الفصل السادس - جسارة الإنتقام
- الفصل السادس -
انهالت أنهار العسل الصافي من عيناها ناظرة له بلهفة، ذلك السحر بهما لم يره بأعين أي إمرأة سواها من قبل، لم يشعر بهذا الإحتياج الشديد لأي إمرأة مثلما يحتاجها الآن..
أخذ شفتاها الورديتان يقبلهما ويمسدهما بنعومة بين خاصتيه، لم يكن يعرف أنه قد أضاع كل ذلك الوقت ليحرم نفسه من تلك القبلة وذلك الطعم الطيب الذي يتذوقه، رائحة أنفاسها بدت كرائحة بُستان رويَّ بالمطر لتوه..
اشتم أنفاسها الرقيقة ليلتقط أنفاسه ثم اراح جبهته على خاصتها موصداً عيناه ثم همس أمام شفتيها:
- متبعديش عني تاني..
حاوطت عنقه بيديها ثم أخبرته في ضعف هامسة:
- مش هاقدر..
تحدث لها بآلم مهسهسًا بين أنفاسه ثم أخذ شفتيها بين أسنانه بقليل من الحدة وأطربت هي أذانه بتلك الآنات التي تصيح بها بين قبلتيهما:
- أنا محتاجك اوي..
فتح عينه لاهثًا ليرى شعرها الأسود حولها مبعثرا بفوضوية وقد ارتمى على جبهته بعض خصلاتها، وتفقدها ليتأكد أنها نائمة وأنفاسها منتظمة.. ووجد ذراعاه تحيط بخصرها وساقه تعتليها..
ابتعد ناهضا بسرعة في ذهول من فعلته وتشبثه بجسدها كمن يهرب من شيء ما ليتمتم:
- أكيد كابوس
دلك عيناه ليبعد أثار النوم عنه وتفقد الوقت ليجدها قبل السابعة بقليل فتوجه للحمام واستحم ثم ذهب لغرفة ملابسه ليرتدي واحدة من بزاته الرسمية الفخمة وساعته المبهرة التي تصرخ بالثراء الفاحش ونثر بعضا من عطره ثم توجه ليراها لا زالت نائمة ودون إرادة منه شرد بها مجددا..
مزيد من الدقائق مرت ليستنكر فعلته ثم تمتم بداخل نفسه حانقًا:
- وبعدين بقا، مش هاخلص ولا ايه
حمحم ثم صاح بها بصوته العميق:
- أنتي.. اصحي يالا..
لم تستجب له فصاح مجددا في ضيق بنبرة أعلى:
- أنتي يا بتاعة..
تململت بنعاس وعدم إدراك لتوجه وجهها الناحية الأخرى ثم صرخ بها مُعنفًا:
- اصحي يا زفتة..
همهمت متحدثة بهمس ناعس ثم أخذت الغطاء ورفعته على وجهها:
- يا دادة تعبانة اوي وجسمي كله واجعني.. سيبيني أنام شوية..
ابتسم في بإنتصار ليتمتم بداخل نفسه:
- بتتوجعي يا بنت هشام، ده أنا هاكسرلك عضمك كله
جذب الغطاء مرة واحدة بحركة قاسية صارخًا بها مجددًا بصوت جهوري:
- اصحي يالا!!
أشرأبت بعسليتيها لتنظر له بأعين ناعسة وعبوس ليدرك أن هذه أفضل مرة وقعت فيروزيتاه عليها!
صاح بها بعد أن نهى نفسه سريعًا عن تفقده له بطريقة المراهقين تلك:
- ساعة عشان تصحي.. يالا قومي البسي وخلصيني..
تشرست ملامحها ونظرت له باحتقار لتتمتم حانقة بعد أن استعادت القليل من وعيها:
- جتك البلا في وشك!
شعر بالغضب منها والإندهاش في آن واحد فاقترب منها جاذبا شعرها بيده عله يُنهي نفسه عن ذلك الشعور الذي يدفعه لتفقدها:
- وحياة أمي لا أمسح بكرامتك الأرض يا حيلة أبوكي على لسانك اللي عاوز قصه ده.. أفوقلك بس
لاحظت تحدثه بين أسنانه الملتحمة غاضبا ولكنها لم تكترث وبقوة وخشونة غرست أظافرها بيده التي بشعرها وتبادلا الأنظار الغاضبة للحظات لتشعر أنه يكاد يقتلع شعرها وهي الأخرى تزيد من غرس أظافرها وعسليتاها تأبى إظهار أي وجع أو ضعف وتعالت أنفاسها هي الأخرى وهي تنظر بتلك الزرقاوتان التي ظلمتا للحلكة وحدثته في تحدي بنبرة هادئة تصرخ بالقوة:
- مش أنا اللي يتمسح بكرامتي الأرض يا جاسر بيه
رمقته في تريث ونظرة انتصار متحدية اياه لتزداد أنفاسه الغاضبة وصرخ بها مُحذرًا:
- إما وريتك مبقاش أنا! في ظرف ربع ساعة إن مكنتيش مخلصة هطلع عين اللي خلفوكي..
ابتسمت بسماجة جردته عن كل جموده وبروده اللذان يتصف بهما لتهمس في استفزاز:
- وأنا مستنياك توريني..
