الفصل الحادي والأربعون - شهاب قاتم
- الفصل الحادي والأربعون -
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
~ الإنسان يستطيع أن يكون متعدد الأوجه في الحياة!
(الشيطان والآنسة بريم - باولو كويلو)
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
الثلاثون من أكتوبر 2019 .. الثانية عشرة والنصف صباحًا..
منذ ليلة العزاء وهي لا تصدق إعترافه الذي ألقاه أمامها ولم يدافع عن نفسه ولو بكلمة واحدة، لم يهرول خلفها ليشرح لها ما الذي حدث، ولم يهاتفها ولو مرة واحدة فقط..
أكان كل ذلك الوقت يدعي؟ هي تعلم بحقيقة السيكوباتي، لا يجب تصديقه أبدًا، ولكنها وقعت في فخ العلاج وسأكون أفضل.. ماذا عن كل ما رآته؟ بكاءه، إعترافاته العديدة؛ ما كان كل ذلك؟
أن يعترف لها بإنتهاكه وبعشقه لوالدته ووحدته، أيُمكن أن يكون كاذبًا ليكسب تعاطفها فقط؟ لقد شعرت بأن كل هذا كان حقيقي، بل كل ما فعله كان حقيقي.. لقد كان يُصلي أمامها، يهتم بأخيه الأصغر، يتناول الدواء أمامها، لقد ذهب لوالدته معها وأسفل عينيها، لقد استمعت لأخيه وهو يُخبرها بأنه عرض عليه العمل، سيبدأ معه من الغد، وكذلك أخبره هو ووالدته أن يأتيا ليعشوا سويًا بمنزله.. أكل ذلك زائف؟! يستحيل..
ما سبب سكوته الغريب؟ ما كل ذلك الصمت الذي لم تعتاده منه أبدًا؟ لقد ظنت أن هذه مجرد نوبة غضب وسيتوسلها لينتهي الأمر مثل ما يحدث كل مرة، ولكن لماذا هذه المرة الأمر بات غريبًا غير المعتاد بينهما؟
الإنسان قد تسول له نفسه ويفعل العديد من المصائب، قد يرتكب جرائم عدة، ولكن عندما يتعلق الأمر بالعائلة قد ترق القلوب قليلًا، كيف سولت له نفسه أن يغتصب ابنة عمه؟ كيف فعلها؟
التوت شفتاها في مرارة وهي تُفكر.. ما الذي يجعل "شهاب الدمنهوري" مختلفًا بما فعله عن رجل آخر أكل أموال أخواته النساء بصعيد مصر؟ أو آخر أغتصب أخته؟ أو رجل استولى بخبث على أموال أهله بأكملها؟ الحياة مليئة بالمصائب اللانهائية التي لا تُعد ولا تحصى.. لماذا تأتي الآن لتنفعل وتغضب وتمتلئ بالكراهية تجاه ذلك الأمر؟ ليس أول مرة تسمع عن ذلك على كل حال..
لقد فسدت، أصبحت حطام معالجة نفسية منذ يوم رحيل "ماهر" لن تنكر هذا خصوصًا بعد أن تأكدت من مدى تعاطفها مع حالة "شهاب".. فجأة نظرت له كواحدًا تعرفه منذ سنوات وتود أن تحاسبه على ما فعله بإبنة عمه..
تشعر بالخوف ما إن طالت تلك الحالة معها، ما إن شعرت بالتعاطف مع المزيد من الحالات وليس هو فقط.. وقتها لن تكون مسيرتها العملية بخير وستفشل، ومجرد فكرة الفشل غير مقبولة بالنسبة إليها..
زفرت وهي تُصدق بداخلها بأن كل ذلك الغضب والإنزعاج مجرد ردة فعل طبيعية بسبب سماحها لنفسها بأن تتدخل أكثر من اللازم في حياته الشخصية، أخوته.. والدته.. عمله وعاداته ومنازله التي لا تعد ولا تحصى.. كان يجب عليها أن تحافظ على الحدود منذ البداية! لقد فسد الأمر بأكمله.. لم يكن عليها الموافقة أبدًا..
حسنًا.. لتنتهي صفحة "شهاب" المرضية من حياتها بأكملها، ولن يبقى سوى أخٍ لـ "هاشم" و "هبة"؛ وربما صديق بعيد، لن تسمح بالمزيد وإلا الأمر لن يكون جيدًا على كل منهما!
حتى لو أعطاها بعض التفسيرات، حتى لو تحدث لها، ستحاول وقتها أن تتغلب على تعاطفها وشفقتها وتلك الحالة الغريبة من الشتات التي تحيط بها كلما تعلق الأمر به.. هي فقط لا تدري كيف ستفعلها وكلماته المقنعة للغاية لا تتركها إلا بسكينة وهدوء في انتظار سماع المزيد منه!!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
ارتسمت على شفتاه ابتسامة في راحة شديدة ثم رمق الساعة ليجدها أصبحت الواحدة صباحًا، إذن لم يتبق سوى ثلاثة ساعات ونصف الساعة حتى يراها.. لن يكون اليوم سوى أسعد الأيام بالنسبة لها وله..
لا يستطيع نسيان تلك النظرة الصارخة بالإهتمام من أجله، غضبها وإنفعالها من مجرد ابتعاده عنها لعدة ساعات، أمّا عن تركها اياه بعد أن اعترف لها بإغتصابه لتلك العاهرة سيجعلها تعرف ما معنى أن تفعلها معه.. سيحذرها مرة.. مرة واحدة فقط.. لقد خطت بإختيارها لحياته المُظلمة، لقد قالت أنها ستتحمل، وهو ليس في مزاج يقبل بخروج أحد من حياته الآن! وخصوصًا هي..
تمشى في ممر المنزل الذي يخص الغرف، هذه تخص أخيه الأصغر، والتي في النهاية يمكث بها "هاشم" وتلك لوالدته، يشعر بالإستغراب الشديد من كل ما يحدث باليومين المنصرمين.. لا يدري هو ليس بسعيد، وكذلك ليس بحزين.. لا يعرف بعد ماهية مشاعره بعد أن اقنع والدته وأخيه بأن يمكثا معه بهذا المنزل..
