-->

رواية جديدة ندوب مضيئة ليارا علاء الدين - الفصل 1 - الثلاثاء 2/12/2025

 

   قراءة رواية ندوب مضيئة

 كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى



رواية ندوب مضيئة 

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة يارا علاء الدين 


الفصل الأول 


تم النشر يوم الثلاثاء 

2/12/2025



كانت السماء تنزف مطرًا بلا هوادة، والرياح تصفر بين الأشجار والنوافذ كأن الليل يحاول أن يبلع كل ما هو حي. في وسط هذا الشتاء الغاضب، وقفت سناء أمام باب شقة قديمة، تلفّ جسدها بعباءة ثقيلة، ويدها تقرع الباب بقلق متسارع.

فتحت منال الباب وهي تتكئ على الحائط، وجهها مرهق، عيناها شاحبتان، وبطنها الكبير تُخبر أن لحظة الولادة ليست بعيدة.

وقفت سناء على العتبة، تحتضن نفسها بثوب ابتلت أطرافه بالمطر، وقالت بقلق:

منال! وجهك شاحب... ما بكِ؟

تنهدت منال وأشاحت بعينيها:

الألم يمزّق ظهري وبطني, وزوجي غادر منذ الصباح إلى عمله، وقال إنه سيبيت هناك، والمطر لا يتوقف، كأنّه طوفان... كنت على وشك الاتصال بالطبيب، لكنني خشيت أن يُعيقه الطقس.

صمتت لحظة، ثم أضافت بصوت مكسور:

لا أعلم ما الذي ينبغي عليّ فعله الآن! أنا على وشك الولادة!

تقدمت سناء خطوة، وأمسكت يدها:

اسمعي... لا يمكننا الانتظار أكثر، ثم إنني ممرضة أنسيتي؟ هيا بنا.

رفعت منال رأسها بسرعة وقد لاحت دموعها:

أيمكنك فعلها حقًا؟

هزّت سناء رأسها بثبات، رغم ارتجاف يديها:

إن كتب الله لها النجاة، فستنعم بها... هيا، لنُجهّز كل شيء.

وفي الزاوية البعيدة من الغرفة، وقف آسر، ذو الخمس سنوات، يراقب كل شيء بصمت لم يُناسب عمره. كان وجهه الصغير متجمدًا من الدهشة، عيناه الواسعتان تحدقان في أمه، وفي صديقتها التي تتألم.

دخلت سناء غرفة النوم، وأعدّت المكان بسرعة تليق بمن ذاقت من الحياة مُرّها أكثر من حلوها. الماء الساخن، المناشف، الشراشف البيضاء، يد ثابتة على الرغم من الخوف.

بدأت منال تصرخ.. 

كان الصوت يعلو مع الريح، مرت دقائق طويلة, لكن ما إن انطلقت الصرخة الأولى من فم الصغيرة، حتى عمّ الصمت، كأن المطر ذاته توقف ليُسمع صوت البكاء الأول.

سناء، وقد بلل العرق جبينها، تناولت الطفلة بيدين مرتجفتين، ثم لفّتها بمنشفة نظيفة، ومدّتها نحو منال:

إنها فتاة جميلة تشبههك.

آسر اقترب ببطء، ينظر إلى المولودة بعينين تشعّان بالدهشة:

ما اسمها؟

همست منال، وهي تمسح دموعها:

ريم.

ابتسم آسر ابتسامة خفيفة..

لم يكن يعرف أن هذا الاسم، وهذه الليلة، وهذا المطرسيبقون محفورين في ذاكرته، إلى الأبد!

❈-❈-❈

مرّت السنوات كأنّها غفوة دافئة في حضن الزمن، وكبرت ريم...

صارت تركض في ممرات المدرسة بشعرٍ مفرود كضوء الصباح، وخلفها دومًا ظلّ صغير يتبعها.


كان يكبرها بخمس سنوات، لكنه يترك لعبه، ويهرول نحوها إذا سمع بكاءها، أو رأى كتفها ينكمش خوفًا من شيء.

