-->

NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل الثالث


الفصل الثالث


ليس لنا في الحنين يدّ،
وفي البُعد كان لنا ألف يدّ!
سلام عليك .. افتقدتك جدًا
وعليَّ السلام فيما افتقد!
-محمود درويش-
•¤•¤•¤•

    
    إيطاليا .. ميلانو
    
    على طاولة فضية عالية في تلك القاعة الفاخرة المغلقة، وقفت فريدة بثوبها الأنيق تبتسم بلباقة بينما تتحدث: 
    - أشكرك لدعمك لي اليوم سيدة 'سمر' .. كنت أعلم أنكِ لن ترفضي دعوتي!!
    
    ابتسامة زجاجية ارتسمت على شفتي سمر وهي تجيبها: 
    - لا داعي للشكر أرجوكِ .. أنتِ لا تعرفين ما يمثله لي 'أدهم' .. فهو ليس فقط ابن زوجي، بل طفلي الذي لم أنجبه.
    جارتها فريدة مجاملة بابتسامه، لتستطرد سمر بعد أن ضيقت عينها بنظره شمولية للأخرى:
    - شكلك قد تغيّر كثيرا عن آخر مرة رأيتك بها على ذلك المقعد المتحرك .. أعذريني، لم استطع إخفاء تعجبي؛ فهيئتك حينها كانت مختلفه تماما عن تلك المرأة الواثقة بنفسها التي زارتني بالقصر منذ ثلاثة سنوات!!
   
     إبتلعت فريدة كلماتها بملامح متجمده، وهي تتذكر تلك المرة التي رأتها بها لأول مرة مع مصطفى الشاذلي -والد أدهم- حينما زارها بنفسه في المسشفى بكاليفورنيا قبيل عودتها لمصر، وكل ما حدث حينها، اتهامه لها بإصطناع فقدان الذاكرة، وأنها السبب وراء اختفاء إبنه .. كل ذلك بقى عالقا بذهنها لفترة طويلة، قبل أن تحث لسانها على التحدث وتسألها: 
    - والآن؟؟
    رفعت سمر كأسها في تحية لها قبل أن تقول بنبرة ذات مغزي: 
    - الآن أظننا سنتفق جيدا!!
    
    أومأت لها فريدة موافقة ثم ارتشفت من كأسها:
    - لم أكن أتوقع أن يوافق السيد مصطفي على مساهمتك اليوم، خاصة وقد أوقف حملة البحث عن أدهم دون إعلان أية نتائج!!
    وضحت سمر:
    - كان من الضروري أن يوقف مصطفى الحملة بعد أن أصبح الأمر يؤثر على سمعتنا في السوق، ويضر بمصالحنا .. لكن انا لي رأيا آخر بهذا الشأن، ما فعلناه اليوم وظهورك المفاجئ للإعلام سيربك صفوف مَن هم وراء اختفاء أدهم، وسيجعلهم يرتكبون خطأ ما عما قريب!! .. لذلك انا لم أتردد لحظة بدعمك اليوم.
    
    برقت عينها لثواني، فهذا كل ما تتمناه .. أن يخطؤا ويرتكبوا حماقة تؤدي بها إلى أي دليل عما حدث، عن أدهم .. أصرت فريدة للوصول لشئ بعينه:
    - وهو؟؟ .. أقصد سيد مصطفى، ما موقفه؟؟
    ارتفع جانب فم سمر بابتسامه لم تصل لعينها، وكأن وراء الحديث حديث:
    - اتركِ أمر مصطفى لي .. فليقم كل ذي دور بدوره!!
    
    إماءة بسيطة صدرت عن فريدة كرد على ما قالته، لكن عينيها كانت تقول الكثير في لقاء تحدي الأعين المضرم بينهما .. هذه المرأة غير مريحة، شيئًا بها يخبرك أن هناك ما يحدث خلف الكواليس .. شيئًا يربكك ويشوش ذهنك .. شيئًا لن تهدئ حتى تفهمه!!
    
    قطع تلك اللحظات المشحونة اقتراب كمال منها ليسألها بلطفة: 
    - اسمحي لي أن أحظى بهذه الرقصة؟؟
    تنفست فريدة براحة قبل أن تومئ له بود مرحبة ..  تركت كأسها لتترك من بعده يدها لكمال ساحبا إياها لساحة الرقصة .. لا تعرف الكثير عن قواعد الرقص وتتمنى عدم التسبب في إحراجه وإحراج نفسها معه .. هذا ما رددته بنفسها.
    
    - أبدعتي في خطبتك اليوم .. عليكِ أن تكوني فخورة بنفسك!!
    هنئها كمال وهو يضغط اصابعه بخفه على ظهرها لينتشلها من شرودها .. ابتسامتها المشرقة لم تتوقف بل اتسعت له، وكأنها كانت في آمسّ الحاجة لسماع ما قاله الآن .. بالفعل، فقد كان الخوف والتردد يعتريها لحظة وقوفها على المنصة لإملاء كلماتها الخاصة .. تلبكت من ذلك الجمع الحاضر والكاميرات والأضواء المحاصرة لها من كل صوب .. خاصة بعد أن عانت لسنتان الإنحصار على التفاعلات مع البشر خارج حدود عائلتها الصغيرة .. الأمر كان يحتاج منها طاقة كبيرة ومستوى عالي من ضبط النفس حتى ينجح، كما حدث!!
    
    الأسئلة المجحفة، والمتطرقة لأدق تفاصيل حياتها خصوصية، وحتى التشكيك بحالتها المرضية، كل هذا كان ضغط مهول واختبار عظيم وعملي لقواها الانفعالية بعد كل ما عانته .. اليوم كان انتصارها الصغير .. انتصارها الأول!!
    
    - تحبينه؟؟
    باغتها كمال بهذا السؤال فقطبت حاجبيها بغير فهم:
    - مَن هو؟؟
    - أدهم!!
    
    رعشة سريعة عبرت بخفوت جسدها، ولا تدري لها سببا!! .. رفعت إحدى كتفيها باستنكار: 
    - أنا لا أتذكره حتى أحبه!!
    تعنّت كمال في سؤالها بحثا عن السبب الذي يسعى خلفه الجميع: 
    - ولماذا تبحثين خلفه إذًا؟؟
   
    مررت فريدة عينها بين الحضور ثم تنهدت قائله وكأن الأمر بديهي: 
    - وكيف لي أن أمضي قدما اذا لم أعرف ماذا حدث لي بالماضي؟؟
    وجد شيئًا من المنطق في حديثها لذلك إستمال لتصديقها، وقد حان صوته مغمغما لها وكأنما يحدث نفسه: 
    - يبدو أنكِ عنيدة مثلما أخبرني عنكِ مراد!!
    
    ارتفعت شفتيها وكأن ما قاله قد مدحها: 
    - حكىّ لك عني؟؟
    - هو لم يحكِ سوى عنكِ!!
    
    صحح لها مراد ليزداد زهوها باقتناء رجلا مثله .. ولم يخف ذلك عن عين كمال .. تلك اللمعة .. كان يعرفها، تتعدى كونها اعجاب انثى .. سألها بترقب للإجابه:
    - تحبينه .. أقصد مراد هذه المرة؟؟
    بدى الدهشة جليه على ملامح فريدة من إلحاحه في هذه السؤال .. لتنبسط ملامحها في لحظة بعدها: 
    - تريد الحقيقة؟؟
    - أرجوكِ!!
    
   دنت منه بلفت حميمة إلى حد ما وهي تؤكد على كل حرفٍ تلفظه: 
    - أعشقه!!
    إبتلع غصة زاغت بحلقه بعد أن كان قد وجد الانجذاب السحري في كل شئ يخصها .. تمتلك هالة مشعة وراقية تجذبك بقوة نحوها .. لا يعرف، ولكن هذا ما شعر به منذ لقاءهما الأول .. لذلك لم يستطع مقاومة إجراء محاولة في الظفر بها بعد أن مضى وقت طويل قبل أن يميل قلبه لأنثى مرة ثانية .. ويالها من محاولة فاشلة، بل سريعة الفشل!!
    
    إحترم على الفور صراحتها وتراجع كرجل نبيل مكتفيا بعبارة واحدة نفثت بها عما هو مكنون بداخله: 
    - ياله من محظوظا بكِ!!
    
    ●   ●   ●
    
    في وقتا لاحق من الليل، ترنحت خطاها في الردهة المؤدية إلى غرفتها، كانت تعاني من أزواجية في الرؤية بتأثير من جرعة الكحول التي أقحمتها في دماها .. تدندن بشفتيها لحنا تسمعه يُعزف بأذنها الداخلية .. هدوء سحري يعم خلايا جسدها وتنعم به في لحظة نادرة.
    
    توقفت بتفاجئ وقد سمعت صوت خطوات تتبعها في الممر، ليتوقف الصوت فور توقفها .. تفقدت خلفها بحيطة وعاينت بنفسها خلو الممر عليها .. يبدو انها قد تجاوزت حدها في الكحول الليلة!!
    
    زفرت بتعب وهي تخرج المفتاح الممغنط الخاص بغرفتها لتعرج إليها .. ألقت بحقيبتها وحذائها لدى الباب ودون أي اكتراث كانت تشرع في خلع ثوبها لتتفاجئ بتعالي رنين هاتفها .. الوقت قد تأخر ليهاتفها أحدهم، وبالرغم من هذا إلتقطت هاتفها بتعثر من الحقيبة وجلست أرضا لتجيب دون أن تنظر الشاشة: 
    - ألو..
    
    لم يقابلها سوى أنفاس تأتيها من الجهه الأخرى، وكأن صاحبها يواجه صعوبة في تنظيمها .. كررت ندائها هذه المرة وقد خمنت المتصل:
    - ألو .. مراد؟؟
    
    للمرة الثانية لم تجد من مجيب لذلك قررت إغلاق الهاتف، فهي حقا مرهقة .. ما إن تركت الهاتف حتى عاود الرنين مرة أخرى .. تأففت وهي تمسك به لترى أن الرقم محلي، يعني أن المتصل معها بالبلد ذاته .. مَن هنا يعرف رقمها؟؟ .. أجابت بتمني أن يجيبها أحدهم هذه المرة: 
    - فريدة المهدي .. من يتصل؟؟
    - فريدة .. أنا مراد .. كيف حالك حبيبتي؟؟
    
    تيقظت حواسها وهي ترفع الهاتف لتتأكد من الكود الدولي للرقم قبل أن تقول باستغراب:
    - مراد .. أين أنت؟؟
    جاءها صوت مراد المتحمس:
    - هذه المفاجئة التي كنت أعدها لكِ .. أنا في مطار ميﻻنو وقريبا سأكون عندك حبيبتي، لا تنامي، وداعا!!
    
    ابتسمت رغما عنها وهي ترى كل ما يفعله مراد من أجلها .. للحقيقة هو حبيب مثالي .. أعني مَن يترك عمله هذه الأيام من أجل أن يمضي بعض الوقت مع شريكته؟!
    
    خلعت ثوبها لتأخد حماما ساخنا وتندس أسفل الفراش ريثما يأتي مراد، ولم تدر بنفسها إلا وقد غرقت بالنوم!!
    
    ●   ●   ●
    
    في الوقت ذاته مازالت أصابعه مشدده على الهاتف، وكأنه يقبض على جمرا من النار .. لعن نفسه على تصرفه الطائش وشوقه الجارف لسماع صوتها بهذا الوقت .. هل نادته ب(مراد)؟؟ .. هل أصبح الآن مراد كل ما لديها وكل ما تفتقد؟؟
   
    جذوة من النيران أضرمت بداخله ولن تهدئ .. لا يعرف ماذا أصابه حينما رآها أمامه على شاشة الهاتف، وحينما رآى تلك الأفعى زوجة أبيه معها .. كل ما رغب به هو الاطمئنان عليها .. فقط الاطمئان كونها بخير بعد ذلك الحفل .. يعلم انه تخشى الاضواء، ويعلم عن ذلك التوتر الذي ينتابها من محاصرة الكاميرات لها .. يعلم أنها لا تنسجم في جو الحفلات الزائفة، يعلم كل هذا، ولكن ما لا يعلمه هو كيف كانت هناك الليلة؟؟
    
    ما السر الذي جمعها ب(سمر) وكيف وقفت جنبا إلى جنب في المؤتمر .. سمر؟؟ تلك الأفعى التي سممت حياته منذ أن دخلتها .. جاءت الآن لتكمل ضخ سمها!! .. هو يعلم ماذا تفعل، وماذا تريد من تقربها من فريدة .. تريد إرهابه ليظهر، تريد تذكيره بأنه مازال هناك ما يخشى عليه في غيابه ..  لكن لا، لم تخمن جيدا، هو لن يسمح بذلك طالما كان حيا .. إلا فريدة!!
    
   رغم تيقنه الليلة من أنه قد فقدها عن حق، وأنه مهما تقاربت المسافات لن تعود له مرة أخرى!! .. رغم كل ذلك، اتخذ قراره في ثواني وكان لزاما عليه سرعة التحرك .. من أجلها -ومن أجلها فقط- سيخوض كل الحروب لتكون بخير، حتى لو لم تكن له!! 
    
    ●   ●   ●
    
    العين السوداء ذاتها .. عين قادمة من قاع الجحيم، تقترب لتبلعها معها ككل ليلة .. جسدها يشنج بألم يرتج له أوصالها  .. يديها مكبلة بنيران تصهرها، لتشد على أسنانها صاره صرخاتها المتألمة .. الألم هذه الليلة يفوق الاحتمال، ولكن بالرغم من ذلك هناك شيئا ما مختلف هذه المرة .. الظلام ينقشع رويدا رويدا لتتضح لها الرؤية على مشاعل ليلية كمشاعر قصور العصور الوسطى تأتي وتذهب في خفة .. إنها بزنزانة!!
    
    توقف تنفسها حتى كادت تختنق، قلبه يفزع رعبا لما يرى .. شدت يديها وإلتف معصمها على إنحناءه خطرة .. تنفسي فريدة، إنه كابوس .. تنفسي!!
    
    شهقت بعمق وقد شعرت بأنها تعاني من نوبة توقف تنفس .. كأن الهواء قد انعدم من حولها، كل ما تراه يزيد من اختناقها، ولا يساعدها أبدًا .. تدريجيا بدأت تهدأ وتعتاد الرؤية وتخف حركات تشنجاتها، لتدقق النظر حولها .. الجو هناك مقبض إلى أبعد حد، وكأنما تسكنه روح معتمة، تشعر بالعرق الغزيز الذي ينساب من جسدها، وبالرغم من ذلك، تريد إكمال ذلك الحلم؛ علَّها تصل إلى شئ هذه المرة .. أين أنتِ فريدة، ركزي!!
    
    وفجأة كانت تعتصر عيناها بشده، ليتشنج بعدها جسدها ويتصلب، وكأنما قد ضربه تيار كهربي .. تنتفض وتنتفض عن الفراش بقسوة، وجهها يحتقن اختناقا واسنانها تصدر صرير مرعب .. احتد معصميها في تلك الإستدارة العنيفة حتى فتحت عينيها ألما وهي تصرخ بأقصى طبقة صوت تمتلكها.
    
    إنتفضت عن الفراش وهي تتعثر في الشراشف والأثاث، تفتش حولها، وكأنها قد رأت شبحا للتو .. زاد من رعبها تلك الطرقات القوية على الباب التي زادت جسدها ارتجافا وفزعا، لتتكنف على جسدها في زاوية .. خبأت آذانها بين يديها وهي تنضم نفسها بقوة، لتنخرط بعدها في بكاء هستيري مفجع!!
    
    بعد لحظات، دخل مراد وبصحبته أثنان من إدارة الفندق ليتفقدوا حالها بعد سماع ذلك صراخها المدوي تزامنا مع قدومه لغرفتها .. كان ينظر حوله بفزع باحثا عنها بين الأثاث المبعثر، وبرأسه يدق ألف سؤال حتى تتبع صوت نشيجها العال الآتي من خلف الفراش.
    
    عندما عثرت عينيه عليها أشار لمَن معه بالرحيل، بعدما رآها بثوب نومها الفضي مخبئها على نفسها .. أنكب على عقبيه ليتفقدها فوجدها ترتجف كعصفور رقيق في موسم الشتاء، وما إن لمسها حتى فزعت وصرخت متمتمه بكلمات متقطعة ضائعة مثل:
    - ابتعد عني .. توقف .. لا تلمسني .. ابتعد عني!!
    
    تجمد مكانه وقد هاله ما رآه من الحالة التي تبدي عليها .. تزحف بجسدها للخلف، وكأن الحائط سينغاص ليخبئها بداخلها .. عروق رقبتها نافرة من فرط البكاء، شعرها تشعث من ارتجاج رأسها يمنى ويسرى، عينيها تتوسله بدموع غزيزة أن يتوقف مكانه ويبتعد .. رباه، ماذا يحدث لها؟!
    
    رغم أنه لم يفهم، ورغم عدم استيعابه لما يحدث، إلا انه امتثل لها وهو يرفع يديه عاليا لطمئنتها .. دقائق مضت وهي على حالها، حتى انزاحت الدموع عن عينها وتبينت ما حدث، أين هي، ومع مَن .. وبدون سابق إنذار كانت ترتمي بحضنه ليتلقفها هو بغير هدى ويحتويها بين ذراعيه .. راحت يديه تعمل على تهدئتها هامسا لها ببعض العبارات المطمئنه، حتى شعر بثقل رأسها على صدره فعلم انها قد غفت.
    
    وضعها بفراشها متجنبا التدرج إلى جسدها المنهك، ومن ثم جلس ليحلل ما حدث أمامه الآن!!
    
    ●   ●   ●
    
    في صباح اليوم التالي، تقلبت بالفراش بجسد متألم، لكن الألم كان يزداد تمركزا في ذراعها، تحديدا معصمها الأيمن .. اتسعت حدقيتها بعدما تدفق لذهنها كل ما حدث دفعة واحدة.
    
    استقامت بعدم اتزان وهي تستكشف الغرفة من حولها .. مازال آثار دمار ليلة أمس باقية، وهناك فنجانين من القهوة على الطاولة .. إذًا مراد كان هنا بالفعل!! .. شاهدها على تلك الحالة؟؟ .. حقا رائع!!
    
    جلست مرة أخرى تحاول استعاده بقايا حلمها -كابوسها على أدق تعبير- دون فائده .. شيئًا ما يحجب ذاكرتها ويشوشها كلما حاولت إستدراج الاحداث منها .. كعادة عقلها الباطني اللعين، يحاول حمايتها من تلقي صدمة أخرى .. صدقا أصعب صراع هو ذلك الذي تخوضه مع نفسك بهدوء دون أن يمكن لأحد الإطلاع عليه!!
    
    سمعت صوت آتي من الحمام فعلمت أنه بالداخل، وضعت على مأزر تغطي به جسدها وتقدمت نحوه بما أن الباب كان مفتوحا، لتجده يقف أمام حوض الإغتسال فاتحا الرف الذي يعلوه ويفتش بين أغراضها به، تحديدا أدويتها محاولا معرفه فيما تستخدم .. وقفت على أعتاب الباب واجابت حيرته بسلاسه بينما تضم ذراعها المتألم بالآخر: 
    - أنها أدوية نفسية .. مهدئات، منومات، ومضادات اكتئاب!!
    
    أجفل مراد ملتفتا لها وقد فاجئه وجودها خلفه بتلك الهيئة الواهنة .. ترك الادوية من يده لتضيف فربدة بالهدوء ذاته مفسره: 
    - لا أبلي حسنًا حينما أكون نائمة!!
    
    دنى منها بخطوات كالمصعوق مما يسمع .. هدر بطريقة لائمة أكثر منها متألمه: 
    - آنى لكِ أن احتملتِ هذا وحدك .. أين نحن من كل هذا؟!
    تقاعست قدميها عن الصمود فجلست أرضا وهي تستند بذراعيها على ركبيتها: 
    - هاك قد عرفت .. ماذا بإمكانك فعله .. اضطراب فزع ليلي، كوابيس جاثمة، نوبات هلع من حين ﻵخر، ولقطات من ذاكرتي تأبى أن تبرحني ويأبى عقلي تفسيرها .. أقصى ما يمكن للطبيب فعله هو وصف كل تلك الأدوية ليسكن ألالامي ويبقيها قيد السيطرة كي لا أجن يوما ما!! .. والآن، هل بإمكانك تقديم شئ سوى نظرة الشفقة هذه التي تعتري محياك؟؟
    
    جثى مراد أمامها وهو يمسك بكتفيها متحدثا بعصيية:
    - فريدة أنا لا أشفقك عليكِ، أنتِ لا تفهمين، أنا أحبك لذلك أتألم لكِ!! .. لكنني واثق أن ما تفعليه حاليا هو سبب معاناتك وإن لم... 
    قاطعته فريدة بحزم: 
    - كلها اعراض فجه ﻻضطراب ما بعد الصدمة .. إذا لم آخذها على محمل الجد سأجن مراد، ولن ينفعني حبك وقتها؛ لأنني سأحول حياتك لشقاء بحت معي .. ما رأيته البارحة كان عينة مما ستكون عليه حياتنا فيما بعد!!
    
    أجابها دون تردد: 
    - وأنا مستعد لفعل أي شئ لتنعم روحك بالراحة!!
    هزة رأسها بنفسي لتتقافز الدموع من عينها وكأنها يصعب عليها شرح ما بها: 
    - صدقني مراد حاولت بكَدّ أن أضمر بداخلي ماضيي، لكنه يابى أن يظل دفينا .. لم أعد أود المحاولة بكَدّ بعد الآن!! .. إذا كنت فعلا تريد مساعدتي، فليس ثمة طريق لذلك سوى ما أرتأيته انا .. يجب أنا أعرف ما حدث لي .. يجب ان أتذكر تلك السنوات التي سقطت مني .. وبأسرع وقت .. هذا هو الحل الوحيد ﻷتجاوزها .. مواجهتها!!
    
    أقنعته أو استمالت قلبه، لم يهتم لشئ سوى راحتها الآن وللأبد .. لذا لم يجد بد من موافقتها في كل ما تفعله .. ابتسم لها مومئا برأسه وأمسك بكفها ليقبله ولكنه سمع آنه خرجت منها .. تلاقت أعينهما ليجد أنها تتألم من معصمها فسألها:
    - ماذا هناك؟؟
    ابتسمت لتخفي ألمها:
    - يؤلمني قليلا .. لا تقلق انا بخير!!
    
    نهض لينهضها معه:
    - تعالي معي لنجعل الطبيب يفحصه!!
    أوقفته قبل أن يخرجوا من الحمام:
    - مراد..
    إلتفت لها باهتمام .. فقالت بإمتنان صادق:
    - شكرا على وجودك معي أمس!!
    
    ضمها له بخفه وهو يردد بذهنه كل ما قالته الآن .. تلك الصغيرة احتملت ما لا يحتمل .. كان بجانبها طول الوقت هو وسارة ولم يشعروا بها ولو للحظه .. كيف؟! .. حبيبته، صغيرته تعاني كل ذلك؟؟ .. تعاهد على نفسه بأن يفني نفسه في سبيل سعادتها أبد العمر .. نعم، هذا ما تستحقه!!
    
    ●   ●   ●

       حطت الطائرة الهليكوبتر على سطح هذا القصر العريق بكاليفورنيا، ليترجل منها أدهم وهو يضم سترته ويرتب شعره الذي تطاير بفعل هوائها .. فور أن ابتعد عن محيط الطائرة وقارب على دخول ذلك المصعد، حتى حاوطه إثنان من رجال الحارسة الخاصة.
    
    توقف المصعد بالطابق الثاني للقصر ودلف منه ادهم برفقة الحرس لغرفة المكتب، التي يقبع بها الكابو دي كابي لعائلة (لامارا) .. دخل أدهم عليه ليقاطع الاجتماع الدائر بينهم ويعم الصمت على الجميع .. وبإشارة واحدة من رأس روبرت إنفض الجمع وذهب كل إلى غايته، مع تهنئة البعض لأدهم بالعودة أخيرا لقصر العائلة.
    
    تقدم أدهم ليجلس على يسار روبرت بوجه متجهم .. تحدث روبرت بعد فترة صمت: 
    - أهلا بعودتك أدهم.
    - أنت تعلم لمَّ عدت!!
    
  تنهد روبرت بسأم من تلك المواجهه التي لا بد منها، وكأنهما لم يخوضاها من قبل: 
    - الوضع أصبح خطر أدهم .. الأغلبية أعلنوا اليوم إستياءهم من ظهورها في العلن وأعتبروه تحدي سافرا لهم!!
    إنتفض ادهم كالليث الثائر: 
    - اللعنة كيف تتحداهم .. فريدة فاقدة الذاكرة!!
    
    عدل رورت من وضع رابطة عنقه قبل أن يقول بجمد: 
    - حتى هذا أصبح قيد التشكيك!!
    قوس أدهم حاجبيه وقد دقت نواقيس الخوف بداخله:
    - ماذا يعني هذا؟؟
    - يعني كفاك نوم حتى الآن، عليك الظهور مرة أخرى والتصرف حسبما يمليه عليك الأمر، وإلا لن أضمن لك أن تبقى أنت وهي على قيد الحياة كل يوم!!
    
    حدقه أدهم طويلا غير مكترث لطريقته المستبدة .. ثم أردف بنفاذ صبر: 
    - تحدث مباشرة روبرت .. ماذا تم في الاجتماع!!
    - حدث تصدع في الصفوف بسببك .. انقسم الجمع إلى أحزاب مؤيدة ومعارضة لكون فريدة تشكل خطورة على عائلتنا، وأنت تعلم ماذا يعني هذا!! 
    
    صمت أدهم ليضبط أنفاسه وليستشف روبرت بأنه يصارع غضبه فإستطرد: 
    - أمامك فرصة واحدة أدهم ﻹعادة الأمور تحت السيطرة، وإنهاء موضوع فريدة بالطريقة التي تروقك، وإلا لن يكون لك حق الثأر لاحقا!!
    
    خرج من عنده وقلبه يقتداد مثل الجمر .. كل هذه المدة بقي بها بعيدا عنها لحمايتها والآن عليه العودة بأقصى سرعة لحمايتها أيضا .. ياللسخرية القدر!! .. أي لعبة لعينه هما بها!!
    
    في بُعدها، كل شوقه، كل شغفه، كل القيود التي تنسجهما معا وتدمغها داخله، كل ذلك كان بمعجزة يتحمله في سبيل أنها بخير .. أما الآن فعليه أن يذوق أضعافه في قربها .. وياويلته من قربها .. إنها جنة الخلد التي لن يكتب له دخولها .. وإنها الجحيم على أرض الرحمن!!

    ●   ●   ●
    
    بعد يومان .. مطار القاهرة 
    
    هبطت فريدة من الطائرة برفقة مراد وهي لا تصدق كيف كانت أيامها الماضية أكثر من رائعة فقد عمل مراد بجد على إشغالها عما حدث والترفيه عنها بشتى الطرق .. كانا يخرجا من بداية اليوم وحتى لروربه، زاراه أغلب المعالم الأثرية بإيطاليا والأماكن السياحية وحتى الشواطئ .. وليلا كان يسهر معها بالغرفة حتى يغلبها النعاس ورفض فكرة إستخدام الأحزمة الطبية و واقي الأسنان لتحجيم كوابيسها خاصة بعد أصابه معصمها الذي أستلزم مدة أسبوعان لكي يشفى.
    
    في كل ليلة كانت تثور كوابيسها وتشتد تشنجتها كانت تجده بجوارها يمسك بيدها بقوة ويمسح عنها عرقها الغائر .. يخفف عنها ويوقظها قبل أن تنغاص أكثر في الحلم .. يبدد عتمة خوفها ويتقرب أكثر من قلبها الذي وجد السكينة ﻷول مرة بوجوده منذ زمن!!
    
    في المساء، إلتف الجمع الصغير على الطاولة ليتناولوا عشاءهم في جو أسري دافئ بشقة مراد .. عشاء كانت تحضره معهم السيدة رجاء -والدة مراد- وهي أكثر من سعيدة برؤية السعادة تسكن قلب ابنها من جديد، لانه فقط بجوار فريدة!!
    
    وبينما كانوا يتجاذبون أطراف الحديث عما حدث في إيطاليا والأشياء التي فعلوها هناك دون الإشارة لما حدث لفريدة .. جاء رنين الهاتف ليقطع تلك اللحظة عليهم، توقفوا وهو يتساءلون لمَن الهاتف قبل أن يتضح أنه لفريدة .. نهضت فريدة عن الطاولة لتحضر الهاتف من حقيبته بصالة الشقة لتجد رقم مجهول فتقرر تجاهله.
    
    ما إن جلست مرة أخرى معهم على الطاولة حتى عاود الهاتف الرنين مرة أخرى، ليسألها مراد عن هوية فتشير له بأنها لا تعلم فقال لها: 
    - أجيبي .. ربما أحدهم من جانب العمل!!
   مسحت فمها لتجيب بنبرة منخفضه: 
    - ألو..
    - فريدة .. أنا أدهم .. أدهم الشاذلي!!
     
    ●   ●   ●

#يتبع