتلئتين قليلاً والتي تحمل ابتسامة خفيفة حتى في نومها بشرتها الصافية التي تتوهج تحت ضوء القمر الخافت المتسلل من الشرفة.
بدأ حوار صامت في عقله حوار لم يكن يجرؤ على قوله بصوت عالي إلا في مثل هذه اللحظات.
"قبل أن أعرفكِ... كان العالم مجرد مكان، أرض وسماء، ليل ونهار.
كنت أعيش فيه بقوانيني بقوتي ببرودي.
لم يكن له معنى حقيقي
وعندما أحببتكِ... فجأة أصبح هذا العالم كله صغيراً جداً.
صغيراً لدرجة أنه لا يكفي لأهديه لكِ لو كان بإمكاني لجمعت كل نجوم السماء ووضعتها عقداً حول عنقك ولفرشت لكِ دروباً من ضوء القمر.
أنتِ لم تغيريني فقط يا نغم... أنتِ خلقتِني من جديد.
أعطيتِ للصلابة معنى وللقوة هدفاً وللبرود دفئاً.
جعلتِ من الوحش رجلاً... رجلاً لا ينحني إلا لكِ."
مد يده ببطء شديد وأزاح خصلة شعر شاردة عن وجهها بأطراف أصابعه بحركة تكاد تكون غير محسوسة.
لكنها شعرت به كأن روحها كانت مستيقظة وتنتظره.
فتحت عينيها ببطء وتكيف بصرها مع الضوء الخافت لتجده هناك جاسر أمامها يراقبها بعينين تلمعان بحب عميق وشوق لا حدود له.
لم تسأل لم تتفاجئ فقط ابتسمت ابتسامة ناعسة دافئة، مليئة بالحب والترحاب.
همست بصوتٍ بالكاد يُسمع.
_ رجعت إمتى؟
لم يجب على الفور استمر في ملاعبة خصلات شعرها ولفها حول إصبعه، ثم قال بصوتٍ أجش من فرط المشاعر
_ من ساعة تقريباً.
سألته مرة أخرى وهي تملأ عينيها من تفاصيله التي اشتاقت إليها من قوة ملامحه، من نظراته التي تخترق روحها.
_ وليه مصحتنيش؟
انحنى قليلاً وقبل جبينها قبلة طويلة ثم همس بالقرب من أذنها وأنفاسه الدافئة تداعب بشرتها.
_ مهنش عليا شوفتك نايمة زي الملاك، قلت أسيبك ترتاحي وقررت أسرق من الزمن شوية... أملى عيني منك وأشبع قلبي اللي كان هيموت من الشوق.
كانت كلماته هي المفتاح الذي فتح كل أبواب الشوق في قلبها
لم تعد تحتمل المسافة بينهما بحركة عفوية اقتربت منه أكثر ودفنت وجهها في التجويف بين عنقه وصدره وتشبثت به بقوة
استنشقت رائحته المميزة رائحة رجولته، الرائحة التي كانت تعني لها الأمان والوطن.
همست ووجهها لا يزال في صدره وكلماتها تخرج مكتومة وعميقة
_ كنت بعد الدقايق عشان ترجع كل دقيقة بتمر وإنت بعيد، بحس إنها سنة وكل ساعة بتمر وإنت معايا بحس إنها ثانية أنا كل يوم بتعلق بيك أكتر من اليوم اللي قبله كل موقف كل كلمة كل لمسة منك... بتزود حبي ليك أضعاف.
إنت مش بس جوزي وأبو ولادي... إنت بقيت الهوا اللي بتنفسه.
رفع وجهها إليه بكلتا يديه ونظر في عينيها مباشرة.
_ وإنتي... إنتي بقيتي إدماني اللي مستحيل أتعالج منه.
لم تعد هناك حاجة للكلام محا المسافة الأخيرة بينهما وقبلها.
كانت قبلة تحمل كل شوق السفر وكل حنين الانتظار بدأت لطيفة وحنونة ثم سرعان ما تحولت إلى عاصفة من الشغف تعبيراً عن حاجتهما لبعضهما البعض، في تلك اللحظة لم يكن هناك جاسر القوي ولا نغم المتعبة كان هناك فقط رجل وامرأة وجدا في بعضهما البعض عالماً كاملاً، قصة حب أسطورية بدأت بالإكراه وانتهت بالعشق الأبدي.
روح ومالك
كانت ليلة هادئة في جناح مالك وروح ليلة تحمل في طياتها سكوناً لا يشبه إلا الهدوء الذي يسبق العواصف...
أو ربما الهدوء الذي يليها، كان القمر بدراً كاملاً يسكب نوره الفضي بغزارة من خلال الشرفة المفتوحة ليرسم على الأرضية الرخامية ظلالاً راقصة لأغصان الشجر ويغمر الغرفة بضوء حالم وشاعري.