كانت المعلّمة تبتسم كلّما رأته يتفقدها خلال الاستراحة، يحمل حقيبتها الصغيرة، أو يمسح عن خدّها دمعة عابرة.

قالت له ريم ذات مرة، وهي تمسك بإصبعه الصغير:

لماذا تكون معي دائمًا؟

انحنى قليلاً وهمس مبتسمًا:

لأنني أحب أن أراكِ تضحكين... وأحزن إن بكيتِ.

ضحكت بخفة، وقالت:

أنت طيّب... مثل الحليب.

ضحك بدوره وقال:

وأنتِ مثل الزهرة... لا أريدها أن تذبل!

وجاء يوم عيد ميلادها الخامس.

كانت الغرفة تعجّ بالبهجة؛ البالونات الملونة تتمايل قرب السقف، ورائحة كعكة الشوكولاتة والشموع المشتعلة تملأ الأجواء. ارتدت ريم فستانًا ورديًا ناعمًا تزيّنه فيونكة كبيرة بلون أبيض، وشعرها الداكن المنسدل كان مزينًا بمشبك لامع. جلست بين الأطفال حول الطاولة، يضحكون ويغنّون لها بحماس، لكن ريم كانت تبتسم بغير اكتراث، تحرّك قدميها الصغيرتين تحت الكرسي، وعيناها اللامعتان كانتا تبحثان في كل زاوية، تقفزان فوق الرؤوس، تتأملان كل وجهٍ يمرّ من الباب.

كانت تنتظر وجهًا واحدًا تحديدًا.

سمع الأطفال ضحكة عالية قادمة من المدخل، وتوقفت الأغاني للحظة.

ظهر آسر أخيرًا، يحمل صندوقًا صغيرًا مغلفًا بورقٍ ملوّن.

بمجرد أن رأته ريم، أشرق وجهها بابتسامة حقيقية لم تظهر من قبل. قفزت من مكانها وتوجهت نحوه.

اقترب آسر منها، تنفس الصعداء، ثم انحنى قليلاً وهمس بصوت لا يسمعه غيرها، كأنه يشاركها سرًا عظيمًا: أحضرت لكِ هدية... أرجو أن تعجبك. لقد جمعت بعض قطع الخرز وصنعتها لكِ وحدي.


فتحت ريم الصندوق، بعناية ودهشة. فوجدت قلادة صغيرة من الخرز، ليست مثالية تمامًا، فبعض حبات الخرز كانت غير متناسقة في الحجم والشكل، لكنها كانت متصلة بخيط متين، وفي منتصفها خرزة زرقاء متلألئة كعين قطة.

أمسكت بها بدهشة، ونظرت إلى الخرزة الزرقاء ثم إلى آسر. قالت: 

إنها تتلألأ! 

ابتسم آسر ابتسامةً ناعمة، ومدّ يده ليساعدها في ارتداء القلادة فوق فستانها الوردي.

وكان في عينيه وهجٌ لا يشبه الأطفال...

وهج من عرف معنى الحنان مبكرًا، حين كان الحنان يُفهم قبل أن يُقال.

❈-❈-❈

كان المطر خفيفًا هذه المرة، كأن السماء تبكي خلسة.

في غرفةٍ يغمرها ضوء خافت، استلقت منال على السرير، وجهها هادئ كمن سلّم أمره، تبدو بشرتها شاحبة، لكن بريقًا غريبًا من الهدوء يسكن عينيها الذابلتين. وجانبها سناء تجلس في صمت، تشدّ الغطاء فوق جسد صديقتها، رغم معرفتها أن البرد لم يعُد ما يؤلمها.

كانت قد قضت منال أسابيع بين التحاليل والعلاجات، حتى نطقت التقارير بالحقيقة... الورم خبيث، والوقت لا يسعف.

مدّت يدها ببطء، وأمسكت بيد سناء، ثم قالت بصوتٍ خافت، كأنه يأتي من عمق عمر بأكمله:

سناء... أنا أشعر أن الوقت يقترب.

أشاحت سناء بوجهها، تخفي دمعة خذلتها، فقالت منال مبتسمةً بهدوء:

لا تبكي... أنا لا أخاف الموت، فقط... أفكر في ريم.

ازدادت قبضة يدها على يد سناء، وأضافت:

أرجوكِ... إن رحلت، كوني لها الأم والصديقة، لا تتركيها تشعر أنني غبت.

همست سناء، وعيناها تلمعان من الدموع المكبوتة :

لن أتركها... أعدكِ، يا منال، سأحبّها بقدر ما أحببتكِ، بل أكثر.

أغمضت منال عينيها لحظة ,استراحت عضلات وجهها المتعبة، فظهرت عليها علامات الإجهاد، كأنّها تستريح من حملٍ طويل، ثم فتحتها وقالت بابتسامةٍ متعبة: 

ريم تشبهني... قوية، وحنونة.

ثم نظرت نحو النافذة، حيث المطر ينقر الزجاج كأنّه يودّعها، وهمست:

قولي لها... أنني أحببتها كثيرًا... كثيرًا.

وضغطت على يد سناء مرة أخيرة، ضغط وداع ضعيف، ثم ارتخى الجسد في سكونٍ يشبه الطمأنينة. 

ولم يبقَ في الغرفة سوى أنين المطر، وصدى غيابٍ لا يُقال.

❈-❈-❈


لم تمضِ سوى أسابيع قليلة على وداع منال، حتى جاء الخبر الآخر، كسكين تُغمد في الجرح ذاته.

جمال، والد ريم، كان في طريق عودته من موقع العمل، والطريق غارق بمياه المطر...

حادث مروّع على الطريق السريع، وصوت الإسعاف لا يُعلَن فيه النجاة.


جاء الاتصال في منتصف الليل، أثناء سكونٍ لا يقطعه سوى صوت تكتكة ساعة الحائط . وصوت الشرطي عبر الهاتف كان بارداً، ثابتًا، كأنّه اعتاد قول ما لا يُحتمل. سناء كانت من تجيب. نظرت إلى ريم النائمة، وسقط الهاتف من يدها.


الآن، لم يتبقَّ للطفلة الصغيرة من عالمها سوى اسمٍ مكتوب على شهادة وفاة، وبيتٍ بعيدٍ في "مطروح"، حيث يعيش جدّها الطاعن في السن، وعمّها الذي لم تعرفه إلا في الصور.


في اليوم التالي، كانت ريم جالسة في حضن سناء، لا تدرك تمامًا ما يجري، لكنها تشعر بالفراغ الكبير الذي ابتلع كل شيء. 

همست بصوتٍ صغير:

أين أبي؟

لم تستطع سناء أن تُخفي دموعها، فضمّتها إليها وقالت:

أبوكِ ذهب إلى مكانٍ بعيد... مثل أمكِ تمامًا.

نظرت ريم إلى السقف، ثم قالت بهدوءٍ غريب:

إذن لن يعود أحد!ا لجملة لم تكن سؤالًا بقدر ما كانت استنتاجًا قاسياً أدركته للتو.

❈-❈-❈

في صباح اليوم التالي، جاء رجل طويل القامة، يحمل ملامح تشبه والد ريم, لكن عيناه كانتا تفتقران إلى الدفء الذي اعتادته ريم في عيني والدها. 

دخل بخطى مترددة، ثم جلس وقال بصوتٍ هادئ:

أنا عمُّكِ، يا ريم. جئتُ من مطروح كي آخذكِ معي... جدُّكِ في انتظارك، وبيتنا مفتوحٌ لكِ.

رفعت ريم رأسها نحو سناء، كأنها تطلب تفسيرًا لما يجري، تثبّتت عيناها في وجه سناء بحثًا عن أي إشارة كاذبة بالطمأنينة.

 فقالت سناء، وهي تمسح شعرها:

سيأخذكِ إلى بيتٍ فيه عائلتكِ يا ريم، ستعيشين هناك، وستكونين بخير، إن شاء الله.

سألت الطفلة بصوتٍ مرتجف, كهمس ضعيف يخشى أن ينقطع:

وأنتِ... لن تأتي معي؟

ردّت سناء، بصوتٍ تخنقه الدموع:

قلبي سيبقى معكِ، يا صغيرتي, وسأطمئن عليكِ دومًا.