نظر لها بدهشة رافعا احدى حاجباه في غيظ بعد أن نجحت في استفزازه ببراعة ليُحدثها في تحدي هازئًا:
- متبقيش بس تقعي تفرفري تحت رجلي
قابلت ابتسامته بتوسع ابتسامتها بمزيد من التحدي وهي تكاد أن تصرخ لشعورها بإقتلاع شعرها بقبضته القوية وظلت يداها تخترق جلد قبضته حتى شعرت أنها قاربت لمس عظام كفه ولكنها لم تظهر آلمها وقالت بنبرة ثابتة في ثقة هائلة:
- الضربة اللي متموتش تقوي.. ومش لازم أفكرك كل شوية، أنا يا قاتل يا مقتول، مهما تعمل مش هيحوق فيا
همس هو الآخر بإبتسامة شريرة وعينتيه تتسعا بشبح تشفي صريح ثم دفعها لتسقط على السرير:
- مقتول يا بنت هشام!!
ابتعد عنها ليغادرها قبل أن يقتلها هذه المرة وتوجه لصنع القهوة وما إن لاحظ تلك الخدشات بيده وهو يملئ كوبه حتى شعر بنفسه يتخلى عن بروده المعهود وغضب مجددا و تمتم في غيظ لا نهائي متوعدًا:
- ودين أمي لاربيكي با بنت الكلب!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
تعجب "مراد" من تلك المكالمة التي تلقاها من "رامز" في الصباح الباكر ليحدثه في تأفف معترضًا:
- جايبني على ملا وشي الساعة سبعة ونص.. أنت بتهزر يا رامز!
امتعضت ملامحه ليرد قائلًا:
- بنت الزنانة دي مصممة نتجوز الشهر الجاي
تأفف مُطلقًا زفرة طويلة وحدثه في استياء:
- طب وأنا مال أهلي يا عم، أنت اللي هتتجوز مش أنا
رد مًعقبًا في سخيرة بتساؤل قاصدًا إخباره بغباءه الشديد وعدم فهمه لما يُعنيه:
- والشغل يا حيلة أمك أسيبه لمين؟!
تريث "مراد" لبرهة ناظرا له بإمتعاض ثم اجابه بتلقائية:
- يا عم أنا وسيرين موجدين اهو وبابا هشام مبيسبناش وبر..
ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتاه وقاطعه مسرعًا:
- يا ابو مخ زنخ، سيرين لسه متجوزة مفيش من يومين
حك مراد رأسه مُفكرًا وقد تنبه لقلة إدراكه ثم حاول أن يُطمئنه:
- يا عم بس اتكل على الله وخلص نفسك وابدأ في تحضيرات الجواز وهتكون هي رجعت بالسلامة.. آه صحيح سمعت أن حماها مات!
عقد "رامز" حاجباه لوقوع الخبر على مسامعه ليتحدث بهدوء يُناسب هذا الخبر الذي تلقاه لتوه:
- صعبة دي اتجوز النهاردة وابويا يموت بكرة.. موقف تقيل اوي.. يالا الله يرحمه..
أومأ له الآخر في موافقة على كلماته بينما عقب مُقترحًا:
- المفروض برضو نروح العزا ونعمل الواجب
رمقه بأعين يتضح بها الموافقة على حديثه بينما قال:
- ماشي بس لازم نكلمها الأول.. ده احنا حتى منعرفش العزا فين
اقترح "مراد" متسائلًا بعفوية:
- ما تسأل بابا، أكيد عارف.. مش كان صاحبه؟
أومأ في تأييد ثم اجابه في تلقائية:
- عندك حق.. اكيد يعرف.. هكلمه لما تيجي عشرة او حداشر كده
مد يده نحة هاتفه ليتفقده ويطالعه ولم تمر ثوانٍ حتى بدأ في الرنين ليجيبه مسرعًا بنبرة حماسية:
- وحشتيني يا جزمة.. فينك يا بت؟!
تحدثت "سيرين" بتلك النبرة الخاشنة المعهودة منها بهاتفها وهي تُجيبه ودخلت المطبخ تحت تلك الأعين الفيروزية الثاقبة لتصنع بعض القهوة ولم تكترث لنظراته:
- كنا مسافرين ايطاليا وشغل الهوني مون والكلام ده بس رجعنا أول ما عرفنا الخبر.. المهم.. أخبارك أنت ونيرة ايه؟
تعجب من طريقتها التي لن تتغير وأخذها الأمر بمنتهى البساطة ليًكمل حديثه لها وتسائل:
- يا ستي سيبك منها دلوقتي.. العزا امتى وفين؟
أدركت أنها لا تعلم أي تفاصيل فتحججت ببضع كلمات زيفت أنها تلقائية:
- استنى يابني خليك معايا ثواني..
كتمت الصوت بهاتفها لتوجه نظرها نحو "جاسر" ثم سألته:
- العزا فين والساعة كام؟
حاول أن يحافظ على هدوءه ولا يدري لماذا كلما وقعت عينيه عليها يشعر بالإنفعال واجابها باقتضاب:
- ستة المغرب في البيت عندنا
أعادت الهاتف على اذنها مرة ثانية بعد أن لغت كتم الصوت واجابته:
- معلش كنت بس بجيب حاجة من برا، ستة المغرب في بيت عيلة جاسر
شعور غريب اجتاحه عندما وجدها تنطق اسمه بتلك الطريقة دون استفزاز أو توعد وغضب ولا عراك كلامي بينهما واستمع للمزيد من حديثها وهو يُتابعها في صمت وترقب:
- الواد مراد عامل ايه؟
اطلق زفرة متهكمة ثم نظر نحوه وهو يجيبها:
- قاعد زي القرد اهو قدامي.. هيكون عامل ايه يعني!
همهمت ثم تابعت حديثها له:
- اديهوني طيب اسلم عليه
نقل "رامز" الهاتف إلي "مراد" ليُحدثها في لهفة:
- سيري وحشتيني اوي يا حبيبتي.. أنتي كويسة؟
توسعت ابتسامتها في عذوبة ليعقد حاجباه متفقدًا اياها وهي لأول مرة تبتسم بتلك الطريقة دون أن تلاحظه هي بينما أكمل مراقبته لها وأكملت هي تحدثها:
- يا ابني أنا زي الفل، أنت بس اللي قلبك رهيف!
هز رأسه في إنكار لتلك النبرة الصبيانية التي تتحدث بها وظل يتابع على مضض بينما كانت تستمع لصديقها على الطرف الآخر:
- قلبك أنتي اللي حجر
أطلقت ضحكة خافتة ليتعجب من تحولها في ثوانٍ من ملامح فظة ونبرة صبيانية إلي تلك الفتاة الرائعة ولكن كل هذا تلاشى عندما استمع لها وهي تتحدث من جديد:
- اتعلملك حاجة مني بقا يمكن تنفع ياض.. يالا، هاقفل معاكوا دلوقتي واشوفكوا بليل.. سلام
أنهت مكالمتها لتجد قبضته على ذراعها توقفها وهو يتحدث لها متسائلًا في غطرسة:
- أنتي ناوية تجيبي الألاضيش بتوعك دول بيتي؟
هزت كتفيها بتلقائية واجابته بهدوء دون انفعال لإهانته لهم ولكنها لا تزال تحافظ على نبرتها الخاشنة:
- ولا يفرق معايا.. هما محترمين وولاد أصول وحبوا يعملوا الواجب مش أكتر.. لو حابب جنابك اتصل بيهم واقولهم ميجوش..!
كاد أن ينفعل من جديد ولكنه حاول التحكم في اعصابه وكلمها في هدوء وأضاف مُحذرًا:
- لا وماله.. خليهم يجوا.. بس متنسيش لو جبتي سيرة لحد هابـ..
قاطعته في استنكار لتنظر له بأعين تصرخ بأنه غبي بالتأكيد:
- بقولك ايه، واضح انك غبي ومبتفهمش وأنا بتخنق من الغباء.. أنا موبيلي في ايدي بقاله يومين، لو كنت عاوزة أقول لحد كان زماني قولت، بطل تخلف بقا
نظر لها باحتقار بينما ازدادت حدة قبضته على ذراعها بعد تلك الإهانة التي صفعته بها وتحدث بإشمئزاز:
- هو أنتي وسخة كده في كل حاجة حتى في كلامك
ابتسمت في سماجة وهمست بنبرة مُستفزة:
- هو أنا بقا كده، بلاء من ربنا.. طلقني لو تحب
اندلع الغضب بدماءه وتملكه الإستفزاز ليصيح متوعدًا:
- هربيكي على كلامك ده .. وديني لا اربيكي
ضحكت باستهزاء وهي تتهكم متمتمة:
- لا حوش الدين.. مصلي على السجادة يا عيني
تنهدت ولم تكترث له وتريثت لبرهة ثم عضت على شفتها السفلى وتحدثت بتلقائية له:
- أنا جعانة اوي.. مين بيعمل أكل هنا
نظر لها يتطلعها بنظرات مبهمة لم تفهم معناها لتبتلع بوجل من تلك النظرات وهي لا تدرك أنه يتابع شفتاها بينما تنبه هو سريعًا عندما قالت في كراهية بخشونة:
- ولا خلاص مش عايزة من وشك حاجة
ترك ذراعها ينفضه في تقزز ثم أخبرها بإمتعاض:
- عندك في التلاجة
ذهبت وتفقدت ما بها ووجدت أن أغلب الأطعمة يجب التحضير لها فتنهدت بيأس وأمسكت بيدها تفاحة ثم أوصدت المبرد لتستمع إلي نبرته التي تُملي الأوامر التي لا تنتهي على مسامعها:
- هنروح نداري وشك المهبب ده وتعملي شعرك وبعدين هوديكي البيت تقعدي مع نور عشان مش هاقدر اخدها الدفنة، حسك عينك أعرف بس انك ضايقتيها!! سامعة؟
اجابته بإقتضاب وفمها ممتلئًا بالتفاح تمضغه بإفتراس وترتشف القهوة أثناء ذلك:
- طيب
تعجب بداخله ولم يستطع إيقاف لسانه الذي اندفع من كثرة تقززه من هيئتها:
- حيوان بياكل!!
مط شفتاه بملامح تدل على تقرفه ثم تحدث بلهجة آمرة:
- قدامي يالا..
رفعت عسليتيها تتفقده بتقزز مماثل وتحدثت مرة أخرى وقطع التفاح الممزقة بفمها:
- بطفح.. استنى، مخلصتش القهوة حتى
استمع لصوتها الصادح بغرابة ليجز أسنانه بنفاذ صبر وهو يتحدث حانقًا:
- هجبلك طفح غيره برا! يالا قدامي
تركت ما بيدها ورمته بإهمال ثم تقدمته ليسير خلفها وهو ينظر لتلك البزة النسائية السوداء التي ترتديها بعض أن اختارها بنفسه.. أخذ يراقبها بفيروزيتيه الخبيرتان بأجساد النساء، مؤخرتها تتمايل بعفوية أمامه، تثير أي رجل لن ينكر، ولكن كلما تذكر فظاظتها وذلك الجبروت بعيناها تزداد كراهيته لها أكثر ليتمتم داخل نفسه متوعدًا وهما يغادرا منزله:
- عملالي فيها دكر!! ماشي يا حيلة أبوكي!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
رمقت تلك المرأة في تفحص ثم قدمت يدها لها وتحدثت بلباقة حاولت بأقصى ما لديها أن تكون مقبولة:
- أهلاً يا مدام هويدا
بالرغم من بساطة كلماتها إلا أنها كادت تشعر بإحتراق "هويدا" أمامها، تلك الفيروزيتان تآكلتها بتعالي وغطرسة من مقدمة رأسها لأخمص قدماها مما جعلها تتمتم بداخلها:
- لا ده واضح انك ابن امك فعلاً
أخفضت من يدها عندما رفضت الأخرى أن تصافحها وتفحصتها أكثر لترى تشابه العينان ونفس الغطرسة والغرور اللذان يملكهما جاسر وظلت تحدق بها بتلك الأعين العسلية الجريئة، لا يبدو عليها الحزن بتاتًا، ليس وكأن زوجها مات منذ ساعات نهائيًا لتُفكر بداخلها كيف لها أن تكون بمثل هذه القوة والأناقة وزوجها المتوفي لم يمر على مفارقته للحياة سوى ساعات؟!..
تجاهلتها "هويدا" وهي تشتعل غضبًا ثم حولت عيناها نحو "جاسر" بصرامة وحقد دفينان وزيفت الحزن ثم حدثته في ذهول:
- جايبها يا جاسر هنا! قدامي كده! هو ده ابني اللي بيحبني وفارق معاه زعلي؟
زم شفتاه في تأزُم ثم حدثها بنبرة جديدة مليئة بالإمتنان والوقار لم تستمع لها "سيرين" قط:
- معلش يا أمي.. هنعدي بس اليـ..
قاطعته في إندهاش هائل لتصرخ به:
- ده أنت بتستفزني بقا! بقى ده جاسر ابني اللي ربيته!! يا خسارة!
رفعت حاجباها في اندهاش ثم تكلمت بتلقائية:
- معلش يا مدام هويدا.. عموماً أنا مش هاسبب لحد ازعاج!
لا يدري لماذا شعر وكأن كلماتها ساخرة بدلاً من متأسفة، ووجدت نظرات والدته له وطريقة معاملتها له وكأنها تُأنب طفلًا في العاشرة من عمره فقررت بداخلها أن ترفع سقف صعوبة تلك اللعبة قليلا ولكن بادر بصياحه بها عندما لاحظ غضب والدته الذي يتزايد:
- اخرسي ومسمعلكيش حس!
تلاقت أعينه التي يتطاير منها الغضب بتلك الأعين المتحدية في جسارة لا نهائية ولكنه لن يسمح أبدًا بالتعدي من قبلها على راحة والدته وإغضابها فصرخ بها من جديد بلهجة آمرة:
- امشي غوري اطلعي فوق!!
أيظن أنها اهتزت بداخلها مثلًا بصراخه هذا؟ فليتعفن هو تلك الساحرة الشريرة! ستريهما!!
همست بأنوثة طاغية لا يدري هو ولا حتى نفسها من أين آتت:
- حاضر يا حبيبي..
انفرج ثغر "هويدا" بصدمة شديدة بينما اندهش "جاسر" رافعا حاجباه في عدم تصديق من كلماتها ولم تترك لهما الفرصة وفرت للأعلى بسرعة وهي لا تعرف حتى إلي أين تأخذها قدماها ولكن بداخلها شعرت بالإنتصار وهي تترك هذا الطفل الصغير مع أمه لتعنفه مثل ما تريد بعيدًا عنها..
تجولت عيناها بتفاصيل المنزل الذي يبدو عليه الثراء الفاحش وتمتمت بداخلها وهي تمشي بين الغرف على يمينها ويسارها:
- عايشين ملوك بفلوس ابويا يا ولاد الكلب!!
توقفت للحظة عاقدة ذراعيها في تساؤل:
- هي أمه كمان مش طايقاني! كانت هتولع أول ما شافتني! ايه فيه ايه لكل ده؟ مش المفروض اننا اللي مظلومين؟ ايه اللي حصل خلاهم كده؟
فكرت ولكنها لم تجد اجابة وظلت شاردة فقاطع شرودها فتاة يبدو عليها الحزن الشديد، الوحيدة التي جعلتها تشعر بأن هناك حالة وفاة بهذا المنزل وسألتها:
- أنتي مين؟
بدت شديدة الشبه بـ "جاسر" ليترجم عقلها أنها أخته فأجابتها بإقتضاب سائلة:
- أنا سيرين، وأنتي؟
صاحت مجيبة بنحيب في البداية ثم تحول لبكاء هستيري بعد أن انتهت من قول ما ارادته:
- أنا نور أخت جاسر.. بابا مات يا سيرين.. مات وهو بيوصيني عليكي..
نظرت لها وهي لا تدري ماذا عليها فعله، لن يسمح لها جسدها بضمها وأخذها بعناق نظرًا للأوجاع التي لا زالت تشعر بها، أيضًا لن تستطيع الوثوق بها هي الأخرى فمن الممكن أن أخته قد تكن لها الكراهية هي الأخرى..
