رواية جديدة ندوب مضيئة ليارا علاء الدين - الفصل 3 - الأربعاء 17/12/2025
قراءة رواية ندوب مضيئة
كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ندوب مضيئة
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة يارا علاء الدين
الفصل الثالث
تم النشر يوم الأربعاء
17/12/2025
هل تستطيع الذكرى أن تُوقظ لهفة؟
فتُشرق المشاعر المخبأة، وتَكشف أن الحب لم يغب يومًا؟
الفصل الثالث
عادت ريم إلى البيت وقد سبقها شعور غريب لم تُحسن تسميته.
لم يكن حزنًا، ولا فرحًا، ولا حتى قلقًا واضحًا… كان فقط ثِقلًا خفيفًا في صدرها، كأن قلبها اصطدم بشيء لم يدركه عقلها بعد.
أغلقت الباب خلفها بهدوء، وأسندت ظهرها إليه لثوانٍ، ثم ابتعدت وكأنها تخشى أن تفهم ما تشعر به إن توقفت طويلًا.
كانت تقول لنفسها: لا شيء حدث، لكنها لم تقتنع تمامًا.
لم تتبادل معه كلمة واحدة.
لم تعرف اسمه.
ومع ذلك… بقي أثره.
جلست على سريرها، تحدّق في الفراغ، تحاول استعادة يومها كما هو، دون تلك اللحظة العابرة. لكن قلبها كان يخونها في كل مرة، ينبض بنغمة مختلفة، غير مألوفة.
قالت لنفسها، بلهجة عاتبة:
لماذا أشعر وكأن شيئًا ما لمسني من الداخل؟
مدّت يدها دون وعي إلى القلادة المعلّقة في عنقها، ضغطت عليها بأصابعها، كأنها تطلب تفسيرًا, شعرت بشيء مألوف… مألوف حدّ الوجع، حدّ أن قلبها يعرفه دون عقلها!
تمدّدت على السرير، وأغمضت عينيها، ظنّت أن النوم سيأتي سريعًا كما اعتادت، إلا أن صورته كانت أسرع. رأته واقفًا هناك، في ذات الموضع، بذات السكون، ينظر إليها كما لو أنه يعرفها, يدغدغ قلبها بمشاعرلم تُدرك أنها بداخلها من قبل!
وماهي إلا دقائق حتى غطت في نوم عميق....
ثم رأت نفسها تقف هناك.
الهواء ساكن، والبحريلامسها، وهي وحدها.
ثم سمعته.
صوتٌ هادئ، قريب، من قلبها, لا تعرف كيف!
قال أخيرًا:
أشعر أنّني أعرفك منذ زمن.
استدارت نحوه، حاولت أن ترى ملامحه، لكن الضوء كان خافتًا، وجهه غير مكتمل، وكأن الحلم تعمّد أن يحجب عنها تفاصيله.
قالت بصوتٍ متردّد:
من أنت؟
اقترب خطوة، دون أن يلمسها، وقال بنبرة صادقة، خالية من أي ادّعاء:
ستعرفينني بقلبك.
اتّسع صدرها، وتسارع نبضها، وكأن الكلمات أصابت شيئًا دفينًا بداخلها.
فتحت عينيها فجأة.
كانت الغرفة مظلمة، وأنفاسها متلاحقة، ويدها قابضة على الغطاء.
نظرت حولها، كأنها تتأكّد أنّها وحدها.
تمتمت بصوتٍ خافت:
كان حلمًا… مجرّد حلم.
لكن قلبها لم يكن مقتنعًا.
استدارت على جانبها، وأغمضت عينيها مرة أخرى، وهي تعرف أنّ تلك الجملة لن تغادرها بسهولة…
«ستعرفينني بقلبك. »
كان الشاطئ هادئًا على غير عادته، والموج ينسحب ببطء كأنه يتردد في الرحيل. وقف آسر قريبًا من الماء، يحدّق في الأفق حيث اختفت الفتاة منذ دقائق، وبقي أثرها عالقًا في المكان.
على مسافة غير بعيدة، كان وائل يبتعد وهو يرفع هاتفه إلى أذنه، مشيرًا بيده:
- مكالمة سريعة.
أومأ آسر دون أن يلتفت، وبقي واقفًا حيث هو.
قريبًا من الشاطئ، لفت نظره رجل يعمل هناك، يجرّ قاربًا صغيرًا ويعدّل بعض الشِباك، ملامحه أنهكها التعب, كان قد لاحظه آسر, يحدق فيهما منذ قليل, يتفحّصهما بعينين ثابتتين, فاقترب منه بتردّد خفيف، ثم قال:
- من فضلك… هل رأيتَ الفتاة التي كانت تقف هنا منذ قليل؟
توقف الرجل عن عمله، ومسح يديه في ثوبه، ثم قال:
نعم، رأيتها, ثم غمز بعينيه مشاكسًا!
ساد صمت قصير، قبل أن يسأله بجدية:
- هل تعرفها؟ تعرف اسمها؟
هزّ الرجل رأسه نافيًا:
-لا أعرف اسمها، لكنها معتادة على المجيء. أراها كل أسبوع تقريبًا، تجلس وحدها قليلًا، ثم تذهب.
في تلك اللحظة, أخرج آسر بطاقة عمله من جيبه، ومدّها إليه، ومعها بعض النقود:
- إن جاءت إلى هنا مرة أخرى، من فضلك… أعطِها هذه البطاقة، وقل لها أن تتصل بي.
أخذ الرجل البطاقة والنقود, ونظر إليهم بفرح واضح:
- بكل سرور يا باشا.
ابتسم آسر ابتسامة خفيفة، ثم ابتعد.
عاد وائل في تلك اللحظة، وهو يضع هاتفه في جيبه:
- هيا يا هندسة، أم ستجلس أكثر من ذلك؟
ألقى آسر نظرة أخيرة على البحر، ثم قال:
- هيا بنا.
بعد دقائق, كان آسر يقود السيارة بصمت, ينظر إلى الطريق الممتد أمامه. حاول أن يستحضر ملامحها: خطوط وجهها، ميلان رأسها، حركة يديها حول الشال، نظرتها العابرة التي بدت كأنها تخاطبه من بعيد. كل شيء بدا حيًا في ذهنه، وكأن تلك اللحظات عادت لتدق في قلبه من جديد. كان يعرف، بلا سبب منطقي، أن هذه الفتاة لم تكن مجرد عابرة، وأن لقاؤه بها لم يكن صدفة.
قال في داخله:
«من تكون؟ ولماذا يلتقط قلبي إيقاعها قبل أن أعرفها؟»
تنفّس بعمق، محاولًا إبعاد الفكرة، لكن قلبه لم يُطِعه.
كان يدرك، دون تفسير منطقي، أن هذه الحكاية لم تنتهِ عند الشاطئ…
وأن البحر، هذه المرة، لم يكن مجرد مكان، بل بداية.
❈-❈-❈
2-
كانت الردهة تفيض بألوان هادئة، وجدرانها تلبس طلاءً عاجيًّا ينعكس عليه ضوء الثريات الذهبية، بينما جلس فوزي البدراني في صالة منزله الواسعة، يراجع ملفًّا ماليًّا بين يديه، ونظارته نصف منزلة على أرنبة أنفه.
دخلت لميس بخطًى رصينة، ترتدي سترة منزلية أنيقة بلون النبيذ الداكن، شعرها مرفوع بعناية، وملامحها هادئة, قالت وهي تقترب منه:
- هل تأذن لي بدقيقتين من وقتك، أبي؟
أجاب دون أن يرفع عينيه:
- لكِ العمر كلّه، يا لميس... اجلسي.
جلست قبالته، وضمت يديها في حجرها، ثم قالت بصوت منخفض، لكنه واضح:
- مشروعنا مع شركة الهاشمي، الأمور تسير بدقة، وأنا واثقة من نجاح الشراكة, لكن ثمّة أمر آخر يشغلني.
رفع فوزي عينيه إليها، وقد قرأ في نظرتها ما لم يُقال.
- خير.
ترددت للحظة، كأنها تحشد كلماتها، ثم قالت:
-أريد آسر، يا أبي.
ارتفع حاجباه، وأغلق الملف ببطء، ثم مال قليلًا نحوها:
- تريديه... كيف؟ في العمل؟ أم تقصدين أمرًا آخر؟
قالت بثبات:
- أريده زوجًا.
ساد الصمت لحظة، قبل أن يبتسم فوزي ابتسامة صغيرة خالية من المفاجأة، كأنه كان يتوقع هذا .
- لميس... أنتِ لا تطلبين أمرًا يسيرًا، فآسر شاب عاقل، لا يُقاد، ولا يُشترى.
قالت بصوت أخفّ:
- لا أريد شراءه... أريده أن يراني، أن يشعر بي، كما أراه أنا.
نهض واقفًا، ووضع يده برفق على كتفها:
- ثقي بي، يا ابنتي... آسر سيأتي، إن لم يكن بقلبه، فبعقله.
نظرت إليه بعينين فيهما امتنانٌ وقلق، فقال بنبرة حازمة:
- دعي هذا الأمر لي، أنتِ اهتمي بالعمل، وأنا... سأهتم بآسر.
أومأت بصمت، لكن في أعماقها، كانت تشعر أن اللعبة بدأت... وأن الرهان، هذه المرة، لا يشبه أيّ شيءٍ عرفته من قبل.
❈-❈-❈
3-
كان المساء قد ألقى بظلاله على البيت العتيق، والهواء البحري يتسلّل من النافذة المفتوحة محمّلًا برائحة الملح وهديرٍ بعيدٍ للموج.
جلس الجدّ على مقعده الخشبي القريب من النافذة، يضمّ عباءته حول جسده النحيل، وعصاه مستندة إلى الحائط بجواره. عيناه، رغم ثقل السنين، ظلّتا صافيتين كأنهما تعرفان ما لم يُقال بعد.
طرقت ريم الباب طرقًا خفيفًا، ثم دخلت.
تقدّمت بخطوات مترددة، وجلست عند قدميه، كما كانت تفعل في طفولتها. مدت يدها، وأمسكت يده المجعّدة بحنو، ثم قالت بصوت خافت:
- جدي… هل أزعجك؟
ابتسم، وربّت على رأسها:
-وهل يُزعج القلبُ نفسه؟ تكلّمي يا ريم.
سكتت لحظة، كأنها تجمع شجاعتها، ثم رفعت رأسها إليه في عينيها ارتجاف لم تستطع إخفاءه.
-جدي، أنا جئت إليك لأنني لم أجد بابًا آخر لأطرقه.
تنفّس بعمق، وقال بهدوء العارف:
- الأمر يتعلّق بعمّك، أليس كذلك؟
أومأت برأسها، وقالت بسرعة كمن يخشى أن يتراجع:
-هو لا يريدني أن أعود إلى الجامعة. يقول إن الأمر انتهى، وإن مكاني في البيت.
ثم انخفض صوتها:
- وأنا… لا أستطيع أن أقبل ذلك.
شدّت يدها على يده أكثر، وقالت بثبات حاولت أن تصنعه:
-إنها الشيء الوحيد الذي أملكه, ليست مجرّد دراسة يا جدي… إنها ما يُبقيني واقفة حتى الآن.
ابتسم الجدّ ابتسامة حزينة وقال:
- عمّك يخاف عليكِ بطريقته، حتى وإن كانت قاسية.
هزّت رأسها ببطء:
- أبي… لو كان حيًّا، لما رضي لي بهذا.
ارتجف شيء في عيني الجدّ، وقال بصوت أخفض:
-صدقتِ… جمال كان يرى فيكِ أكثر مما ترين في نفسك.
ثم أردف:
أتدرين يا ريم؟ كان أبوكِ يجلس هنا… في هذا المكان تحديدًا, وأشار بيده لكرسي مجاور للنافذة.
رفعت رأسها إليه، وقد انتبه قلبها قبل أذنها:
- حقًا؟
ابتسم ابتسامة بعيدة، وقال:
-نعم, كان يحب هذا المقعد كثيرًا، يحب النظر للبحر, يقول أنه يُشبه الإنسان, يخفي في أعماقه ما لا يراه أحد، ويظهر سطحه فقط لمن يعرف كيف يقرأه، وموجاته كقلوبنا، أحيانًا هادئة، وأحيانًا تتلاطم بلا رحمة.
سكت لحظة، ثم أضاف:
- جمال لم يكن كثير الكلام، لكنه حين يتكلم، تلمس كلماته قلبك مباشرة.
تنفّست ريم بعمق، وقالت بصوتٍ خافت:
-لا أتذكره جيدًا، يا جدي, أخاف أن أنساه, حدّثني عنه.
تنهد الجدّ، وقال:
- كان قويًّا، لا في صوته، بل في صبره , لم يكن يقبل الظلم أبدًا ولا يصنع ضجيجًا حول نفسه, له طابع خاص وهالة حوله مثلكِ تمامًا, وحين أحبّ أمكِ… أحبّها كما يحبّ الرجال القلائل.
أحبها بشجاعة لا تعرف الخوف. وقف أمام عمك، الذي رفض أن يراه يرتبط بها لأنها لم تكن من عائلة ميسورة, لكن جمال لم يركع، لم يتراجع خطوة واحدة, قال بصوت هادئ لكنه مليء بالإصرار:
لن أتخلى عنها, وليس من حقك أن تمنعني منها… حبّي لها أسمى من كل القيود، وسأقف بجانبها مهما حاولت أن تقف في طريقنا.
ابتسمت ريم بحنين وسألت:
- وكيف كانت أمّي؟
أضاء وجهه قليلًا، وقال:
- منال؟ كانت روح البيت, ضحكتها تسبق خطاها، وحين تدخل تملأ المكان دفئًا وحياة قبل أن تنطق بكلمة.
قالت ريم وقد اغرورقت عيناها:
- هل كانوا سعداء؟
أجاب بثقة هادئة:
- نعم… رغم كل شيء, لم تكن حياتهم سهلة، لكنهم كانوا متكاتفين، وهذا يكفي.
أغمضت ريم عينيها، وأسندت رأسها إلى يد جدّها, وقالت هامسة:
- أشتاق إليهما..
ربّت على كتفها، وقال بصوتٍ يحمل حنينًا لأيامٍ مضت:
- تزوّجا هنا… في مطروح.
التفتت ريم إليه، وقد لمعت عيناها باهتمامٍ صامت.
ثم أردف:
بيتنا يومها كان صغيرًا، لكن جمال اشترى شقته بجوارنا, تلك الشقة التي استغلّها عمّك لتوسيع المنزل بعدما سافرأبوك واستقر في القاهرة، عاشا عامًا كاملًا هنا. كان جمال يذهب لعمله, ثم يعود في كل مساء ليجلس قرب البحر مع أمّكِ، يحدثها عن أحلامه، وتحدّثه عن تفاصيل صغيرة كانت تراها عظيمة.
ثم سكت لحظة، وكأنّ الذكرى أثقل من أن تُقال دفعة واحدة، قبل أن يُتابع:
-وبعد عام… جاءه قرار نقله إلى القاهرة, وكان يعرف أن رفضه يعني أن يفقد منصبه كمـهندس كفؤ، فانتقل للعمل في فرع الشركة هناك.
رفعت ريم رأسها وقالت بهدوء:
-وأمّي؟
- لم تسأل لماذا؟ ولا إلى متى؟ قالت له فقط: حيث تكون… سأكون.
حزمت حقائبها في ليلة واحدة. ودّعت البحر، وودّعت البيت، ولم تلتفت خلفها. لم تكن تخشى الغربة، لأنها شعرت أن وجوده إلى جانبها يكفي.
شعرت ريم بشيء دافئ ينساب في صدرها.
نظر إليها الجدّ وقال:
- وحين وُلدتِ في القاهرة… كانت مطروح لا تزال تسكنه، فكان جمال يحافظ على زيارة ثابتة لنا هنا شهريًا. رغم أنكِ كنت طفلة صغيرة وربما لن تتذكري ذلك. لكنه أراد منذ البداية أن يغرس في قلبك حب البحر، وحنينك للنقاء والصفاء الذي يحمله.
سكت، ثم قال بنبرة أعمق:
- أتدرين ما الذي كانا يتفقان عليه دائمًا؟
هزّت رأسها نفيًا.