ثم قامت، وألبست ريم فستانًا ورديًا بسيطًا، وربطت شعرها بشريطٍ وردي

وقبل أن تغادر، فتحت ريم حقيبتها الصغيرة، وأخرجت قلادةً بسيطة من الخرز، كانت قد علقتها على عنقها منذ عيد ميلادها الخامس، يوم أهداها إياها آسر.

قالت وهي تمسك بها:

لن أخلعها أبداً... لأنها تذكّرني بكم.

عند الباب، كان آسر واقفًا، عيناه تتابعانها بحزنٍ لا يُشبه الأطفال. تملؤهما مزيج من الغضب والعجز أمام قرار لا يملكه.

اقتربت ريم منه، وقالت بصوتٍ ناعم:

هل سأراك مرة أخرى؟

انحنى نحوها، وردّ بصوتٍ خافت:

سأنتظركِ دائمًا.

ثم نظرت إليه، ورفعت القلادة نحو صدرها.

سأحتفظ بها... كي لا أنساك.

وقف آسر في مكانه، لا يقول شيئًا، عقد ذراعيه بإحكام على صدره، محاولًا احتواء الألم، عيناه تتبعان خطواتها الصغيرة وهي تمضي نحو السيارة.

 

فتح عمّها الباب الخلفي، وجلست ريم في المقعد بهدوء غريب، ثم التفتت برأسها الصغير تنظر إليه عبر النافذة. 

كانت القلادة تتدلّى من عنقها، تلمع في الضوء الخافت، بينما يدها الصغيرة تمسك بها بقوة،

كأنها آخر خيط يربطها بكلّ من رحلوا... وبكلّ من أحبّتهم.

❈-❈-❈

كبرت ريم، وكبر العالم من حولها، لكن شيئًا في داخلها ظلّ صغيرًا... ذلك الجزء الذي ودّع سناء عند عتبة الرحيل، وترك يد آسر خلف زجاج السيارة. السنوات مرّت، والقلادة لم تغادر عنقها، حتى وهي اليوم طالبة في كلية التربية، تسكن بيت جدّها، بعيدةً عن كلّ ما كان مألوفًا، تُقيم بين أناسٍ لم تتعلّم كيف تحبّهم, ولم يفسحوا لها متّسعًا لتكون منهم.

وفي صباحٍ باهتٍ, بدت أركان بيت الجدّ ساكنة أكثر مما ينبغي؛

رائحة الشاي والمخبوزات تملأ المكان، لكن شيئًا في الجو كان خانقًا، كأنّ الجدران نفسها تعرف أن الدفء لا يسكن هنا.


جلست ريم على حافة السفرة، ترتدي تنّورة طويلة وقميصًا واسعًا، وقد لفّت حجابها بعناية، ، حقيبتها إلى جوارها, كانت ملامحها ناعمة؛ وجه بيضاوي، وبشرة كأنها احتفظت بضياء طفولتها رغم كل ما مرّ. عيناها واسعتان بلون الشاي الخفيف، فيهما ظلّ حزن قديم، لا يُناسب عمرها ولا يُغادرها، وشعرها بنيّ داكن، كثيرًا ما تركته منسدلًا أو ربطته بشريطة بسيطة كما كانت تفعل أمّها, لكن في غرفتها فقط, فخارج الغرفة غير مسموح بذلك.

في صدر المائدة، جلس عمها محمود، رجل ضخم الجثة ذو ملامح قاسية، يرتدي ملابس العمل، ويداه الخشنتان تستندان بقوة على حافة الطاولة. كانت هيبته تفرض نوعاً من الخوف الهادئ في الغرفة.

وبجواره، كانت تجلس زوجته هدى، بهدوء يشبه غيابها. امرأة نحيفة الملامح، تجلس وكأنها قطعة أثاث محايدة، ترتشف الشاي بهدوء تام، عيناها زائغتان لا تلتقيان بعيني أحد، ولا تتدخل أبدًا في أي شجار، حتى لو كان موجهاً لها!

في الجهة المقابلة جلست عمتها صباح، ترتب الأطباق بنظرات حادة.

