-->

الفصل الخامس والثلاثون- بنات حورية


الفصل الخامس والثلاثون  


لا تصدق أنها بمنزلها مرة أخري ،، بالمنزل التي تزوجت به ،، وأحبت مالك به ،، وفقدت طفلها بهِ أيضاً .. المنزل الذي شهد لحظات فرحها وحزنها معاً .. وحين تواجدت بهِ مجدداً شعرت بالانكسار .. انكسار يحتوي روحها واصلاً لعينيها راغباً في جعلها تغمضهم حتي لا تتبين لها أركانه التي حملت طفلها داخل أحشائها وعلي ذراعيها بهم . 

انتفضت بخفة حين أغلق الباب من خلفهم بقوة ولم يُخفي عليها إغلاقه للباب بالمفتاح أيضاً قبل أن يضع المفاتيح بجيبه قائلاً بجمود لها : أعطيني مفاتيحك . 

قطبت حاجبيها تسأله بهمس : لماذا أنا لدي عمل وسأحتاجهم في الصباح ،، ثم لنتحدث ودعني أرحل أنا لا أود البقاء هنا .

ابتسم بخفة ساخراً وهو يتجه للأريكه ليترك تلكَ العصا من يديه بضيق ويريح ظهره رافعاً قدميه ليشعر بوجع عظامه فيتنهد بإرهاق مُغلقاً لعينيه وهو يُخبرها : لا تتغابي يا رسيل ،، لم أتي بكِ لهنا كي نتحدث وترحلين ،، أخبرتك جيداً أنني جئت لكِ كي أخذ زوجتي والتي هي أنتِ للأسف . 

ارتعش داخلها بصمت ،، لا تعلم هل من هيئته المتوجعة أم من ملامحه المستهزأة أم من حديثه عن أسفه كونها زوجته لذا ههمست له : ولماذا لتكون أسفاً ،، لنتطلق وتعثر علي زوجة أخري لا تكون أسفاً أنها زوجتك . 

لوهلة ظنت أنه سيقف مُتجهاً لها صاباً كل غضبهِ عليها بعد تلكَ النظرة النارية التي رشقتها من عينيه قائلاً وهو يضغط فكه بقوة : استطعتي أن تنطقيها ! ،، سهل عليكِ أن أتزوج امرأة أخري !! . 

مسحت دموع عينيها التي تهدد بالنزول مجدداً وهي تجيبه بنفس الهمس ،، لا تعرف كيف تؤذيه بحديثها : أنا لم أعد باستطاعتي إعطائك أي شئ ،، كما أنني لا أريد أي صلة تربطني بعائلتك . 

أومأ لها بنفس النظرة وظل يرشقها بها مُطولاً حتي شعرت بنفسها كطفلة مذنبة ومُخطئة تقف أمام والدها الذي يُعاتبها ،، وكلما طال صمته وطالت نظراته المُتغيرة كُلياً علي رؤيتها كُلما تضخم صدرها بألم أكثر حتي قال بهدوء وهو يقف مُتابعاً تراجعها للخلف بحذر : أنا جائع سأستحم حالما تغيرين ثيابك وتحضرين لنا طعاماً . 

ظلت صامتة واقفة مكانها وكأنها لم تفهم للحظات ما قاله حتي رأته يعود بعض الخطوات للخلف ليقل أمامها : لقد أحضرت ثيابك من منزل أهلك ،، ستجدينها بغرفتنا ،، لا تأخذي وقتاً طويلاً لأنني لم آكل أى شئ اليوم . 

واختفي من أمامها قبل أن يكسر فاهها علي ما تفوهت بهِ ،، تاركاً إياها هي لانكسارها ومُحاربة شياطين رأسها وهي تتحرك بين تلكَ الجدران التي تطبق علي أنفاسها . 

■■■

_لارا . 
هتف راكان مُردداً خلف راما لتجيبه مجدداً بحمرة طفيفة من مداعباته لها : 
نعم لقد عرفنا أنها بنوتة ولم نختر لها اسماً حتي الأن . 

ثم تسائلت وعينيها تلمع : ما رأيك بلارا إذاً . 

فكر قليلاً قبل أن يردف : يليق بالصغيرة لما لا . 

أحاطت عنقه وهي تنعم بدفئه وحنانه ليحاوطها هو بتنهد واضعاً رأسه علي رأسها التي استكانت بتجويف عنقه وداخله يرغب بأن يشعر بالقليل من مشاعرها تلك ،، كونه يحاوطها ويدعمها ،، يقدم لها كل شئ ويشعر بها تذوب في حنانه .. يود بشدة أن يذوب هو الأخر ولو بالقليل منها ،، لتحتضنه هي هكذا مرة ،، لتخفف هي عنه مرة تعب يومه ،، لتبادر هي بشئ يوماً . 
يُريد أن يأتي من عمله فيراها مُقبلة عليه كي تزيل عن اكتافه عبئ اليوم وليس لأتها تحتاجه ،، قد تكون تصرفات ومشاعر بسيطة ولكن هو لا يجد لها أثراً بداخله . 
ولكن بالنهاية كيف يلومها .. كيف يتحدث وإن تحدث سيُقال صغيرة مازالت !! 
كما يقول هو تماما لنفسه أساساً ،، صغيرة وهو يكبرها بأكثر من عشرة أعوام وعليه فقط أن يكون مُتفهماً ومحتوياً كما هو الحال تماماً بينهم ولكنه سيظل مُنتظراً معجزة نضوجها يوماً . 

■■■ 

قبل شهرين وسبعة وعشرون يوماً . 

وصلها رسالة من العمل علي بريدها ينص علي وجوي حضورها العمل أو تقديم عذر رسمي عن تغيبها لثلاثة أيام دون إخبار هيئة العمل بذلك ودون أخذ موافقة عليها أيضاً خاصةً وأنها ليست المرة الأولي التتي تتغيب بها بمدة طويلة دون إذن . 

كان هذا إجراء عملي بحت ليس لديم أي دخل به ولكنها لم تعي لذلك وهي تضغط أسنانها بغيظ متوجهة لثيابها مرتدية إياها علي عجل قبل أن تخرج من البيت لشركته . 

اندفعت لمساعدته تسألها بضيق : هل ديم بالداخل . 

أومأت الأخري وقبل أن تقول أنه ليس بمفرده اندفعت لورين كالصاروخ لمكتبه ،، كعاصفة جعلته هو و تلك التي تجلس معه علي طاولة العمل التي تقع بجهة أخري من الغرفة ينتفضان ،، نظرت لهم لوهلة بارتعاش أهدابها .. 
كان يخوض اجتماعاً مع تلكَ المرآة مجدداً ولكن كان معهم رجلين أخرين يبدو أن أحدهم معها والأخر كانت تعرف ملامحه من طرف الشركة .. 
هتفت بحرج وهي تتدارك موقفها : لم أكن أعلم أنكَ باجتماع سأنتظرك بالخارج . 

ولكنه وقف نافياً بابتسامة : لا تعالي يا عزيزتي لقد انتهي اجتماعنا . 

ثم ودع الجميع وراقبت هي بجمود وسعادة لم تظهرها تعامله الجامد الرسمي مع الأخري قبل أن يغلق الباب خلفهم مديراً جسده لها قائلاً باشتياقه : 
لمن أدين بتلكَ الزيارة الرائعة .

رفعت هاتفها أمامها قائلة بحدة : جئت لأوفر عليك المزيد من الخطوات . 

ثم أخرجت الورقة من حقيبتها وهي تراقبه يقترب منها بعدم فهم ليتناول هاتفها من يديها مدققاً بما تقوله قبل أن يتنهد وهو يخبرها : 
ليس لي دخل بهذا ،، هذه إجراءات شئون العمال ،، وليس عليكِ أن تكوني منزعجة من ذلك .

وضعت الورقة من يديها علي مكتبه قائلة بهدوء مُصدقة إياه : أياً يكن هذه استقالتي ،، أساسا من الأفضل أن أبحث عن عمل بمكان أخر . 

تنهد بصوت عالي فشعرت به علي مشارف غضبه خاصةً وقد التقط الورقة قاطعاً إياها لنصفين قائلاً برفق : إما أن تتجهي لمكتبك أو تذهبي للمنزل وكم أفضل لو تذهبي لمنزلنا وليس لمنزل أهلك . 

تدحرجت عينيها بغيظ من هدوءه قائلة : من الأفضل أن يأخذ كل من مساحته الخاصة ،، ليس شرط أن نعمل معاً أيضاً ،، وأنا لا أمزح حقاً أريد أن استقيل . 

عاد يتنفس بطريقة غريبة بالنسبة لها وبالنسبة له كان يبتلع غضبه ليحرق به جسده ولا يصب شيئاً منه عليها بعد أن احترق ثلاثة ليال دونها ،، مد ذراعيه يجذب خصرها له قائلاً بجدية لا نقاش بها : أنتِ تعملين لأنكِ تعملين أمام عيني يا لورين ،، لو لا تودين العمل هنا فلن تعملي بأي مكان أخر أيضاً . 

ابتسمت بين ذراعيه قائلة بجدية : هذا يُثبت لي أنني علي حق يا ديم ،، تعلم لقد فكرت كثيراً هل أنا أظلمك بتفكيري بك ولكن أنت تثبت لي أن كل ما أفك.. 

جذب وجهها يُقبلها بلهفة بعد أن تابع تحرك شفتيها بحديثها ثم أخبرها : نعم صحيح ،، أريدك لي وحدي ،، أريد دفئك وقلبك وتفكيرك وكل شئ بكِ من أجلي وحدي ،، لما لا تفهمين أحبك بجنون يا لورين أحبك يا صغيرتي . 

حاولت إبعاد سيطرته علي مشاعرها وحواسها لتتحدث له بعقلها لتقل بجدية وهي تحاول أن تبتعد عنه ولكنه لم يسمح : هل حبك يعني أن تفعل ما فعلته تلكَ الليلة ،، لتعلم فقط أن صدمتي بما فعلته وعدم رغبتي بأن أحزن والدتي هما ما منعاني من اتخاذ موقف . 

رفع إحدي يديه يشد بها علي شعرها بينما الأخري ما زالت تُقبض علي جسدها ليُخبرها بأساه : ولقد اعتذرت منكِ ومجدداً أسف ولن أكررها مرة أخري ،، أعدكِ بهذا إن حدث مُجدداً حين.. 

وقبل أن يُكمل قاطعته قائلة بانفعال وهي ترغب بالتحرر من بين ذراعيه ليهزها قليلاً لتتوقف مثبتاً إياها : ولكنه حدث يا ديم كنت ستفعل مجدداً منذ كم يوم لو لم انسحب أنا لكنت ضربتني مجدداً . 

احتضن وجهها قائلاً برجاء : لن يحدث مجدداً صدقيني يا حبيبتي لن أفعل مجدداً ،، أخبريني ماذا أفعل لتصدقي هذا . 

رفعت كتفيها تعبيراً عن عجزها لتقل : الوقت سيظهر هذا ولكن أنا أحتاج أن تتوقف عن معاملتي بتملك وأنانية لتعطيني خصوصيتي يا ديم أعلم أننا واحد الأن وليس اثنان ولكن أنتَ لا تعتبرنا واحداً بل تعتبر نفسك واحداً تملكني . 

أومأ لها بصمت لتقل برفق وهي تري عينيه المتؤلمة ،، تعلم أنه لم يُفكر يوماً علي هذا النحو ولم يقصد أن تكون تصرفاته هكذا ولكن هذا ما يخرج من تصرفاته وهذا ما يُخنقها : اتركني الأن إذا سمحت . 

تركها كطفل مجبور وراقبها وهي تلتقط حقيبتها التي تركتها علي مكتبه ليسألها مُتمنياً : هل ستعودين لمنزلنا ،، لنذهب سوياً . 

نفت قائلة : لا أتركني قليلاً . 

ثم تابعت بعبث وهي تتجه للباب : كما أري البعد أثمر بثماره عليكَ منذ ثالث يوم ،، إلي اللقاء . 

خرجت مُبتسمة بتلاعب تاركة إياه يرلع حاجبيه بذهول مُتسمراً للحظات يفكر وقد استفزته ليفكر بخطوة كي يخطوها في التو واللحظة ولهذا اندفع لمكتب والده الذي رفع رأسه له قاطباً حاجبيه قائلاً بتأنيب : ألا يوجد باباً لتطرقه أم أنكَ عدت طفلاً . 

فطب ديم حاجبيه هو الأخر من حالة والده ولكنه فهم الأمر حين خرجت أسيل من الحمام الخاص بالمكتب لتتفاجأ بهِ ،، ابتسم ديم قائلاً : حسناً يا فهد بيه المرة القادمة سأطرق الباب جيداً قبل دخولي .

زجره فهد ليضحك بخفة وهو يقل بسرعة بعد أن سألته رسيل إن كان بخير : أنا بخير ولكن علي عجلة من أمري فعلي اللحاق بلورين . 

تسائلت أسيل : هل كانت هنا ؟ . 

أومأ ديم وهو يطلب من فهد بحرج : نعم لقد رحلت للتو وأبي هل أستطيع أخذ أجازة مفتوحة . 

كان يمط حروفه قليلاً لعل والده يوافق بالفعل ومن أدري من فهد بأمور القلب ليرفض ! ،، ابتسمت عينين فهد وهو يطالع أسيل متلاعباً بحاجبيه لجهة ديم لتتسائل أسيل بعبث : بالطبع الأجازة تشمل لورين . 

ثم نظرت لجسده المتحفز المتعجل لتستفزه قائلة لفهد : ما رأيك يا فهد هل نعطيه أجازة . 

قبل فهد كفها ليقل بعشق غير آبهاً بديم أساساً : كما تقولين أنتِ يا حبيبتي . 

توسل ديم بجدية : أبي .. أمي ستذهب الفتاة أود اللحاق بها . 

قالت أسيل بهدوء : والله أنا أتذكر طفلاً صغيراً كان يتلاعب بي هو ووالده .. يقبض علي شعري بقوة .. تعلم كنت أتوسل له أن يتركني ولكن لقد كان شعري يعجبه جداً ماشاء الله .  

قطب ديم حاجبيه مفكراً .. يبدو أنها عادة منذ الصغر إذاً ولكن تلاعبه مع والدته غير لورين بالطبع .. تنهد أخيراً بعد أن قال فهد : لا تطل بتلكَ الأجازة وإلا رفدت كلاكما . 

أومأ له وهو يخرج من الشركة ليلحق بها وقد طىب سيارته مُسبقاً وطلب أشياء أخري أيضاً من مُساعدته لأنه كان واثقاً من موافقة والده ،، سأل الأمن عنها ليخبروه أنها وكعادتها تتمشي لخارج المجمع ،، لذا قاد سيارته حتي وجدها تسير للخارج ،، فأوقف السيارة وأسرع بخطواته لها حتي حملها بغتتاً لتصرخ مختضة واضعة كفها علي فاهها بصدمة . 

ضحك وهو يُسير لسيارته قائلاً : لم يكن عليكِ استفزازي .

وضعها بالمقعد ليدور ويجلس جوارها ،، ورأي ابتسامتها من أسفل كفها الموضوع علي فاهها ليتسائل : لماذا تضحكين هاا . 

أخبرته بضحك فعلاً وهي تتنفس بعمق  وكأن خضه لها انتح ذلك الضحك : لقد أفزعتني . 

قرص وجنتها بخفة مُتسائلاً بعبث : غير متوقع صحيح . 

أومأت وهي تُجيبه مذكرة إياه بنبرة درامية : ولكنني حامل يا أستاذ . 

أشار حوله وهو يقطع المسافة بالسيارة ليخرج من مجمع الشركات : قولي لنفسك يا هانم لما تسيرين مجدداً كل تلكَ المسافة . 

تأففت وهي تخبره : الرياضة ليست خطر لا تقلق . 

أومأ وهو يقول بنبرة خطيرة : الرياضة ليست خطر ولكن ممنوع أن أقترب منكِ والله أنا بدأت أشك بتلكَ الطبيبة .. إنها تتخذ مني موقف علي ما يبدو . 

سعلت لورين بخفة وهي تُداري ابتسامة عابثة ولكنه رفع كفهِ يجذب ذقنها ليري ملامحها قائلاً : لا تُديري وجهك ،، أم أنكِ لا سمح الله مُتفقة معها . 

إحمر وجهها قليلاً وهي تضرب كفه بخفة ليترك وجهها لتقل : انتبه للطريق ،، ثم أين نذهب . 

أنزل كفه من وجهها ليديها ليتخلل بأصابعه أصابعها و أجابها برفق : نذهب بعطلة حيث أنا وأنتِ فقط . 

ثم نظر لملامحها المتسائلة أكثر مُتابعاً : لبنان ،، سأختطفك لهناك . 

تلعثمت للحظات قبل أن تخبره : ولكن أنا حامل ولم نأخذ إذن بالسفر من الطبيبة ولدي مُتابعات والعمل يا ديم وماما لم نخبرها و .. 

ضغط علي كفها عدة مرات لتصمت وتنتبه له ليخبرها : سنخبر والدتك و سنجد طبيبة هناك حتي نعود ولقد أخذت أجازة مفتوحة من العمل لكلينا علي حسابنا بالطبع . 

رفعت كتفيها بعبث لتخبره وكأنها تُغيظه : أجازتك علي حسابك ولكن أجازتي علي حساب زوجي . 

ضحك موافقاً وهو يرفع كفها لشفتيه ليلثمه بهدوء وعمق لتخبره وهي تزم شفتيها كطلفة : ولكن أنا أخاصمك . 

جذب جسدها له ليقبل رأسها قائلاً بجدية : سامحيني أرجوكي . 

ابتعدت برفق عنه وكما تبين له الأمر فهي مازالت تنوي تعذيبه ،، تنهد وهو يقود للمطار حيث طلب من مساعدته أن تجهز طائرتهم الخاصة ليُسافرا بهم . 

■■■

بالوقت الحالي .
لقد فرغ المنزل عليها مجدداً بعد أن اخذ صهيب زوجته أيضاً ،، تدعو أن يعرف كيف يتعامل معها وكيف يُعيد لها طفلتها كما كانت .

دوروك وهيا خارج القارة بأكملها ،، لورين مع ديم بلبنان ،، سبأ عادت لزوجها ولكنها تمر عليها يومياً ومعظم الأوقات يحضر سفيان الطعام من المطعم ويتناولونه سوياً معها ،، جيلان أيضاً تحضر طفليها وتأتي لتقضي معها يوماً بطوله وأحياناً تتركهم معها وتذهب للعمل . 

يعني لم يقل جو الحركة بالمنزل كثيراً ولكن تبقي تلكَ اللحظات التي تكون بمفردها مع ذكرياته وصوره وأغراضه ومشهد موته _ أصعب ذكري علي قلبها _ الموت ليس شر ولا مفر منه ورغم إيماننا بأننا ضيوف بتلكَ الحياة إلا أنه يؤلمنا ويؤلم روحنا حين يذهب العزيز علي قلبنا قبلنا والعكس أيضاً .

أغمضت عينيها تستعيد أي ذكري معه وكل لحظاتها معه كانت خير وفقط وكأن المشاكل لم تعرف طريقها إليهم وتوقن هي أن هذا بفضله بعد الله أولاً ،، لأنه كان كبير بحق .. كبير عقلاً واحتوائاً ودفئاً حتي في معاتبته لها علي أمر ما كان كبير واعي وناصح . 

كان يوماً مُشرقاً ،، بمنتصف الربيع تماماً الوقت الأقرب لقلبها حيث لا شتاء قارص ولا دفئ شديد بل جواً مُعتدلاً يجعل مزاجها بالسماء ونشاطها مُتجدداً .. وقف تطهو الحلويات له ولها وقد كانت حامل حينها .. كيك برتقال و كيك سادة مع بعض الصوصات من مربي و شيكولاتة .. حتي انتهت فأتت بطبقين طوليين ترص عليهم ما طهته بحب ثم أخذتهم لشرفة منزلهم حيث يجلس هناك يقرأ بجريدة ما أخبار السوق والعمل وضعتهم علي الطاولة وقبل أن تجلس جواره سحبها ليُجلسها علي قدميه قائلاً وهو يقبل كفيها : آآآه أخيراً انتهيتِ ،، لقد أذبتني من الرائحة فقط . 

احمرت وجنتاها بخجل تتمني كالعادة أن تنال حلواها إعجابه قائلة بهمس وهي تضع أصابعها علي شفتيها بخجل : أتمني أن تُعجبك هيا تذوقها . 

قبل أصابعها من فوق شفتيها قائلاً : أصابع كالعسل هكذا صنعتهم أيمكن ألا يُعجبوني . 

قالت بطفولة : أنتَ العسل يا حبيبي .

قبل جانب شفتيها بسرعة قائلاً بعبث : أعشق هذا الفم . 

حاولت الاعتدال عن قدميه لتجلس جواره ولكنه أبي وهو يتناول طبق من الطبقين ليضعه علي قدميها ويبدأ بتذوقه بنهم وشهية مفتوحة قائلاً بتلذذ : مممممم لا أعلم ما أكثر شئ أحبه في طعامك يا حورية . 

داعبت وجهه قائلة بسلام : بالهنا يا حبيبي كلما اشتهيت شئ أفعله . 

تناول قطعة يطعمها منها مرتين كما يفعل قائلاً : هذه لكِ وهذه للحورية التي بداخلك . 

واتبع اللقمتين بشفتيه لتشهق وهي تفتح عينيها بعد تلكَ الغفوة البسيطة علي رنين هاتفها وقد كانت راما التي لا تمل من الثرثرة معها يومياً لتهمس بدعاء لعائلتها الراحلة قبل أن تجيبها : اللهم ارحمهم واغفر لهم . 

■■■ 

بعد أن أجبرها علي تناول الطعام معه والذي أعدته بصعوبة ،، وضبت الأطباق مجدداً وحضرت له كوب من الشاي كما طلب ثم وضعته أمامه علي الطاولة بكفين يرتعشين راغبة بإغماض عينيها أكثر من أي شئ الأن .. لذا تمددت بعد أن أنتهت علي الأريكة معطية ظهرها لكل الشقة وله ،، واضعة رأسها بين طيات القماش مغمضة عينيها بشدة غير آبهة بكونه يراقبها . 

أرجع رأسه للخلف شاهقاً بحدة قبل أن يزفر بحدة كذلك وهو يراقب انغماسها في الأريكة بهذا الشكل المتقوقع ،، ماذا يفعل كي يُخرجها من تلكَ العزلة ويخرج الألم القابع بين أضلعها . 

وحد نفسه يهتف بحدة : رسيل . 

ارتعشت بخفة تحت عينيه ليُكمل : انهضي سنتحدث . 

غمغمت بصوت مكتوم : أرجوك كفي اليوم أنا متعبة . 

زجرها بغضب مجدداً : قلت انهضي . 

اعتدلت ناهضة بتزمر كطفلة وملامحها كلها ألم منزعج من إصراره لتحضر دموعها كذلك وهي تسأل برجاء ناظرة أرضاً : ماذا تريد مني . 

زم شفتيه وهو يجيبها بجدية : هذا سؤال غريب ما الذي سيريده زوج من زوجته برأيك . 

أخبرته بضيق وهي ما زالت علي حالتها المذرية : 
لا تراوغ بالكلام . 

أفسح لها مكانا علي الأريكة بجانيه ليقل : تعالي هنا . 

احتضنت نفسها غير راغبة بالانسياق خلف القابع بين أضلعها ،، هي رغماً عنها تود أن تستفيق من هذا الألم وتعلم أنها لو انقادت خلف مشاعرها وتركته يزول لليلة ستندم بالليلة التي تليها لذا همست : أنا هنا بخير . 

تحامل علي قدميه وهو يقف قائلاً : حسناً آتي أنا . 

جلس جوارها لتنكمش أكثر بعد تلامسهم ليقل بهدوء : مالك عند بيسان لم أود أن يكون هنا بأول ليلة كي لا يسمعنا ونحن نتشاجر . 

صمتت مُفكرة في حديثه قبل أن تخبره بعصبية شديدة وهي تقابله بجسدها : ماذا تقصد بأول ليلة ،، أنا أخبرتك أنني أريد الطلاق لما تصر علي حرق أعصابي . 

سحب ذراعها بخشونة لتجلس مجدداً ليصرخ فيها بغضب : ألم تتعلمي شيئاً من أول الليلة حتي الأن ، هل تريدين مني أن أصفعك أم ماذا ، لا أريد سماع كلمة طلاق مرة أخري ،، لن أطلقك يا رسيل وإن لزم الأمر سأحبسكِ بهذا المنزل حتي يعود عقلك لرأسك . 

صرخت باكية بانهيار : أكره هذا المنزل أكرهه ،، وأكرهك . 

بُهِت للحظات معدودة بصدمة وهو يسأل بهمس : تكهرينني . 

نفت مبهوتة هي الأخري ولكن لم يظهر علي انهيارها هذا وهي تقول بآسي : لا لا أكرهك ولكن لا يمكنني التغافل عن تغافلك عن حق ابني . 

حاوط وجهها ليخبرها بلين لأول مرة في هذه الليلة : ولكن أخبرتك أنها أوهام بعقلك فقط صدقيني . 

ثم تابع كاذباً مُرغما تاركاً ذاته تحت الرماد من أجلها : لقد لاحقت الأمر صدقيني ولم يتبين أي شئ والطبيب أكد لي أن وفاته طبيعية لذا أنتِ تهدمين حياتنا وتهدمين نفسك هكذا اعتراضاً علي قضاء الله ،، أين ايمانك .

ظنها هدأت ولكنها استكانت تماماً بين ذراعيه فاقدة وعيها ليحتضن جسدها بشدة زافراً بدعاء حار من داخله مُناجياً ربه وظل ينظر لها مُدركاً .. 
_ نقطة _ حالتها أسوأ من حالته بمراحل هكذا أدرك بعد تلك الليلة العصيبة . 

■■■

صباحاً استيقظت لتجد نفسها بين ذراعيه علي الأريكة بنفس وضع جلوسهم منذ أمس ،، أنفاسها لم تكن هادئة ورتيبة بل كانت شجية ،، أغمضت عينيها مجدداً للحظات ولوهلة نسيت كل شئ وهي تستمع فقط لدقات نبضاته الرتيبة الهادئة مستمتعة أيضاً بالنور الأبيض الذي تخلل الشقة من الشرفة . 

ما هي إلا لحظات انتهو فور أن رفع كفهِ مُداعباً شعرها ظناً منه أنها نائمة لتنتفض بخفة و بصمت ليهتف هو برفق : صباح الخير . 

أومأت له دون حديث ليتنهد مبتعداً قليلاً عنها ثم حاول أن يحرك قدميه المتشنجة لتسأله بتلعثم : أتحتاج مساعدة . 

قال يؤنبها : لم أحتاج لثلاثة أشهر مساعدة أحد لذا لا تهتمي . 

عضت شفتيها تُهدأ من روعها لتسأله : ألم تكن بيساان معك . 

قبض علي فكه وهو يقول بضيق قبل ان يرحل من أمامها وإلا سيلقنها درساً بواجباتها عليه .." بيسان " من من المفترض أن يكون معه هل بيسان أم هي ! : اصمتي يا رسيل . 

راقبته وهو يبتعد لتقبض علي شعرها بقوة واتجهت لحمام الضيوف تغسل وجهها وتتوضأ ثم تجهزت سريعاً وهي تبحث عن مفاتيحها بثيابه .. لا تستطيع البقاء هنا بالفعل ،، ستنهار رويداً رويداً ويكفيها انهياراً ولن تحتمل أسلوبه الجديد هذا أيضاً . 

صرخت ويديه تقبض علي ذراعيها قبل أن تفتح باب الشقة لتنظر له بقلق وهو يصيح بغضب : ماذا تفعلي !! . 

ثم هز جسدها بشدة لترتعب : إلي أين تظنين نفسك ذاهبة . 

لا تعرف كيف جعلها تجلس بعد ذلك وهو يقف فوق رأسها يُصيح : يبدو أنكِ نسيت بالفعل أنني ما زلت زوجك وأن كلمتي تُسمع . 

رفعت يديها تحمي وجهها منه وهو يقترب ،، لتثيره حركتها تلك أكثر فيجذب جسدها له قائلاً بحرقة : من أنتِ هااا من أنتِ انا لا أعرفك . 

صمت أمام بُكائها ليتركها مُبتعداً ،، هدأ نفسه قبل أن يلتفت لها ويُخبرها بجمود : غيري ثيابك وحضري الفطور لنا وتوقفي عن البكاء وإلا أوقفتك بطريقتي . 

أمسكت بكفهِ بتوسل قبل أن يتركها ويذهب لينظر لها باستفسار فتطلب بوهن : سأذهب معك لأي مكان ولكن لا أحتمل البقاء هنا ،، صدقني هناك ما يطبق علي أنفاسي هنا ،، لا أحتمل سأفقد عقلي صدقني . 

تابعته بعينين متحفزة وهو يضغط علي أنفه ويتركها عدة مرات قبل أن يسألها برفق وهو يحتوي جسدها بين ذراعيه ولم يفوته رعشة جسدها المبهمة : أتعلمين لماذا ؟ لأنكِ أغلقتي عقلك علي ذكري وفاة دياب فقط ،، حسناً أنا معك سنخرج من هنا وسنؤسس بيت أخر .. ماذا عن ذكرياته الجميلة هنا هل سنتركها خلفنا هكذا وكأننا نتخلي عنه ،، ألا تتذكري كيف كان ينام بيننا علي السرير وكيف لاعبناه ،، الا تتذكري كيف حمله مالك بخوف ،، هل ستتركي كل تلكَ الذكريات الرائعة لأجل ذكري واحدة بإرادة الله ،، ألن تندمي حين نخرج بلا رجعة وتشتاقي لتلكَ الجدران التي شهدت حبنا يا صغيرتي وشهدت شهور حملك ،، ماذا نفعل إذا استرد الله أمانته ،، من نحن لنعترض كل هذا الآعتراض .

ابتعدت عنه برفق كالمصدومة وقد وجه تفكيرها لمسار أخر تماماً ،، ليتها تفكر هكذا كي يتوقف عبئ حق طفلها المحيط بعنقها ويخنقها ،، ليتها تصدق فقط .. ليت يتمناها كلاهما ! . 


#يتبع