-->

الفصل السادس والعشرون - شهاب قاتم

 









الفصل السادس والعشرون


الفصل المقبل سيتم نشره على المدونة بتاريخ 2 أكتوبر 2020

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢


~ في غمرة الموت تستمر الحياة .. في غمرة الكذب تستمر الحقيقة .. في غمرة الظلام يستمر الضوء

(المهاتما غاندي)

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

رمقته في هدوء تام بينما هو زفر في خوف، لا يدري أخرجت منه تلك الكلمات لأنه رآها بذلك الإنهيار أم أنه كما أعترف قد أُرهق من كثرة التفكير، أم أنه كان يدعي بكل ذلك؟! ولكن لا، هو يعلم ما يريد من كل ذلك جيدا!

نظرت له بحيرة بينما أقتربت منه وبمنتهى الجرأة نظرت له ليظلا يتبادلا النظرات في صمت تام بين ضوء القمر الذي انعكس على كلا منهما ولا يتخلل الصمت سوى صوت أمواج البحر وصوت الهواء الذي اشتد بعنف هكذا في هذا الوقت من الليل!

"اقفل قميصك!" أخبرته بحزم ليعقد حاجباه ثم اخفض رأسه لصدره ليجده بالفعل مفتوح فزفر في ضيق ثم فعل ما أخبرته به وعاد لينظر لها في نفاذ صبر "اقعد" أخبرته وهي تجلس القرفصاء ولكن هذه المرة جلست في مقابلته وتناولت أنفاس في حيرة شديدة وتردد ولكنها ستفعلها وليكن ما يكون!! يا إمّا بداية جديدة أو لا شيء على الإطلاق!

"كنت بتكدب يا شهاب ولا بتتكلم بجد؟" سألته وهي تحاول التركيز في ملامحه ليزفر هو حانقا بملامح منزعجة  بعد أن جلس مثلها "اياك تكدب!" اخبرته في تحذير 

"مكدبتش" اجاب بإقتضاب لتستشعر صدقه وتنهدت وهي تنظر له 

"نبدأ من جديد.. في كل حاجة.. اتفقنا؟" أخبرته بينما قدمت يدها لتصافحه لينظر هو ليدها بسخرية "شهاب!!" زجرته في تحذير ليصافحها هو الآخر على مضض 

"أنا حاسة إني أحسن لما اتكلمت.. وأنت؟ حاسس إنك أحسن؟!" رمقها بنظرة مطولة وهو يزفر مبتلعا وبدا كمن يواجه صعوبة بالأمر "ممكن بمنتهى البساطة متجاوبش" أضافت في هدوء

"مش عارف.." غمغم بإقتضاب لتومأ هي في تفهم وقررت أن تترك له القليل من المساحة وألا تقوم بالضغط عليه 

"طيب، بص.. دلوقتي أنا فيروز احمد عبد الحي.. معالجتك النفسية وصاحبتك!!" نظر لها مقطبا جبينه وقرأت طيفا من الإستهزاء بداكنتيه من خلال ضوء القمر الذي انعكس عليهما "معالجتك النفسية وصاحبتك اللي لازم يكون فيه ما بينكم ثقة، احترام، تفاهم، وصراحة"

تحولت ملامحه للإستغراب قليلا، نظراته مبهمة، وجهه لا يُفسر سوى عن حيرتها مما تفعله ولكنها لم تتركه ليعاني كثيرا وأكملت حديثها 

"مفيش شك ما بيننا يا شهاب، مفيش تحوير، مفيش لف ودوران.. ولما تكون مش مصدقني أسألني وأنا هجاوبك.. مفيش قلة ادبك اللي أنت كل شوية بتعملها دي" نظر لها بمكر ورآت ابتسامة خبيثة تعتلي على شفتيه "متخلنيش أندم إني قابلتك في يوم.. أنا عندي حدود مع أي حد.. ده جزء مبيتغيرش مني.. بطل تمسكني وتقلع قدامي!! مش هجري عليك ولا هتغريني مثلا" أخبرته ليرفع احدى حاجباه في غرور

"اعترافك بيبين ضعف موقفك على فكرة" ضحكت بخفوت بعد ذلك الوجه الذي رسمه في مزاح ولأول مرة تجده يدفعها على الضحك  

"لا اعترافي بيقولك تفوق أنا مش هاينفع معايا الحركات دي.." رفعت هي الأخرى حاجبها في تصميم ليبتسم بإقتضاب "أنا جدعة، وممكن علشان خاطر اصحابي أعمل أي حاجة في الدنيا.. شوفتني بعامل هبة ازاي، ومعاذ، وهاشم.. دول بس اللي تعرفهم من اصحابي.. ويوم ما نكون اصحاب فعلا صدقني الموضوع هيفرق معاك قبل ما هيفرق معايا" 

عادت ملامحه مجددا لأحدى تلك الملامح التي رآتها بمرات سابقة وعاد معها احدى الأقنعة السيكوباتية الشاذة التي يمتاز هو بها ولكنها لن تترك لعقله الفرصة في الإختلاء به 

"أنا محتجاك.. وأنت محتاجني.. أي علاقة في الدنيا لازم يكون فيها طرفين في حاجة لبعض، من غير أنانية كل واحد لازم يهتم بالتاني!! اتفقنا؟!" سألته ليحدق بعينتيها طويلا وكأنما تدور كلماتها برأسه ليومأ بإقتضاب 

"بداية جديدة يا شهاب، بعيد عن كل اللي فات!! أنا بتفق مع حد كأني أول مرة أقابله دلوقتي.. موافق؟" آتت نظراتها بثقة غريبة ليجد نفسه ينصاع إليها وأومأ مرة أخرى بالموافقة 

"وعد؟" تساؤل جديد لينظر لها بإرتياب وتوتر وداكنتيه تمسح تقاسيم وجهها مجيئا وذهابا ليبدو كالمذبذب الخائف 

"وعد" أقر بها لتطلق فيروز نفسا مطولا

"فيروز صاحبتك عايزة تكلمك دلوقتي وانسى الدكتورة خالص!! أنا بعاني، مريضة زيي زيك.. أنا عندي اكتئاب.. شايفة الحياة كلها سودا بعد ما جوزي الله يرحمه مات.. مش قادرة أكون طبيعية زي الأول بس.. بس بحاول.. باخد أدوية.. بحاول أشغل نفسي بكل حاجة.. بقرب وبقضي وقت أكبر مع الناس اللي بحبهم.. وإن شاء الله هكون كويسة!! أنا دكتورة ومريضة.. محدش كبير على المرض!" نظر إليها بداكنتيه اللامعتين في استغراب "ومبسوطة وأنا بحكيلك ده، لأن الوجع وهو جوايا غير لما بيخرج وحد بيشاركه معايا! وشكرا إنك بتسمعني.." 