بينما مروان، ابن عمها، فكان يُلقي بنظرات جانبية إليها، بنبرة تمتلئ بالاستفزاز المتعمد,

كان مروان ممن يدخلون المكان وكأنهم يملكونه؛ طويل القامة، جسده رياضي، وابتسامته مرسومة بثقة زائدة لا تعرف التواضع. بشرته برونزية مصقولة، وعيناه بنية لامعة، شعره مصفف بعناية مفرطة، تفوح منه رائحة عطرٍ ثقيل لا يمر دون أن يُسجَّل. في صوته نبرة إقناع متعالية، وكأن كل جملة يقولها إعلان صغير عن نفسه.


قال متهكمًا: أخبريني يا آنسة تربية، هل في كليتكم يدرّسون لكم أن النوم حتى التاسعة صباحًا ليس كسلًا؟

رفعت ريم عينيها إليه، ثم قالت بهدوء:

أنا كنت أذاكر حتى وقتٍ متأخر... فلدي اختبار اليوم.

ضحك ساخرًا، ومرّر قطعة خبز إلى فمه:

آه نعم... اختبارات عظيمة، لكنكِ لا تغسلين الصحون بسببها, وغرفتي لم تُرتّب حتى الآن. 

تدخلت عمتها فورًا، بصوتٍ حادّ:

كلامه صحيح، يا ريم. الدراسة لا تُعفيك من مسؤوليات البيت... نحن جميعًا نعمل ونتعب.|

هنا، رفع محمود رأسه فجأة، وبصوته العميق والجهوري الذي يكسر سكون المكان، قال بحدة قاطعة: "اسمعي يا ريم. أنتِ هنا لستِ ضيفة، أنتِ جزء من هذا البيت وعليكِ واجبات. إذا كانت الدراسة ستجعلكِ تتقاعسين عن شغل البيت، فالأولى بكِ أن تجلسي في البيت وتخدمي العائلة!"

قالت ريم بصوت خافت، ارتجف خوفًا من صوته العالي: أنا لا أتهرّب... فقط كنت مرهقة. 

أردف مروان، وهو يُحرّك كوب الشاي بإزعاج:

البيت ليس فندقًا... تنامين وتأكلين وتخرجين، وكأننا لسنا موجودين.

نظرت ريم إلى جدّها، لعله يتكلم... لكنه كان ينظر في صحنه، صامتًا كعادته، كأن التعب أنهكه.

أرادت أن تردّ، أن تصرخ حتى، لكنها فقط عضّت شفتيها، ومدّت يدها إلى القلادة التي تُخفيها تحت ثيابها.

ضغطت عليها بأصابعها، كأنها تُعيد ربط نفسها بذلك الزمن، وتلك الوجوه التي غابت.

كانت تستنجد بذكرى آسر، وبصوت أمّها الراحل.

وهي تنهض لتخرج، قالت عمتها بنبرة لا تخلو من اللوم:

جهّزي نفسكِ يا ريم، فمهمتكِ القادمة هي المطبخ والبيت! لأنني متأكدة من أنكِ سترسبين في هذه الكلية التي تضيعين فيها وقتًا، ووقتها ستتركينها نهائياً. كفي عن أحلام الدراسة.

توقفت ريم للحظة عند المدخل، والتفتت بوجهها الهادئ نحو عمتها. رفعت عينيها الواسعتين إليها، وفي نبرتها هدوء واثق كسر حاجز الانكسار الذي سيطر عليها سابقاً,

قالت بهدوء يكاد يكون تحدياً : لن يحدث هذا. أنا دائمًا أخرج الأولى على الدفعة. ثم غادرت المنزل، تحمل فوق كتفها الحقيبة، وداخلها قلبٌ لم يجد حتى الآن مكانًا يسمّى... بيتًا!

❈-❈-❈

خرجت ريم من بيت الجدّ بخطى ثابتة، وإن كانت بداخلها هشّة كصفحة مبلولة.

لم تنظر خلفها.

وفي الطريق إلى الكلية، حاولت أن تضع أفكارها جانبًا، وتستعيد تركيزها؛ فاليوم امتحان، وجنى تنتظرها في الساحة الخلفية كالمعتاد.