كانت روح تجلس على حافة السرير وقد ارتدت فستاناً من الحرير السماوي ينساب على جسدها كأنه ماء متجمد، فستاناً اشترته خصيصاً لهذه الليلة.
أسدلت شعرها الأسود الطويل كشلال من الليل على كتفيها وتزينت بعطرها المفضل الذي تعرف أنه يثير جنون مالك
كانت تبدو كأميرة من أميرات ألف ليلة وليلة تنتظر فارسها
لكن عينيها الجميلتين اللتين كانتا تلمعان عادةً بالمرح والحياة، كانتا مطفأتين تحملان ظلاً كثيفاً من الزعل والخيبة.
نظراتها كانت معلقة على الكنز الصغير الذي ينام بعمق في سريره المجاور
"معين" ابنهما
كانت تغط في نوم ملائكي، أنفاسها الصغيرة المنتظمة هي الموسيقى الوحيدة التي تكسر صمت الغرفة الثقيل
كانت روح تنظر طفلها الذي لم يتعدى اربعة شهور هو ثمرة أخرى لحبهما، لكن حتى وجودها لم يستطع أن يمحو الشعور بالوحدة الذي تسلل إلى قلبها الليلة.
في تلك اللحظة سمعت صوت الباب الخارجي للجناح وهو يُفتح بهدوء
لم تلتفت ظلت جامدة في مكانها تتظاهر بالانشغال بمراقبة ابنها لكن قلبها بدأ يخفق بقوة مزيجاً من الأمل والعتاب.
دخل مالك كان عائداً لتوه من عمله المتأخر
خلع سترته وهو يشعر بإرهاق اليوم الطويل لكن ما إن وقعت عيناه عليها حتى تبخر كل التعب.
رآها جالسة هناك كتمثال منحوت من الجمال والحزن وفهم على الفور أن هناك خطباً ما
لم تكن هذه هي روح التي تستقبله عند الباب بابتسامتها التي تضيء عالمه.
اقترب منها بخطوات هادئة لا صوت لها ووضع سترته على الأريكة المجاورة لم يقترب من السرير مباشرة بل توجه أولاً إلى سرير ابنه وانحنى ليطبع قبلة خفيفة على جبينه الصغير كأنه يستمد منه القوة
ثم استدار وتوجه نحو روح.
جثا على ركبة واحدة أمامها في حركة نبيلة تليق بالفرسان ليصبح وجهه في مستوى وجهها الحزين.
لم يتكلم فقط رفع يده ومسح برفق على خدها وإبهامه يتتبع خط فكها بنعومة، كانت عيناه تطوفان على ملامحها تقرأ كل تفصيلة من تفاصيل حزنها ثم انحنى ببطء وقبلها قبلة رقيقة على شفتيها قبلة لم تكن تحمل شغفاً، بل كانت تحمل سؤالاً صامتاً واستسلاماً كاملاً لسبب حزنها.
_ قمري زعلان ليه؟
همس بصوته العميق الدافئ، الصوت الذي كان قادراً على تهدئة أعتى العواصف في روحها.
رفعت عينيها إليه أخيراً وقد امتلأتا ببريق الدموع المحبوسة، تحدثت بصوتٍ خفيض صوت يحمل عتاباً رقيقاً كهمس النسيم لكنه كان حاداً كشظايا الزجاج في قلبه.
_ النهاردة إيه يا مالك؟
نظر حوله في الغرفة ثم إلى السقف متظاهراً بالحيرة والتفكير العميق قبل أن يعود بنظره إليها ببراءة مصطنعة.
_ النهاردة الأربع... صح؟
هنا لم تعد تستطع التحمل تنهدت تنهيدة طويلة خرجت من أعماق صدرها، تنهيدة تحمل كل خيبة أملها أشاحت بوجهها عنه ونظرت نحو الشرفة كأنها تبحث عن مهرب.
_ النهاردة عيد جوازنا يا مالك اليوم اللي بقيت فيه مراتك وأنت... نسيت.
في داخله كان مالك يبتسم لقد نجحت خطته لكنه حافظ على قناعه الجاد بل وأضاف إليه لمسة من الندم المصطنع.
_ ياااه... معلش يا حبيبتي حقك عليا والله الشغل والمسؤوليات بينسّوا الواحد
خلاص أوعدك السنة الجاية هعملك أكبر حفلة ومش هنسى أبداً.
كانت كلماته هي القشة التي قصمت ظهر صبرها نظرت إليه بغيظ حقيقي وعيناها تطلقان شرراً.
_ السنة الجاية؟!
همت بالنهوض من مكانها ربما لتهرب إلى الشرفة أو الحمام لتبكي بعيداً عنه لكنه كان أسرع.