ولكنها قررت أن تترك هذا جانبًا وأخبرتها مُقدرة الموقف الذي تمر به:
- ربنا يرحمه.. البقاء لله.. شدي حيلك..
همست بين نحيبها في حرقة وهي لا تزال تبكي:
- أنا مش قادرة أصدق أنه مبقاش موجود.. مش قادرة أتخيل إني خلاص مش هشوفه تاني
لم تدر ما الذي عليها قوله، هي ليست معتادة على أن تواسي أحد فتمتمت لها:
- ادعيله.. ربنا يرحمه ويغفرله
نظرت لها "نور" في قلة حيلة ثم جففت فيروزيتيها التي حاوطهما الاحمرار من كثرة البكاء ثم أخبرتها في طيبة:
- تعالي يا سيرين ادخلي معايا مش هنفضل واقفين هنا.. أنا كمان كنت عايزة أتكلم معاكي
عقدت "سيرين" حاجبيها بتعجب لما سمعته ثم تبعتها بعفوية لتجد نفسها بغرفة، ثم وصدت "نور" خلفهم الباب لتجلس نور على أريكة أمام سريرها وأخبرتها:
- تعالي اقعدي جنبي
فعلت ثم نظرت لها مترقبة بينما تنهدت "نور" بحرقة وآسى وشرعت في الحديث:
- كان نفسي أتعرف عليكي في وقت احسن من ده، بس زي ما انتي شايفة الظروف مسمحتش.. أولاً قوليلي، جاسر عامل معاكي ايه؟
بدت الطيبة على ملامح تلك الفتاة ولكن كيف لها تجيب؟ هي ليست من يشكو ويحكي لأحد، لقد قررت أن يظل الإنتقام بينهما منذ البداية، لن تستطيع أن تُخبرها بشيء، هي حتى لا تثق بها بعد!!
قررت ترك تلك الأفكار جانبًا الآن واجابت بإقتضاب:
- كويس..
تفرست "نور" ملامح "سيرين" للحظات لتدرك أنها لا تصدقها ولكنها حدثتها مرة أخرى بطيبة شديدة:
- بصي، أنا عارفة ان جاسر صعب بس هو والله طيب، أنتي قابلتي ماما؟
كادت أن ترتمي على الأرض من كثرة الضحك الذي أرادت أن تضحكه وهي تتحدث لنفسها في تهكم:
- طيب، ده بلسم، حنين اوي الواد مقولكيش!
منعت عقلها الساخر ثم اجابتها:
- آه قابلتها من شوية تحت..
زفرت "نور" في يأس وحاولت إيضاح بعض الأمور لها:
- أنتي يمكن لسه متعرفنيش بس بكرة تعرفيني، وعارفة أنك أنتي وجاسر ظروف جوازكم جت كده عشان بابا منعه هو وماما من الميراث، وعارفة كمان أن باباكي وبابايا زمان حصل بينهم سوء تفاهم في الشغل وماما ساعتها كانت المدير المالي واخدت كل فلوسه وهي مكانش ليها الحق في ده..
تريثت لبرهة ثم أكملت في وهن وقلة حيلة:
- بالرغم من أنها أمي ومتأكده من طبعها الصعب وأكيد عاملتك بطريقة مش كويسة بس اللي اقدر اقولهولك إن جاسر ملوش ذنب، هو وهي علاقتهم ببعض قريبة اوي زيادة عن اللزوم وهو ممكن من الباب للطاق يعادي أي حد علشانها!!
هو بس تلاقيه لسه متعصب لأن الموضوع معداش عليه كله اسبوع، الخبر نفسه وموت بابا والجواز كل ده صعب عليه، وأنا عموما مليش دعوة بكل ده، أنا بحب أهلي آه وممكن آكل اللي يهوب ناحيتهم بس أنا دايما مع الحق وبكرة تشوفي ده بعينك كويس..
لم تكمل ما أرادت قوله بينما استمعا لصياح أنثوي متسائل:
- نور أنتي هنا وأنا بدور عليـ..
توقفت "رزان" من تلقاء نفسها وهي تدخل الغرفة لترمق "سيرين" بنظرات كراهية شديدة ونفور لتتسائل بإمتعاض وملامح اختلفت في ثوانٍ وهي تتفحصها بعد قبول لتدفع "سيرين" للشعور بعدم الراحة نحوها:
- أنتي بقا سيرين؟!"
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
تنهدت "هويدا" براحة وهي تقول:
- ياااه أخيرًا خلصنا.. عاوزين بقا نروح النادي ونخرج بعد وقت الإمتحانات ده..
تحدث "هشام" بنبرة حماسية وهو يقول بحسن نية:
- لا نادي ايه.. أنا بفكر نفتح شركة..