ابتسمت إليه بإقتضاب لينظر لعنتيها أسفل ضوء القمر في تريث شديد وهي أمامه بينما شعر بمشاعر غريبة لا يدري ماهيتها لتضيف هي في النهاية

"وأنت؟ حابب تحكيلي حاجة؟" سألته بنظرة حماس من عينتيها التي لا يراها الآن سوى رمادية في ذلك الضوء الذي عكس جمال عينتيها وابتسامتها الساحرة على شفتاها ليزفر في حنق شديد وهز رأسه على ما قرر الإعتراف به 

"شهاب الدمنهوري، مفيش اصحاب.. اخوات من امي، اخ من ابويا، مفيش ارتباط.. وبيتقالي إني سيكوباتي!" أخذ يهز رأسه بطريقة امتلئت بالسخرية تجاه نفسه لتصدح فيروز بضحكتها ليشرد بها أكثر من المعتاد ليرفع قدماه قليلا بين ساعديه ثم ابتسم لرؤية ضحكتها التي لم يستمع لأعذب منها بحياته

"ما انت حلو وبتضحك اهو.. ليه التكشيرة طول الوقت بس؟" جعلته يعود بتفكيره إلي أحلك سنوات تعلم بها أن يبدو رجلا ميت يسير على قدماه ولا يتأثر أبدا 

"علشان متعرفيش كل حاجة عني!" أخبرها بصدق لتشعر بأنها في برج حظها بتلك الليلة المباركة من انسياب جملة وراء جملة من بين شفتيه 

"بكرة هاعرف! مش دلوقتي.. ومش مستعجلة كمان أعرف!" أخبرته لتبتسم له في دعم لعقد حاجباه "بس ممكن أسألك على حاجة مهمة؟" لمحت إنزعاجًا طفيفًا بتلك الداكنتين وإماءة بالموافقة 

"لما كنت عندك في البيت.. صحيت مكنتش لابسه قميصي! ليه مفكرتش مثلا تعتدي عليا أو تجبرني على أي حاجة؟" نظرت له وقد أدرك ما تعنيه 

"لسببين.. الأول إنك مش الاستايل بتاعي خالص وقولتلك الكلام ده" قلبت عيناها في تلقائية بينما كان يجب عليها التحكم في ملامحها ولكن عفويتها تملكت بها ليبتسم شهاب في زهو واستمتاع لتنظر له بتقزز زائف في مزاح

"والتاني؟"  

"إنك مش انتي اللي يتعمل معاكي كده!" اجابها بصدق لتبتسم هي له ثم زفرت في راحة 

"طيب سؤال تاني وأهم من الأولاني! جاهز؟" سألته ليومأ لها 

"ممكن نقوم نعمل أكل؟ أتضور جوعا يا عزيزي" أخبرته بطريقة مازحة ليقهقه شهاب ليبدو على قدر من الوسامة لم ترها برجل من قبل ثم أومأ لها ونهض وقدم يده إليها بينما رمقته مضيقة ما بين حاجبيها 

"مساعدة بريئة.. خلاص.. لا للتحرش!" أخبرها لتضحك هي الأخرى وأمسكت بيده ونهضت ثم ترك يدها سريعا ما إن وقفت وتوجها سويا للداخل لصنع الطعام! 

"هناكل إيه؟" همست سائلة في تفكير وهي تتفقد محتويات ذلك المبرد الضخم ثم استندت برأسها على احدى الجوانب لتجده ينظر إليها أكثر من المعتاد لتحمحم ثم ابتعدت قليلا وسلطت انتباهها على ما أمامها "تاكل ملوخية ورز وفراخ؟" 

رفع حاجباه مما أدى لتقطب جبينه وابتسم بقليل من السخرية وعدم التصديق لتتوسع عيناها وهي تنظر إليه في تساؤل كمن تسأله ولم لا!!

"ملوخية ورز وفراخ!" كرر في سخرية 

"آه يعني ليه لأ.. هي خلاص ضربت في دماغي بقى.." بدأت يدها في جذب مكونات الطعام لينظر لها شهاب في استغراب "يالا ساعدني واعمل حاجة.." 

"أنا عمري ما كلتها ولا عملتها.. لكن الفراخ تمام هاعملها" أخبرها بإقتضاب لترمقه في ريبة وتعجب 

"رجل الأعمال المصري شهاب الدمنهوري عمره ما أكل ملوخية!! أنت بتهزر مش كده!" أخبرته وبدأت في التحرك في المطبخ لصنع الطعام بعد أن جمعت شعرها لترفعه لأعلى وأخذ يتابعها بنظرات رغبة محمومة.. شعرها ذلك يجعله يندفع بخيالاته لفعل العديد من الأشياء.. الكثير من الأشياء.. ولكن صبرا، سيفعلها ولكن في الوقت المناسب!

"لا، بتكلم بجد.. عمري ما اكلتها" أخيرا تحدث بعد دقيقتان من الصمت لتلتفت له فيروز لتنظر إليه كي تتبين مدى مصداقية كلامه لتشعر بصدقه ولكنها كادت أن تتحدث بالمزيد من التلقائية وكيف أنه لم يتناولها قط وكادت أن تذكر والدته وما تصنعه من طعام ولكنها تداركت نفسها فهزت كتفيها في عفوية وابتسمت إليه 

"واديك هتاكلها علشان متقولش إني حرمتك من حاجة!" بادلها الإبتسامة لتلتفت هي ثم غمغمت "بس بلاش خمرة في الفراخ المرادي" استمع لكلماتها ليبتسم ابتسامة لم تصل لعينيه وهز رأسه في إدراك لما تعنيه ليتحدث بنبرة غريبة

"بس متقدريش تنكري.. طعمها كان حلو!" التفتت إليه بحاجبان مرتفعان في دهشة!! يا لك من وقح حقا!

"كفاية بقى سيكوباتية يا أخي.. شغل السم في العسل ده قمة السيكوباتية، ده بالظبط بيفسر مشكلتك" أخبرته ليقترب وهو يُكمل صنع ما يفلع ليرمقها بإبتسامة رغما عن أنفها كانت رائعة وبداخلها جاذبية سامة!! مثله تماما!

"على فكرة أنا بتكلم عن الأكل نفسه.. مش على الموقف.. أنا متأكد لو انتي بتشربي ومتعودة على الشرب كنتي هتلاقيها طعمها حلو! أنا عارف كويس أنا بعمل إيه.. ولا سلسلة مطاعم في إيطاليا وفرنسا وسويسرا وألمانيا وكذا بلد تانية في اوروبا، مش كفاية؟!" رمقها بطرف عينيه وهو يتابع تنظيف الدجاج لتلتفت هي بدهشة وهزت رأسها في إنكار لتصميمه الشديد على أن الفعل في حد ذاته كان موقفا في غاية التلقائية والعفوية منه! كما أن ثراءه الشديد بدأ في إدهاشها حقا..

"وأنا بتكلم على الموقف مش على الأكل" أخبرته بجدية ثم ابتعدت لتُكمل صنع ما تفعله "وابقى اشوي الفراخ علشان بحبها مشوية مع الملوخية" اضافت من على مسافة بينما كانت واقفة أمام الموقد ليومأ في تفهم "صحيح.. ازاي كل ده.. يعني.. أنت مهندس، إيه علاقة ده بسلسلة مطاعم؟" همست سائلة في استفسار لتستمع لزفرته التي تؤكد على عدم إرادته في الحديث ولكنه فاجئها بالرد 

"كان business كويس، ابتديت فيه قبل ما أخلص الكلية وكملت فيه لغاية ما كبر!" أخبرها دون التطرق لتفاصيل مساعدة كلوديا له لتومأ هي في تفكير 

"برافو.. إنك تقدر تعمل كذا حاجة في نفس الوقت وتنجح دي حاجة هايلة" 

همست في مزيد من التفكير ليبتسم هو بزهو لم تره هي ودام الصمت لقليل من الوقت بينهما كلا منهما يفعل ما يفعله في هدوء ولا يتخلل الصمت سوى تلك الأدوات التي تصدر صوتا هادئا وهما يصنعان الطعام لتُقرر فيروز إكساب نفسها المزيد من المعرفة عنه بينما هو شرد في غايته الأساسية التي أدركها منذ رؤيتها تبكي منذ ما يقارب من ساعتان ..

"وإيه كمان غير المطاعم.. شركات المباني.. أنا متأكدة إن واحد بذكاءك وحبه وشغفه لأنه يكبر وطموحه موقفش بس عند كده!" التفتت إليه بعد أن انتهت مما تفعله ثم توجهت لتجلس على واحدا من تلك الكراسي التي تحيط المنضدة الرخامية التي تتوسط المطبخ وهي تُحضر ما ينقص الطعام ليتفحصها بداكنتين ملتمعتين تأججتا بالغرور 

"استثمارات في أي حاجة ليها علاقة بمجالي عموما، يعني علشان تبني مبنى مثلا اداري او قرية سياحية او compound سكني.. بتحتاجي مواد بنا، تصاريح، نقل، عمالة.. خدمات.. كل ده أنا شغال فيه!" أخبرها لتومأ في تفهم 

"وخمسة وتلاتين سنة!! ده في حد ذاته إنجاز هايل.." أخبرته ليرمقها في اهتمام 

"لسه متمتهومش بالظبط!" أضاف لتبتسم إليه 

"من كلام جوجل هتمهم شهر حداشر!.. أنا بفتكر كويس على فكرة" عقد حاجباه وهو ينظر إليها بطرف عينيه في إعجاب، ليس إعجاب لها، ولكن إعجاب بأنها تتذكر، يبدو أن خطته معها قد نجحت!! هي تكترث في النهاية! 

أخذ يقطع الدجاج بمنتهى الحرفية وسرعة شديدة بذلك السكين لتنظر له في دهشة لاحظتها هي ولكنه تظاهر بالتركيز وبداخله استكان ذلك الجانب الملتاع لإبهار النساء به.. هي إمرأة بالنهاية، ولكنها ليست كأي إمرأة! ولكن ها هي قد بدأت في السقوط بخيوط ما نسجه منذ شهرين! شهاب الدمنهوري دائما يحصل على ما يريد، الآن نظرات وتذكرها ليوم ميلاده، ابتسامات، حديث حميمي بين أصدقاء.. ومع الوقت ستنجذب إليه بالمزيد وسيحصل على ما أراده..

لقد حقق نجاحا مُبهرا، تخلص من ذلك الفقر المدقع الذي عاش به أكثر من عشرون عاما، جعل الجميلات والمثيرات أسفله مرتعدات وطالبن بالمزيد.. أمّا ذلك العشق المخلص الذي يسيطر على المرأة ويزلزل كيانها لم يلتمسه ولم يره مثل ما رآه فيها هي.. هذا ما يريده ويبدو أنه قد قارب من الوصول إليه.. المزيد من الوقت وسيملك ما يريد!!  

بالرغم من بساطة هدفه ولكنه يدرك بطيات أعماق عقله أنه كان حلم بعيد.. كان هذا كل ما يريد يوما ما.. إمرأة مخلصه تعشقه ويعشقها ويحصلا على حياة سعيدة سوية.. لا يتخللها فقر والده ولا يشوبها خيانة والدته!! أراد حياة جديدة بعيدة كل البعد عن ما عايشه من قبل.. إمرأة تبتسم كلما نظرت إليه، تهرول نحوه كلما رآته، تعانقه في حنان.. يقرأ بعينيها مدى حاجتها له..تخبره بأنها تعشقه ليلا ونهارا دون كلل أو ملل

طموح تافه! أليس كذلك؟ طموح صغير للغاية، كأي رجل بسيط، رجل لا يشبه شهاب الدمنهوري الذي هو عليه اليوم، ولا حتى يُشبه ليوناردو بينسوليو.. ولكنه كل ما يريد، وما سعى له مرة وفشل ولكنه هذه المرة لن يعرف الفشل سبيلا إليه! وبعد كل ما عايشه وكل ما عرفه من خبرات مع النساء وكل ما علمته الحياة لن يترك ولن يتنازل عن رؤيتها تعشقه مثل ما تعشق زوجها.. بل وأكثر!

ربما بالماضي كان يريد تأسيس حياة وامتلاك زوجة وأسرة، أن يملك من تعشقه ويعشقها في المقابل، إنما الآن بكل ما يستطيع فعله وبعد كل ما حققه سيكتفي بأن يمتلك ذلك العشق وحسب.. لم يعد يريد زوجة، ولا أسرة ولا شيء سوى تملك هذا العشق الذي أيقظت تلك المرأة حاجته ورغبته به من جديد!

لقد جرب مرارة العشق مرة، ويدرك أن الأحمق من يعشق مرة ثانية.. العشق يُضعف، يُهشم، يقتل!! العشق للضعفاء وهو ليس بضعيف!

"شهاب" همست منادية ليفق من شروده وهمهم إليها مجيبا واستيقظ من أحلام اليقظة خاصته ليُعايش حلما آخر بنظره لتلك الملامح الجميلة البسيطة الدافئة، تلك الإبتسامة التي تُشكل مع وجنتيها وشفتيها لوحة رائعة شعر أنه تُسكن العديد من الآلام به.. مؤقتا!! هو بدأ في إدراك أن هذه المرأة تجعل حوله بوتقة من الكمال والبساطة والتلقائية أعجبه الحياة بداخلها ولو للحظات بعيدا عن أي شيء آخر!

"سرحت أوي في إيه كده؟" سألته بتلقائية بعد أن نهضت واتجهت للموقد مرة اخرى لتتابع باقي صُنع الطعام "أنا خلاص تقريبا خلصت.. وجعانة.. انجز" أخبرته بينما سلطت تركيزها على ما أمامها ليبتسم في راحة ثم أقترب منها ليستخدم الموقد هو الآخر ولم يتوقف عن سرقة النظرات إليها واستكمل كلا منهما ما يفعله في صمت!!

"عجبتك؟" سألته عندما تذوق الطعام ليومأ لها بالموافقة وهو لا يُصدق أنه سيتبع ذلك الأسلوب الرومانسي الركيك الذي يتبعه الرجال

"تسلم ايديكي، حلوة أوي" أخبرها بإبتسامة خادعة رائعة، وجذابة للغاية! ليكمل كلا منهما تناول الطعام..

"أنا عايزة أكلمك عن السيكوباتية شوية! بس متقلقش الموضوع كله ممكن يكون بسيط لو فهمت كلامي" غيرت مجرى الحديث بعد أن حمحمت وهي تحاول ألا تنجذب لذلك الوجه المُخادع ليعقد هو حاجباه ورآت انزعاجا طفيفا بداكنتيه وتحولت حدقتيه من الهدوء والسكون إلي تلك الحدقتان التي لا يمتاز بهم سوى الصقر مهيب الملامح! 

"بص يا شهاب، أي اضطراب نفسي كله بيتوقف على تفكيرك، استجابتك وطريقة تصرفك! والعلاج طبعا!" المزيد من السأم ظهر على ملامحه ولكنها لن تتوقف فهي لا تدري إلي متى سيظل في ذلك المزاج الرائق، لن تأمن مكره أبدا!

"يعني أنا مثلا بعاني من اكتئاب" تابعت بتنهيدة عميقة ولكنها لم تتوقف لإظهار ما تشعر به حقا على ملامحها "لو فضلت استجيب للعزلة، للتفكير في ماهر بالشكل المبالغ فيه، وشعور إني دايما مش عايزة آكل، ولا عايزة اتكلم مع حد ولا اختلط بالناس.. كل ده هيأثر بالسلب.. وعمري ما هتعالج!! كنت ممكن أقول لا مش هاخد أدوية، وكنت ممكن مثلا يوصل بيا التفكير للإنتحار! ففكرت، واستجبت للعلاج، واتصرفت على الأساس ده.." 

رمقها بإستغراب وهو لا يدري ما الذي تريد أن تصل إليه وتناولت هي شهيقا ثم زفرته وتحولت ملامحها من الحزن لتكون ملامح تلقائية عفوية وما كانت سوى محاولة منها لإستجماع شجاعتها 

"أنت لو عملت زيي، الموضوع هيكون أسهل بكتير.. لأني مظنش أنا ذكية زيك" عقد حاجباه في مزيد من التساؤل لتهز احدى كتفيها وابتسمت له "خلينا نكون واقعيين.. أنت شاطر جدا في شغلك، تصميماتك بهرتني بصراحة.. ولغاية دلوقتي كل اللي أعرفه عنك إنك ملكش اصحاب ومش قريب من حد.. درست بره.. جيت وحققت كل ده!" نظرت حولها لتشير على منزله بنظرات من عينتيها وتابعت بنبرة هادئة 

"ما كتير بيدرسوا بره، وكتير ملهومش حد.. بس محدش بيقدر يحقق النجاح ده كله.. لازم حد يكون ذكي جدا، حد قوي.. مش محتاج غير نفسه.. علشان كده الموضوع بالنسبالك هيكون سهل جدا، هتقدر بمنتهى السهولة تتغلب عليه.." ابتسمت إليه بإقتضاب ليزفر لتتابع هي تناول طعامها ليتذكر كلماتها بأكملها 

"بس انتي بتاكلي اهو! ده معناه إنك خلاص.. كويسة" لا تدري أكانت تلك نبرة استفهامية أم إخبارية لتبتلع طعامها وابتسمت ليلعن نفسه ألف مرة.. تلك المرأة قد أوقعت بكل رغباته المنيعة في امتلاك إمرأة!!

"ممكن يكون علاج وتفكيري صح.. وممكن أكون كويسة دلوقتي علشان معايا حد.. صاحبي.. ومبسوطين" لانت ابتسامتها بينما توقف هو عن تناول الطعام ونظر إليها مطولا في استمتاع غريب لم يشعر به أبدا "هو كل اللي محتاجينه إيه في حياتنا غير شخص يساعدك ويحبك ويقبلك زي ما أنت؟ يقبلك سواء كنت مكتئب بقى ولا سيكوباتي، يطبطب عليك، يحضنك!! يقولك إن كل حاجة هتكون كويسة!"

حدقت به بعينتيها اللتين سأم من تحديد لونهما ولكنها الآن بدت عسلية، ذهبت تلك الرمادية بها وتركته أمام بحرا من عسل صافٍ لم يره بأي وجه من قبل

"ونوعا ما لما اتكلمت معاك، ضحكنا، خلصنا المشاكل دي.. أنا بقيت أحسن" ابتسمت إليه ليبادلها الإبتسامة ثم اختلفت ملامحه ولأول مرة ترى ملامح شهاب العابثة في مزاح 

"بس أنا لا حضنت ولا طبطبت!" رغما عنها قهقهت ضاحكة وهي تنظر إليه بعدم تصديق لتدوي ضحكتها حولهما وكم كان الأمر من أسعد ما مر عليه يوما ما!

"أنت لازم تبطل كلامك وتلميحاتك دي.. مش هاتنفع معايا صدقني" أخبرته بإبتسامة متبقية من أثر ضحكتها 

"أنا كنت عايز أساعد يعني مش أكتر وأكمل دوري على أكمل وجه" أخبرها مازحا لتنهض هي وأمسكت بطبقها 

"لا تمام.. هاديك أوسكار احسن صاحب.. من غير أحضان.. الموضوع سهل جدا اهو" أومأ إليها مضيقا عيناه بنظرة ماكرة "هتاكل تاني؟" سألته ليومأ بالإنكار 

"لا كده تمام" زفر وهو يرمق طبقه 

"تقيلة مش كده؟" أومأ إليها بالموافقة 

"تقيلة كتير!" حدثها لتبتسم هي ومازحته 

"البشمهندس شهاب الدمنهوري مش قد التوم بتاعنا ولا إيه؟" ابتسم إليها بينما لم يقل شيئا "قوم يالا شيل معايا الأكل" أخبرته ليفعل بينما وضعا الصحون في غسالة الأطباق وبالرغم من أنه لا يحبذ فعل تلك الأشياء المنزلية ولكن هذه المرة مختلفة، مع إمرأة مختلفة.. ووضعا مختلف للغاية عن كل ما سبق! 

انتهت بينما شعرت هي الأخرى بأنها تناولت الكثير من الطعام أكثر مما ينبغي لتضع يدها على معدتها بقليل من الضيق من تلك التخمة التي أصابتها وتوجهت لتتناول احدى قنينات المياة وروت عطشها بينما لم يُسهل هذا الأمر لتشعر بالغباء لتناولها مثل هذا الطعام في هذا الوقت من الليل ثم نظرت إليه بعسليتين مقترحتين 

"تتمشى شوية؟" توجهت إليه بنبرة سائلة ليومأ هو لها بالموافقة فتوجها سويا للخارج وما إن مرا بالقرب من غرفة مكتبه تركها شهاب ليذهب لسكب كأسا من النبيذ بينما تابعته هي بعينتيها ورأى ملامح الإستنكار من فعلته على وجهها ليقطب جبينه ونظر لها بتساؤل 

"أنت حر" رفعت يدها بإستسلام "كوني صاحبتك، أو حتى معالجتك ميخلنيش أحكم عليك.. أنا بس" حمحمت ثم زفرت في إرهاق ليتناول هو كأسه ثم أكملا طريقهما ليتحدث هو بدلا منها عندما أدرك أنها لا تجد ما تقوله وظهر صعوبة ذلك على ملامحها

"فيروز، المسلمة المحترمة مش قادرة تقبل واحد بيشـ.."

"لا لا لأ! مش كده.." قاطعته وهي تشير بيدها لتوقفه فهي ليست في حاجة لشعوره بالنفور منها وخاصة بعد أن بدأ يتصرف معها بطريقة مختلفة

"خايفة اسكر واتحرش بيكي مثلا؟" أخبرها في طريقهما نحو الشاطئ لتومأ هي بالإنكار "متقلقيش، كاس واتنين وتلاتة عادي.. ابتدي اقلقي بعد ما أخلص نص ازازة" أضاف لتقطب جبينها في إندهاش 

"تعرف.. أنت ليك مطلق الحرية تعمل اللي أنت عايزه.. ما دام مبيضرش حد.. وعلى فكرة ده كلامي ليك كصاحبتك.. دايما يا شهاب ما دام مبنضرش حد ولا بنضر نفسنا أنا شايفة من وجهة نظري إن كل واحد من حقه يعمل اللي عايزه" ابتسمت بإقتضاب بينما تناول هو رشفة من كأسه 

"والموضوع ملهوش علاقة بإني مسلمة ولا لأ! ولا بالإحترام.. هي الفكرة إنك لو بتشرب على المدى الطويل ده هيأثر عليك.. أنت حر طبعا.. بس أنا ضد أي حاجة تأثر عليا أنا شخصيا.. يعني سواء شُرب، مخدرات، سجاير، أي عادة سيئة أنا ضدها.. وأنا الناس اللي يفرقوا معايا بعاملهم زي ما بعامل نفسي.. اللي بحبه بحبه ليهم واللي بكرهه لنفسي بكرهه ليهم! يعني مثلا كان فيه واحد صاحبي عنده مشاكل مع مراته.. روحت وحاولت اهدي الدنيا ما بينهم وصالحتهم على بعض، لو ده كان حصللي أنا وماهر أكيد مكنتش هاحبه ليا أبدا.. وكونك بتشرب أنا استحالة ارضالك بكده.. يمكن كل واحد ليه وجهة نظر وحرية الإختيار بس اللي مرضهوش لنفسي مرضهوش لغيري!" 

"ده معناه إني فارق معاكي؟" سألها لتلتفت له وتوقفت عن السير ونظرت إليه بإبتسامة لم يحصل عليها أبدا من إمرأة سواها 

"طبعا فارق! مش صاحبي!!" أخبرته بعد لحظات من الصمت لتجد ملامحه تختلف ليقطب جبينه ثم أذهلها بإبتسامة رائعة متنهدا بعمق ثم فعل ما لم تعتقد أبدا أن شهاب الدمنهوري في خلال فترة قصيرة للغاية قد يفعله!

"ابقي فكريني ارمي الأزايز!" توسعت ابتسامتها عندما ألقى بالكأس بعيدا في تلك المياة وسيطرت الدهشة على ملامحها ليلتفت إليها محدقا بملامحها بإبتسامة مقتضبة ثم ذهب ليجلس أرضا مثلما فعلت هي منذ ساعات 

"أول حاجة تقريبا أوافقك عليها.. شكلنا كده هنبدأ نتفق" جلست بجانبه مبتسمة وحدقت بمياة الليل المُظلمة التي تلاطمت أمواجها بعنف نظرا لكون البدر ساطعا للغاية هذه الليلة وبالرغم من شدة الهواء ولكنها كانت مستمتعة بتلك الرائحة الساحرة وصوت الأمواج الذي بعث الراحة والسكينة بوجدانها!

"بما إننا هنبدأ نوافق بعض على حاجات.. أنا معرفش حاجات كتيرة عنك.. ومجربتش أكون قريب من حد.. وكده كده انتي هتعرفي حاجات كتيرة عني.. وأظن بما أننا اصحاب ده يخليني أطلب منك إنك تحكيلي كل حاجة عنك!" أخبرها لتلتفت إليه بعد أن استمعت لنبرته المُرحبة بتناول أطراف الحديث لتتنهد هي ورطبت شفتيها وبدأت بالحديث 

"يعني.. فيروز شخصية عادية جدا.. بيت هادي، أب وأم بيحبوا بعض أوي.. عندهم بنتين، هوايتهم يسخفوا على بعض طول الوقت.. هزار طبعا.. بس في الآخر دايما بنوقف في ضهر بعض.. مدرسة، قولتلك إن بابا كان في السعودية وجيت هنا ودخلت المدرسة متأخر شوية.. اصحاب كتير، دوشة وجيران وقرايب.. دخلت الثانوي.. وبدأت من ساعتها أتأكد إني بحب ماهر!" حمحمت بإبتسامة بها القليل من الحزن ولكن ها هو قد وصل لما أراده 

"كنت فاكرة إنه مجرد إعجاب مراهقة بإبن الجيران، والإعجاب فضل يكبر.. ثانوي كله كنت" توسعت ابتسامتها ليشعر هو بالإنزعاج والغضب بالرغم من تلك الإبتسامة المرتسمة على شفتاه 

"كنت مجنونة بيه.. البدلة، هدوم الجيش.. الجيم!! الضحكة.. الرومانسية!" تنهدت كمن تتذكر العديد من الذكريات التي تبدو سعيدة "وفي أولى جامعة.. قبل الإمتحانات.. جالي وقالي كفايانا استعباط.. واتخطبنا بعد الإمتحانات وبعد سنة تانية كنا متجوزين!" أخبرته بإبتسامة أخرى ليعقد حاجباه في تساؤل

"كنتي متجوزة وانتي بتدرسي؟" أومأت له بالموافقة

"أيوة.. وكان بيساعدني كتير، ولا كأنه كان بيدرس معايا.. كان بينا تفاهم رهيب.. وحتى لما فكرت أعمل الدبلومة في اسبانيا اكتر واحد شجعني.. حتى هو اللي دفع فلوسها!!" شردت بالمياة بملامح سعيدة للغاية ليزداد الحقد بداخله 

"لما عرف إني مهتمة بعلم النفس الجنائي بجانب الإكلينيكي.. مرفضش، خالص! بالعكس، ساعدني هو ومعاذ ازاي اتصرف مع المجرمين.. وساعدني في تمارين الكونج فو اللي بابا صمم عليها.. ولما الحمل كان دايما مبيثبتش، لفينا لفة كبيرة اوي على الدكاترة لغاية ما قررت إني مش هاكمل معاه" اعترى نبرتها الآلم ليتابعها في صمت 

"بس ساعتها قالي بالحرف استحالة أسيبك! حتى لو لقيت نسخة تانية من فيروز بس معندهاش مشاكل في الحمل، بنفس الملامح ونفس الحب اللي ما بيننا وبنفس كل حاجة استحالة اسيبك" ابتسمت بمرارة وتابعت 

"حياتنا كانت حلوة اوي، كان نفسي دايما يكون معايا بس شغله كان بيغيب فيه كتير.. ويوم ما عرفت إن الحمل عدا شهر ونص كنت هاعمل فرح تقريبا.." هنا اختلفت ملامحها "لغاية ما عرفت وجالي الخبر بعد سفره.. وكل حاجة اتغيرت" تنهدت في آلم ليمنع هو يده عن تلمسها بصعوبة 

"طبعا فيه هبة.. هبة المجنونة دي.. مصيبة.. بس بموت فيها!!" غيرت مجرى الحديث لينزعج شهاب "وهاشم ده مشكلة.. حد بيور اوي، طيب وجدع زي هبة بس بجد احسن شخصية ممكن تقابلها في حياتك!" تابعت وعادت للشرود مرة أخرى بالمياة أمامها ثم مررت يديها على كتفيها وضمت قدميها لصدرها 

"الجو برد مش كده!" تحدث بنبرته الهادئة العميقة لتومأ هي دون أن تنظر إليه "تحبي ندخل جوا؟"

"هي الساعة كام؟" سألته ليرمق ساعة يده 

"قربت على اتنين" قطبت جبينها في اندهاش ثم نهضت ليتبعها ناهضا

"كفاية كده لازم ننام، احنا مسافرين بكرة مش كده؟ هنروح الجونة تقريبا؟" سألته ليومأ لها بالموافقة مهمهما وقد بدأت نبرته العميقة تُلفت نظرها بشكل غريب ولكنها سألته مجددا بينما تابعا الطريق للداخل "هنتحرك الساعة كام؟" 

"براحتنا.. المؤتمر هيبدأ على ستة ونص بليل" أومأت له في تفهم 

"ماشي.. تصبح على خير!" أخبرته بملامح تلقائية وابتسامة مقتضبة 

"وانتِ من أهله" ابتسم لها تلك الإبتسامة المخادعة التي تذهل أعين النساء بينما لم تلتفت للأمر

"نام بدري يا شهاب.. بلاش قهوة وبلاش تسهر! حاول!" حدثته ثم التفتت لتتركه "بكرة عندنا يوم طويل" أضافت وهي تصيح من على مسافة ليتابعها بداكنتيه بنصف إبتسامة غير مدركة لما تعنيه حتى غابت عن أنظاره..

توجه لغرفة مكتبه ليجلس أمام حاسوبه وهو يتفقد بعضا من البريد الوارد ورد على البعض الآخر وتفقد آخر المستجدات بما يتعلق بأمور العمل وما إن كان لديه أية اجتماعات غدا وكأنه لم يمر عليه يوما غريب مع تلك المرأة وكأنها لا تمكث بمنزله ولكن لم يدم هذا سوى لنصف ساعة فقط؛ وأجبره عقله على الشرود بكل تفاصيل اليوم!

لا إراديا تحول جسده لوضع مريح في كرسيه، سبابته تمر أسفل شفته السفلى، حادتان الصقر بين أهدابه تحولتا لحدقتان شاردتان في عينيها ذات اللون غير المعلوم، في شعرها الذي كلما تطاير أمامه اليوم آلمه وأثار بداخله الغضب اللعين الذي لا ينتهي.. نبرتها الغريبة التي تتحول من الهدوء للضعف والإنكسار ثم لنبرة أخرى مرحه، ملامحها الحزينة وضحكتها وابتسامتها التي تجبره على الشعور بالسعادة، ووجنتيها عندما تبتسم.. وتلك الشفتان الورديتان! مزعجتان للغاية! الأمر أشبه بتعذيب احدى الضحايا لدفعها على التحدث دون إرتكاب هذا الشيء! 

زفر في إستسلام وأوصد عيناه وأعاد رأسه لتستقر خلفه بكرسيه، يكفي هذا العذاب ويكفي ذلك الإنكار.. هو يُريد تلك المرأة وقد تملكت من إعجابه منذ الوهلة الأولى.. هو يريد ذلك العشق الذي تكنه لزوجها، يريد ذلك البريق بعينيها كلما تحدثت عن زوجها، يريد ذلك العشق له هو.. لقد حقق كل شيء، كل ما تمناه.. سوى أن تعشقه إمرأة بإخلاص! 

لم يكن تهورا منه أن يستسلم أمامها ليجعلها تُصدق أنه تقبل أمر المرض النفسي، لم يكن سوى استسلام زائف كي يُحقق ما يريد.. ولو حتى كان استسلاما بنظرها فهو سيجعلها تظن أنه استسلم، سيجاريها بأي شيء، حتى يحصل على تلك الملامح والبكاء والخوف والتشتت وزلزلة كيانها لأجله، له هو فقط.. مثل ما رآها منذ ساعات!

ربما كان التظاهر بمرضه والشروع في علاقة صداقة حقيقية كان ما يجب عليه فعله منذ البداية.. كان ليحصل عليها بمنتهى السهولة، ربما سول له عقله أنها مثل بقية النساء لأنه لم يُجرب الأمر.. لماذا لم يعترف لنفسه بتجدد تلك الغاية القديمة بداخله، كان يريد كل شيء خالف حياته القديمة.. ثراء، شهرة، وإمرأة تعشقه ويعشقها.. 

يعرف أنه لن يعيد الأمر ولن يبدد مشاعره ليضعها بيد إمرأة لتملكه وتضعفه وتعري روحه حتى يُصبح كالدمية بيدها ذليلا منكسرا.. 

العشق ضعف، جنون، خوف وإنكسار.. لن أغامر بالشعور بهذا مرة أخرى!!

الأمر الآن قد أختلف، أدرك ما يريد وتجدد ذلك الحلم القديم بداخله، هو يريد عشقها وسيحصل عليه بأي ثمن كان، يريد المرأة التي تبكي وتصرخ وتتألم ما إن ابتعد عنها، يريد فيروز!! يريد عشقها لزوجها أن يصبح ملكه، بين يديه.. يريده وبشدة!

فتح عينيه ورمق الساعة التي قاربت من الرابعة لينهض زافرا في تفكير وتوجه لغرفته وكلماتها لم تغادر عقله.. "بكرة عندنا يوم طويل"

سيكون طويلا للغاية، سيعلم وسيتأكد من المزيد من نيتها، سيستمتع وسيبدأ في محاولات الحصول على عشقها.. يريد الأمر برمته له وكما يدرك جيدا.. كل ما يريده يُصبح ملكه، ولو بعد حين!! أصدقاء ليوما، أسبوعا وحتى لو شهرين مثل تلك الأيام المنصرمة.. بعدها، ستكون ملكه بالتأكيد!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

اليوم كان مرهقا للغاية وبالرغم من ذلك لا تتمكن من النوم، تلك الأوجه التي لا تكف عن إبداء الشفقة تجاهها.. الأمر ممتع.. ممتع لو كان يظهر من الجميع.. ولكنها لم تحصل بعد على رؤية أي مشاعر منه.. ولو حتى زائفة! 

"بكرة يا سليم هاجيبك لغاية عندي.. الصبر!" تمتمت بداخلها وشردت في لقاءه اليوم، لقد آتى بالنهاية، بالرغم من ذلك الحديث الذي لم يُسفر عن أي شيء ولكنه قد آتى، وسيأتي.. مرارا وتكرارا! 

ما البداية سوى درج من سُلمات العادة.. وإلي ذلك الحين سيعتاد على رؤيتها! 

لديها الكثير لفعله! الأمر لن يكون هينا خاصة معه، سليم لطالما كان ذكي، لديه فراسة في التعامل مع الجميع، لقد رآت ذلك بأم عينيها وعاشته معه في كل ما يتعلق بالعمل.. ولكن بالنساء؛ لم يحدث أبدا..

أوصدت عينيها في استمتاع وهي تستحضر ملامحه أمام عينيها، تلك الملامح الجذابة، والإبتسامة الرائعة، نبرته الدافئة، صوت ضحكته.. ولكن ماذا لو تحول كل هذا لملامح حزينة، ملامح من تعرض لخيانة من يُحبها؟! سيكون الأمر في غاية المنطقية وقتها أن ينظر سليم لتلك التي عشقته دون خيانة.. ولكن كيف ستفعلها؟!

زفرت في إرهاق من كثرة التفكير وهي تشعر بالعجز والشلل، كيف لأروى ألا تستطيع أن تتصرف في أمر تريده بشدة.. لن تتقبل هذا أبدا!

جذبت هاتفها لتجد أن النهار قارب على الإنبثاق، لن تستطيع أن تتحدث لتلك المرأة سارة في مثل هذا الوقت.. ربما غدا بالصباح ستهاتفها، تلك المرأة الجشعة لا تشعر بأنها سهلة.. آتت لتتظاهر بخوفها على ابنها ولكنها كادت أن تقترب من التأكد أن تلك المرأة لا تكترث سوى بالمال فحسب! 

كلما تحدثت إليها تأكدت من ذلك الأمر، كلما استمعت إليها شعرت بلهاثها خلف الأموال!! ذلك النوع من الأشخاص قد يفعل أي شيء في سبيل الحصول على المال! سارة ليست بهينة أبدا.. 

شعرت بالمزيد من الحيرة والملل من عدم إنهاءها لأمر شهاب سريعا فهذا ما لم تكن تتوقعه، لماذا الأمر صعبا للغاية هكذا، ولكنها لن تتركه ليُفلت مما فعله بها.. ولكن كيف تنتقم دون شعوره بأنها هي من خلف كل ذلك؟

مطت شفتاها وهي تبحث عن آخر أخباره في احدى المواقع لتلتوي شفتاها في سخرية، المغتصب، تاجر السلاح يروج لمشفى خيري!! غريب.. يا له من مجتمع جاهل يُصدق كل شيء!

وضعت هاتفها جانبا لتُعيد حساباتها مرة أخرى وتحرقت شوقا لتُنهي هذا الأمر أيا كان الثمن!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

لماذا عليه أن يستيقظ بتمام السادسة صباحا وهو رجل أعمال متزوج ممن يعشقها وليس لديه أية مشاكل بالحياة سوى الكريه شهاب! 

زفر في حنق وهو يشعر وكأنما لم ينم منذ الأساس ثم نظر لزينة التي تتوسد صدره وتجدد بداخله ذلك الخوف من أن يضرها شهاب بأي شكل من الأشكال.. وقتها لن يُسامح نفسه!! 

خلل خصلات شعره في تفكير، لو فقط يستطيع الحفاظ على تلك المرأة بقوقعة سيفعلها، ولكن هذا ليس هو من يريد أن يراها حزينة، يريد أن يرى ابتسامتها المشرقة وزرقاويتيها سعيدتان إلي المالانهاية.. لو أجبرها على ألا تغادر المنزل والتواجد مع بدر الدين ونورسين وسيدرا لن يكون الحل!

ستحدثه عن العمل، عن والدتها، عن إصطحابها للخارج، واللعنة على تلك البغيضة أروى! كان الأمر أشبه بمحاكاة أفعى متمثلة في صورة بشرية! لا يُصدق أنه سيبدأ في رؤيتها والتعامل معها! 

زفر مجددا ثم عاد عقله ليتذكر جسدها المُلقى على الأرض، لقد كانت في عكس اتجاه الكرسي.. كيف فعلتها؟! أيُمكن أنها حاولت مثلا التشبث بالكرسي فانزلق جسدها؟ يُمكن.. لا يدري! 

"هي الساعة كام كده.. أنت هتروح الشركة دلوقتي؟" همست زينة بنعاس شديد ويبدو أن تحركه أزعجها ليقترب مُقبلا جبينها 

"لا يا حبيبتي، الساعة ستة ونص.. نامي يا زوزا" 

"طيب احضني ونام انت كمان ساعتين" أخبرته هامسة لتتشبث به أكثر وقد فعل المثل "أنا عايزة أنام" همست مجددا ليبتسم لرؤية ملامحها البريئة النائمة 

"حاضر يا حبيبتي" همس ثم قبلها على شفتيها قبلة هادئة شعر خلالها بقلبها لشفتيها بطريقة تلقائية لتتوسع ابتسامته وضمها إليه أكثر في عشق متناسيا كل ما برأسه، فلقد أصبح حلمه الوحيد بالحياة حقيقي بإمتلاكها بين ذراعاه!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

بعد مرور يوم.. الثانية عشر صباحا..

رمقت تلك المياة الهادئة بملامح يبدو عليها الراحة وهي تتنفس بهدوء شديد في استمتاع لرؤية تلك المياة أمامها بالرغم من ظلمتها ولكنها لا تعشق في الحياة مثل تلك الأجواء ونسيم البحر المفعم برائحة تُسكن من آلام روحها.. لن تُنكر أنها سعيدة للغاية، كل شيء أصبح على ما يُرام في غضون يوما وليلة..

هي لا تأمن مكره، لا تصدقه بالكامل، ولكن هناك استجابة، هناك استجابة خفية، هي تلمس ذلك.. 

الآن يتبع الحدود، يبتسم ويضحك، يتحدث ولو حتى بتفاصيل غير كاملة ولا يُكمل أيا من احاديثه، ولكنها قد لمست الحقيقة بين خداعه.. 

لمست ذلك الجموح الطفولي به، تلك السرعة الشديدة التي يقود بها سيارته كالطفل الممتلئ بالسعادة والفرح بدميته.. ذلك المرح أين كان يُخفيه؟ ذلك المتهور الشقي كمراهق كيف أستطاع التظاهر بعكسه لمدة شهران كاملان؟ وحقا هل توقف عن تناول الخمر لإبداءها أنها تكترث إليه؟!

ألاحظت أنها تبتسم وهي تفكر بأمره؟ أشعرت بتفلت أكثر من ساعتان وعقلها يتمعن في تفاصيله؟ ألم تدرك أن نبرته الرجولية الجلية الواثقة العميقة تدوي بعقلها كلما تذكرت جملة من أحاديثه؟ ألم يأتِ بعقلها تلك الأوجه الجذابة والقناع المزيف الذي يرسمه كرسام مبدع كلما تحدث للصحافة أو لشخص غريب لا يعرفه؟ 

سقطت في تفاصيله دون دراية.. وقعت في كل ما يتعلق به دون دراية.. براثن ذلك المخادع عمت ثنايا عقلها.. ولم تدري هي بعد..

توجهت للداخل حتى تنم، جذبت الغطاء على جسدها، تعلم أنها خاطرت كثيرا بالبوح ليلة أمس بضعفها أمامه، لقد صممت على أن تتبع معه طرق جديدة كالتعارف.. أصدقاء من جديد.. دعم.. هدوء ثم الهدوء.. إظهار واتباع عدم التطفل الشديد وعدم إظهار اللهفة، عليها أن تدعم موقفها بأسباب في منتهى المنطقية مثل أن تثني على ذكاءه، ثراءه، قدرته على فعل أي شيء! 

لقد نفذت هذا وآتى بثماره، ولكن يبدو أن تعبيرها عن حاجتها الشديدة له كصديق كانت حقيقية أكثر مما ينبغي، إنهيارها أمامه ليس ما كانت تخطط له وبالرغم من ذلك فقد شعرت بالراحة لأنها حقا لا تخادعه بهذا الأمر، تكره الخداع، وتكره المخادعين.. ولكن هو أكبر مخادع رآته يوما ما.. هذه الحقيقة!! وستغيرها، ستغيرها بمرور الأيام!

هي حقا تحتاج لصديق، تحتاج أن تعيش حياة جديدة، رويدا رويدا قد تعود حياتها للهدوء.. والاستمرار الطبيعي.. حتى ولو كان شهاب سيمثل لها الصديق! مخادع، يعذب النساء، وغد سيكوباتي ولكنها تشعر بالأمل، سيتغير على يدها.. ووقتها تقبله كصديق دون الحكم عليه، فيروز التي لا تعرف أكثر منها بالحياة لا تحكم على شخص وأكبر داعم للفرصة الثانية بهذه الحياة المريضة! سيكون أفضل.. ربما غد، أو بعد غد.. أو بعد شهور.. ستغيره، هو يستجيب ولو بقدر ضئيل.. سترى ما عليها فعله بالغد، ليس هناك سفرا ولا مؤتمرات بأوجه مزيفة وملابس غريبة.. غدا إذن! عليها الإستجابة بتلك الرغبة المُلحة للنوم الذي يلح على جفنيها منذ وقت ليس بقليل..

بم سيخبرها إن استيقظت الآن؟ حديثها عن الحدود ووضع الحدود اللعينة وأنه صديق يهتم بما قد يُغضبها وبما لا تتقبله، كيف سيواجه كل ذلك؟ كيف سيجد مبررا لتواجده بغرفتها في الخامسة صباحا أثناء نومها وهو يتطلع بوجهها الذي بدأ في إزعاجه أكثر من أي وقت مضى؟!

ألهذا لطريقتها معه اليوم؟ إهتمامها وإكتراثها الذي بدأ في التأكد من أنه حقيقي ربما دفعاه لذلك.. نعم لقد تعلق بغادة ولم تبد ولو ربع ذلك الإهتما وتلك اللعينة كلوديا التي عشقته حد الثمالة ولكن دون إهمال أن مصلحتها تأتي دائما قبل كل شيء.. فيروز!! اللعنة عليها وعلى تلك البراءة بداخلها!

فقط إن فتحت تلك العينتين منعدمتين اللون ستراه وهو يُحدق بتفاصيلها وملامحها الرائعة النائمة.. ولكنه لا يستطيع التوقف، هو يريد تلك المرأة أن تستيقظ لتخبره أنه أفضل رجل على تلك الأرض، أفضل من زوجها وتعشقه عشقا لن يكفي إذا وزع على أهل الأرض جميعا..

ابتلع وهو يقترب منها لينظر للمزيد من تفاصيلها، حتى وهي نائمة تجذبه بطريقة شديدة لا يستطيع التخلص منها، متى ستكون له؟ وكيف؟ كصديق فقط؟! لا يدري ولكنه يريدها أن تتغير في غضون ثوانٍ لتقر إليه بأنها تعشقه! كم أن شفتاها أسوأ من عينتيها، خاصة وهي متفرقة هكذا وتمر خلالها تلك الأنفاس المنتظمة! لو تُصبح شفتيه بدلا من تلك الأنفاس تعبر خلال شفتيها وهو يرى ملامحها تصرخ بأن ذلك كل ما تحتاج إليه سيشعر وكأنما ملك كل ما حلم به يوما ما!

لم يلاحظ حمحمته وأنفاسه التي تثاقلت وداكنتيه التي لمعتا في ظلام الغرفة وبصيص الضوء المنعكس من الشرفة التابعة لتلك الغرفة التي تمكث بها فيروز.. ولم يلاحظ تلك العينتين التي نظرت له في استغراب من ملامحه..

"شهاب، أنت ازاي تـ.."

"أنا محتاج اتكلم معاكي.. محتاج احكيلك حاجات كتيرة.. معرفتش أنام" قاطعها مسرعا، أليست هي معالجته؟ فليرى هل ستعود تلك المرأة التي تحافظ على الحدود ستدعمه أم ستثرثر مجددا بعدم تقبلها لشخصه وما هو عليه..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

#يُتبع . . . 


شكر خاص لموني أحمد على غلاف الرواية