وكانت تعرف أن الدراسة، في هذا الوقت تحديدًا، هي المفر الوحيد من كل ما لا يُحتمل.

كان الجو في الساحة الخلفية من الكلية هادئًا، وتحت ظلّ شجرة كبيرة، جلست ريم على أحد المقاعد الخشبية، تتصفّح ملخّصاتها بدقة، بينما جلست جنى إلى جوارها، تمسك الأوراق بإحباط واضح.

قالت جنى وهي تنفخ في الورقة:

—ريم، هل من الطبيعي أن أقرأ نفس الفقرة ثلاث مرات ولا أفهمها؟!

ابتسمت ريم بهدوء، وقالت دون أن ترفع نظرها:

—غالبًا لأنكِ متوترة... تعالي نراجعها سويًا، جملة جملة.

نظرت جنى إليها باستغراب: 

— أنتِ تحفظين كل هذا؟! كيف؟

ردّت ريم بابتسامة خفيفة:

—أراجع قليلًا كل يوم... والمذاكرة صارت بالنسبة لي نوعًا من الراحة.

أخذت جنى نفسًا عميقًا، ثم قالت:

—لو أخذتِ التقدير الأعلى مرة ثانية، سأتوقّف عن الحديث معكِ لأسبوع!

ضحكت ريم وقالت:

—اتفقنا... لكنكِ ستعودين لتسأليني بعدها وكأن شيئًا لم يكن.

ضحكتا معًا، ثم قالت جنى بنبرة أكثر هدوءًا:

أنا جادّة، ريم... أنتِ فعلًا قوية، رغم كل ما مررتِ به.

سكتت ريم لحظة، ثم قالت وهي تطوي ورقة في يدها:

الظروف علّمتني أن أتعلّق بما يمكنني إنقاذه؛ ولم يبقَ لي سوى الدراسة.

❈-❈-❈

في الطابق الأول من الفيلا، حيث الأرضية من الرخام الإيطالي اللامع، والثريات الكريستالية تتدلّى بهدوء من السقف المزخرف، انبعثت رائحة القهوة مع زبدة طازجة ورغيف كرواسون مدهون بالعسل الفاخر.

في وسط غرفة الطعام الفسيحة، افترشت مائدة الإفطار بما لذ وطاب: أطباق من الأجبان المستوردة، شرائح السلمون المدخّن، خبز البريوش الفرنسي، فواكه مُقطّعة بعناية، وعصائر طازجة في كؤوس كريستالية.

جلس آسر في منتصف الطاولة، يرتدي قميصًا قطنيًا أبيض ناصع، وساعة فاخرة تُزيّن معصمه، بينما عيناه تسبحان في مكان بعيد لا يراه أحد. أمامه كوب قهوته لا يزال ساكنًا كما هو.

كان يحمل وسامة هادئة لا تستعرض نفسها؛ وجه مستطيل، وبشرة تميل إلى الحنطي، تتخللها هالة من الإرهاق الدائم. عيناه خضراوان بلون الزيتون عند الغروب ، لا تُفصحان عمّا بداخله، بل تُضلّلك بهدوئهما العميق. شعره الأسود قصير، مشذّب بعناية، وصوته منخفض كأنّه يختار كلماته من مكان بعيد. ليس ذلك الشاب الذي يلفت الانتباه فورًا… لكنّه يبقى في الذاكرة كظلّ خفيف، لا تعرف متى علِق بك.


على يمينه جلست سناء، والدته، في فستان أنيق بلون الورد الجاف، شعرها مرفوع بعناية، تحمل في صوتها دفء الأم، وفي عينيها بقايا قلق صامت.

قالت بهدوء:

- آسر، هل نُبدّل القهوة بشيءٍ أكثر دفئًا؟

أجابها آسر دون أن يحرك رأسه، وكأنه ينسحب ببطء من عالمه الداخلي:

كلا، فقط أحتاج دقيقتين لأستيقظ تمامًا.

في الجهة الأخرى، كانت ديما قد جلست بجهازها اللوحي، ترتدي بدلة رسمية أنيقة من فرنسا, مربوطة بحزام ذهبي، وتضع على رأسها نظارة شمس .

كانت أصابعها تتحرك بمهارة فائقة على الشاشة اللوحية، وكأنها تنجز صفقات وهي جالسة، وحاجبها مرفوع قليلاً ليدل على التركيز المطلق.

قالت وهي تتصفح ملفاتها:

لدي عرض تصميم لمشروع تجاري جديد في الزمالك... وسأحتاج أن أغادر خلال دقائق.

ابتسمت سناء، وقالت:

لن تخرجي دون فطور، ولو نصف شريحة.

وفي تلك اللحظة، سُمع صوت خفيف لقدمين متحركتين بسرعة في الردهة، ثم دخل يحيى متأخرًا كعادته، بشعره المصفف جيدًا، وبلباس رياضي فاخر، وهو يحمل جهازه اللوحي ويتثاءب.


كان نسخة أكثر رخاوة من آسر؛ الملامح ذاتها تقريبًا، لكنّ في عينيه الرماديتين بريقًا أكثر دهاءً، وفي ابتسامته هدوء الواثق الذي لا ينتظر إثباتًا. كان يشبه أخاه… لو أن الوسامة قررت أن تكون أقلّ جدية، وأكثر إغواء.

سحب يحيى الكرسي بضجة خفيفة، وسرعان ما استند بذقنه على يده، يبدو عليه الإجهاد الممزوج بالخمول.

جلس على المقعد وهو يقول:

هل تعلمون أنني حلمت أن اليوم الجمعة؟

ضحكت ديما:

وتمنّيت أن تصدّق الحلم، أليس كذلك؟

رد يحيى وهو يملأ كوبه بعصير البرتقال:

بالضبط, لكن المشكلة أن لدي امتحان محاسبة الساعة العاشرة!

نظرت إليه سناء بصدمة ناعمة:

ولماذا لم تراجع بالأمس؟

قال وهو يتنهّد:

كنت أراجع، ثم فتحت حلقة من المسلسل الجديد... ووجدت نفسي في الموسم الثاني فجأة.

كان يحيى معروفًا بتفوقه بين زملائه، لكن خفة دمه وابتسامته الدائمة منحتاه هالة خاصة تميزه عن الجميع.

ضحك آسر، وارتسمت على شفتيه ابتسامة تحمل تعليقاً جاهزاً.

ثم قال ساخرًا:

هكذا تُصنع شهادات رجال الأعمال في القرن الحادي والعشرين.

وقبل أن يتطور النقاش، دخل عادل الهاشمي، ربّ العائلة، وكأن دخوله يضبط إيقاع المكان, بكامل أناقته: بنطال كتان بلون البيج، قميص بفتحة عنق مفتوحة قليلاً، ساعة فاخرة في معصمه، وعطر رجولي يسبقه بثوانٍ.

جلس، وألقى نظرة على أولاده، ثم قال بنبرةٍ معتادة:

من الجيد أن أراكم على المائدة, فبعض الموائد مازالت تعرف كيف تعيد للعائلة دفئها القديم.

قالت سناء بلطف:

كلٌ منا في سباقه، لكننا لا ننسى أن نبدأ اليوم معًا.

ثم التفت عادل، مستحوذاً على اهتمام المائدة، نحو آسر، الابن الأكبر والوريث المباشر لمشروعه. ثم نظر إليه وسأله:

كيف تسير الأمور في الشركة؟

أجابه بثقة هادئة:

المشروع الأخير دخل مرحلة التحليل، والمهندس الفرنسي وافق مبدئيًا على التصميم.

أومأ عادل برأسه:

جيد..أثق في ذكائك يا آسر.

كان هذا صباحًا عاديًا في بيتٍ غير عادي... كل شيء فيه يلمع، لكن بالنسبة لآسر، لم يكتمل لمعان هذا العالم المترف قط، منذ أن حملت سيارة قديمة طفلة صغيرة بعيداً، تاركةً خلفها قطعة من قلبه لم يستطع استرجاعها بعد!

يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة يارا علاء الدين، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة