-->

NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - إستهلال 2



إستهلال 2

ليس ثمة جرح لا يمكن التخلص منه
إنني عميق الإقتناع بذلك؛ بوسع الناس أن يحولوا ندوبهم إلى قوة
وليس ذلك بالأمر السحري
ذلك يستغرق بعض الوقت، وغالبا لا يشفون بالكامل
لا يختفي الألم بالكامل حقًا، إنه يبقى جاثمًا في أعماقنا
إلا انه يجعلنا نواصل الحياة ونواصل طريقنا.

-غيوم ميسو-
•¤•¤•¤•

مصر .. القاهرة

داخل هذا المطعم الأنيق، وعلى طاولة تطل على النيل، تعالت أصوات فلاشات متتالية لكاميرا فوتوغرافية صغيرة، كانت تتصدر وجهها بإزعاج محبب، لتندلع منها ضحكات عالية، وكأن ما يحدث يدغدها!!

"كفى .. كفى تصوير 'سارة'!!"
أزاحت الكاميرا عن وجهها وهي تمرر الصور برضا بعد أن أخذت كفايتها منها، لترد بعدها بتوبيخ: 
- توقفي انتِ عن إفساد فرحتنا وابتسمي بإتساع .. هيا، هل كل يوم نحتفل بشفائك؟!

إبتسمت فريدة بتلقائية لدى سماعها للجملة الأخيرة ثم أدرفت بنبرة يشوبها الشجن: 
- مازلت لا اصدق أن هذا الكابوس قد انتهى!!
- صدقي 'فريدة'!! .. هذه كانت الجلسة الأخيرة من العلاج الفيزيائي، تستطيعي الآن وضع أضخم إبتسامه في الكون!!

إلتفتت لجملة مراد التي ألقها وعلى وجهه اكثر التعابير غبطة .. كان واضحًا حقا أنه سعيدًا من أجلها، وهذا تحديدًا ما جعلها ترتبك .. تأملتهما سارة بنظرة ذات مغزى، قبل ان تسحب حقيبتها وتنهض معلنة: 
- سأذهب انا الآن لأحضر الصغيرات من المدرسة .. لا تطلبوا الطعام بدوننا، لن أتأخر!!
أومأت لها فريدة وتتبعتها بنظرها وهي ترحل لتنتبه لمراد الذي تقدم بجلسته منها مبادرا:
- أخبريني .. ما خططك القادمة؟؟

عقدت فريدة حاجبيها:
- خطط؟؟ .. أي خطط؟؟
تذمر مراد:
- هيا 'فريدة' .. لابد أن نتنبهي قليلًا لمستقبلك، الحياة مازالت أمامك!!

تنهدت فريدة ببطئ وهي تغوص بكرسيها مغمغمه بشرود: 
- لا أعلم .. ليس لدي أي خطط .. كل ما كنت أريده هو أن أعود للتحدث من جديد وأتخلص من ذلك الشلل الذي إجتاح وجهي وجسدي .. أشعر بأنني مشوشه قليلًا، مازلت أواجه صعوبة في إستيعاب كل ما حدث .. أعنى، أنت ليس لديك أي فكرة، كيف تنام وأنت في العشرون من عمرك، لتستيقظ وتجد نفسك بالسادسة والعشرون وقد إنقلب كل شيئًا بحياتك .. لا تستطيع التحدث، البكاء، التعبير عن صدمتك، لا تستطيع التحرك ودخول المرحاض بمفردك .. لا تستطيع حتى إغلاق جفنيك لأنك تعاني من شلل لعين يحرمك من ذلك .. ستة سنوات كاملة سُرقت من حياتك، ستة سنوات حدث فيهم أكثر مما تمنيته يومًا، ولكن لحظك التعيس أنت لا تذكر أي شيئًا عنه!! .. أخذت بعثة تفوق، حضرت الماجستير وحصلت على الدكتوراه، عملت بالخارج لسنوات بمفردي، وتزوجت!! .. ولأنني لم آخذ كفايتي من الصدمات، لم أجد ذلك الذي يسمى 'زوجي' بجانبي، ولا حتى أعرف مَن هو .. فقط هكذا، بمجرد أن أستيقظ أنا من غيبوبة دامت سبعة أشهر، يختفي هو، ويبدأ العالم كله في البحث عنه ومطاردتي بأسئلة لا أعرف إجابتها، ﻷنه -ولشقائي- كان شخصية عامة .. فإذا كان سؤالك هو هل أملك خطط لحياتي، فلا 'مراد'، أنا لا أملك أي خطط لحياتي، ﻷنني ببساطة أشعر بأنني قد عشتها وأنهيتها مبكرًا دون حتى أن أتذكر أنني فعلت!!

صفحة وجهها خالية من أي عاطفة، إبتسامه ساخرة تلوح على ثغرها .. تتحدث وكأنما الأمر برمته لا يعنيها .. إنتهت لتفتح زجاجة الماء وتفرغ منها قليلًا بكوبها وترتشفها دفعة واحدة .. لم تخف عن عين مراد الرجفة الواضحة التي إجتاحت أصابعها .. عُطب ببعض الأعصاب الطرفية، أخبره عنه طبيبها المختص وأنها ستعاني منه على المدى البعيد، ولا يزال السبب مجهول!!

أغمض عينه بآسى ليتنحنح ثم سألها محاولًا الوصول إلى شئ:
- ما آخر تطورات علاجك النفسي؟؟ .. ألم تستردي أي شئ من ذاكرتك؟؟ .. أعني لقد مضى أكثر من سنتان، وليس هناك حتى أحلام حول الحادث؟!
    
    هزت فريدة رأسها بالنفي:
    - لا .. الأمر ليس بهذه البساطة مراد .. ما اعلمه عن الأمر انه يكون تبعًا لحجم الصدمة النفسية ومدى تأثيرها على العقل .. فكلما كانت صعبة، كلما طال مدة فقدانها .. وانا لا اعرف بالضبط ما حدث، سوى ما سمعته حينما إستفقت منكم عن حادثة إختطاف أو ما شابه .. أيضا الأمر يتوقف على إستعدادي النفسي لتقبل هذه الصدمة الآن، وانا لا أعرف مراد، أنا فقط كلما فكرت في الأمر، أو حاولت تذكر أي شئ، أجد حائل ضبابي ضخم يضغط على عقلي ويقبض قلبي .. حتى الأحلام كانت متداخله وقوية في للبداية، أم الآن فليس هناك أي شيئا عنها!!
    - ولا حتى حول أدهم؟!.. زوجك أقصد؟؟
    
    ضاقت عينها لجزء من الثانية، ثم إستعادت ملامحها اللامبالية مرة أخرى: 
    - أنا حتى لا أذكره سوى من حديثكم عنه .. فكيف لي أن أحلم به .. ولكن أتعلم 'مراد'؟؟، يراودني شعور قوي أن كل الإجابات التي أبحث عنها لدي أدهم هذا!! .. أعني، إختفائه المفاجئ غريب، لا شبه جنائية حول الأمر، حتى عائلته أثارت حملة بحث ضخمة حوله لفترة ثم خَبَىَ كل شئ وسكن فجأة .. أتعرف ما هي خطتي؟؟ أول شئ سأبدأ به هو البحث عنه والتحري فيما صار لي قبل الحادثة!!
    
    - لا!!
    هتف بها مراد زاجرا إياها وهو يستكمل بنبرة أقل حده: 
    - إياكي 'فريدة' .. لقد تعبنا لنحرز ما نحن به من تقدم في حالتك!! .. ألا يكفيكِ ما ضاع من حياتك في حادثة ومن بعدها علاج؟؟ .. الأولى أن تنظري لمستقبلك بدلًا من العوده للوراء والنبش في الماضي!! .. ثم ألم يحذرك الطبيب من تتبع كل ما هو مرتبط بالصدمة حتى لا تتأذى نفسيتك هذه المرة، ومن يعلم ماذا سيحدث حينها؟؟ .. بحق الله، لمَّ تريدي إفساد كل هذا؟!
    
    إرتبكت فريدة قليلًا من حديثه لتشيح بوجهها بعيدًا عن دائرة تأثيره، فهي على علم بمدى صحة حديثه ولكن لا تملك شيئًا لتفعله .. كيف يطلب منها المضي بحياتها، وهي لا تعرف أي شئ عن الماضي الذي أوصلها لهذه النقطة؟!
    
    مسح مراد وجهه ثم عاد الحديث مرة أخرى بعدما لمح ضيقها: 
    - فريدة .. أنا اعلم جيدًا ما عانيتيه وما تعانين منه لذلك أحاول مساعدك، ولست ضدك!! .. أنظري، بما انك لا تملكين أي خطط فأسمحي لي أن اعرض عليكي خطتي!!
    
    إبتسمت فريدة بإستغراب وهي تدنو من الطاولة بإهتمام: 
    - لديك خطة من أجلي؟!
    توسعت شفتيه بإبتسامه عذبة ردا على إبتسامتها: 
    - في الحقيقة هما اثنان، وليست واحدة!!
    
     رفعت إحدى حاجبيها بدهشة: 
    - أوه .. أخبرني!!
    تنفس مراد بعمق قبل يقول بجدية: 
    - جامعة القاهرة لديها عرض من اجلك .. ستعودين لها مرة أخرى، ولكن ليس كطالبة، بل كواحدة من أعضاء هيئة التدريس!!
    
    عرفت فاهها بدهشة: 
    - فعلت ذلك من أجلي؟؟
    - لم أفعل شيئًا فريدة .. هذا المنصب كان شاغرًا في مجال تخصصك .. والآن أخبريني أنكِ موافقة!!
    
    تنهدت بقوة وتقضم شفتها بخفها .. فعاجلها مراد:  
    - لا تقلقي .. هم لديهم علم بحالتك وسيقدموا لكِ يدى العون!! ..  أليس هم عائلة الثانية كما كنتِ تخبريني سابقًا؟؟
     
    لمح التوتر البادر على وجهها فقرر أنك يترك لها حرية القرار ليضع يده في سترة مهمهما: 
    - هذا كان العرض الأول .. أما العرض الثاني فهو...
    
    لم يكمل قوله ﻷنه لمح عودة شقيقته سارة ومعها الصغار .. إبنته (فريدة) وإبنة سارة (داليدا) .. ليعيد ما كان على وشك إخراجه مره أخرى موضعه ويبتسم بترحاب لإبنته التي تجاوزته وهي تلقي بنفسها في حضن فريدة التي تبدل حاله مئة درجة:
    - 'ديداا'!!
    
    قالت الصغيرة بشبه صراخ وهي تحضنها بكلتيا يديها الصغيرة .. لتتلقفها فريدة وهي تقهقه بحبور: 
    - كيف حال 'ديدا' الصغيرة؟؟
    تلعثمت حروف الصغيرة وهي تشير لها على جبهتها:
    - المعلمة أعطتني نجمة اليوم!!
    - أحسنتي صغيرتي .. هل تعلمين ماذا سأعطيكي أنا لتفوقك؟؟
    هزت رأسها بعيون لامعه بسعادة، لتبتسم فريدة وهي تقول: 
    - سأحضر كعكة شيكولاته كبيرة لكِ أنتِ و'داليدا'!!
    
    صفقت الصغيرتان بحماس طفولي صاخب لتنتهز سارة الفرصة وتهمس لمراد سرًا: 
    - أخبرتها؟؟
    قبضة اصابعه على العلبه التي يحمله بداخل جيبه ثم هز رأسه بضيق:
    - لا!!

●   ●   ●

#يتبع