رواية جديدة ندوب مضيئة ليارا علاء الدين - الفصل 2 - الثلاثاء 9/12/2025
قراءة رواية ندوب مضيئة
كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ندوب مضيئة
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة يارا علاء الدين
الفصل الثاني
تم النشر يوم الثلاثاء
9/12/2025
كانت الشمس تميل نحو كبد السماء، والهواء يحمل صخب الطالبات الخارجات من المحاضرة.
سارت ريم بجوار جنى، تحاول استرجاع بعض الملاحظات في ذهنها، وملامح وجهها مرهقة من قلّة النوم.
فجأة، انطلقت صافرة سيارة على الرصيف المقابل.
رفعت ريم رأسها، فإذا بـمروان، في السيارة السوداء المتهالكة غنيمته الدائمة من أبيه التي اعتاد أن يأخذها متى شاء, يتكئ على النافذة، وعيناه تطوفان بها بنظرة متطفّلة.
قال بصوت عالٍ، يتصنّع فيه المرح:
لم أكن أعلم أن الكلية أصبحت مكانًا للتنزّه بعد انتهاء المحاضرات.
همست جنى وهي تلتفت نحوه باستغراب:
- أليس هذا ابن عمك؟
أجابت ريم دون أن تغيّر نبرة صوتها:
نعم, لا تُعيري حديثه اهتمامًا.
تقدّم مروان بسيارته حتى كاد يقطع عليهما الطريق، ثم أردف ساخرًا:
أمعقول ألّا تردّي السلام؟ أم أنّك حين دخلتِ الكلية بدأتِ ترين نفسك شيئًا؟
نظرت إليه ريم بثبات، وقالت بهدوء:
وأين السلام هذا؟ أليس لديك شيء هام تفعله يشغلك عن اختراع مشكلات لا وجود لها!
أطلقت جنى ضحكة خافتة، بينما ظهر التوتّر على وجه مروان:
لا أفهم ما الذي تظنّين نفسك عليه... أنتِ تعيشين في بيتنا، و...
قاطعتْه ريم، وتقدّمت نحوه خطوة, ثم نظرت إليه بتحدي:
أنا أعيش في بيت جدي، وفي دار أبي الذي توفّي... وأنت لا تمثّل في حياتي أكثر من صُدفة وراثيّة لا أملك نفيها.
ارتبك مروان للحظة، ثم زمّ شفتيه، وقال بلهجة خافتة:
تذكّري أنكِ لن تبقي بين الناس دومًا، ولن ترفعي رأسك طويلاً كما تفعلين الآن, فلدينا بيت يجمعنا!
رمقته ريم بنظرة جامدة، ثم التفتت إلى جنى وقالت:
دعينا نمضي، فلا طاقة لدي لتحمل فقرة جديدة منه.
وسارتا مبتعدتين، دون أن تلتفت ريم إلى الخلف.
أما هو، فبقي مكانه، يتأرجح بين الغيظ والذهول...
فريم لم تعُد تلك الطفلة التي يربكها صوته العالي.
❈-❈-❈
2-
كانت أشعة الشمس تتسلّل بخفوت إلى المكتب الزجاجي الراقي، تنعكس على الأرضية الخشبية المصقولة، حيث يجلس الموظفون في هدوء تام خلف شاشاتهم.
في الركن الزجاجي الخاص بها، جلست ديما خلف مكتب واسع تتراصّ فوقه مخططات هندسية، شاشة حاسوب كبيرة, وهاتفها الذكي.
ترتدي بدلة رسمية باللون الرمادي الناعم، وساعة صغيرة تتلألأ في معصمها الأيسر.
بشرتها بيضاء مائلة للذهبي، ملامحها دقيقة كأنها مرسومة بقلم رفيع، وعيناها بلون العسل الداكن، فيهما نظرة واثقة لا تستأذن أحدًا. شعرها طويل، أسود كسواد الحبر، وغالبًا ما ترفعه بعناية كأنها لا تترك للبعثرة مكانًا.
رفعت هاتفها، وضغطت زر الاتصال على اسم يزن.
بعد ثوانٍ، جاء صوته عبر السماعة:
مرحبًا ديما، كنت على وشك الاتصال بكِ.
قالت وهي تراجع أوراقًا أمامها:
لن أطيل عليك، أردت فقط الاطمئنان على النقاط الأخيرة قبل الحفل.
أجاب بنبرة مطمئنة:
لاتقلقي, كل شيء يسير كما خططنا له بدون أي تأخير.
رفعت حاجبها وكأنها تراجع النقاط الأخيرة:
القاعة حُجزت، المصوّر أكّد الموعد، وبقيت نقطتان فقط: القائمة النهائية للمدعوّين، وترتيب الطاولات.
صمت يزن قليلاً، ثم قال:
أظنّ والدتي أضافت أسماء من طرفها لم تذكرهم من قبل.
تنهدت ديما بهدوء، وقالت:
- يزن، نحن نعمل على خطة دقيقة، لا أحب الإضافات المتأخرة, أنت تعلم ذلك جيدًا!
- أعلم، لكنكِ تعرفين والدتي, تحب أن يشعر الجميع بأنهم مرحّب بهم, وهذا هو حفل خطبة ابنها الوحيد!
قالت ديما بوضوح:
لا مشكلة لدي، فقط أودّ استلام الأسماء قبل المساء لأتمكّن من تعديل جدول المقاعد.
ثم نظرت إلى جهاز الحاسوب أمامها، وأضافت:
وأرجو أن تصل في الوقت المحدّد للموعد مع منسقة الزهورغدًا... تأخّرك في اللقاء الأخير سبّب تأجيلًا غير ضروري.
رد يزن بنبرة معتذرة:
-لن يتكرّر، أعدك.
سكتت لحظة، ثم قالت بنبرة أخفّ:
-كل ما أطلبه هو أن نُظهر دقة التنظيم... لا أريد أن يبدو الحفل مرتجلًا.
ابتسم يزن عبر الهاتف وقال:
-لهذا أحبّكِ، لأنكِ لا تتركين أي شيء ولو صغير دون عناية.
أجابته وابتسامة خفيفة تلمع في صوتها:
وأنت؟ هل تعلم أنك تأسرني حين أراك مهتمًا بما أقوله, بينما معظم الرجال يعتبرون كلام النساء مجرد ثرثرة!
تنهدت ثم أردفت:
أُريد أن تكون هذه الخطبة بداية تليق بنا أنا وأنت, تليق بديما الهاشمي ويزن الكيلاني.
لاتقلقي حبيبتي سيحدث ذلك, سأغلق الآن حتى أنتهي من مهامي. -
أغلقت الهاتف برفق، وسرحت بذاكرتها مسترجعة كيف مرت سنة منذ أول لقاء بينها وبين يزن الكيلاني. الذي التقت به عند والدها في الشركة، خلال اجتماع حول مشروع مشترك بين شركتيهما، إذ تولت شركة الهاشمي تنفيذ المشروع بينما كان يزن مسؤولًا عن التنسيق الخاص بشركة الكيلاني.
منذ اللحظة الأولى، شعر كل منهما بالفضول تجاه الآخر، ومع مرور الوقت نما الإعجاب والاحترام، حتى قررا أن تكون خطبتهما بداية لمستقبل مشترك، والعائلتان رحبتا بها كفرصة مثمرة.
ابتسمت ديما لنفسها، متذكّرة كيف جذبها يزن منذ البداية. أما هو فلم يكن إعجابه بها مجرد شعور عابر، بل كان تقديرًا لشخصيتها المستقلة؛ فهي رغم عرض والدها أن تعمل ضمن شركته ويخصص لها مساحة خاصة للتصميم المعماري, إلا أنها رفضت وافتتحت مكتبها الخاص، لتثبت أنها قادرة على النجاح بجهودها، بخلاف أخوها أسر الذي يعتمد عليه والدها بالكامل. كان ذلك ما جعل يزن يرى فيها شريكة حقيقية لحياته ومستقبله.
تنهدت أخيرًا وقالت:
لن أترك هذه الليلة تشبه غيرها، سأنسجها كما أحلم.
❈-❈-❈
3-
عادت ريم من الجامعة متعبة، خطواتها ثقيلة، وعيناها تحملان وهجًا من الانهاك الخفيف، بينما حقيبتها المعتادة تتدلى على كتفها.
فتحت باب البيت الخشبي العريض، فإذا برائحة العدس المطبوخ تملأ المكان، وصوت الملاعق الخفيف على الصحون ينساب من غرفة الطعام.
دخلت بتردد، ووقفت على العتبة تنزع حذاءها، ثم سمعت صوتًا دافئًا يناديها من الداخل:
هيا، يا ريم... اغسلي يديكِ وتعالي.
كان صوت هدى، زوجة عمها، امرأة طيّبة القسمات، تميل إلى الخضوع والسكوت, لا تجرؤ على المواجهة، لكنها الوحيدة التي تمنح ريم نظرة بشرية وسط الجفاء.
أجابت ريم بهدوء:
حسنًا، دقائق فقط.
غسلت يديها بسرعة، ثم مشت نحو السفرة.
كان الجدّ يجلس في طرف الطاولة، صامتًا كالعادة، و ممدوح يتحدّث مع صباح بصوت منخفض.
قالت لها هدى بابتسامة خافتة:
العدس ساخن اليوم، كما تحبين.
ابتسمت ريم شكرًا، وقبل أن تمدّ يدها إلى الخبز، سُمِع صوت بابٍ يُفتح بقوة، تلاه وقع خطوات سريعة.
دخل مروان، عابس الوجه، حذاؤه يضرب أرض البيت بنبرة مفتعلة، وكأنّه جاء وفي صدره ما يُقال.
وقف لحظة عند باب الغرفة، نظر إلى ريم نظرة طويلة، ثم قال بصوتٍ متعجرف:
جميل... رجعتِ قبل دقائق؟
رفعت ريم عينيها إليه دون أن ترد، فتابع وهو يقترب:
ومن كان ذلك الشاب الذي كنتِ واقفة معه أمام الكلية؟
تجمّدت ملامح ريم للحظة، ثم أجابت:
أي شاب؟ لا أعلم عمّن تتحدّث.
ضحك مروان ضحكة صغيرة، ثم قال ساخرًا:
أنا أتوهم إذًا؟ رأيتك بأمّ عيني، تضحكين وتتحدّثين معه كأنكما تعرفان بعضكما منذ سنوات.
قالت ريم بهدوء:
أقسم بالله أنه لا يعرفني ولا أعرفه، فقط سألني عن المحاضرة، وانتهى الأمر.
قاطعتها صباح بنبرة قاسية:
وهل الفتاة المحترمة تقف في الطريق لتشرح للرجال المحاضرات؟
همّت هدى بالكلام، لكن ممدوح سبقها بصوتٍ حازم:
ما هذه الحكايات كل يوم؟
طالما الوقوف مع الغرباء صار عاديًّا، فلن تعودي إلى ذلك المكان مرة أخرى.
نظرت ريم إليه بدهشة:
لكني لم أُخطئ ياعمي... والله لم أفعل شيئًا, وهل إذا تحدث إلي أحد أتركه وأذهب كالأطفال؟ أنا أعرف تمامًا كيف أضع حدود في التعامل بيني وبين الناس, كما إني أذهب إلى الجامعة لأتعلّم، لا لشيء آخر.
قال ممدوح بنبرة نهائية:
القرار نهائي، ولن يُفتح فيه نقاش بعد الآن.
تحوّلت نظرات ريم نحو جدّها، علّه يقول شيئًا، لكنه بقي ساكنًا كأنّ الكلمات انحبست خلف أسوار الحلق، تأبى العبور.
خفضت ريم يدها عن الطعام الذي لم تمسه، وغابت ابتسامتها في صمتٍ ثقيل.
نظرت إلى الوجوه حولها نظرةً واحدة، لا تحمل رجاءً ولا غضبًا، فقط شيء من الخذلان الصامت.
ثم وقفت بهدوء، دفعت الكرسي خلفها دون ضجيج، ومضت نحو غرفتها بخطى ثابتة.
لم تنظر خلفها، وكأنّ الباب الذي ستغلقه بعد لحظات، لا يفصلها عن غرفتها فقط... بل عن عالمٍ لم تجد فيه مكانًا لها.
❈-❈-❈
4-
كان آسر يجلس في مكتبه الأنيق المطلّ على ناصية شارع رئيسي، تصطفّ على جانبيه ناطحات الزجاج.
أمام شاشة الحاسوب، يراجع آخر التعديلات على عرض تقديمي مهم، حين سمع رنين الهاتف الداخلي.
رفع السماعة، فجاءه صوت السكرتير:
مهندس آسر، السيد عادل يطلب حضورك إلى مكتبه حالاً.
أجاب باقتضاب:
حسنًا، أنا قادم.
نهض، رتّب أزرار قميصه، وسار في الردهة المكسوّة بالسجاد الداكن، حتى وصل إلى باب مكتب والده.
طرق طرقًا خفيفًا، ثم دخل.
كان عادل الهاشمي يجلس خلف مكتبه وإلى يمينه يجلس رجل خمسيني ببدلة رمادية، أنيق، واثق النظرات.
وبجواره، فتاة في منتصف العشرينات، ترتدي بدلة نسائية أنيقة بلون كريمي فاتح، قميصها حريري بياقة مفتوحة قليلاً، وقد زُيّنت أكمامها بأزرار ذهبية صغيرة.
كانت حقيبتها الصغيرة من ماركة فاخرة، وعطرها النفّاذ يسبق كلماتها..
قال عادل وهو ينهض:
أهلاً آسر, رحب بالسيد فوزي البدراني، رجل أعمال وصديق قديم.
مدّ آسر يده بابتسامة مهذبة:
تشرفت، أستاذ فوزي.
صافحه فوزي وقال بصوت رخيم:
الشرف لي، سمعت عنك الكثير من والدك.
ثم أشار إلى الفتاة:
وهذه ابنتي، لميس.
رفعت لميس عينيها إلى آسر، ابتسمت ابتسامة خفيفة لا تخلو من التحدّي، وقالت:
أخيرًا أراك، كنت أظنّك أكبر سنًّا.
أجابها آسر بلطف محسوب:
ليس كل ما يُقال يعكس الحقيقة.
ضحك عادل، وقال بنبرة فيها شيء من التلميح:
-فوزي سيكون شريكنا في المشروع الجديد في العاصمة... وأنا أفكر في أن تكون أنت مسؤولًا عن المتابعة، يا آسر، بالتنسيق مع لميس.
تبادل آسر النظرات مع والده، ثم قال بهدوء:
بالطبع، هذا يُشرفني.
هز فوزي رأسه:
ممتاز، ولميس ستكمل التنسيق من جانبنا، فهي تملك ذوقًا حادًّا في التفاصيل.
قالت لميس، وهي تزيح خصلات شعرها للخلف:
لا تقلق, سأكون حريصة على أن يكون التعاون... سلسًا.
أومأ آسر دون أن يعلّق، لكن شيئًا في عينيه كان يشي بعدم ارتياحه، رغم صمته المنضبط.
❈-❈-❈
5-
بعد أيام...
تألّقت القاعة الفاخرة بثريات الكريستال المتدلّية، تغمرها أنوار دافئة تنعكس على الجدران المزخرفة بورق ذهبي ناعم.
الموسيقى الهادئة تعزف مقطوعات كلاسيكية راقية، بينما تتناثر الورود البيضاء على الطاولات، وتمرّ المضيفات بخطى مدروسة يوزعن العصائر والمقبّلات.
كان بعض الضيوف يتبادلون أطراف الحديث عن ترتيب الطاولات والزهور، بينما كان آخرون يلتقطون صورًا للقاعة، يلمع فلاش الكاميرات على الطاولات، الشموع، وأطقم الكريستال. الأطفال يسيرون بهدوء بين الطاولات، مستمتعين بالحلويات الملونة على صواني الفضة.
في منتصف القاعة، وُضعت طاولة مستطيلة أنيقة، تقف خلفها ديما مرتدية فستانًا سهرة بلون النبيذ الداكن، بتصميم بسيط لكن أنيق، يليق بشخصيتها العملية.
إلى جوارها وقف يزن ببدلة زرقاء داكنة، يبتسم للمدعوّين دون أن يشيح بنظره عنها.
اقتربت سناء من ديما، ربتت على كتفها بحنان وهمست:
كل شيء جميل... تمامًا كما أردتِ.
أجابت ديما بصوت منخفض:
لم أترك تفصيلة واحدة دون تخطيط.