تعجب "شرف الدين" مما استمع له ورد مُعقبًا:
- شركة ايه بس يا هشام احنا لسه يادوب مخلصين آخر امتحان، لا معانا رأس مال ولا معانا حتى شهادة التخرج
انتظرت "هويدا" وهي تنظر لهما في اهتمام بينما عاد "هشام" للتحدث بنبرة اقنعت كلاهما للغاية:
- بص أنا معايا رأس المال وكمان شوية أراضي ورثتهم عن والدي الله يرحمه، على ما ندور على المقر وتعينات الناس اللي عندهم خبرة تكون الشهادات طلعت، وأنا وأنت هنكون أحسن مهندسين، والتسويق كمان متشيلهوش هم أنا هامسكه كله ونساعد بعض ويبقا المشروع بتاعنا
تسائلت "هويدا" بقليل من المزاح الساخر:
- وأنا بقا هستاكوا في النادي مش كده؟
ضحك كلًا من "شرف الدين" و "هشام" ليتوجه لها بالحديث:
- أكيد طبعا منستكيش.. أنتي اللي هتمسكي الحسابات ونعملك توكيلات ونريح دماغنا ونركز على المباني
ابتسمت له "هويدا" برقة وامتنان لما سمعته منه وشعرت وكأنه لا يُفكر سوى بها بينما شرد "شرف الدين"في وله تام بتلك الإبتسامة الرائعة واستمع لها وهي تقول:
- وأنا قدها.. هتشوفوا
رفع "هشام" حاجباه واتضح على ملامحه الرفض وهتف بها:
- حيلك حيلك.. لسه قدامنا حاجات كتير ولازم تتدربي كويس.. فيه واحد زميل والدي تروحي تدربي عنده الأول
ابتسمت مرة ثانية نحوه ولم تر تلك النظرات العاشقة الموجهة إليها من "شرف الدين" ثم أومأت بالموافقة وهي تخبره:
- ماشي خلاص اتفقنا.. يالا بقا العزومة عليا المرادي بمناسبة نهاية الامتحانات
هنا تدخل "شرف الدين" وهو يقول:
- لا المرادي عليا أنا
توجه ليحتفل ثلاثتهم بنهاية الامتحانات واقتراب حصولهم على الشهادة النهائية وبكل منهم دوافع ومشاعر لم يعلم أحد حقيقتها بعد.
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
تنهدت في وله شديد وهي تهمس قائلة:
- مش ممكن يا هناء.. بحبه اوي بجد، قد ايه gentle man وواثق كده في نفسه
سألتها "هناء" أختها وهي تنظر لها لتستطيع تفسير أي شيء عن ذلك الرجل الذي تسمع عنه منذ الكثير من الوقت:
وهو بيحبك بقى بعد كل النحنحة دي؟
اجابتها مبتسمة وهي تهمس بجملتها الأخيرة:
- هو لسه يعني متكلمناش ومحدش صارح التاني بمشاعره ودايما شرف الدين لازقلنا، مبيفارقوش بعض، بس تعرفي النهاردة اتفقنا نبتدي بشركة صغيرة وأنا هامسك كل الحسابات فيها وفي يوم هاكون أنا المدير المالي وهبقى الكل في الكل.. وقالي منستكيش..
رفعت حاجبيها في عدم تصديق وحدثتها في تهكم سائلة مرة أخرى:
- ولما أنتي هيمانة اوي كده متأكدة أنه بيحبك؟
صاحت بثقة لا نهائية مجيبة:
- يا بنتي أكيد طبعا هيلاقي احلى مني فين؟
ابتسمت لها "هناء" وهزت رأسها بإنكار وحاولت أن تنصحها خوفًا على اختها:
- عمرها ما كانت بالشكل يا هويدا.. حاولي تفهمي يا حبيبتي، مش عايزة حد يضحك عليكي ولا تصحي فجأة من الحلم اللي أنتي عايشة فيه بقالك تلت سنين واهو مفيش حاجة اتغيرت
نهتها مسرعة وقالت:
- أصل أنتي مش فاهمه تفكيره، هو طموح ومنظم اوي، أكيد مستني بس يوقف على رجليه ويعترفلي بكل حاجة وهيجي يطلب ايدي..
قلبت شفتاها في تعجب وتنهدت في قلة حيلة ثم اخبرتها:
- لو كده، ربنا يوفقك.. يارب بس يطلع كل اللي قولتيه عنه صح
اخبرتها بإبتسامة ونبرة متفائلة:
- يارب
شردت بصورته التي لا تبرح خيالاتها وهي تتأكد أن ذلك الرجل هو الوحيد الذي خفق له قلبها بشدة ولا تستطيع إلا أن تفكر به ليل نهار دون ملل.
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
وقف وهو يتلمس ذراعه في ود أبوي ثم أخبره "هشام" بطيبة
- البقاء لله يا جاسر يا ابني.. شد حيلك واعتبر إن شرف الدين عايش بالظبط..
نظر له "جاسر" مبتسما بسخرية تعجب لها "هشام" لوهلة ثم أومأ له ولم يبادله الحديث لتأتي "سيرين" من خلفه لتعانق أبيها بلهفة وهمست به:
- وحشتني أوي يا بابا
تحملت الوجع الذي بجسدها وحاولت أن تتفلت من عناقهما سريعًا كي لا يشعر بتلك الضمادات وانعكاسها بالملابس وأخبرها في حنان واشتياق جعلاها تشعر بأن مجرد وجوده في الحياة يُعني لها كل شيء:
- وانتي كمان يا سيرين، وحشتيني يا حبيبتي..