تحولت الإبتسامة للوجوم، وأكمل سيره وهو يضع كلتا يداه بجيبي بنطاله ثم وجد نفسه يتوقف أمام غرفة والدته.. فكر للحظات أن يطرق بابها، أن يجالسها، يرى بصيص من الضوء ينعكس على الأرضية من أسفل الباب، ولكن شعر وكأن هناك حاجز! كأن هناك تاريخًا بأكمله يقف بينهما! سنوات عديدة تمنى لو أنها كانت بالقرب منه، ولقد تحققت الأمنية، ولا يفصل بينهما سوى هذا الباب، وسبعة وعشرون عامًا من عذاب لا نهائي تجرعه بمفرده!
قطب جبينه ثم منع يده التي أخرجها من جيبه أن تُكمل ما ود فعله، لم يطرق أبدًا، لم يستطع فعلها، وخاصة بعد تلك الدموع التي لا يعلم من أين آتت لتحول دون رؤيته.. هو ليس بضعيف ولن يكون!
ابتعد بسرعة متوجهًا لغرفته، وهو يبتلع تلك الدموع المالحة التي شعر بطعمها في حنجرته، حاول أن يتخلص من ذلك الشعور الغريب الصعب الذي لم يواجهه في حياته من قبل، ذهب ليجلس على احدى الكراسي بغرفته وأغلق عينيه وهو يُرثي نفسه بما فعله ليلة أمس بواحدًا مما تسبب في جعله يشعر بحرقة تلك الآلام لسنوات..
همهم بإستمتاع حقيقي وملامحه متهللة وكأنما أوشك على لمس أحدى نجوم السماء بيده وابتسم وهو يضع كلتا يداه بجيبيه ورمق ذلك الرجل المُسن ولم يتخلله ولو مثقال ذرة من شفقة أو رحمة نحوه ثم حدثه بنبرة هادئة للغاية لا يتحدث بها سوى السعداء وحدهم وقال بإستنكار شديد اختفى خلف أسئلته:
- إيه رأيك؟ بنتك دلوقتي زي ما أنت شوفت متورطة في قضية شرف، بس مش مع أي حد.. مع واحد من أشهر رجال الأعمال في مصر.. نفس اللي حصل لواحدة زمان، بس الفرق إن بنتك سيرتها بقت على كل لسان في البلد مش في الحارة اياها، صح؟! نفس اللي حصل بالظبط، مش كده؟
رمقه الرجل بنظرات حزينة وهو يهز رأسه بإنكار وهمس في ذل:
- والله أنا صدقت أبوك، أنا مكنتش أعرف حاجة.. مين ده بس اللي كان هيقول على مراته كده.. مش ذنبي! مش ذنبي والله ما ذنبي.. كرم هو السبب!
أطلق صوتًا بهمهمات وكأنه يتعاطف معه بينما ملامحه بأكملها دلت على الإستهزاء الشديد ليهمس متصنعًا التعاطف:
- يا غلبان يا طيب!! معلش.. متبقاش تصدق أي حاجة تتقالك تاني
ابتلع في تقزز ثم تضرعه هامسًا:
- أرجوك يا ابني، أنا أكبر من أبوك.. سيب بنتي ملهاش ذنب في حاجة.. لو عليا أنا موافق.. خد حقك مني.. بس سارة ملهاش دعوة بكل ده!
نظر له "شهاب" بإندهاش شديد حتى تباعدت شفتاه وهمس متظاهرًا بالتعجب:
- بجد!! ملهاش ذنب!!
ابتسم بعدها في ثوانٍ بتشفي هائل وهو ينتقل من وجه لوجه آخر مغاير تمامًا للذي يسبقه وكأنه يضغط زر ما على جهاز التحكم عن بُعد وتكلم فقال:
- يعني أنت صدقت حوار اتعمل عليك وابن آمال اتظلم.. والنهاردة فضيحة بنتك بجلاجل والناس صدقتها وابنها برضو يتظلم.. نفس الذنب.. نفس القصة! أنا شايف إنه ذنبها..
ابتلع كمن يتنفس الهواء بإشارة من سبابته إليه ونظر للأعلى كمن يُفكر بعمق واستطرد قائلًا:
- عارف إيه أحلى حاجة في الموضوع، إن الاتنين ولاد كرم!! بيقولوا إيه في المواقف اللي زي دي.. ممم.. ربنا مبيسبش!! مش كده؟!
أطلق ضحكة خافتة مصحوبة بزفرة متقطعة وكاد "أبو يوسف" أن يتحدث ولكنه أوقفه بإشارة من يده مانعًا إياه وأكمل حديثه بمنتهى الهدوء وقال:
- بس مش فضحيتها مع واحد من أكبر رجال الأعمال النهاية.. لأ.. لسه فيه حاجة كمان!! هو أنا مقولتلكش حصل إيه من شوية؟!
همهم وهو يتناول نفسًا كمن كان يُجاهد عدوًا لمسافة طويلة وأمسك بجهاز تحكم عن بُعد وقام بتشغيله وأردف بنبرة غاية في الهدوء الذي يبعث على الإستفزاز وترقب "أبو يوسف" في رعب شديد على ابنته ليستمع له مرة أخرى:
- من الفضيحة انتحرت يا عيني.. ماتت.. ولعت في نفسها وفي بيتها ومقدرتش تستحمل!! البقية في حياتك يا أبو يوسف!
توسعت عينا الرجل وهو يشاهد ابنته أمام عيناه على تلك الشاشة جالسة على احدى الكراسي لا حول لها ولا قوة والنيران تلتهم جسدها ليبكي بحرقة وهو يهمس:
- بنتي.. بنتي والله ما ليها ذنب! حرام عليك.. لأ بنتي مماتش! لأ انت.. انت معملتش فيها كده! حرام عليك! بنتي..
انتحب وهو يشعر بأن قلبه يُنتزع من صدره بينما توسعت ابتسامة "شهاب" وأكمل حديثه وهو لا يكترث لصوت بكاء هذا العجوز وأخذ يتمشى حوله بإستمتاع:
- شايف النار المولعة في جسم بنتك.. ولعت فيا سبعة وعشرين سنة.. فاكر يوم الزلزال يا أبو يوسف؟.. يااه ذكريات!!
أطلق الهواء من رئيتيه الذي شعر وكأنه كما النيران التي لا تزال تضطرم بداخله وتلاقى فكيه ولكنه حاول الهدوء وتحدث وهو يقف خلفه:
- فاكر المعلم رجب.. شيخ المنصر.. فاكره يا أبو يوسف؟! طب فاكر ابنه؟
اهتزت نبرته المستهزءة في النهاية ولكنه تمالك نفسه وابتلع ليشعر وكأنما اللهيب تتقد بجسده من جديد وهمس بحرقة ونظر له الآخر بأعين تذرف الدموع دون إنقطاع وعيناه تصرخ بالكراهية وتحمل ظلم لم يقصد يومًا أن يرتكبه:
- فاكر يوم ما ولع في المدرسة سنة 94 وودوه المستشفى.. أنا اللي ولعت فيه وحرقته.. اخدت حقي..
التمعت عيناه بطيف من دموع وشرد بالفراغ كما المجنون وتواترت الكلمات من بين شفتاه دون انقطاع:
- يوم الزلزال اتلموا عليا وعملوا عملتهم.. تعرف.. فضلت سنين مستني أمي يمكن تيجي وتحضني وتقولي متخافش.. بس محصلش.. وأنا كان لازم اخد حقي فولعت فيهم! وولعت في بنتك اللي فضلت تشتمني وتهزأني وتضربني طول السنتين اللي عشناهم فوق السطوح في بيتك وأنا كنت اتمنى يوم واحد بس أشوف فيه أمي اللي ظلمتها.. وعارف هاعمل فيك إيه؟! هولع فيك يا أبو يوسف زي النار اللي كانت بتولع فيا طول سنين وأنا مش جانبها!
اختفى ذلك التأثر بينما نظر له الرجل في رعب ولم ينتظر "شهاب" كثيرًا ليُحضر قارورة ممتلئة بمادة مُشعلة وسكبها حوله وعلى ملابسه بينما تضرعه بالكثير من التوسلات:
- لا يا ابني.. حرام عليك.. بلاش.. بلاش تعمل فيا كده.. أنا صدقت أبوك.. أبوك هو السبب
قهقه وهو يرى ذلك الهلع يرتسم على وجهه ثم أخرج قداحته من جيبه ليهمس له:
- ابقى روح خد حقك من أبويا وقوله إنه معرفش يربي..
لم يود أن يُكثر من الكلمات التي لن تُفيد ثم أشعل القداحة وألقاها وغادر سريعًا وهو يستمع لصراخات الرجل الذي تركه مقيدًا على ذلك الكُرسي الخشبي وهو يحترق مثل ما أحترق لسنوات وحده!!
سكن آلمه بتلك الصرخات التي لا يزال يسمع صداها ليتناول نفسًا مطولًا بعمق وتمنى لو فقط رآى كلًا من "بدر الدين" وذلك الفتى المزعج "سليم" يحترقان أمام عينيه بعد ما فعلاه معه يوم العزاء لشعر براحة أبدية لا يشوبها شائبة!!
لقد بالغ كثيرًا بأمر هذه الرسائل عند بداية زواج ذلك الفتى المغرور هو وابنة عمه، لن يُنكر، ولكن لا يزال يتجرع مرارة الخسارة أمامهما..
لا يحب الخسارة أبدًا، يكرهها بكل ما فيها، مجرد أن يخسر فكرة تؤلمه، تمزقه إربًا.. لولا فقط إنشغالة بـ "فيروز" الأشهر الماضية لكان انتقم منهم! ولكن كيف وهم يملكون بأيديهم العديد من الدلائل التي لو ظهرت يومًا ما ستكون نهايته إلي الأبد!
تجهمت ملامحه أكثر وضجت بالإشمئزاز وصر أسنانه بعنف وتعالت أنفاسه تلقائيًا وهو يتذكر تلك الكلمات التي همس بها كلًا من "بدر الدين" وابنه ذلك الكائن اللزج!! تلك النظرات التي رمقها به كل أبناء عمه!! لن يتركهم دون أن يُفرق جمعهم ويدمرهم يومًا ما!
لعن بداخل نفسه وهو يتابعها بعينيه بعد أن تركته وذهبت، ولكن هذا ليس الوقت ولا المكان المناسبان لأن يهرول خلفها ويُشدد على اقناعها بما فعله.. ربما لاحقًا.. ولكنها لن تواجهه في يومًا ما أنه أخفى عنها الأمر أو كذب عليها!
التفت ليذهب داخل تلك القاعة الضخمة ليقدم عزاءه ولكنه بداخله كاد أن ينفجر.. لولا فقط أن المرأة الوحيدة التي يعشقها طلبت منه أن يحضر هنا اليوم لكان بعيدًا كل البُعد عن تلك الأوجه التي شارف على لقاءها!
لم ير "بدر الدين" الذي كان يسير خلفه وهو يتابعه، ولكن ما إن خطى أول خطوة حتى تلاقت الأعين وقرأ الكراهية بوجهي "سليم" و "إياد" ومن على مسافة رآى بقية أولاد عمه "عاصم" و "آسر" فقدم يده ليصافحهما قائلاً:
- البقية في حياتك..
بادله إياد على مضض وابتعد بعينيه عنه بينما رمقه "سليم" في احتقار وانتعشت تلك الرسائل في ذاكرته ولم ير سواها أمامه وانتظر "شهاب" أن يصافحه بينما رفض عاقدًا قبضتيه بجانبه وعينيه ينهال منها شرار الغضب فابتسم بإقتضاب وقبل أن يُخفض يده أمسك بها "بدر الدين" وصافحه ليتحدث بهدوء:
- حياتك الباقية.. منجلكش في حاجة وحشة..
نظر لسواد عينيه الثاقبة وابتلع ونسى تمامًا أن يتظاهر بعكس ما يشعر به ليجد نفسه من جديد يشعر وكأنه طفلًا صغيرًا أمام ذلك الرجل، شعر مرة ثانية أنه مكتوف الأيدي.. منهزم.. مثل ذلك اليوم بالعزاء ..
تفحص "بدر الدين" ملامحه لثوانٍ وداكنتيه ليطنب مستطردًا:
- تعالى يا شهاب تعالى..
جذبه من يده ليبتعد كلاهما عن المدخل وذهب "شهاب" على مضض منه واستنكار لفعلته لينظر له بتمعن وحدثه بنبرته الرخيمة في هدوء وقال:
- مكنتش أعرف إنك هتيجي تعزيني في أمي.. بس لا.. راجل برضو.. وتفهم في الواجب والأصول!! عكس التهديدات التافهة اللي كنت بتبعتها..
سلط "شهاب" داكنتيه بغضب جم على سواد عينيه الثاقبة بينما همس سائلًا إياه:
- كنت بتبعتها ليه؟ مستني إيه من ولاد عمك وخالهم وابنه؟ بذمتك مش عيب؟!
ربت على كتفه في تحذير بالرغم من نبرته الهادئة وتابع حديثه:
- بس يالا.. المسامح كريم.. ولو على اللي حصل زمان فاحنا ولاد النهاردة.. وزي ما كبرت وجيتلي وعزتني أنا برضو هعاملك إنك ابني..
تريث لبرهة ثم استطرد بهمس وابتسامة حقيقية:
- مينفعش تتخانق معاها قدام الناس.. ابقوا اتكلموا في العربية ولا بعيد عن العين.. وأنت راجل سمعتك تهمك وميصحش أبدًا راجل يعمل في حبيبته كده وسط الناس! عيب يا شهاب أنت راجل عاقل وشكلك مش هيبقى كويس أبدًا لو حد شافك في الوضع ده!
أخبره ثم غمز له بإبتسامة مقتضبة ليشعر "شهاب" وكأنه سينفجر حتمًا بوجهه الآن وقد تأكد "بدر الدين" مما رآه خصوصًا بعد تلك الملامح التي اتضحت عليه بينما التفت عندما ناداه أحدهم فنظر له وكلمه قائلًا :
- أنا هاروح اخد عزا أمي.. وشكرًا على الواجب اللي عملته! سلام!
التفت وهو يلاحق أنفاسه الغاضبة وفكر كثيرًا في كلماته وملامحه التي لا تدل على حقيقة معرفته بما فعله بـ "أروى" بالطبع لم يستمع، وحتى لو حدث فهي لا تملك دليلًا أنه هو من فعل بها ذلك.. وإعترافه هذا لا يدل على أي شيء..
قاطع أفكاره ذلك الصوت الذي ناداه فالتفت ليرى "سليم" ومن جديد احتقنت دماءه المحترقة بلهيب الغضب واشتعلت بمزيدًا من الكراهية لذلك الكائن اللزج ليحدثه بإشارة من رأسه نحوه سائلًا بنبرة حادة:
- عايز إيه؟!
ابتسم له بإقتضاب ثم أجابه واضعًا كلتا يداه في جيبيه وقال:
- عارف أنا مش هاقولك عقبالك زي ما قولتلي يوم عزا والدك لأني احسن منك.. بس ده مش معناه إني متعاملش معاك بطريقتك.. يعني ممكن أجيب سيرة مرات الوالد الله يرحمه، أو!! ولا بلاش.. علشان متضايقش.. وعلشان أنا انضف من الوساخة دي!
أسمع.. أنا بحذرك يا شهاب.. أنت ناقصلك غلطة واحدة بس معانا وبعد كده مش هايعجبك اللي هيحصلك.. بس علشان مجيتك دي هاعتبر إن محصلش حاجة.. وياريت تكون آخر مرة نشوفك ومتوريناش وشك تاني.. زي ما شوفت كده محدش طايقك!
نظر له بمزيدًا من الإحتقار ليبتسم "شهاب" ووقف ليواجهه وحدثه بتقزز:
- يااه.. العيل الصغير بقى بيعرف يتكلم ويهدد! جديدة دي! اتكلم على قدك وبلاش أنا صدقني مش هايعجبك اللي هيحصل..
همهم ثم أومأ له في تفهم ليهمس له متوعدًا:
- عيل!! تمام! بكرة تشوف العيل ده هيعمل فيك إيه! بس افتكر الكلمتين دول.. الكبير مش بالسن ولا بالطرق الزبالة وشوية رسايل يهدد بيها! الكبير كبير بأهله وناسه وعقله وتصرفاته.. وأنت ولا أهل ولا عقل ولا تصرفات! يالا امشي من هنا.. صدقني محدش طايق يبص في وشك!
رمقه بغلٍ شديد ولمح من خلفه "أروى" تدفعها فتاة على كرسي ليبتسم بإستهزاء ورمقها في احتقار فنظر "سليم" خلفه وفهم ما معنى نظرته ليجده ذهب وغادره و ولم يعلم ما يُفكر به "شهاب" الذي صمم ألا يدع هذا اللقاء ليمر هباءًا أبدًا.. ولكن يكفي له فقط أن تلك العائلة التي يتباهي أجمعهم بالإنتساب إليها بداخلها فتاة ترتعب فقط من النظر إليه! يومًا ما سيلحق ما فعله بها بهم جميعًا، ولكن قليلًا من الصبر والمزيد من الوقت ولن يدعهم سوى خائفين من أن يغمضوا أعينهم بالمساء!
لا يعرفون من هو بعد، لا ينسى إنتقامه ولو بعد سنوات..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
اقترب من والده بعد أن لاحظ جلوسه شاردًا بالخارج من شرفة غرفة نومه وأحضر له كنزة رياضية خفيفة فقد يشعر ببعض البرودة في هذا الهواء البارد وتعجب أنه لم ينم إلي الآن فتحدث له متسائلًا وهو يناوله الكنزة:
- إيه اللي مصحيك يا بدر لغاية دلوقتي؟
همهم ورفع رأسه نحوه لينظر إليه واجابه في تساؤل:
- هي الساعة بقت كام؟
زفر "سليم" وهو يجلس بجانبه استعدادًا لمناقشة يبدو من ملامح والده أنهما سيخوضاها معًا بينما تناول منه الكنزة وارتداها واجابه:
- اتنين ونص!
التفت ليرمقه وسأله:
- وأنت إيه اللي مصحيك يا حيلتها لغاية دلوقتي؟ مش عندك شغل الصبح؟
هز كتفاه بتلقائية ونظر أمامه بحديقة المنزل قالبًا شفتاه وأجاب:
- مش عارف.. قلقت.. طلعت البلكونة لقيتك قاعد.. قولت أنزل اقعد معاك..
التفت ليتفحصه بإستفسار من عينيه وحدثه:
- قول قول.. سرحان في إيه؟!
أطلق "بدر الدين" زفرة مُطولة وهز رأسه في عدم تصديق ثم همس مجيبًا:
- شهاب.. شكله كده..
بمجرد سماعه هذا الإسم انفجر الغضب بعروقه ولم يتركه ليُكمل ليقول بإنفعال:
- إيه السيرة الزفت دي.. أنا والله العظيم لولا إنك حايشني عنه لا كنت ناهيه بكل المصايب اللي ماسكينها عليه دي!
ابتسم "بدر الدين" مطلقًا زفرة ليتعالى غضب ابنه ولكنه تابع:
- شهاب وفيروز شكلهم بيحبوا بعض!! اتفضل.. ادي اللي قولنا إنها هتساعده..
عقد حاجباه وهو يرمقه في إستغراب ليسأله:
- وأنت عرفت منين؟
تنهد ليجيبه وهو يريح جسده بمقعده:
- يعني.. شوفتهم واقفين بيتخانقوا أول امبارح.. يوم العزا.. ورميتله كده كلمتين وعرفت.. هي كمان بقالها فترة كده مش مظبوطة ومبقتش بتكلمني زي الأول!! قولت برضو الموضوع فيه إنّ
زفر "سليم" في ضيق ثم حدثه بجدية:
- تحبه ولا يحبها ولا يتحرقوا بجاز أنا مش طايق اسمع اسم الزفت ده ومتجبليش سيرته..
رمقه بتمعن لثوانٍ ثم سأله بنبرة مازحة:
- محموق اوي يا اخويا كده ليه؟ ولا تكونش لسه غيران؟
أصدر تأتأة بمزيد من الحنق ليحدثه بإقتضاب وهو ينهض في استعداد للمغادرة:
- أنا غلطان إني جيت اقعد معاك..
نهض ليتبعه ثم أراح ذراعه ليحاوط كلًا من كتفيه ثم قال:
- يا ابن الكلب يا غبي افهم.. كده الحوار لو بجد وحبها فعلًا يمكن يتعدل.. يا إما باظت وبهوقت على الآخر
توقف للحظة وهو ينظر له بجدية ولم يعد يتحمل مجرد ذكر اسمه فقال بإشمئزاز:
- بص يا بابا، أنا علشان ليا كبير مانعني عنه أنا باكبرلك.. وكل اللي عمله فينا مش ناسيه.. وبصراحة أنا مش معاك في موضوع علاجه لأنه عمره ما هيتغير.. وشتان ما بينك زمان وما بينه هو دلوقتي.. يمكن تشوفني صغير أو أهبل بس اللي زي ده يستاهل الحرق!
أنت لا كنت بتهدد بنت عمك وجوزها ولا عايز تفضح بنات الناس وبتبهدلهم ولا أنت اللي شوفت الشبع بعد الجوع! وطبعًا ملبستش حد قضية سلاح! أنا مش ناسي ولا مسامح ولا هيحصل في يوم.. ومستنيله غلطه واحدة بس ولا يهوب ناحيتنا وساعتها مش هاسكت!! تصبح على خير!
تركه وغادره للأعلى لينظر له متابعًا إياه بثاقبتيه حتى اختفى عن نظره ولأول مرة يشعر بمدى اختلافه عن "سليم" الذي بدا جديًا للغاية الآن أكثر من أي وقتٍ مضى وأخذ يُفكر في كلماته جيدًا! فربما قد يكون معه حق في وجهة نظره!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
توسعت عيناها في إندهاش وهي تقرأ ذلك الخبر بإنتحار "سارة" زوجة والد "شهاب" بعد فضيحتها بعلاقة برجل أعمال وشعرت بالصدمة.. فهي للتو كانت تحدثها بالهاتف وتُعزيها في جدتها صباح يوم أمس!! كيف إمرأة مثلها تقدم على الإنتحار.. عندما حدثتها لم تكن تلك المكتئبة ولا الحزينة.. بل بدت كمن تود الإنتقام! مثلها تمامًا!
- مكالمتي جات متأخرة.. البقية في حياتك.. بس صدقيني أنا اللي شوفته على ايد شهاب كتير.. واديكي شوفتي.. اكيد الفضيحة دي اللي نزلت في الأخبار هو اللي وراها.. وكمان كان مراقب ارقامي ويادوب عرفت أخلص منه!
تريثت "أروى" وتظاهرت بأنها متفهمة للوضع لتحدثها:
- الله يكون في عونك.. أنا مقدرة طبعًا! واحد زيه مفتري.. استحالة هايديكي حقك ابدًا ولا يسيبك!
تنهدت "سارة" ثم أردفت متصنعة الحزن:
- أنا يادوب عرفت اجيب الرقم ده من وراه.. أنا لما كنت بروح بيته اكتشفت مصيبة!
انتبهت "أروى" ثم سألتها عندما سكتت:
- انتي معايا؟ اكتشفتي إيه؟
تنحنحت ثم تظاهرت بالحزن وقلة الحيلة لتتابع:
- الحيوان ده خدرني وهددني.. وصورني بطريقة مش كويسة قدام عين ابني!! وهددني تاني لما.. لما عرفت اللي مخبيه وحاولت إني أساعدكوا!
زفرت في تأفف من تلك الطريقة التي تتحدث بها ولكنها تظاهرت بالتعاطف لتقول:
- منه لله.. بس تساعدينا ازاي؟
تصنعت البُكاء واجابتها:
- أنا عايزاكي تكوني هادية وتحاولي تفكري بالراحة.. وممكن كمان تقولي لمامتك أو خالك ..
كادت أن تصرخ بها وهي لا تتحمل تلك الطريقة التي بالحقيقة لا تكترث لها، فهي لا تهتم سوى بكيفية الإنتقام منه من خلا أية معلومات وقبل أن تتحدث تابعت "سارة" الحديث وقالت:
- والدكوا كريم عايش وقاعد عنده.. حاولت أطلعه برا البيت بس عرف يوصله وهددني تاني ودي كانت آخر حاجة حصلت.. أنا نفسي أموته بإيديا على اللي بيعمله ده!
كيف لتلك المرأة أن تنتحر؟ وما قصة والدها تلك؟ هل هو على قيد الحياة ويمكث معه ولا يود أن يرى أولاده؟ هي تتذكر جيدًا أن والدتها أخبرت الجميع أنه غادر منذ طلاقهما ولم تعلم عنه شيئًا من وقتها!!
كيف لها أن تتبين تلك الحقيقة؟ هي بالكاد تتصنع أن حالتها تحسنت وبدأت في التمارين التي ستستمر لوقت ليس بقليل.. كيف سترى والدها؟ خصوصًا وتلك الـ "منة" لا تتركها وباتت مصاحبة لها كخيالها!!
لا يهم على كل حال.. إذا كان لا يُريد رؤية أولاده بعد تلك السنوات لن يُشكل وجوده من عدمه فارقًا.. زفرت في حنق شديد وهي الآن تعود إلي نقطة الصفر وباتت وحيدة ولا يصحبها سوى إرادة الإنتقام من "شهاب" وحده فحسب!
شردت بالفراغ لتُفكر من أين ستبدأ وتذكرت نظرته إليها منذ يومان لتمتعض ملامحها وشعرت بالإشمئزاز وتعالى الغضب بداخلها وودت لو تُبدد هذا الغضب بشيء ولكن تهادى إلي عقلها فكرة شيطانية.. إن لم يكن انتقامها من "شهاب" على ما فعله معها، "زينة" إذن لا تزال تنتظر في القائمة.. وقد يُسكن هذا بعضًا من غضبها قليلًا..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
نهضت في فزع من على سريرها وهي ترمق الساعة بهاتفها ومن جديد استمعت لجرس الشقة الذي يدق فتوجست وهي لا تدري من هذا الذي سيأتي بالرابعة والنصف فجرًا ليطرق على بابها هكذا دون إنقطاع!!
ارتدت حذائها المنزلي وتوجهت نحو الباب وهي تنظر من خلف الباب بتلك العين الموضحة فزفرت في ضيق ثم فتحت الباب بمنتهى الغضب وهي ترمقه ليقابلها بملامح فارغة تمامًا من المشاعر وقررت أن تنهي تمثيلية الصمت التي استمرت للحظات لتسأله بضيق:
- جايلي الساعة أربعة ونص الصبح ليه؟ بتموت المرادي؟! ولا يمكن بتحضر لمصيبة وعايزني اساعدك فيها؟!
ابتسم بإقتضاب عندما رأى تحفزها وذراعيها المعقودتان وملامحها التي امتزجت بأثار النوم وكذلك الغضب ليهمس آمرًا:
- تعالي معايا مفيش وقت!
رفعت كلتا حاجبيها بإندهاش وتعجبت لتأخذ خطوة للخلف وتحدثت له برفض تام:
- شهاب.. امشي ومتجيليش تاني!
كادت أن تغلق الباب ولكنه منعها ووقف ناظرًا إليها ثم أطرق برأسه لأحدى الجوانب متصنعًا الحزن ثم همس إليها:
- انتي بتكلمي مجرم تقريبًا ومش طريقة كويسة اللي انتي بتتكلمي بيها دي مع واحد زيي.. فقدامك دقيقة واحدة.. يا تيجي معايا يا للأسف هاضطر أخطفك!
رفع حاجباه ثم اخفضهما ليزداد التصميم بداخلها ونظرت له بتحدي بينما رمق هو ساعته لتهمس في استفزاز جم شعرت به من طريقته:
- بقى كده! طب مش واخدة خطوة برا البيت ومش من حقك تجيلي وقت ما انت عايز واتفضل امشي!
نظر لها بإستغراب عاقدًا حاجباه وتحولت ملامح وجهه لتشعر بقليل من الخوف ولكنها تأهبت عندما رآته يأخذ خطوة لداخل المنزل وتابعته جيدًا بينما ظل هو صامتًا لم يتفوه بحرف ومن جديد تفقد ساعته وزم شفتاه متصنعًا التأسف وقال:
- الدقيقة خلصت..
تقدم نحوها ناظرًا لها بترقب وأردف سائلًا:
- هتيجي معايا ولا الموضوع هيبقى غصب؟
أخفضت رأسها وملامح الصدمة تعتريها لتجيب بإستنكار:
- إيه اللي هتيجي معايا.. قولت مش هـ..
لم يدعها تكمل وتوجه نحوها دون مقدمات ليحملها بينما تقدمت هي لتدافع عن نفسها عندما انخفض ولكنه فاجئها بإعتداله سريعًا والإمساك بكلتا يداها وثناهما خلف ظهرها بقوة وأقترب من أذنها هامسًا:
- كنت حكيتلك عن إني قضيت بتاع اتناشر سنة في المافيا.. ومن ضمن اهتماماتي في الوقت ده مكنش السلاح بس.. اتعلمت حاجات تانية كتير!! ناوية نقلبها حلبة مصارعة ولا هتيجي معايا من سُكات؟
ابتلعت في خوف خاصةً أنه يضغط بقسوة على ذراعيها وكادت أن تشعر بالشلل ولكن اقترابه وهو يهددها بتلك الطريقة جعلها تشعر بالرعب فهمست:
- أنت عايزني اروح فين معاك؟
استمع لنبرتها التي اتضح بها الخوف فتركها مسرعًا ثم وقف أمامها بإبتسامة وأجابها:
- هتعرفي لما تيجي معايا.. يالا..
جذبها رغمًا عنها من يدها وأغلق الباب بينما توسعت عيناها وهو يجذبها للأسفل لتتحدث هي في ارتباك مصحوب بالدهشة:
- طب المفتاح مش معايا حاجة ولا موبايلي ولا أي حاجة.. أنا نازلة حتى بهدوم البيت.. استنى يا شهاب بس..
زفر بحنق ثم التفت إليها متصنعًا السأم وبعدها تصنع الجدية:
- بصي مفيش وقت للحركات دي.. أنا هابقى اتصرف في المفتاح! والهدوم كمان..
نظرت له بمزيد من التعجب بعد أن رمقها بنظرة لم تخل من الجرأة وهو يتفقد جسدها في منامتها القطنية ومن جديد جذبها رغمًا عنها وأوشكت على الإنفجار بالغضب ولكنه أجبرها على الدخول إلي السيارة ثم تبعها وانطلق مسرعًا..
نظرت إليه وكادت أن تصرخ به ولكن بعد ما فعله منذ قليل علمت أنه ليس بصائب أن تخاطر معه فسألته بعد أن عقدت ذراعيها في تأفف:
- ممكن افهم احنا رايحين فين؟
أشار بإبهامه للمقاعد الخلفية ثم تحدث وقال:
- افطري علشان قدامنا يوم طويل!
رفعت احدى حاجباها في غيظ من طريقته ثم صاحت به:
- شهاب!! اللي أنت بتعمله ده مش هاينفع و..
قاطعها وهو ينظر لها ثم سلط نظره على الطريق ليقول:
- أولًا مش هاسمحلك تاني أبدًا تعلي صوتك عليا.. ثانيًا شوية صبر.. ثالثًا أنا زعلان جدًا منك.. و..
التفت لها ولأول مرة تراه ينظر لها بهذه الطريقة ليستطرد هامسًا:
- وحشتيني يا فيروز!
توسعت عيناها وصمتت لوهلة فهي لم تتوقع أن يخرجها رجل من منزلها فجرًا ليُخبرها بذلك بعد كل تلك الدوامة التي مكثت بها لثلاثة أيام في محاولة لتبين تصرفاته وأفعاله وقبل أن تتحدث بادر هو في لوم:
- ليه مكلمتنيش مرة واتنين وتلاتة وعشرة.. ليه مصممتيش احكيلك عرفت إيه؟ .. ليه بعد ما خلتيني اقعد معاها واسمعها مستحملتنيش شوية وانتي اكتر واحدة في الدنيا فهماني.. ويوم العزا بمجرد ما عرفتي عني حاجة سبتيني ومشيتي! ولا كأنك حتى تعرفيني! يمكن كان رد فعلي غريب شوية بس انتي اللي كنتي اغرب!
توقف ليصف السيارة ثم التفتت لينظر إلي حدقتيها التي امتزجتا باللون الأخضر ولمح الحيرة بعينيها فمد ذراعه ليتناول حقيبة الطعام الورقية من المقعد الخلفي فابتعدت هي بتلقائية ليرمقها في عتاب صريح بداكنتيه ثم ناولها الحقيبة ونظر أمامه هامسًا:
- أنا يمكن أكون أسوأ واحد في الدنيا، عملت كل حاجة غلط.. بس استحالة أأذيكي.. متخافيش!!
تابعته بعينيها ونظرت لملامحه التي صرخت بالخذلان وكادت أن تتحدث ولكنه لم يُعط لها الفرصة وبادرها:
- انزلي احنا وصلنا..
ترجلت للخارج لترى أنها أمام احدى المنازل الضخمة التي تخصه ولكنه نائيًا نوعًا ما، ونظرًا لعدم بقائهما لكثير من الوقت علمت أنهما لا يزالا بمنطقة قريبة من منزلها فتبعته بينما فتح باب المنزل فتوقفت ولم تتبعه لتزفر في إرهاق ثم تحدثت له قائلة:
- شهاب أنا مش هاخد خطوة جوا غير لما تعرفني أنت عايز إيه بالظبط!
تنهد في إنزعاج من تصميمها اللانهائي على معرفتها بما يحدث ليلتفت ثم أخبرها:
- عاملك مفاجأة!
ضيقت ما بين حاجبيها في تعجب وتمعنت بملامحه ومن جديد استحوذ على مجرى الحديث وطغى بأفعاله التي لا تنتهي ليجذبها من يدها رغمًا عنها للداخل وأوصد الباب:
- مش كل شوية هتفضلي تبحلقيلي كده..
دفعها أمامه حتى احدى الغرف ثم تحدث من جديد:
- يالا علشان منتأخرش.. هتلاقي هدوم مجهزهالك! غيري هدومك وتعالي بسرعة!
زفر أخيرًا بعد أن أغلق الباب عليها ولوهلة فكر بما عليه قوله وفعله ولكنه كان على يقين أن كل شيء سيُصبح بخير، ولن يتركها اليوم قبل أن يعودا كما كانا بالسابق.. وربما أكثر..
صاح بالنهاية من خلف الباب وقال:
- خمس دقايق مش أكتر يا إما هافتح الباب!
آتاه صوتها الذي خلف بالنهاية ابتسامة على شفتاه:
- خلاص بقى اسكت!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
رمقت نفسها بالمرآة للحظات بعد أن ارتدت تلك الملابس التي أحضرها لها وبداخلها لا توافق على كل ما يحدث، ولكن جزء منها عندما استمع لكلماته تقبلها.. لقد أحتاج لأن يأخذ القليل من الوقت بإكتشافه حقيقة والده، ولقد صارحها أيضًا بفعلته مع ابنة عمه.. ولغباءها لم تستطع نسيان ذلك اليوم عندما توسلته أن يتحدث وعاهدته على ألا تبتعد وستتقبل كل ما يقوله لها..
استمعت لطرقات على الباب ثم لنبرته العميقة وهو يصيح سائلًا:
- خلصتي؟
زفرت في غضب لإستعجاله الذي لا ينتهي وهي قد ضاقت ذرعًا من أفعاله التي لا تدري لماذا تتقبلها من الأساس ثم توجهت لتفتح الباب في إنفعال يكسو ملامحها ثم نظرت له وأجابته بنبرة حادة سائلة:
- أيوة خلصت.. بس ممكن افهم شغل الخطف والعصابات ده هيخلص على إيه؟
رمقها متمعنًا اياها في غضب حقيقي ولكنه حاول ألا يُفسد الأمر فهما لا يزالا في بداية اليوم ليجيبها في غيظ:
- هيخلص على خير!! يالا تعالي..
التفت ظنًا منها أنها ستتبعه ولكن لم يُعجبها تلك الطريقة التي يتصرف بها لتعقد ذراعيها ثم حدثته في جدية:
- مش هامشي غير لما أعرف احنا رايحين فين!!
التفت ونظر لها متفحصًا عسليتيها بداكنتيه الذي ضيقهما وتمتم:
- مشوفشتش واحدة عنادية قدك!!
تنهد ثم استطرد وقال بإبتسامة حاول خلالها أن يكبح بها تحكماته التي كادت أن تصرخ بها وترغمها على كل ما يريده:
- رايحين نعمل حاجة كان نفسك فيها من زمان.. كفاية عطلة بقا!! متقلقيش.. الـ serial killer mode مش شغال دلوقتي.. وكفاية استفزاز فيا بدل ما يطلع!!
أغلقت عينيها وهي تهز رأسها في إنكار ولم يترك لها الفرصة لتتحدث ثم ذهب لتجد نفسها تتبعه حتى وقف كلاهما أمام مصعد بداخل هذه الفيلا التي لم تأتِ إليها من قبل لتبتسم في تهكم وتمتمت داخلها:
- اساسنسير جوا البيت!! حلو اوي.. ناقص نلعب سوا بنك الحظ ويقولي مبروك كسبتي تلت بلاد!!
دخل كلاهما بينما سرق هو بعض النظرات إليها خلال تلك الثوان التي قضاها كلاهما في المصعد وما إن توقف حتى خرج كلاهما لتجد نفسها على سطح المنزل الذي رست عليه طائرة مروحية خاصة!
تبعته بخطوات مترددة حتى توقف كلاهما قبل الصعود لتلك المروحية التي على استعداد للإقلاع والتفت إليها لتصيح به في ذلك الهواء الشديد وسألته:
- احنا رايحين فين؟
نظر لها زاجرًا بعينيه وأشار برأسه كي تصعد واقترب ليدفعها بينما اوقته بإشارة من يديها وصعدت على مضض وبداخلها العديد من التخمينات الكثيرة اللانهائية ولكنها لم تقترب أبدًا من التخمين الصحيح!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
لم تستطع أن تتحدث طوال الطريق في تلك المروحية خصوصًا أنه بدا منشغلًا بأمور ما وأعطى لها وقتًا جيدًا لتنفجر بداخلها العديد من الأفكار الغاضبة والإباء الشديد لطريقته وعدم اعطاءها التفسيرات التي ظنت أنه قد يُحدثها بها، بل هي سيطرة مرضية وتحكم بحت من خلاله!!
أقسمت بداخلها أنها لن تقبل أيًا كان ما سيفعله، حتى ولو أحضر لها العالم بأكمله، حتى ولو اعتذر، ولو توسلها، هذا ما كانت تُفكر به ليلة أمس قبل الذهاب للنوم! عليها أن تواجهه وترفض وتُنهي هذه المهزلة التي لم تتعرض لها من قبل سوى معه هو فقط!
كان من حسن حظها أن الوقت مر في تفكير عميق وهي شاردة تمامًا وبالنهاية توقفت الطائرة على احدى أسطح المنازل التي تطل على البحر لتدرك أنها آتت إلي هذا المنزل من قبل أثناء الحملة الترويجية للمشفى في بداية هذا الشهر..
توجه للخارج ثم توقف وقدم يده لمساعدتها للخروج من المروحية لتُمسك بيده على مضض وما إن خرجت وكادت أن تصرخ به بالعديد من الأسئلة وجدت العديد يبدون كرجال أمن أو ما شابه فتفقدتهم في تعجب أثناء جذبه اياها وعدم ترك يدها ووجدته يتوقف أمام مصعد آخر لم يكن متواجدًا من قبل ثم حدثها في هدوء:
- اسانسير علشان الفوبيا!!
نظر إليها بإبتسامة فبادلته النظرة في إندهاش تام وما إن دلفا المصعد كادت أن تُحدثه فبادر هو سائلًا:
- أنا فاكر لما جينا هنا آخر مرة كنتي مبسوطة أوي.. وكان نفسك في حاجة من وانتي صُغيرة قولتيلي عليها، فاكراها؟
حالة الشتات والإندهاش بتصرفاته الغريبة لم تترك لها الفرصة لتذكر أي شيء وارتباكها وإنفعالها الشديد تجاهه غلفا عقلها بمزيد من الغضب وهي تشعر وكأنها تُرغم على فعل ذلك وفكرت كثيرًا بم عليها قوله ليبادر هو للمرة المائة وأجاب سؤاله بينما خرج كلاهما من المصعد:
- كنتي مرة قولتيلي إن نفسك تركبي حصان.. جنب البحر.. وتجري بيه كتير
(هتلاقوها في الفصل 30 في السرد)
حمحم بعد أن توقف كلاهما أما باب يؤدي للخارج نحو البحر ثم فتحه ونظر إليها وتابع كلامه:
- وبما إن عيد ميلادك النهاردة، وبما إن دي أمنية كان نفسك فيها.. ملقتش احسن من دي هدية علشان تبدي بيها يومك..
تفقد ملامحها التي تهللت عندما نظرت أمامها للحصانان وارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتاها ثم التفتت لتنظر له في غير تصديق بما فعله ثم استطرد ليقول مبتسمًا:
- بغض النظر عن شغل الخطف والإجبار ده.. بس، كل سنة وانتي طيبة..
لقد التمعت عيناها بالحماس وهي تنظر له دون استطاعة منها بأن تجد كلمات حتى تُحدثه بها بينما توسعت ابتسامته والتمعت بنيتيه الداكنتين بسعادة شديدة وطيف من عشق لم تدركه هي ولكنه ماثل ذلك العشق الذي صرختا به حدقتيها وبدأ في الشعور بالثقة الجارفة بعد اختلاف ملامحها وبدأ في تلمس وتحقيق يقينه بأن اليوم سيُشكل خطوة فارقة تجاه كل ما تمناه، ألا وهو الحصول على عشقها تحت أي مسمى ومقابل أي ثمن!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
#يُتبع . . .