أما في الجهة اليمنى من القاعة فكان عزّ الكيلاني والد العريس محاطًا بعدد من أصدقائه القدامى؛ رجال أعمال يشاركونه المكانة نفسها. كان يقف بثباته المعتاد، ببدلته الداكنة وقامته المهيبة، وصوته العميق يتردد بخفوت:
الحمد لله.. اليوم نضيف إلى عائلتنا نسبًا يليق بنا. بيت الهاشمي معروف بحُسن السيرة، والشراكة بين العائلتين ستجلب الخير للجميع.
أجابه أحد الرجال وهو يبتسم بثقة:
يزن أحسن الاختيار، والبنت تبدو واعية وقادرة على حمل اسم الكيلاني.
هزّ عزّ رأسه بارتياحٍ لا يخفيه:
هذا ما نرجوه… وعلى كل حال، نحن أمام خطوة تُحسب للعائلتين، لا لواحدة منهما.
وتعالت ضحكات هادئة واتفاقات صامتة، كأن كلماتهم تؤسّس لتحالف غير مكتوب، يعتمد على الثقة والجاه والنفوذ.
وفي الجهة المقابلة، وقفت فريدة هانم وسط حلقة واسعة من صديقاتها، تحيط بهنّ الأساور الذهبية والفساتين الفاخرة. كانت تلوّح بكأس العصير بخفّة، بينما تقول بنبرة رقيقة تخفي خلفها وخزًا ساخرًا:
العروس… فتاة لطيفة، ولا أحد يُنكر ذلك، لكنّها منشغلة بالنظام أكثر مما ينبغي. انظرن إلى القاعة… كل تفصيلة محسوبة كأنها تخشى أن يختلّ الكون!
ضحكت إحدى صديقاتها:
على الأقل تهتم يا فريدة، وهذا أفضل من الفوضى, فأنتِ تعلمين البنات الآن أصبحن مدللات أكثر من اللازم.
رفعت فريدة حاجبًا رفيعًا، وقالت:
ربما… لكنّني لا أظن أن هذه الدقّة ستستمر حين تصبح مسؤولة عن بيت الكيلاني. ليس الأمر سهلًا كما تعلمون.
تبادلت النساء نظرات مليئة بالفضول، بينما كانت فريدة تُخفي ابتسامة صغيرة خلف مروحتها الحريرية، وكأنّها تراقب المشهد بميزان دقيق لا يخلو من الأحكام.
في تلك اللحظة, دخل عادل مع فوزي البدراني من الباب الجانبي، يتبادلان الضحكات.
بجانب فوزي، كانت لميس ترتدي فستانًا حريريًا بلون الزمرد، شعرها مرفوع، ومجوهراتها تتلألأ تحت الأضواء.
وقفت للحظة تتأمل القاعة، ثم همست لأبيها:
لا عجب أن تكون ديما بهذه الدقة... حتى طيّة المنديل على الطاولة تشهد على لمستها.
ضحك فوزي وقال:
فتاة ذكية, لا تسمح لأيّ خطأ أن يمرّ.
اقتربوا من المنصة، صافحت لميس ديما بابتسامة مشدودة:
مبارك لكِ... تفاصيل الحفل تشهد على ذوقك الفريد.
أجابت ديما بخجل:
شكرًا، على لطفك يا لميس.
في الجهة المقابلة، كان آسر واقفًا بمفرده ، ثم لاحظ دخول لميس.
تلاقت نظراتهما للحظة، لكنه سرعان ما صرف بصره نحو النادل، يطلب كأسًا من الماء.
أما ديما ما إن لاحظت وجود آسر هناك, حتى أخذت كأسًا من العصير وسارت نحوه بخطى محسوبة، تسبقها رائحة عطرٍ فرنسي حادّ.
وقفت إلى جواره وقالت بنغمة خافتة:
مساء الخير، يا آسر... هل تسمح لي بأن أشاركك هذه العزلة الهادئة؟
رفع آسر بصره إليها، ثم قال بنبرة مهذبة:
أهلًا، لميس...بالطبع, أرجو أن يكون الحفل قد أعجبك؟
ابتسمت وهي تميل قليلًا نحوه:
بل أكثر مما توقّعت... لكنه ينقصه شيء صغير.
نظر إليها مستفهمًا، فقالت:
أن يبتسم من يقف بجانبي.