ابتسمت له في هدوء وحدثته في حماس ولكن دون مبالغة كي تتلاءم كلماتها بالموقف الذي يمر به الجميع:
- ما أنا هاروح معاك النهاردة.. هنسهر بقا يا سيدي للصبح
تسائل "هشام" في تعجب عندما استمع لها:
- مش هتروحي مع جوزك ليه؟
اجابته مسرعة بعد أن فكرت في تلك الحجة مرارًا بينما تابعت فيروزيتي "جاسر" حديثهما على مقربة:
- جاسر مشغول شوية ووراه حاجات وإجراءات كتيرة وأنا بردو نسيت آخد هدومي وعارف اني مبحبش أشتري حاجة فقولت يعني على ما اظبط حاجتي وكده وارجع تاني
حدثها "هشام" في طيبة مُخبرًا اياها:
- طيب يا حبيبتي براحتك
توجه نحو "جاسر" وحدثه في ود وكأنه ابنه وهو لا يعلم ما يخفيه عنه وما فعله بإبنته الوحيدة التي لا يملك بالحياة سواها:
- جاسر يا حبيبي البيت مفتوح اتفضل في اي وقت، حتى لو هتخلص متأخر تعالى وقت ما تحب
تمتم بإقتضاب له:
- شكرًا
بينما كان عقله يصيح ساخرًا:
- خليها اشبعلك منها شوية.. هيكون آخر أسبوع ليكو مع بعض، أكون ظبطلك موته ايه إنما تمام.. تليق بواحد قذر زيك..
توجه كذلك نحو "نور" وهو يشعر بالحزن لأجلها مُتخيلًا لو كانت ابنته مكانها:
- البقاء لله يا نور يا بنتي.. أنا جنبك وأعتبريني بابا بالظبط، في أي وقت تحتاجيني هتلاقيني
ابتسمت له بوهن ثم ردت في امتنان:
- متشكرة أوي يا أنكل، كفاية الوقفة اللي وقفتها معانا في المستشفى عمري ما هنسهالك
التوت شفتاه في ابتسامة تصرخ بالآسى وهمس في حزن:
- عيب متقوليش كده، باباكي ده كان نصي التاني يا نور..
دمعت عيناهما في حزن ليشاهدهما "جاسر" ورمقهما بنظرات سخرية ليصرخ بداخله في غيظ حاول دفنه بأعجوبة ونظرات التوعد تنهمر من عينيه:
- لا حنين اوي يا زبالة، ده أنا هحرقلك قلبك على بنتك بس اتك على الصبر
همس "معتز" بأذنه عندما لاحظ تلك النظرات الحارقة لكلًا من "سيرين" ووالدها:
- إمسك نفسك شوية يا جاسر الناس تقول ايه؟
رمقه بنظرات جافة وصارمة ثم تأهب لـ "هشام" عندما اقترب من والدته وتعالى لهاث غضبه:
- البقية في حياتك يا هويدا
نظر لها "هشام" بآسى لتلك التي أعتبرها في يوم أختٍ له ولكنها دمرت حياته يوما ما لتبادله هي الأخرى نظرات حقد وحدثته بإقتضاب:
- حياتك الباقية يا هشام
شعرت بالإحتراق يلتهم دمائها لتصرخ بداخلها:
- جي تعزيني فيه، جيلي وأنت حمى ابني؟ دايما بتكسب كل حاجة يا هشام وأنا بخسر، بس صدقني المكسب الأكبر هيكون ليا، المكسب النهائي إنك تجيلي وتترجاني اسيب بنتك في حالها أنا وابني.. بس ساعتها يا ترى هيكون ينفع ولا لأ!
تحولت في لحظات لتتفقده بنظرات غريبة لم يستطع "هشام" تفسيرها بينما فهمها "جاسر" على أنها نظرات كراهية بينما ترجمتها "نور" بطريقة أخرى، ولكن "هناء" الوحيدة التي فهمت جيدا ما معنى تلك النظرات..
توافد العديد للتعزية واجتمع آخرون و "سيرين" تُفكر بخطتها، يكاد صبرها ينفذ حتى تخبر صديقيها بكل شيء، عليها أن تفعل كل ما تفكر به بسرعة مطلقة وإلا سيكسرها حقا كما يهددها وهي لن تترك له حياتها وحياة والدها ليُدمرها هكذا دون معرفة السبب الحقيقي لكل تلك الكراهية..
ظلت تنتظر حتى انتهى الجميع بعد ساعات وغادرت بالنهاية بصحبة والدها وصديقيها تحت نظر "جاسر" الذي ظل يتوعد لها هي وأبيها بداخله متخيلا كل ما سيفعله بهما..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
شعر "مراد" وكأنه يحترق عندما أخبرتهما ما حدث لها على يده ولماذا تزوجها من الأساس بينما صاح "رامز" في غضب شديد:
- يا ابن الوسـ** يا حيوان!
تكلم "مراد" في حرقة غضبه هو الآخر:
- احنا لازم نوقفه عند حده، نروح نعمله محضر وممكن نسجنه ده احنا نوديه في ستين داهيـ..
قاطعتهما في همس مُحذرة:
- هشششش.. وطوا صوتكوا مش عايزة حد يسمع حاجة!
رمقاها في غضب لأجلها ولكنهما انتظرا أن تتكلم بعد تلك الملامح التي يبدو وأنها تود أن تقول شيئًا لتهمس من جديد:
- بصوا وركزوا معايا كويس، أنا حسبتها من كل الجهات، أنا مش عارفة ايه اللي مخليه مش طايقني أنا وأبويا أوي كده.. وأنا راجعة في الطريق حاولت أفهم منه اللي حصل زمان من غير ما يحس بحاجة، قالي أن هويدا كده من الآخر كانت بتحبه، عرضت نفسها عليه وأنها تطلق من جوزها ويتجوزوا وكمان كانت بتحبه من زمان، كانت بتقوله يسيب ماما الله يرحمها عشان مبتخلفش وهو رفض، ساعتها كان جاسر عنده تسع سنين، وبابا وماما وشرف الدين وهويدا كانوا مسافرين مع بعض، وبعد السفرية ديه اللي رفضها فيها سحبت كل رصيده من البنك وقالتله أنه مكانش فيه فلوس، وطلعته سارق حاجات كتير ومديون.