أمسك بيدها برفق وحزم ومنعها من الحركة ثم سحبها بلطف لتجلس مرة أخرى.
_ استني بس رايحة فين هو أنا ممكن أنسى يوم زي ده؟
قالها وهو يغير نبرته تماماً اختفت الجدية الزائفة وحل محلها همس عاشق همس يذيب الصخر ثم ببطء أدخل يده في جيب سترته التي ألقاها على الأريكة وأخرج منها علبة مخملية صغيرة بلون كحلي داكن كلون سماء منتصف الليل.
تجمدت روح في مكانها واتسعت عيناها بالدهشة وعدم التصديق كانت نظراتها تتنقل بين العلبة الصغيرة في يده وبين عينيه اللتين أصبحتا تلمعان بالحب والمكر والدفء.
_ اليوم اللي ربنا كتبك فيه على اسمي... اليوم اللي بقيتي فيه حلالي وملكي... اليوم اللي حلمت بيه من يوم ما كنتي طفلة بتجري في الجنينة... ده مش مجرد ذكرى يا روح ده يوم ميلادي الحقيقي ممكن أنسى اسمي، بس مستحيل أنسى اليوم ده.
فتح العلبة ببطء شديد كأنه يكشف عن سر مقدس وفي داخلها على وسادة من الحرير الأبيض استقرت سلسلة ذهبية رقيقة يتدلى منها قلب صغير ليس كأي قلب.
كان مرصعاً بحجر كريم نقي يلمع مع كل حركة ويلتقط ضوء القمر ليعكسه نجوماً صغيرة
لم يكن مجرد قلب بل كان محفوراً عليه بخط فني أنيق وناعم، كلمتان تلخصان كل شيء: "روح المالك"
شهقت روح بصوتٍ مكتوم وشعرت بدموع الفرح التي كانت تحبسها تنهمر أخيراً على خديها
لم تكن مجرد هدية كانت إعلاناً وتعهداً وتلخيصاً لقصة حبهما كلها كانت اعترافاً أبدياً بالملكية والحب.
أخذ مالك السلسلة من العلبة ثم أشار لها أن تستدير أزاح شعرها الحريري عن عنقها بكلتا يديه ودفن وجهه للحظة في خصلاته مستنشقاً عبيرها الذي يسكره، لامست أنفاسه الدافئة بشرتها فأرسلت قشعريرة لذيذة في كل أوصالها.
أغلق قفل السلسلة برقة ثم انحنى وقبل عنقها في مكان النبض، قبلة طويلة وعميقة جعلتها تغمض عينيها وتستسلم تماماً لتلك اللحظة الساحرة.
استدارت إليه مرة أخرى ووجهها يشع بسعادة لا يمكن وصفها تحسست القلب الصغير الذي استقر في التجويف أسفل عنقها كأنه قطعة من روحه هو، همست بصوتٍ متحشرج من فرط التأثر
_ بحبك.
_ وأنا مش بس بحبك.
قالها وهو يمسك وجهها بين راحتيه ويمسح دموع الفرح الهاربة بإبهاميه برفق.
_ أنا بتنفسك إنتي الهوا اللي بعيش بيه كل يوم بصحى فيه وألاقيكي جنبي إنتي ونور ومعين، بحمد ربنا ألف مرة على النعمة اللي أدهاني إنتي مش بس مراتي وحبيبتي وأم ولادي إنتي روحي... روح المالك.
لم تعد هناك حاجة لأي كلمات أخرى محا المسافة الأخيرة بينهما وقبلها.
لم تكن قبلة عادية كانت قبلة تحمل كل حب وشوق وامتنان السنوات الماضية وكل وعود وأحلام السنوات القادمة كانت قبلة تحكي عن رجل وجد روحه بعد طول انتظار وامرأة وجدت مالك قلبها في قصة حب أصبحت أسطورة خالدة.
سند ووعد
كانت ليلة هادئة في جناح سند ووعد بعد يوم طويل مليء بضحكات الأطفال وصخب الحياة كان سند قد أنهى للتو مهمته الأبوية حيث روى لصغيره "عدي" حكاية ما قبل النوم حتى غط في سبات عميق.
عاد إلى جناحهما وأغلق الباب بهدوء ليجد الغرفة مضاءة فقط بالضوء الخافت للأباجورة بجانب السرير مما يضفي على المكان جواً من الدفء والسكينة.
جلس على حافة السرير لا ينتظر شيئاً محدداً فقط يستمتع بلحظات الهدوء النادرة وقلبه مليء بالترقب للقاء زوجته وحبيبته.
بعد دقائق انفتح باب الحمام وخرجت وعد.
كانت قد لفت جسدها بمنشفة بيضاء ناعمة وشعرها الأسود الطويل مبللاً ينسدل على كتفيها وقطرات الماء الصغيرة تلمع على بشرتها كحبات الندى تحت ضوء القمر.
ما إن رأت سند جالساً هناك يراقبها بنظراته العميقة التي تعرفها جيداً حتى شعرت بالخجل يغمرها.
كانت نظراته تحمل مزيجاً من الحب والشوق والافتتان نظرات تجعلها تشعر دائماً بأنها أجمل امرأة في العالم حتى في أبسط حالاتها.
تجنبت النظر إليه مباشرة وتوجهت بخطوات سريعة إلى منضدة الزينة وجلست أمام المرآة.
أمسكت بالفرشاة وبدأت في تمشيط شعرها لكنها كانت تشعر بعينيه تلاحقها، تتبع كل حركة من حركاتها
رفعت عينيها بتردد لتنظر في المرآة فتلاقت نظراتهما، رأته يبتسم تلك الابتسامة الدافئة التي تذيب قلبها، ابتسامة تقول كل شيء دون أن تنطق بحرف واحد.
نهض سند من مكانه واقترب منها بخطوات متمهلة وهادئة كأنه يخشى أن يكسر سحر اللحظة
وقف خلفها مباشرة وكان بإمكانها أن تشعر بحرارة جسده قريبة منها.
انحنى قليلاً واستنشق رائحة شعرها المبلل الممزوجة برائحة الصابون وأغمض عينيه للحظة كأنه يرتوي من رحيق زهرته المفضلة.
مد يده برفق ووضعها على كتفها ثم أنزلها برفق على طول ذراعها حتى وصلت إلى يدها وأخذ منها الفرشاة
_ الليلة دي... مش عايزك تعملي أي حاجة.
همس بصوته الأجش بالقرب من أذنها مما أرسل قشعريرة لذيذة في كل جسدها.
_ حتى شعرك... أنا اللي هسرحه.
بدأ يمرر الفرشاة في خصلات شعرها الطويلة بنعومة وحنان لا مثيل لهما
كانت حركاته بطيئة ومدروسة، كأنه يعزف سيمفونية على أوتار من حرير، كانت عيناه مثبتتين على عينيها في المرآة لا تغفلان عنها للحظة.
كان هذا الصمت المتبادل المليء بالنظرات أكثر بلاغة من ألف كلمة.
بعد لحظات وبينما يداه لا تزالان تتحركان في شعرها سألها بصوتٍ خفيض وعميق
_ لسة حبي جواكي زي ما هو؟
كان سؤالاً بسيطاً لكنه كان يحمل في طياته كل شيء.
ابتسمت وعد ابتسامة غامضة ثم هزت رأسها ببطء... "لا".
توقفت يداه عن الحركة للحظة وظهر في عينيه في المرآة تساؤل قلق.
هنا استدارت على مقعدها لتواجهه مباشرة ورفعت يديها ووضعتها على صدره وشعرت بنبضات قلبه القوية تحت راحتها.
نظرت في عينيه مباشرة وقالت بصوتٍ يملؤه الحب والصدق
_ حبنا عمره ما كان ثابت يا سند.
رأت الحيرة في عينيه فأكملت وهي تمرر إبهامها على صدره برقة
_ الحب الثابت بيموت لكن حبنا عامل زي البحر يجري بس عمره ما ينقص
كل يوم بتمر فيه وإنت معايا بحس إن حبي ليك بيزيد عن اليوم اللي قبله
وكل ما يزيد كل ما أشتاقلك أكتر حتى وإنت قدامي
كل ضحكة منك كل لمسة كل كلمة... بتزود منسوب الحب ده في قلبي لحد ما بحس إنه هيغرقني.
كانت كلماتها كافية لتشعل كل الشوق في قلبه انحنى نحوها ودفن وجهه في عنقها وهمس بصوتٍ متحشرج من فرط المشاعر
_ وأنا... أنا كل يوم بكتشف فيكي حاجة جديدة تخليني أحبك أكتر، بحب قوتك وحنانك وضحكتك اللي بتنسيني الدنيا
بحبك وإنتي أم وإنتي زوجة وإنتي حبيبتي
إنتي بقيتي إدماني اللي مقدرش أعيش من غيره.
رفع رأسه وقبلها كانت قبلة تحمل كل معاني الشوق والامتنان والحب الذي لا ينتهي.
قبلة بدأت رقيقة ثم تعمقت لتصبح تعبيراً عن حاجتهما الأبدية لبعضهما البعض
في تلك اللحظة لم يكن هناك سوى سند ووعد في عالمهما الخاص يكتبان فصلاً جديداً في قصة حبهما التي لا تعرف الثبات، بل تعرف فقط النمو والازدهار إلى الأبد.
تمت