لم يردّ آسر، فقط رفع كأسه بهدوء، وأخذ رشفة صغيرة، قبل أن يقول:
في مثل هذه المناسبات, أفضل أن أراقب التفاصيل بصمت... بدلًا من الانخراط في الزحام.
ضحكت بخفة:
لكن أحيانًا، المشاركة تُحدث الفرق.
ثم أضافت وهي تنظر مباشرة إلى عينيه:
خاصةً إن كانت مع شخص... مثلك.
قطع حديثهما صوت خافت من المنسّق يطلب من الجميع الانتباه، فقد حان وقت إعلان الخطبة رسميًا.
ثم وقف يزن ممسكًا بالميكروفون، وقال ببساطة:
شكرًا لكل من شاركنا هذه الليلة, أمامكم جميعًا، أقول: إن كانت هذه الخطبة بداية، فدعوني أعدها وعدًا... أن تظل ديما لي وطنًا لا أملّ منه.
تصفيق هادئ عمّ القاعة، بينما وقفت ديما بجانبه، تبتسم بثقة وهدوء... كما لو أنّها خطّطت لهذا المشهد كلمةً كلمة. كانت تراقب يزن، وتعرف أن كل نظرة وكل حركة تعكس صدق مشاعره والتزامه تجاهها، وفجأة شعرت بفخر ذاتي لأنها اختارت طريقها المستقل حتى في الحب .
سناء، التي وقفت بجانبها، تساقطت دموعها دون أن تشعر, تغمرها الفرحة لرؤية ابنتها تحقق حلمها. كانت تعرف أن ديما تستحق كل هذا الحب والاحترام.
أما أسر، فكانت مشاعره مزيجًا من الفرحة والفخر، وهو يرى شقيقته تتألق بهذا الشكل. كان قلبه يرفرف بين أضلعه، لكنه لم يستطع إلا أن يبتسم وهو يدرك أن يزن رجل جدير بثقتها، وأن كل شيء يسير كما يجب.
لميس بجواره كانت تراقب المشهد بعين مدققة، وعقلها منشغل بخططها المستقبلية. كانت تتخيّل نفسها في يومٍ ما، وستكون صاحبة الحفل هي وآسر، تبتسم ابتسامة مدروسة، تحاول إخفاء طموحها أمام الجميع، لكنها تحفظ في ذهنها كل تفصيلة لتستنسخها في يومها الخاص.
❈-❈-❈
6-
مرّ أسبوع على خطبة ديما، كان حافلًا بالاجتماعات والتفاصيل المرهقة داخل الشركة، حتى بدا أن آسر لم يلتقط أنفاسه منذ تلك الليلة, حيث كانت مسؤولياته تتضاعف مع المشروع الساحلي الجديد.
واليوم، جاء إلى مطروح في مهمة عمل قصيرة، لحضور اجتماع تنفيذي مع فريق المشروع . كان عليه مراجعة الخطط، متابعة الجدول الزمني للبناء، والتأكد من كل التفاصيل قبل تقديم التقرير النهائي لوالده.
وبينما كان يراجع آخر التفاصيل مع فريقه التنفيذي، اقترب منه وائل، المهندس المسؤول عن المشروع بمطروح، قائلاً:
أسر، قبل أن تعود إلى القاهرة، ما رأيك أن تمرّ على الشاطئ قليلَا؟ الهواء نقي والمنظر رائع، سيساعدك على تفريغ عقلك قبل السفر.
تردد أسر للحظة، وعينه على جدول الأعمال المزدحم:
لا وقت لذلك، يا وائل. هناك الكثير لإنجازه، ويجب أن أعود اليوم.
ابتسم وائل بإصرار:
أعدك أنها لن تسرق منك الوقت. ستخرج من هنا منتعشًا أكثر مما تتخيل. فشاطيء مطروح مختلف كثيرًا عن غيره.
استسلم أسر أخيرًا، بعد أن شعر بأن بعض الراحة لن تضرّ، وقرر أن يوافق على مضض.
❈-❈-❈
كان شاطئ مطروح يتلوّن بدرجات من الفيروز والفضيّ، والموج يتسلّل برفق على الرمال الناعمة، تاركًا أثرًا لا يلبث أن يُمحى.