تمتم "رامز" حانقًا مُعقبًا على كلماتها:
- الولية ديه أنا مرتحتلهاش من أول ما شوفتها في العزا! كنت متأكد انها مش طيقانا!
زفرت زفرة مطولة ثم تابعت:
- ساعتها لما بابا وماما رجعوا كانت حامل فيا وحملها كان صعب، كل الفلوس اللي كانت معاهم كانت يادوب تقضي وماما باعت كل دهبها واديته الفلوس يعمل بيه شركة صغيرة ورهنوا البيت كمان عشان بابا يقدر يبتدي، بس الدنيا كانت ماسكة شوية معاهم لما جت تولدني كان لازملها عملية برا مش في مصر وطبعا بابا على ما حاول يتصرف كانت ماما خلاص..
تحجرت الدموع بمقلتيها لينهض "مراد" واتجه نحوها واقترب وهو يُحدثها في حنان بعد أن تحولت ملامحها للحزن:
- حبيبتي يا سيري.. احنا جنبك واستحالة نسيبك، شوفي عاوزه تعملي ايه واحنا معاكي
رمقته في صلابة وخشونة وكأنها لم تكن على مشارف البُكاء منذ قليل ليزجره الآخر:
- استنى بس يا عم الحنين أنت، كل اللي بتقوليه ده ميخليش جاسر يعمل فيكي كده، ما اهو استحالة يعني تكون أمه مفهماه أنها كانت بتحب أبوكي فيبقا عايز ينتقم منك أنتي وهو ويبهدلك، أكيد الشيطانة ديه لعبت في دماغه، أكيد مفهماه حاجة تانية..
أومأت له وهي توزع نظراتها بينهما وتابعت حديثها:
- أنا برضو قولت كده، أكيد شرف الدين مع الوقت عرف إن بابا مسرقش حاجة منهم، وعشان كده صمم جاسر يتجوزني ويخلف مني وإلا يحرمه من الميراث هو وأمه، كمان نور بعد ما اتكلمت معايا النهاردة حسيت إنها واخدة صف باباها، عموما احنا مفيش قدامنا وقت، أنا فكرت كويس هنعمل ايه.. ولازم تساعدوني لأن مش هاعرف أعمل كل ده لوحدي
تريثت لبرهة لترى استجابتهما ليتحدث "رامز" بنفاذ صبر:
- بلاش نظام شوق ولا تدوق بتاعك ده.. اتكلمي يا سيرين!!
تنهدت وهي تتحدث في همس بكل ما فكرت به:
- كل شركاتنا عاوزاها تختفي تماما، نشتغل من الباطن مع ناس تانيين، نمحي اسم هشام منصور، هنغير أسامي تلت شركات كبار، واحدة يمسكها مراد واتنين رامز يمسكهم وكل اللي هيتبقى سيولة وهاكتبها بودايع بأسمكم في البنك..
اندفع "رامز" متكلمًا في رفض قاطع:
- أنتي بتهرجي؟ ده فيه عملا بالهبل ممكن نتبهدل بسببهم ومفيش وقت لكل ده والموظفين هيمسكوا فينا وصباح القواضي
أومأت بإنكار ثم تابعت في توسل مُلحة:
- يا رامز اسمعني بس.. بلاش شركتين.. خليهم تلاتة لأن أصلاً كده كده عيلتك جامدة أوي وواصلين، ومتزعلش مني يا مراد بس أنت هتمسك شركة واحدة وأهم العملا نحطهم في الشركات ديه والشركات اللي برا مصر يا نديرهم من الباطن يا نشوف حد يشتريهم واحنا أسهمنا كويسة ووضعنا المالي يخلي أي حد يشتريهم!
تكلم "مراد" في هدوء ولكن نبرته كانت تعج بالإندهاش:
- اللي أنتي بتقوليه ده محتاج وقت جبار..
تأفف "رامز" من كلاهما ثم تحدث ساخرًا:
- وأنتي ايه اللي يضمنلك إن جاسر مش هياخد باله من كل ده وبابا هشام مش هيوافق.. مش هيرضى أصلاً!
ابتلعت في توتر وهي تنظر لكلاهما وقالت:
- جاسر هنلهيه، أنا هتعامل معاه بطريقتي وكمان، نوقفله كل الخام اللي شغال بيه، نشوف ليه مصانع ولا شحنات جاية من برا واهو يتلهي فيهم على شوية قواضي يا رامز وأنت عمك يقدر يعمل بلاوي اهو يدينا اسبوع ولا عشر أيام كمان وأنا قاعدة معاكم هنا أسبوع يبقى كده اسبوعين..
هنا تدخل "مراد" في تساؤل:
- طيب وبابا هشام! هنقنعه ازاي كده ممكن يحس بحاجة!
زفرت "سيرين" في خوف وتنقلت عسليتيها بينهما لتهمس على حذر:
- بابا هيموت!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
#يتبع . . .