قال:
-أنكِ مختلفة, وأن لكِ قلبًا لا يُشبه غيره.
كانت ريم تستمع، لكن قلبها لم يعد هنا.
انسحبت ببطء إلى ذكرى بعيدة…
تذكّرت يدًا تمسك بيدها الصغيرة.
صوت أبيها وهو يقول لها، وهي تجلس قربه:
لا تسمحي لأحد أن يجبركِ على شيء لاتُريديه. حياتكِ ملككِ أنتِ وحدكِ فقط, وتذكّري، يا صغيرتي، الشجاعة ليست في رفع الصوت، بل في أن تعرفي قيمتكِ وتتمسكي بها، مهما حاول العالم أن يغيّرك.
تذكّرت كيف كان يربت على رأسها، ويبتسم دون كلام.
وكيف كانت تشعر بالأمان… فقط لأنه بجوارها.
قال الجدّ فجأة، كأنه قرأ أفكارها:
- أبوكِ كان يخاف عليكِ أكثر مما يُظهر, كان يقول لي دائمًا:
أريدها قوية… لا لأن الدنيا قاسية فقط، بل لأنها تستحق أن تعيش كذلك.
ارتعش شيء في صدر ريم، وقالت بصوت مكسور:
- وأنا أخاف، يا جدي, أخاف أن أُجبر على ترك ما أحب.
وضع يده فوق يدها بحنو:
- من يحمل هذا القدر من الحب في قلبه، لم يُخلق ليُكسر.
ارتعش صوتها، ثم قالت برجاء واضح:
- جدي، أرجوك… حدّثه, كلمة منك قد تغيّر كل شيء.أنا لا أريد أن أكره هذا البيت.
رفع الجدّ رأسه، ونظر نحو النافذة، كأنّه يستدعي ذاكرة بعيدة، ثم قال:
- سأكلّمه, ليس لأنكِ طلبتِ فقط، بل لأنها وصية جمال.
ارتسمت دمعة على خدّها، لكنها ابتسمت:
- شكرًا يا جدي… كنت أعلم أنني حين آتي إليك، لن أعود خائبة.
ربّت على يدها، وقال بصوت متهدّج:
- لا تخافي… ما دمتُ حيًّا حبيبتي.
وضعت رأسها على يده ثانية، وأغمضت عينيها.
في تلك اللحظة، شعرت أن البيت، بكل جدرانه المتشققة، ما زال يحتفظ بشيء من الأمان… ولو قليلًا.
❈-❈-❈
4-
كان آسر جالسًا خلف مكتبه الزجاجي في الطابق العلوي، يحدّق في شاشة الحاسوب أمامه، لكن عينيه لم تكن تقرآن شيئًا. يده تمسك بالقلم، تعبث به فوق الورق، بينما عقله يسبح في مكان آخر... أبعد من الخرائط والمخططات والجداول الزمنية.
دخل عمر دون استئذان، كعادته، بوجهه المرح وثقته العفوية. كان صديقه في الشركة, شابٌ في أواخر العشرينات، ذو قامة متوسطة وجسد رشيق، معروف بابتسامته الدائمة وعيونه البنية النابضة بالحيوية، قال وهو يجلس على الأريكة:
-يبدو أنك غارق في العمل… لدرجة أنك نسيت فنجان القهوة الذي نتشاركه معًا كل صباح.
ابتسم آسر بخفوت، وقال:
- ربما كنت أغرق فعلًا... لكن ليس في العمل هذه المرّة.
رفع عمر حاجبًا ساخرًا:
- وجهك يقول أنه حدث!
سكت آسر لحظة، ثم قال وهو يشيح بنظره إلى النافذة:
-نعم, في مطروح... رأيتها.
- من؟!
-فتاة، لم أتمكن من رؤية وجهها تمامًا، كانت تجلس وحدها على الشاطئ، ترتدي فستانًا أرجوانيًا، ووشاحًا ناعمًا... نظرتها كانت... لا أعرف كيف أصفها، كأنني التقيتُها قبل أن ألقاها.
ضحك عمر وقال:
- يا هندسة، هذا حديث شعراء لا حديث مهندسين. لقد وقعت, وقضي الأمر!
ثم استدرك بفضول:
- وسألتها عن اسمها؟ ومن تكون؟
هزّ آسر رأسه، وقال بنبرة نادمة:
-لا.
- نعم!!! وكيف ستصل إليها؟
تنهد آسر، وأجاب وهو يشدّ يده على القلم:
-لا أعلم، لكنني... لا أستطيع نسيانها. كلما أغمضتُ عيني، أراها تجلس هناك، والشال ينساب على كتفيها كنسمة مساء.
همّ عمر بالرد، لكن الباب انفتح فجأة دون طرق.
دخلت لميس بخطًى واثقة، ترتدي بدلة رسمية بلون اللؤلؤ الرمادي، وشعرها مرفوع بدقة، تحمل ملفًا في يد، وفي الأخرى حقيبة صغيرة تعكس أناقتها.
قالت دون أن تعتذر:
يبدو أنني قطعتُ حديثًا شيّقًا؟
وقف عمر بسرعة، يُخفي انزعاجه بابتسامة مصطنعة:
أبدًا, أنا كنت سأنطلق الآن إلى مكتبي فلدي الكثيرمن العمل الذي لاينتهي, فكما تعلمين, عادل باشا لا يستغني عني في كل كبيرة وصغيرة.
ثم التفت نحو آسر وقال بخفوت:
- سنكمل حديثنا لاحقًا.
ضحك آسر بخفة، دون أن يعلّق.
خرج عمر، وأغلق الباب خلفه، بينما اقتربت لميس ببطء، وضعت الملف على المكتب وقالت بنغمة خفيفة فيها تلميح:
-يبدو أن الحديث بينك وبين عمر كان مهمًّا؟
ردّ آسر بجفاء خفيف، وهو يفتح الملف:
-مجرد حديث عادي... لنعد إلى المهم، ما الجديد؟
جلست لميس أمامه بخفّة, وقالت وعيناها تراقب ملامحه:
- الجديد؟ أننا أصبحنا نعمل جنبًا إلى جنب كثيرًا مؤخرًا... وهذه مصادفة لا أمانع تكرارها.
لم يرفع رأسه لكنه قال بنبرة رصينة:
نتحدث عن المشروع من فضلك, يومي مزدحم!
ابتسمت لميس بخفة, وعيناها تشعّان بعزم هادئ… عرفت أنها ستظل في هذا التحدي حتى تصل إليه!
فهي لم تعتد… إذا شدتها لعبة، أن تتركها دون أن تشتريها!
❈-❈-❈
5-
كان صباح الجمعة مختلفًا في بيت الجدّ؛ الهواء البحري أكثر لطفًا، والضوء يتسلّل من النوافذ كأنه يحمل وعدًا بيوم أقلّ ثِقلاً.
في المطبخ، كانت هدى ترتّب بعض الأغراض في حقيبة قماشية قديمة، اعتادت أن تحملها معها كلما نزلت إلى السوق. التفتت نحو غرفة ريم، ولاحظت بابها المغلق منذ الأمس، كما في الأيام الأخيرة.
تقدّمت بخطوات هادئة، وطرقت الباب طرقًا خفيفًا.
- ريم… هل أنتِ مستيقظة؟
جاءها الصوت من الداخل خافتًا:
- نعم، تفضلي.
فتحت هدى الباب قليلًا، وأطلت برأسها بابتسامة دافئة:
-سأذهب إلى السوق… ما رأيكِ أن تأتي معي؟ الجو جميل اليوم، ولا أريدكِ أن تبقي حبيسة الجدران.
رفعت ريم نظرها من كتابٍ كانت تقلب صفحاته بلا تركيز. ترددت لحظة، ثم أومأت:
- حسنًا… سأبدّل ملابسي.
شعرت بارتياحٍ صامت. كانت تعرف أن ريم ترفض الخروج منذ قرار زوجها الجائر، وأن قبولها اليوم يعني أنها أصبحت أفضل ولو قليلًا!
كان سوق مطروح في صباح الجمعة نابضًا بالحياة، كأنه قلب المدينة الذي لا يهدأ.
امتدّ السوق على جانبي الطريق، تتزاحم فيه الدكاكين الصغيرة، وتفترش البسطات الأرض، محمّلة بألوان الخضار والفواكه الطازجة.
رائحة البحر تختلط بنداء الباعة، وصوت المساومة ينساب كأنشودة مألوفة:
- طماطم يا ست الكل…
- سمك اليوم طازج...
كانت الشمس تنعكس على الأسماك الفضية المصطفّة فوق الثلج، فتمنحها بريقًا خاصًا، بينما تفوح رائحة الخبز الساخن من فرنٍ قريب.
سارت ريم إلى جوار هدى ببطء، تتأمّل الوجوه، والأصوات، شعرت بشيءٍ من الألفة، الأطفال يركضون بين الناس، والنساء يتبادلن الأخبار بلهجاتٍ دافئة، والمكان يبدو أكثر قربًا مما اعتادته في بيتها.
قالت هدى وهي تختار حبات الطماطم بعناية:
- أحبّ هذا السوق… فيه حياة.
ابتسمت ريم بخفة:
وأنا أيضًا, أشعر فيه بألفة وراحة لا مثيل لها.
نظرت إليها هدى نظرة طويلة، ثم قالت:
-اشتقتُ لرؤيتكِ تبتسمين هكذا.
تنهدت ريم، ولم ترد!
بعد أن فرغتا من شراء حاجاتهما، جلستا قليلًا على مقعدٍ خشبي قريب، تحت مظلّة بسيطة تحميهما من الشمس. ناولت هدى ريم زجاجة ماء، ثم قالت بهدوء متعمّد:
ريم… ما زلتِ تفكّرين في الجامعة، أليس كذلك؟
تنفّست ريم بعمق، كأنها كانت تنتظر السؤال:
- أفكّر فيها كل يوم، وجدي أخبرني أنه سيحاول ثانية مع عمي.
أطرقت هدى برأسها، ثم قالت:
-عمّك عنيد، لكن قلبه ليس حجرًا. ربما إن كلّمته أنا أيضًا سيوافق…
رفعت ريم عينيها إليها، وفيهما بريق أملٍ خجول:
-حقًا؟ هل تعتقدين ذلك؟
أجابت هدى:
- لا أعدكِ بشيء… لكنني سأحاول. أنتِ تستحقّين أن تكملي طريقك حبيبتي.
انفرج صدر ريم قليلًا، وشكرتها بنظرة صامتة.
قالت هدى وهي تنهض:
- سأذهب لأشتري بعض الخبز من الفرن القريب، لن أتأخر. ارتاحي أنتِ فقد أتعبتك اليوم.
أومأت ريم برأسها:
- لا, إنني سعيدة جدًا اليوم, وأشكرك على ذلك.
أسندت ظهرها قليلًا، بينما وضعت الأكياس إلى جوارها. كانت قد أنهكها الزحام، لكن الهواء البحري الخفيف خفّف عنها بعض التعب.
راقبتها وهي تبتعد بين الناس، ثم أعادت نظرها إلى حركة السوق من حولها. كانت الأصوات تختلط، والأحاديث الدافئة تتسلل إلى مسامعها, إلى أن شعرت فجأة بظلّ يقف قريبًا منها أكثر مما ينبغي.
رفعت رأسها، فرأت سيارة عمّها السوداء متوقفة بجوارها, لم تحتج ريم إلى كثير من الوقت لتدرك من بداخلها.
كان مروان يجلس خلف المقود، وقد أنزل زجاج النافذة قليلًا، يراقبها بنظرة متعمّدة، ثم أدار المحرّك بكسل، وتقدّم بالسيارة حتى توقّف أمامها مباشرة, يبتسم ابتسامة جانبية لا تخلو من الاستفزاز، وعيناه تتفحّصانها بوقاحة غير مستترة.
قال بنبرة خافتة:
- يبدو أنكِ كنتِ تفتعلين المشاكل حتى تتركي الجامعة وتتفرغي للخروج كل يوم!
نظرت إليه ريم بثبات يناقض إستفزازه:
وأنت أليس لديك شيء تفعله سوى ملاحقتي!
قال ساخرًا:
-لا، ليس لدي سواكِ!
ابتسمت ريم ابتسامة باردة، وقالت بصوت هاديء:
- وتتباهى بهذا… وكأنك حققت إنجازًا؟
تغيّر وجهه، وتشنّج فكه:
-انتبهي لكلامكِ!
رفعت عينيها إليه بثبات:
- أنتبه له جيدًا، ولذلك أقوله.
ثم أضافت، وقد خفّضت صوتها قليلًا، لكن حدّته بقيت واضحة:
- ابتعد عني، ولا تضع نفسك في موضع لا يليق بي… ولا بك, ولاتعتقد أنني سأرضخ لسخافتك أبدًا!
ساد صمت قصير، لاحظت خلاله التفات بعض المارّة. شعر مروان بالحرج، فشدّ على المقود بقوة، وقال بغضبٍ مكتوم:
-ستندمين على هذا الأسلوب.
ثم ضغط على دواسة الوقود، فانطلقت السيارة فجأة وسط الزحام، غير عابئ بالمكان ولا بالناس.
تابعته ريم بنظرها، وقد شعرت بانقباضٍ غامض في صدرها، كأن شيئًا ما على وشك الحدوث.
وفي لحظة خاطفة ..
اندفع طفل صغير إلى الطريق، كان يركض خلف كرةٍ أفلتت من يده.
لم ينتبه أحد!
ارتفع صوت ارتطامٍ مكتوم، تلاه صراخ حادّ شقّ ضجيج السوق.
تجمّدت ريم في مكانها.
رأت كل شيء.
رأت الطفل يسقط أرضًا، رأت مروان يتوقّف لجزءٍ من الثانية ينظر للطفل المُلقى على الأرض، ثم ينطلق بسيارته, دون أن يلتفت خلفه.
نهضت ريم فجأة، وقلبها يخفق بعنف، بينما بدأ الناس يتجمّعون، تتعالى الأصوات، وتتشابك الأسئلة:
- يا الله!
-طفل!
-الإسعاف!
بقيت ريم واقفة، شاحبة الوجه، عيناها معلّقتان بالمشهد،
وحدها تعرف…من كان خلف هذا كله.
وفي تلك اللحظة، اخترقت الجمعَ خطواتٌ متعجلة، وصوتٌ تعرفه جيدًا.
- ريم!
التفتت، فرأت هدى تشقّ طريقها بين الناس، وقد بدت ملامح القلق مرسومة على وجهها بوضوح. توقّفت أمامها، وأمسكت بذراعها بسرعة:
-أنتِ بخير؟ ماذا حدث؟
لم تجب ريم فورًا. أشارت بعينيها نحو الطفل الممدّد على الأرض، والنساء المنحنيات حوله، وصوته الخافت الذي يخرج متقطعًا.
شهقت هدى، ووضعت يدها على فمها:
— يا حبيبي! من فعل هذا؟
ابتلعت ريم ريقها بصعوبة، ثم قالت بصوتٍ متهدج:
- صدمته سيارة… يجب أن نذهب به إلى المستشفى فورًا.
قال أحد الرجال :
-معي سيارتي هيا بنا.
لم تنتظر ريم مزيدًا من الكلام. انحنت بجوار الطفل، وتأكدت من وعيه، ثم رفعت رأسها بثبات قائلة:
- سأذهب معه.
نظرت إليها هدى و سكتت لحظة، كأنها تزن الأمر كله في ثوانٍ قليلة، ثم شدّت على يد ريم وقالت بحزمٍ ممزوج بالحنان:
- اذهبي يا حبيبتي… اذهبي معه.
رفعت ريم عينيها إليها، وفيهما امتنانٌ صامت.
تابعت هدى بصوتٍ منخفض:
وأنا سأعود إلى البيت… سأخبرهم بما حدث.
ترددت ريم لحظة، وكأن الكلمات علقت في صدرها، لكنها لم تقل شيئًا. اكتفت بإيماءة خفيفة، ثم نهضت، وساعدت في حمل الطفل إلى السيارة التي توقّفت على عجل.
وقبل أن تُغلق الباب، التفتت إلى هدى مرة أخيرة.
كان في نظرتها شيء لم يُقال بعد…
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة يارا علاء الدين، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية
