-->

(AFTER BURN) Never let me Go 3 - الفصل الأول



الفصل الاول


في عمق الحطام دقق،
وأخبرني ماذا ستجد؟؟
إذا عثرت على بقايايّ فاعلم أن اللعبة لم تنتهي
لا تغتر، لا تضحك، لا تظن أنك الفائز
وأستعد، فقد حان دوري في اللعب!!


•¤•¤•¤•

معزوفة موسيقى هادئة أدفئت هذا البيت الصغير، لتعلن عن فرحة إنتظرها الجميع طويلا، واجتمعوا من أجلها اليوم ليباركوها بسعادة.
أقبلت منى بردائها الأسود الأنيق، وعلى وجهها إبتسامه غناء لا توصف حجم سعادتها لتتقدم من الأريكة البيضاء التي يتجمع حول المدعون ليتقطوا أجمل الصور التذكارية مع العروسين:
- مبارك لكما ابنائي .. لا اصدق حقا أنني اخيرا أشهد على حفل خطوبتكما!!
إتسعت إبتسامة مراد ليحتوي يد فريدة بدفئ، هو أيضا لا يصدق أنها اليوم أصبحت له، بعد كل هذه السنواو، وكل هذا الشقاء في بعدها .. لا يستطيع التوقف عن مطالعة طالتها الملائكية التي يهيم بها عشقا، خاصة وهي تبادله الإبتسامة بأخرى عانى لسنوات ليحصل على واحدها منها .. تكون من أجله هو، هو فقط!!
يتأمل بعيون حالمه عبثها بالحلقة التي إحتلت بنصرها الأيمن لأول مرة .. تسدل شعرها البني بنعومه ليعانق كتفيها، وتضع مسحة من مساحيق التجميل التي تلائم رقة ملامحها، وتلائم ذلك الثوب الوردي شاحب اللون الذي ترتديه، ليغطي كامل جسدها فيما عدا رسغيها.
لم تغب الإبتسامه عن مراد حينما همس ل(منى): 
    - خالتي، أين أمي؟؟
    - دخلت شقتكم لتستريح قليلا، فهى غير معتادة على هذه الأجواء .. ولا تقلق، معها سارة!!
    
    إرتاحت نفسه، ليعود بأعينه لتلك الحاضرة الغائبة بجانبه فيدنو منها مهمهما: 
    - أين ذهبتي حبيبتي؟؟
    توترت إبتسامتها لثانية: 
    - أنا معك!!
    إبتلع إختلاج مشاعره التي تعث داخله: 
    - وهذا ما لا أصدقه فريدة .. أخيرا انتِ هنا معي .. طالما اعتقدت أنه حلم صعب المنال!!
    
    علت جانب ثغرها إبتسامه صادقة .. حقا، أنه لطيف .. مَن تجد شخصا مثله يجبها بهذه الطريقة، وترفض الإقتران به؟! .. همست له بكلمتان أوقفوا دقات قلبه:
    - لكنه تحقق!!
    
    على الفور كان يرفع كفها ليلثمه برقي وشغف: 
    - سأظل ما بقي من عمري أشكر الله من أجل هذا!! .. أنا وإبنتي (فريدة) محظوظين بوجودك معنا!!
    خرجت منها تنهيده خافته حين ذكر ذلك لتسأله بتوتر من حساسية هذا الوضع: 
    - هل أخبرت والدة (فريدة) بأنك ستتزوج؟؟
    - هي ليس لها الحق لتعترض، فهي أيضا ستتزوج فريدة نهاية هذا الشهر .. ولا تقلقي، أخبرتها اليوم .. وأخبرتها أيضا أن حضانة إبنتي ستكون معي، فأنا لن اسمح لرجلٍ غريب أن يربيها!! .. ثم أنها رغبة الصغيرة ذاتها، فهي تعشقك، وتعشق إهتمامك بها الذي تفتقده مع والدتها!!
    
    لمعت عيون فريدة، فهي أيضا تعشقها .. تعشق وجود تلك الصغيرة في حضنها، ولا تعرف ماذا كانت لتفعل اذا لم تكون موجوده بحياتها .. تحمحمت قبل أن تردف:
     - وماذا قالت؟؟
    إمتعض وجه مراد فور تذكره لتلك المشاداه الهاتفية التي نشبت بينهما صباح اليوم، ليربت على يد فريدة: 
    - إتركي لي هذا الأمر، ولا تشغلي بالك به!! .. هذا ليس بالوقت المناسب لمناقشته، أنسيتي؟؟ هذه حفلة خطوبتنا حبيبتي!!

   إرتجف قلبها تلك اللحظة، ولا تعرف السبب .. كم تمنت أن يسير كل شئ على ما يرام وينتهي بؤسها .. حقا تستحق بعد هذه السنتان أن تعبر حساتها بعض الراحة .. لا يهم الحب الآن بقدر ما يهمها راحتها النفسية التي تفتش عنها بضراوة في كل شئ.
    
    تحتاج لوجودهم حولها، ويحتاجوها بالمثل، إذا، ما الداعي للمقاومة والمماطلة في الأمر .. ستبدأ من جديد هذه المرة، ستجرب الحياة التي أرادها الجميع لها .. ستتوقف عن التمرد على حياتها، علَّها تجد تلك الراحة!!

    
    ●   ●   ●


    بعد يومان.. مطار القاهرة الدولي
    الساعة الرابعة عصرا

    
    وقفت (منى) على أعتاب درجات هذه الطائرة المتجة إلى دبي، لتراقب من بعيد فريدة الواقفة بجوار مراد، وتفكر بأنها ستغادر وطنها الذي أحبت لأول مرة، وتغادر به إبنتها الوحيده بعد وداع حار دام ﻷكثر من ساعة وقائمة من التوصيات اللانهائية لها ولمراد.
    
    تفكر بأنه لولا خطبتها من مراد، لما كانت ستوافق على السفر ﻹبنها (أحمد)، لتعثره بمفرده بعد خبر حمل زوجته (داليا) وإحتياجه لمَن يراعها في ظل ظروف عمله الصعبة هناك، خاصة وقد أصبحت الفتاة يتيمه الأم بعد وفاة والدتها العام الماضي.
    
    وافقت وقد إطمئنت لوجود فريدة في كنف عائلة تحبها وترعاها، والأهم من ذلك، وجود مراد بجانبها، والذي طالما اعتبرته بمثابة ابنها الكبير وأمان هذه العائلة .. لم تصدق نفسها حينما قرر مراد عرض زواجه على فريدة رغم هذه السنوات ورغم ما حدث وما كان شاهدا عليه من صعاب، مازال يقف بجانبها، ومازال يرغبها زوجة له .. بعد أن مضت عليها أوقات لم تنم من قلقها على مستقبل فريدة، ونكب زواجها المشئوم، وإختفاء زوجها الغامض بعد أن طلقها فور إكتشافه لما ألم بها بعد هذه الغيبوبة
    
    لا تنكر انها حقا خدعت به مثلها مثل غيرها، خدعت بشهامته الزائفة وطريقته الراقية في التعامل .. خدعت بصبره على مرض إبنتها ولم تتوقع أبدا أن يكون بهذه الخسه ويرتكها فور أن تستعيد عافيتها، لتعود وتتتخبط في حيرتها ويذهب تفكيرها في إمكانية إصابته بمكروه، فشخصا مثله بالتأكيد له الكثير من الأعداء وإلا مَن الذي فعل ذلك ببنتها؟!
    
    حسنًا، لن تلوم عليه، إبنتها مَن أخطأت الإختيار، ولكن رحمة الله واسعة لتعوضها بعد كل هذا ب(مراد) ، وتزيد حمد الله لهدايته لها هذه المرة ووافقت دون أن تثير الجلبة كالتي افتعلها من سنوات .. أطمئن قلبها أكثر بعد أن سعادها مراد في الإنفصال عن (أدهم) قانونيا بعد أن مضى أكثر من سنتان على غيابه، ورجح الكثيرون موته!!
    
    رمقتها بنظرة وداع أخيره لتصعد الطائرة، وليحتضن مراد كتف فريدة بحماية ويدفعها لمغادرة المطار.
    
    تحدث بينما يقود السيارة بعد فترة من الصمت السقيم التي تخللت بينهما: 
    - فريدة .. ماذا ستفعلين اليوم؟؟
    إنتبهت فريدة من شرودها لتجيبه بعدم إهتمام: 
    - لا شئ .. ربما سأنام قليلا، فلم أنم من ليلة أمس، أنت تعلم، أمي كانت درامية جدا في وداعها!!
    
    نظر الطريق لثواني قبل أن يحاول الحديث معها مرة أخرى: 
    - ماذا قررت بخصوص في عرض الجامعة، الجماعة في إنتظار ردك!!
    
    زفرت فريدة: 
    - لا أعلم مراد .. أشعر بأنني لست مستعدة لشيئًا كهذا .. تلك السنتان كان لهما ثقل كبير على روحي  .. ورغم وفرة الوقت الذي كانت متاحا لي للدراسة ومحاولة تذكر ما تعلمته، إلا أنني مازلت بحاجة للمزيد.
    - حسنًا، خذي كل وقتك ولا تضغطي علي نفسك حبيبتي، أهم شئ أن تفعل ما تريدين عن إقتناع!!
    
    أومأت له فريدة بإمتنان لتعطي وجهها للنافذة قبل أن تسمع يردف من جديد بنبرة مرحة: 
    - الليلة لدي حفل (كوكتيل) في السفارة .. ما رأيك أن تكوني رفيقتي الليلة؟؟
    
    غمزها بعينه لتبتسم من طريقته الصبيانية التي لم تتغير منذ صغرهما، ولم يكن لديها مانع من الموافقة، فهي تحتاج لمثل هذه الأجواء حقا لتعيد دمج نفسها بالمجتمع، وتمرن مهارات تواصلها الاجتماعية التي اصابها الضمور خلال تلك السنتان اللاتي قضتها حبيسة مقعد متحرك، وشلل يخرص وجهها ويجمد ملامحها لينسيها كيفيه التعبير عن انفعالتها!!

    
    ●   ●   ●

    في المساء، وقفت فريدة أمام المرآة تنفخ بتعب ووجه محتقن، وقد فشلت في السيطرة على رجفة أصابعها اللاإراديه لتفسد رسم عينها أكثر من مرة، لتطيح بإنفعال كل ما على طاولة الزينة، وقد تلفت أعصابها بعد بذلك هذا المجهود!!
    
    حبست نفسا عميقا لثواني قبل أن تزفره على مرات في محاولة لضبط إتزانها الوجداني، وفي تلك اللحظة روادتها فكرة الإعتذار ل(مراد) عن ذلك الحفل، وإصطحاب نفسها أسفل الفراش لتواسي بؤسها .. ولكن قاطع ذلك طرقات مراد المتتابعة على بابها.
    
    تناولت قطعة قطن لتجفف به قطرات العرق التي نزحت من وجهها، لتجمع شتات نفسها بالنهاية وتجذب حقيبتها دون أن تلقي على نفسها نظره واحدة بالمرآة!!
    
    ما إن فتحت الباب حتى تعلقت أنظار مراد عليها، وقد أطلق زفيرا حار ألهب صدره من طالتها الآخاذة .. إنها تشبه الملاك .. هذا ما خاطر ذهنه تلك اللحظة .. كتلة براءة متجسده أمامه، ملامحها المفتقرة لمساحيق التجميل أعادت لها هيئتها التي عشقها منذ الصغر .. أعادت له فريدة خاصته!!
    
    خاصة وهي ترتدي ذلك الفستان المخملي الأسود، رقيق التصميم دون بهرجه، يعانق جسدها بنعومه وكأنه خلق من أجلها، ليجعلها كإحدى نجمات السينما الكلاسيكية.
 
 
تتحدث بصوتا أجش من الشبق: 
    - جاهزة؟؟
    هزت له راسها بالإيجاب، ليبتسم ويتنحى جانبا  لتتقدمه .. ما إن فارقت أعتاب العقار حتى شهقت بدهشة لتجد مراد يلفت حولها ويتصدرها إتجاه تلك السيارة الليموزين الفارهة التى تقدمت منهما ليفتح لها الباب بإبتسامة عذبة:
    - تفضلي أميرتي!!
    - سيارة ليموزين مراد!! .. ألا ترى أنك تبالغ؟!
    
    قالتها بإستنكار وهي مازالت لا تستوعب أنه سيصحبها للحفل بهذه السيارة، فبالتأكيد قد كلفته الكثير لاستأجارها الليلة  .. أجابها بعتاب محبب:
    - هيا فريدة انتِ تستحقين الأفضل!!
    رفعت فريدة حاجبها وإعتدلت بوقفتها لتشير له بطرف سبابتها آمره: 
    - اقترب!!

    لم يتردد في غلق الباب ليقف مواجهها لها، فتسأله بنغمة يملؤها الغنج فتطرب أذنه لأول مرة: 
    - هل أنا جميلة؟؟
    - أو تسأليني فريدة؟؟ .. هل مازلت بحاجة حقا لإجابة؟؟
    
     إستطردت بنفس الطريقة وشيئا بداخلها يلهث خلف إجابته: 
    - أعني، هل اناسب ليموزين؟؟
    دنى أكثر منها وقد نسى نفسه، ونسى الزمان وتاهه عن عقله .. ليتلمس خصلات شعرها التي تتأرجح بخفة مع النسيم: 
    - السؤال من الأولى أن يكون: هل هي تناسبك أميرتي؟؟
    إبتسمت فريدة بإنتشاء لتعلو صفحة وجهها نظرة غرور مصطنع: 
    - إذا أفسح الطريق للأميرة!!

●   ●    ●

   توقفت السيارة أما المبنى الملحق بالسفارة والخاص بإقامة حفلات الإستقبال .. تأبطت فريدة ذراع مراد بينما تعبر المدخل وتتأمل الأجواء الراقية من حولها، ولا تنكر ما إنتاب جسدها من توتر خاصة وقد شرع مراد في تعريفها على الكثيرون .. وبذلت مجهود مضني في إبتلاع كلمات الإطراء التي يلقونها عليها.
    
    بعد قليل، كانت تقف على إحدى الطاولت بإنتظار مراد الذي ذهب ﻹحضار شرابا لهما .. تأففت لتأخره، بالتأكيد قد إنخرط في حديث جانبي ونسى أمرها تماما .. تركت حقيبتها لتتحرك بحثا عنه، وبينما عينها تجوب هنا وهناك إصطدمت بإحدهم بغشامة: 
    - آسفة .. أعتذر بشده، لم أنتبه!!
    
    قالتها بسرعه وعينيها متسعه من الإرتباك والاحرج .. ليرفع الرجل رأسه ويغمغم: 
    - لم يحدث شئ سيدت... آوه سيده فريدة؟؟ .. ألا تتذكريني .. انا رفعت عبد الرحمن .. مندوب السفارة الذي قابلتك ذلك اليوم بمنزل سيد أدهم الشاذلي!!
    
    تجمدت فريده بمكانها وبروده إجتاحت جسدها ليصبح من الواضح شحوب وجهها ورجفة يدها .. تعثر عليها الحديث:  
    - أنا...
    قطع جملتها تلك اليد التي أوقفت رعشة يده وهو يضم جسدها بحماية لجسدها وقد شاهد ما يحدث: 
    - سيد رفعت .. أهلا بك .. للأسف فريدة لا تتذكر أي شئ عن ذلك اليوم!!
    - آووه هل ماذا تلك الحادثة تؤثر عليها؟؟
    قالها رفعت بشفقة مقززه لينهره مراد بحده: 
    - سيد رفعت اظن بأننا لسنا هنا من اجل مناقشة أمر الحادث!!
    
    إبتسم رفعت لمراد بسماجة لينسحب متعللا بمحادثة مع شخصٍ آخر .. إلتفت بعدها لفريدة التي مازالت على جمودها المريب: 
    - آسف فريدة، صدقيني لم أكن اعلم انه مدعو إلى هذه الحفلة!!
    إبتلعت فريدة ريقها بإبتسامة مرتبكه وقبل أن تقول شئ تفاجئا بمَن يتكلم:
     - مراد عبد العزيز هنا!!
    
    صافحه مراد بصخب وقد إتسعت إبتسامته لدى رؤية الآخر: 
    - أهلا بك كمال 
    حدث فريدة قائلا: 
    - فريدة .. هذا كمال زين .. صديق، أتتذكريه؟؟ كنت احكي لكِ عنه .. الآن أصبح محاميا دولياد لم يراه أحدا بعدها
    
    إبتسمة فريدة له برقه وهي تسلم عليه، فقد بدى لها من تلك الاشخاص ذو الهيئة الجذابة، خاصة مع ملامحه المصرية الوجيهه أعطته هيئة دبلوماسية يحسد عليها.
    
    أشار مراد معرفا لها بإعتزاز وعين تفيض عشق: 
    - وهذه فريدة .. صديقة عمري وخطيبتي!!
     برقت عيني كمال بإعجاب بائن ويصافحها، فمازال يذكر ولع مراد بالحديث عنها أيام صباه:
    - تشرفنا فريدة.
    - الشرف لي كمال.
    
    مضى وقت إندمجت فيه فريدة مع أحاديثما الساخرة عن مواقف طفولتهما المخجله معا لتشاركهما هي بعض هذه القصص وقد أمتعها حق الحديث عنها وشعرته بكل قلقها وتوترها يغادها هذا الوقت.
    
    إستأذن منهما مراد ليجري محادثة هامة تخص عمله، ليتوقف الحديث بينهما لفترة قبل أن يسألها كمال: 
    - لم تخبريني عن نفسك فريدة؟؟ .. فيما تعملين الآن؟؟ .. أتذكر مراد أنه قد ذكر انكِ قد درستي علم النفس تقريبا؟؟
    أومأت له مضيفه: 
    - وحصلت على الدكتوراه.
    
    زاد إعجابه بشخصها، ليتساءل: 
    - وماذا تفعلين الآن؟؟
    هزت كتفيها بإهمال:
    - لا شئ
    
    اصابه الإستغراب وهو يكرر: 
    - لا شئ؟! .. لمَّ؟؟
    اجابته بلامبالاه: 
    - هذه قصة سخيفة لا أفضل الخوض بها!! .. اخبرني أنت عن عملك؟؟
    
   رمقها بنظرة تفهم قبل ان يقول: 
    - لا شئ مثير بعملي .. أتولى الدفع عن بعض القضايا منها المخدرات، الإختطاف الدولى، والإتجار بالرقيق.
    تنبهت حواسها لتعتدل بجلستها بإهتمام: 
    - يبدو أن عملك بالغ الصعوبة!!
    - بالطبع صعب ..فانت تحاربين في طريقك أخطر فئة في المجتمعات .. إضافة إلى أن كل ذلك يحتاج لتمويل مادي ضخم لا لتوفره غالبا المؤسسات المعنية، لذلك نحن بحاجة دائم لتبرعات رجال الأعمال والمهتمين بمثل هذه القضايا.
     - هل أستطيع تقديم المساعدة؟؟
    
    إلتفت كمال لحديثها بكل جسده وهو يحدقها بنظرة مشككه .. لتقابله بعين ثابته يملؤها اليقين وهي تردد:
    - انا أيضا من المهتمين بمثل هذه القضايا .. ولدي رصيد غير محدود السقف!!
    لم يكن منه سوى أن هتف بكلمة وهو غير مصدق هذا العرض السخي منها: 
    - بالطبع موافق!!

    
    ●   ●   ●

بوقتا متأخر من الليل، كانت فريدة تسترخي في حوض الإستحمام بعد هذا اليوم الشاق .. تدريجيا إنحدر جسدها أسفل الماء ليخمرها ويرتفع شعرها عليا فيعطي وجهها .. فتحت عينها أسفل الماء ليقابلها الظلام فيعتم الرؤية لديها .. ثواني مضت ليتبدد هذا الظلام، وتعبره بعض الصور شديدة السرعة ذات ضوء ساطع يؤلم روحها قبل عينها.
    
    صوره سريعة تومض أمام عينها، أسفل الماء هي كحالها الآن .. ولكنه ماء حالك لا نور به .. تتبدد لتظهر صورة أخرى لذلك الرجل (رفعت) ولكن هيئته مختلفة عن اليوم، تصاحبها صورة مراد، حزين، منكسر .. لينقشع كل ذلك وتسطع صورة واحده تعتم على الكل .. صورة عين غاضبة حالكة السواد، وكأنها آتية من عمق الجحيم .. تقترب وتقترب، لتقتحم روحها وتقبض على قلبها فتنتزعه رعبا وفزعا!!
    
    شهقت بقوة وهي تسحب الهواء إلى رئتيها بعمق ومع ذلك لا تشعر بأنها تتنفس .. تسعل بقوة علَّه يكون قد تسرب ماء إلى رئتيها ولكن لا شئ .. تبا، إنه نوبة إختناق أخرى!!
    
    خرجت عارية وهي تتخبط من سعالها، تبحث بضراوة بين اشياءها عن جهاز التنفس الاصطناعي المحمول لتضع القناع على وجهها بأقصى سرعه، وثواني وقد بدأ الجهاز يبدي مفعولة ويعود لوجهها المزرق لونه الطبيعي. 
    
    ألقته بإهمال لتنهض وتحضر منشفة على جسدها ومن ثم تعثرت في مرآتها .. تحدق بتلك المرأة التي تقف بالجهة الأخرى، كم بدت مختلفة عن فريدة التي تعرفها!! .. خاصة وتلك العلامات المحفورة بجلدها بعشوائية لا تسمح لها أبدا بنسيان السنوات التي عفت منها!!
    
    تلمست الندوب التي تملئ جسدها لأول مرة منذ مدة وقد إعتادت على تجاهلها دوما .. تلمستها وفي كل مرة ينتابها شعور بأنها تعرف جيدا سبب كل جرح وما الشئ الذي خلفه .. ببطئ وتردد كبير إستدارت لتلقي نظرة خلفها، تحديدا بنهاية عمودها الفقري .. ذلك الجرح، مازال يؤلمها دونا عن البقية وكأنه لم يشفى قط!! .. مشوها هو بطريقة سيئة ولكن اذا دققت النظر ستستطيع تبين ماهيته .. نعم ستستطيع تبين تلك الحروف الخافية، التي ترسم بحرفية أسما سطر على حياتها ووسمها!!
    
    مررت اصابعها عليه بيد ثابته غير ينتابها أي رجفة .. لا تعرف لمَّ كلما نظرته لا ترى حالته الآن، إنما ترى أمامها صورة جرح مفتوح ينزح سوائل شفافه من تورمه!!
    
    أغمضت عينها ﻷكثر من دقيقة كامله شعرت بها برعشه تجتاح جسدها، لتفتحها بالنهاية وقد تبدلت ملامحها الشاحبة بأخرى جامدة خالية من أي إنفعال .. لتفتح بآلية أحد للأدراج وتخرج منه أربعة أنواع من الأدوية النفسية .. أخذت من أحدهم حباتان ومن كل علبة أخرى حبة واحدة .. لتجمع الحبوب في راحة يدها وتبتلعهم دفعة واحده بكوب ماء.
    
    شهقت اكثر من مرة بعدها وهي تتنفس براحة وكأنها قد إستعادت شخصها .. لتف حول جسدها مأزر حمام وتجلس على طرف فراشها الصغير في لحظة سكينة .. ذهنها يخلو بها من أي أفكار أو صور ذهنيه مزعجة .. رفعت رأسها، لتقابل هذه اللوحة التي تواجه فراشها وتتذكر يوم اصرت على شرائها رغم معاندة سارة لها.
    
    إستقامت من جلستها لتتأمل تلك اللوحة، فكانت عبارة عن فتاة عارية تخرج من بئر .. لوحة تقليدية للوحة الأصلية التي رسمها الفنان جان ليون جيروم بالقرن ال19 ، ولكن الاروعة من اللوحة هي القصة التي تقبع خلفها!!
 عنوانها (الحقيقة تخرج من البئر)

تقول أسطورة القرن ال 19, ان الحقيقة والكذب التقيا يوما.. فقال الكذب للحقيقة:
- انه حقا ليوم جميل.

نظرت الحقيقة حولها في ريبة, رفعت عينيها إلى السماء, لترى أن اليوم بالفعل كان يوما جميلا, فقضت وقتا طويلا بصحبة الكذب في ذاك اليوم.

لينظر لها الكذب ويقول:
- الماء في البئر رائع, فلنستحم سويا؟؟

نظرت الحقيقة للكذب في ريبة للمرة الثانية, ولمست الماء, لتجده. بالفعل رائعاء فخلع الاثتان ثوبيهما ونزلا للاستحمام في البئر وفجاة, خرج الكذب من البئر مرتديا ثوب الحقيقة وركض بعيدا.

خرجت الحقيقة الغاضبة من البئر وركضت وراءه في كل الأماكن بحثا عن ثوبها فنظر البشر إلى عري الحقيقة وأشاحوا بوجوههم في غضب وإستهجان. أما الحقيقة المسكينة, فعادت إلى البئر واختفت للأبد من فرط خجلها.



ومنذ ذلك الحين, يسافر الكذب حول العالم مرتديا ثوب الحقيقة, فيلبي أغراض المجتمع, بينما يرفض الناس أن يروا الحقيقة عارية!!

قلبت فريدة اللوحة ليظهر ما خلفها .. مجموعة كبيرة من الصور وقصاصات الجرائد .. صور أخبار عن حادثتها .. صور لكل فرد من عائلة أدهم ولكن أبرزهم كانت صورته وما كتب عنه خلال حادثة إختفاءه!! .. ضمت لهم الكارت الخاص ب(كمال) .. لتغمغم بعدها وعينها معلقه بصورته: 
- لم يعد هناك وقت طويل حتى تخرج من جحرك أدهم!!

●   ●   ●
# يتبع