الرمال كانت بيضاء نقية، وكأنها لم تطأها قدم من قبل، والهواء يحمل نسمات مالحة تنعش الحواس وتوقظ شيئًا قديمًا في القلب.
هناك، عند حافة الشاطئ، جلست ريم بصمت، ترتدي فستانًا أرجوانيًا بسيطًا، تغطي شعرها بوشاح ناعم، عيناها معلّقتان بالأفق... لا تنظر إلى شيء محدد، لكنها تنصت إلى داخلها، حيث تدور أسئلة لا تُقال.
السماء بدأت تميل للبرتقالي، والهواء يمرّ خفيفًا، يحرّك أطراف الشال على كتفها. كما لو كان يُربّت عليها برفق.
كانت كلمات عمّها لا تزال تدور في رأسها، ثقيلة كأنها قُدّت من حجر:
لا جامعة بعد اليوم.
هكذا قالها عمّها، وكأنّه أغلق بابًا على أحلامها إلى الأبد.
همست لنفسها، دون أن يراها أحد:
لو كان أبي على قيد الحياة... لما رضي أن أُهان بهذا الشكل, ولا أمي!
لو كانا هنا... لما تركاني أواجه الحياة بهذا العجز، ولا أن تُنتزع إرادتي كأنها لا شيء.
شدّت طرف الشال الفضي حول كتفيها، كأنها تحتمي به من بردٍ داخلي، لا علاقة له بالهواء.
في الجهة الأخرى، توقفت سيارة سوداء أنيقة عند حافة الطريق الترابي.
خرج منها آسر، يرتدي نظارته الشمسية, يحمل ملفًّا بيده، مستعدًا للتمشّي على الشاطئ بعد يوم طويل من الاجتماعات.
تأخروائل قليلاً خلفه، مشغولًا بمكالمة هاتفية عاجلة. اضطر آسر للانتظار للحظة، ثم قرر أن يتحرك الخطوات الأولى على الشاطيء، مستمتعًا بالهواء النقي، سامحًا للموج أن يلمس حوافه برفق، لكن ما إن لمحها من بعيد، حتى توقفت قدماه.
لم يكن يعرفها... لم يرَ وجهها بوضوح.
لكن في جلستها، في ميلان رأسها، في انكماش أصابعها حول الشال... كان هناك شيء مألوف، شيء حرّك فيه رعشة لا اسم لها.
بقي في مكانه، يراقب دون أن يجرؤ على التقدّم.
كان في هيئتها ما يمنعه من الاقتراب، لا خوفًا... بل احترامًا لتلك الهالة حولها.
أما ريم، فقد شعرت بنظرات تتسلّل إليها، لم تستدر، لكنها شعرت بها تخترقها بهدوء.
قلبها تسارع نبضه فجأة، ، كأنّ وقع الخطى أيقظ في ذاكرتها صوتًا دفنته الأيام.
استجمعت شجاعتها، واستدارت ببطء، فالتقت عيناها بعينيه... لم يكن بينهما سوى خطوات قليلة، وصمتٌ لا يجرؤ أحدهما على كسره.
لم تعرفه في اللحظة الأولى، لكنها أحسّت به... كأنّها تعرفه من قبل.
كان غريبًا عنها، ومع ذلك، شعرت نحوه بألفة لا تفسير لها.
ارتبكت، انخفض بصرها، وانسحبت بهدوء من المكان، وكأنّ شيئًا أثقل من الرمل علق في صدرها.
أما هو، فبقي واقفًا في مكانه، يحدّق في الفراغ الذي تركته، يتساءل:
من تكون؟... ولماذا شعرتُ وكأنني التقيتها... قبل أن ألتقيها؟
في تلك اللحظة، اقترب وائل من جانبه، ملمحًا بخفّة:
هندسة, أرى أن المكان قد أسرك كما أخبرتك, أليس كذلك؟
حاول آسر أن يبتسم ابتسامة شبه عابرة، محاولًا التظاهر بالهدوء:
بالطبع, فكل شيء هنا رائع.
ولكن قلبه كان يصرّ على شعور غامض لا يعرف له وصفًا، شعور يرفض أن يغادر بسهولة، كأن هناك شيئًا أو شخصًا ترك أثرًا في روحه دون أن يدركه بعد.
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة يارا علاء الدين، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية
