-->

الفصل الحادي والستون - شهاب قاتم

 

 


الفصل الحادي والستون

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢


~ أنتى تظنين أن الكذبة تعادل الأخـرى، لكنك مخطئة..

 أستطيع أن أختلق أى شئ، وأن أضحك على ذقون الناس وأخدعهم، وأن أقوم بكل أنواع التدليس من دون أن أشعر بأنى كاذب. .

فهذه الأنواع من الكذب، إن شئتى أن تسمى هذا كذبًا، هى أنا، أنا على حقيقتى.. فبهذه الأنواع من الكذب لا أخفى شيئًا، بل أعبر عن الحقيقة..

 لكن هناك أشياء لا أستطيع الكذب فيها.. هناك أشياء خبرتها جيدًا، أعرف معناها وأحبها، وهى أشياء لا أتساهل فيها..

 الكذب فيها حطّ من قدرى، وهو أمر لا أطيقه، فلا تطالبينى بيه، لأننى لن أفعله.

(ميلان كونديرا)

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

العاشر من مارس عام 2020..

وقف يحدق في تلك المياة الزرقاء التي تبعد عن منزله بقليل من الأمتار.. كلما آتى إلي هنا لا تداهمه سوى الذكريات السوداء التي صنعت هذا الرجل المخادع الذي هو عليه.. 

يتسائل بينه وبين نفسه في طيات عقله القاتم، بعد كل تلك الجلسات العلاجية، بعد عشقه لها، بعد كل ما مر به، هل ما هو عليه صائب أم خطأ؟ هل تلك السعادة التي عايشها يُريد منها أكثر أم لا؟ هل بعد تلك الهدنة غير المعلنة صراحةً قد تغير شيئًا بينهما؟

أحيانًا يظن الإنسان أن تحقيقه لأمر ما سيُنهي تعاسته، يحارب بإستماته للوصول ظنًا منه بأن هذه هي السعادة الحقيقية، يمشي في حياة لا نهائية من الصراعات، مليئة ببؤر من البؤس، وبعد الوصول لنهاية الطريق الوعر الذي ظن أنه الخلاص لكل ما يعانيه سيجعله سعيدًا، يجد أنه لا يزال بائسًا وتلك الرحلة الشاقة أسفرت عن اللاشيء!

المزيد من شروده وتحديقه في كينونته وحياته البائسة بصحبة دخان يستنشقه ثم ينفثه بلا هدف جلي قد تطاير أغلبه بفعل ذلك الهواء الشديد أمام البحر وصعوبة مواجهة نفسه القاتمة وجد أنه لم ينجو ولم يصل لشيء واضح! 

هل تعشقه؟ هي تفعل وبجنون وقد تأكد مرارًا.. هل يعشقها؟ نعم، يعشقها بطريقة لا يسع له إدراكها ولا فهمها.. إذن لماذا لا يشعر بالسعادة؟ 

هل لأنه كاذب ومخادع؟ أم لأنها هي الكاذبة والمخادعة؟! هل لم تخبر أي احد بما عاناه وأبقت كل تلك الحياة المزرية طي الكتمان؟ هل له أن يُصدقها؟ لا يدري! 

العائلة، المال، العشق والزواج من إمرأة مثلها، تحقيقه للإنتقام من كل من يكرهه.. هل هذا يجعله يشعر بتحسن؟ من جديد هو لا يدري!

أتعلم ما هي مُشكلة مريض مثله؟ الشعور بالنبذ كلما أقترب من احد واكتشف حقيقته! منبوذًا كطفل، كمراهق، كشاب، وفي النهاية منبوذًا من إمرأة يعشقها! 

نُبذ من اخيه الذي بات لا يُحدثه سوى في تفاصيل العمل، لم يتعامل معه أبدًا مثل ما رآه يوم خطبته مع أصدقاءه، لم يكن يومًا مثل "سليم" والعائلة مجتمعة حوله.. نُبذ من والدته وأخته كلما بدأ احدهما في فتح حديث رفضه بذكاء وتلوى كالثعبان هاربًا منه.. نُبذ من "غادة" مرارًا كلما اقترب منها.. وفي النهاية يشعر بالنبذ من "فيروز" بالرغم من ذلك العشق الذي لم يكنه سوى لها على مر تلك الحياة البائسة!

لماذا لا يفهم أحد تلك الطريقة التي يعشق بها؟ لماذا الجميع يبتعدوا عنه في النهاية؟ لماذا عليه كل مرة تجرع المرارة وحده؟ عدة امتار يفصلونه عن المرأة التي يعشقها بجنون ولا تسمح له بالإقتراب! يا لها من حياة مُزرية! 

ألا يرى أنه يستغل الجميع لذا يبتعدوا في النهاية؟ ألا يشعر بأن كل فعل بالإستنزاف ترتكبه يداه يجعل من أمامه يريد الهروب بعيدًا عنه؟ هذا هو الحل معه الذي لا يريد إدراكه.. الإبتعاد عن الجميع.. العزل بعيدًا عله يرتدع!! محاولاته بأكملها لن تُسفر سوى عن الأذي وإلحاق الآلم بكل من حوله.. 

تلك الشخصيات المريضة السامة التي تتعايش على استنزاف من حولها أُشفق عليهم بشدة!! في نهاية المطاف، في نهاية سنوات حياتهم البائسة، ينتهوا وحدهم.. بمفردهم.. الجميع يتهربوا منهم كي ينتهوا من إيذائهم! 

 أشرأبت بنيتيه القاتمتين تنظر بالسماء تسقط في بحر الدجى وهو يُفكر جيدًا.. حديث "فيروز" معه بالسابق، كلمات ذو النظارة القبيحة.. تلك المقالات والكتب التي قرأها.. أهناك أمل في تلك القتامة للتحول إلي النور؟ ولو فعل هل سيتزوجها؟ الطريق وعرًا ولكن هل نهايته هذه المرة ستكون حقيقة أم سيجد السراب بدلًا من المياة التي ود أن يرتوي بها بعد رحلته المفجعة في بيداء نفسه؟!

التفت وتوجه للداخل باحثًا عنها، هو يعلم أنها لا تغادر تلك الغرفة منذ أن آتت سوى للحظات.. ولكنه سيحاول.. مرة أخيرة.. ربما لن تخذله! لقد اعتاد منها تقبله على كل حال..

طرق الباب ثم دخل الغرفة ليجدها جالسة تشاهد التلفاز في جدية شديدة بملامح يظهر عليها القلق ليقترب جالسًا بالقرب منها على نفس الأريكة فابتعدت بتلقائية عنه وتذبذبت حركات حدقتيها وهي تبتلع ليدرك أنها لا تزال تتوتر حتى من اقترابه منها وبالرغم من محاولاته معها لأيام للتنزه وقص تفاصيل حياته البائسة عليها لم يجد منها أي تعاطف أو حتى مشاعر ودعم كما اعتاد منها بالسابق!

ضيق عينيه وهو يُحدق بها ثم نظر لما تشاهده وشرع في الحديث متسائلًا:

- ايه اللي مخليكي قلقانة اوي كده؟ بتتفرجي على ايه؟! 

أيمزح؟! ألا يستطيع المعرفة؟ ألا تظهر تلك القناة الإخبارية أمام عينيه؟ لن تجيبه وستُكمل صمتها حتى ولو بعد ألف عام! 

حمحمت وضمت ركبتيها أكثر أمام صدرها واحتوتهما بكلتا ذراعيها لتجده يجذب جهاز التحكم عن بُعد ويغلق الشاشة لتزفر بقليل من الغضب لشعورها بالإستفزاز مما يفعله وطأطأت برأسها تنظر في الأرضية وهي تحاول بداخلها أن تكبح غضبها كي لا يطغى على كل ما تحاول التفكير به علها تنتهي من تلك الأزمة التي أوقعت بها نفسها! 

نهض وظنت أنها ستتخلص منه ليباغتها بالجلوس أمامها أرضًا على ركبتيه وأخفض من رأسه بينما بينما ارتفعت قاتمتيه لمحاولة الحصول على خاصتها فتلاقت عينيه التي تبدو كاللغز بخاصتهيها المتأهبتان في تقزز واشمئزاز ولكن هذا لم يكن كفيلًا أن يُثبط إرادته بالتحدث معها ليقول في هدوء:

- عايز اتكلم معاكي.. مش هنفضل كده يا فيروز!

رفع يده في محاولة لتلمس يدها ففرت ناهضة وتركت له الغرفة فورًا ليزفر في حنق ونهض تابعًا اياها للخارج بينما أخذت تمشي بسرعة في محازاة البحر ليهرول خلفها إلي أن امسك ذراعها لتلتفت له صارخة:

- قولتلك متلمسنيش!! إيه مبتفهمش؟ 

نظر لها بأنفاسه المتسارعة نوعًا ما لهرولته خلفها وهو يتفقدها في حيرة وهي تحاول التفلت من مسكته فتركها فورًا وكادت أن تذهب من جديد لينظر لها بأعين تهتف بمزيج من اللوم والتحذير وحاوطها بذراعيه يمينًا ويسارًا لتدرك أنه سيتلمسها من جديد إن ذهبت ليتحدث لها بنبرة تحمل التوسل والإصرار على حد سواء:

- قولتلك هاتكلم معاكي! اظن كفايانا استفزاز في بعض لغاية كده!

رفعت حاجبيها في دهشة متعجبة لتتمتم بنبرة متهكمة:

- استفزاز! أنا بستفزك.. بجح.. والله العظيم ما شوفت في بجاحتك!

عقد حاجباه من تلك الكلمات وهو يتفقد ملامحها في تفكير سريع ثم أومأ بالموافقة وعقب قائلًا:

- تمام أنا بجح.. ومش عارف اتعامل معاكي.. بس عايز اتعلم!

ابتسمت في سخرية وهي ترمقه لوهلة بينما أشاحت برماديتيها بعيدًا عن وجهه ليبادرها بالحديث من جديد بنبرة متلعثمة:

- أنا اللي عملته.. و.. أنا مش عارف عملت ده ازاي! بحاول أصلح بس مش عارف.. أنا!

زفر في حنق منزعجًا من عدم استطاعته إيجاد الكلمات التي يود أن يعبر بها عن رغبته وتابع من جديد بصعوبة دفعت صوته للتحشرج:

- أنا بحبك! بحبك وبوظت كل حاجة علشان انتي خدعتيني ومش عارف اعدي الموضوع ده!

رفعت عينيها إليه ليتبادلا النظرات لثوانٍ لتجد من جديد تلك الملامح التي وقعت في عشقها، الملامح الصادقة، أو التي تظن أنها صادقة.. من احاديثهما معًا وتلك الفترة التي مرا بها هنالك ذلك الصوت الذي يمتزج بالتوسل وحرقة الأوجاع كلما غادر حنجرته يتركها مذبذبة.. متشتتة بين مشاعرها وبين صوت عقلها.. ولكن ما فعله ليس بهين! لقد اعتدى عليها.. الأمر نفسه يُثير تقززها.. 

لمعت الدموع بعينيها ليزم هو شفتاه في جهل تام لما عليه فعله معها ليعاود التكلم بصعوبة من جديد:

- أنا عايز نرجع كويسين.. شوفي الصح اللي المفروض أعمله.. نعمل إيه علشان نكون كويسين! ممكن تعرفيني؟!

رمقته كالخائبة وهي تشعر أنها لا تستطيع التفكير لتنهمر دموعها في صمت وهمست بين دموعها في تهكم:

- نكون كويسين! .. 

رطبت شفتاها وهي تمرر بعض الهواء لرئيتيها وهمست متابعة:

- ابعد عني يا شهاب! ده الحل علشان اكون كويسة!

تركته مبتعدة وللحظة شعر بالشلل امامها ولكن غير مقبول بالنسبة له أن يتركها فلحق بها من جديد وهو يوقفها لتلتفت له بأعين باكية مصحوبة بنيران مستعرة وكادت أن تصرخ به فبادر هو:

- لو أنا مش بحبك.. لو انا سهل عليا ابعد.. ما كنت بعدت يا فيروز بس مش قادر.. 

لم تعد تصدق تلك التُراهات لتزفر وهي تشعر بالإختناق ليتوسلها هو بلذاعة مُصرًا:

- اديني فرصة.. آخر مرة.. هنحاول! انتي قولتي اننا هنحاول.. 

نظرت بعينيه تتفقدها في خوف وحيرة بينما فهم سريعًا ما أوشكت على قوله ليُكمل مُلحًا بنبرة استفهامية:

- نروح لدكتور.. مش ده اللي كنا بنعمله قبل الجواز؟ كنا كويسين.. نكمل؟! إيه رأيك؟

تصلب جسدها متبوعًا بملامحها المذهولة ولم يدل على وجود روح بها سوى أهدابها التي تتلاقى كل ثوانٍ وأنفاسها المسلوبة التي تُحارب في محاولة للهروب بحياتها بعيدًا عنه وعن تلك الدوامة من "سأكون أفضل" خاصته لتخضع ملامحه لمزيد من التوسل وهمس بها:

- قولي حاجة أرجوكي.. كفاية سكوت!

رطبت شفتاها وهي تحاول البحث عن الكلمات التي عليها قولها لتبدأ التحدث في همس مُشتت تحول إلي جدال وكلمات لاذعة لم تمر على عقلها وانطلقت مباشرة من تلك الآلام بداخلها:

- أقول.. أقول إيه؟ أقولك إني حاسة.. أو شايفة إن استحالة حاجة تنفع معاك؟ إني فقدت الثقة فيك؟ ولا.. ولا أقولك منظرك وشكلك مبقيتش طيقاهم بعد اللي عملته؟ مجرد الوجود معاك بين أربع حيطان بيرعبني! بيخليني.. بحس إني.. إنك ممكن تتهجم عليا تاني أو تمد ايدك ولأسباب.. لأ مفيش أسباب.. ده من غير سبب ممكن تعمل كل ده! 

أطرق برأسه للخلف وهو يرمقها في ذهول بعد أن ثبطت ذلك التلهف الذي كان ينتظر منها إجابة شافية مؤيدة لتوسله اياها منذ قليل بينما استعادت هي شجاعتها لتُكمل في ثقة:

- نفس كل حاجة بتتكرر.. بس المرادي الفرق إني خلاص بقيت مراتك.. نفس التمثيلية الرخيصة بتاعت هتغير وهاكون احسن!! بس عارف ايه الفرق المرادي؟ الفرق هو العشم.. الحب.. حبي اللي بتستغله في إني أوافق على كل غلطاتك واسامحك واخدك في حضني مرة واتنين وتلاتة ومليون! 

ابتسمت متهكمة إلي أن توسعت ابتسامتها لتُكمل بمزيد من الثقة:

- تسبني في الطريق بليل وتيجي تقول أنا آسف.. تحطلي خمرة في الأكل.. تخطفني.. تتهجم عليا في بيتك وأنا مدياك الأمان.. وفي الآخر إيه اللي اتغير؟ ولا حاجة جواك بتتغير! 

اعتديت عليا وضربتني واجبرتني بدل المرة اتنين.. مرة بالعنف ومرة بخبثك وبذكاءك.. بس المرادي مقولتش آسف.. عارف ليه؟ علشان خلاص بقيت ضامن إن فيروز مراتك، الساذجة اللي بتحبك.. اللي متوقع منها تسامح وتطبطب.. كلمة.. كلمة واحدة كان أي حد عنده شوية دم وعقل كان قالها! ده انت من يومها متأسفتش! 

انهمرت احدى دموعها بغتة ثم همست متابعة:

- كل اللي أنت بتعمله من ساعة ما جينا.. يهمك في ايه اعرف حياتك؟ وهنا حبيت غادة وهناك قتلت وهناك هربت!! ودي الجامعة وده المخزن وده أول مطعم تفتحه!! 

عايز مني نفس احساس التعاطف والحب بتاع زمان وأقولك معلش وكل ده اتغير.. عايز فيروز اللي دايمًا واقفة جانبك وهي بتقولك خلاص الوحش انتهى والحلو جاي وانسى وكل حاجة هتكون احسن! عايزني اكون فخورة بيك وأنا بقولك شاطر برافو على الحلو مش كده؟

أنت بغباءك ومرضك ضيعت كل ده.. ضيعت من ايدك الإنسانة الوحيدة اللي حبتك وقبلتك بكل ما فيك.. كرست كل ذكاءك في إنك تعمل اكتر حاجة بتوجعني.. الضرب والإجبار وهددتني بأهلي! وبعدين جاي تقولي فرصة! 

أومأت في استنكار وأكملت هازئة وهي تطبق اسنانها في قهر وآلم:

- الفرصة الوحيدة اللي ممكن.. ممكن.. وممكن بنسبة صغيرة أوي إنك تاخدها إنك تطلقني وتروح تتعالج في مصحة تأهيل مجرمين.. وابقى ابدأ بقى حياتك بعيد عني! 

رمقته في ندم وخيبة أمل لتهمس مُضيفة في النهاية:

- يا خسارة الحب اللي حبتهولك والثقة اللي وثقتها فيك! 

التفتت لتتركه في حالة من الشتات وابتلع وهو يُفكر في حيرة لوهلة بينما لحق بها مهرولًا خلفها إلي أن امسك بها من جديد وهمس في اصرار:

- أنا آسف.. آسف على كل حاجة.. بس لأ انتي بتظلميني! 

أنا من يوم الحادثة.. لأ من ساعة ما حاولت أقرب منك يوم عيد ميلادي وأنا كل حاجة في حياتي اتغيرت.. كل حاجة كانت كويسة.. لما عرفت إنك كدبتي عليا.. أنا.. اتصدمت فيكي.. حاولت اتعامل عادي بس مقدرتش.. 

نظر لها بمزيد من التوسل وعينيه تلتمع بالدموع ليترجاها في حُرقة:

- حاولي معايا.. حاولي تخليني مش عايز انتقم.. أنا مش عارف اعمل ايه يا فيروز.. 

أخذها الذهول من جديد المصحوب بالتقزز منه لتصرخ به:

- تنتقم من إيه؟ من إني كنت عايزة اساعدك تتغلب على مرضك.. تنتقم من راجل صعبت عليه وشايف إنك زي ابنه واشترى أرض وعمل الليلة دي كلها علشان يساعدك .. أنت مرضك عامي عينك للدرجادي.. مش قادر تفهم إنه كان ممكن يقدم كل اللي معاه ومسكه عليك ويسجنك! ولا أنـ..

تحكمت ارتجافة الإندهاش من ملامحها وقد توقفت من تلقا نفسها عن الحديث وتابعت لتسأله في رعب وترقب وهي تبتعد عنه بخطوات للخلف:

- انت اللي ورا حادثة سليم وإياد وحرق مخازنهم؟ صح؟ انطق ورد عليا.. أنت اللي عملت كده ولا مش أنت؟

انعقد لسانه وهو يُفكر لوهلة بينما تلك النظرات من عينيتيها المستعرتان بلهيب الغضب جعلتاه يُصاب بمزيد من التشتت ووقف أمامها كالطفل الخائب الذي فعل لتوه مصيبة لتصرخ به وعادت لتقترب منه من جديد:

- أنت ولا مش أنت؟ جاوب عليا!!

ابتلع مرة أخرى وفي النهاية أومأ لها بالموافقة ونكس رأسه للرمال أسفل قدميهما لتباغته بصفعة قوية فرفع عينيه لينظر لها فقابلته بإحتقار لا نهائي ينهمر من حدقتيها وأنفاس لاهثة بالغضب ثم ألقت بتقزز المزيد من الكلمات على مسامعه:

- أنت انسان مقرف.. لا أنت شيطان.. يا ريتني ما عرفتك ولا شوفت وشك في يوم! قذر! 

بصقت بوجهه ثم تركته وتوجهت للداخل وعقلها كاد يُجن! بعد كل ما يفعله يأتي لها دائمًا ليُصارحها بكل شيء! يُصارحها بجرائمه، أيريد أن يُصيبها بالجنون أم ما تلك اللعنة التي يحاول أن يفعلها معها؟! 

شعرت بالسخونة تلتهم كل ذرة بجسدها لتفر هاربة إلي الحمام وهي تخلع كل ملابسها واتجهت لتقف أسفل المياة الباردة ولم يتهادى عقلها سوى أنها عليها الفرار منه بأي طريقة ممكنة!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

في صباح اليوم التالي..

الحادي عشر من مارس عام 2020..

تأفف من تلك الصرخات التي يستمع إليها ثم تكلم في هدوء بالإيطالية:

- احتاج بعض الوقت كلوديا.. امهليني بعض الأيام!

آتى صوتها الصارخ من جديد في تحذير:

- تلك الكورونا اللعينة تغلق البلاد أيها الوغد.. المطارات ستُغلق والجميع بالكاد يغادرون بيوتهم.. أمامك خمس أيام ليو! وإلا لا تلوم إلا نفسك! 

غضبها وإنهائها للمكالمة بتلك الطريقة لا يُبشر بالخير.. ولكنه فقط عليه أولًا أن يحاول مع "فيروز" من جديد ومن ثم سيرى ما عليه فعله مع "كلوديا" 

جذب الهاتف وحاسوبه بعد أن تأكد أنه لا يزال على الموعد قرابة النصف ساعة ثم توجه إلي غرفتها ليبحث عنها وطرق الباب ثم دخل لتتلاقى حدقتيها المحتقرتان ببنيتيه الجامدتين ليتوجه نحوها وهي جالسة على الأريكة ثم جلس بالقرب منها وابقى على مسافة بينهما وحدثها في هدوء:

- هاديكي الموبايل كلمي اهلك وكل اللي تحبيهم .. بس وانا جنبك .. طمنيهم وفهميهم اننا هنفضل قاعدين هنا لأن خلاص المطارات هتتقفل وأي حتة هتكون احسن من مصر اليومين دول.. مش هنرجع غير لما الدنيا تتحسن!! 

التفتت ناظرة له في اشمئزاز ثم صاحت به:

- مش شهاب الدمنهوري بيقدر على أي حاجة.. اتفضل رجعني مصر!! أنا مش عايزة اقعد هنا! ابقى ابني مستشفى تانية بقى!

زفر في ضيق من طريقتها تلك التي تتبعها معه منذ أيام ثم التفت إليها ليحدقها وكأنما لم يفعل شيئًا ثم تحدث متسائلًا بمزيد من الهدوء الذي استفزها:

- مش هاكرر كلامي تاني.. حابة تكلميهم وتطمنيهم وكأن الدنيا حلوة وكويسة ولا ملكيش مزاج؟!

رمقت الهاتف لتجده غير موصدًا بأية كلمات مرور ثم رفعت حدقتيها تنظر له في حالة تأهب لتجده يرمقها في هدوء بملامح متريثة في انتظار ردة فعلها لتجده يضيف:

- نصيحة مني كلميهم! مش عارف هديكي الموبايل تاني امتى! وأظن أنا وانتي عارفين ايه اللي ممكن يحصل لو قولتي حرف واحد معجبنيش! 

تفحصته لوهلة وهي تحاول ألا تفقد أعصابها وفكرت بأمر التوكيل الذي أنشأه لها لتومأ له ثم حدثته في ثقة:

- طيب سيب الموبايل وأخرج وأنا لما هاخلص هاديهولك! 

ابتسم بإقتضاب بينما أراح جسده على الأريكة خلفه ورد مُعقبًا: 

- أنا مش غبي.. ولا واثق فيكي ممكن تقوليلهم إيه.. مش خوف من حد بس يوم ما تقولي حاجة مش عجباني هتخليني أأذي اللي كلمتيه.. هتحبي بقى تيجي في مين؟ أهلك ولا هبة؟ ولا يكونش عقلك خلاكي تفكري تكلمي معاذ؟! 

نظر إلي ساعة يده يتفقدها بلمحة سريعة ثم رفع نظره إليها وتابع إلقاء توجيهاته التي استفزتها:

- انجزي علشان ورانا حاجات كتيرة.. ومتستغليش إني بحاول أكلمك بالهدوء وبحاول معاكي بقالي كام يوم اننا نبقى كويسين! 

ابتسمت ساخرة ثم حدثته بنبرة كارهه:

- بتحاول كام يوم.. لا متقلقش.. أنت حتى لو حاولت سنين مش هاتعرف تغير اللي أنت عملته! انت خلاص بقيت ولا حاجة بالنسبالي! مبقتش طايقة ابص في وشك!

كز أسنانه وهو يرمقها في غيظ محاولًا أن يكبح غضبه ثم أخذه سُعال فُجائي لم يستمر سوى لثوانٍ ليبتلع بعدها بقليل من الإرهاق ثم هتف مُحذرًا:

- خدي بالك الوقت بيعدي وانتي بتضيعيه.. براحتك بقى! 

رمقته في احتقار ثم جذبت الهاتف من جانبه لتجد كل الأرقام الخاصة بأسرتها موجودة وكذلك رقم "هبة" لتشرع في التحدث إليهم! 

راقبها من على مسافة وهو يتصنع تارة الإنشغال بالحاسوب، وتارة تفقد كتاب دون التركيز به وهو يتابع كل كلمة تغادر شفتاها وتأهب متحفزًا عندما انهمرت احدى دموعها وهي تتحدث إليهم ظنًا أنها ستخبرهم بشيء ليهدأ عندما عللت بُكائها بإشتياقها إليهم ليس إلا!

زم شفتاه بقليل من التعاطف وهو يرها قد وصلت إلي هذا الحد بسبب فعلته، أدرك أنها مُحقة.. لن يكون الأمر جيدًا إلا بعد كثير من الوقت.. وهو يخشى أنه لا يملكه معها! 

ماذا لو اكتشفت حينها أمر الزواج المُزيف؟ ماذا لو لاحظت أنه يُزيف كل صلاته؟ وماذا عنه هو الآخر؟ هل سيُصحح أمر هذا الزواج الذي لم يُثبت إلي الآن سوى بالعقد المُزيف محدد المدة التي ستنتهي عما قريب؟! هو حتى لا يعلم ما الذي يريده!! 

انتظر إلي أن انتهت من حديثها إلي الجميع لتأخذه نوبة سُعال من جديد هذه المرة كانت أشد من الفائتة ولكنه فسر أنها قد تكون بسبب سجائره التي بالغ في تدخينها ونظر نحوها لتأتي في تحفز ثم ألقت الهاتف إليه ليرتطم بجسده وصاحت به ولا تزال آثار الدموع حبيسة في عينيها:

- اتفضل موبايلك اهو وامشي اطلع برا! 

أمسك بهاتفه ليضعه جانبًا بعد أن ارتطم به ورفع عينيه إليها وأشار برأسه أن تجلس بجانبه ثم حدثها بلهجة آمرة ولكن دون أن يبالغ:

- اقعدي!

نفخت في عصبية وشعرت بدمائها تغلي في عروقها من شدة استفزازه إليها ثم مررت أصابعها في شعرها القصير في حنق لا نهائي لتصرخ به:

- أفهم!! أفهم إني مش طيقاك! افهم إني لما ببص في وشك مبشوفش غير واحد قذر مؤذي بيأذي كل اللي حواليه.. أفهم اني بقيت بشوفك شيطان! امشي بعيد عن وشي! 

تفحصها بمنتهى الهدوء الذي أخرجها عن التحمل لمجرد النظر إليه لتعود للتحدث من جديد:

- ولا تزعل نفسك.. أنا اللي هامشي!

التفتت متوجهة نحو الباب لينهض مسرعًا وأمسك بها وأرغم جسدها على الإستدارة ليتبادلا نظرات غضب لاذع فيما بينهما ليهمس في إصرار بين أسنانه المُطبقة:

- اتعدلي يا فيروز!! اتعدلي بدل ما اقلب عليكي.. أنا بحاول اكون كويس.. متخلنيش اطلع عن شعوري وارجع اوريكي الوش التاني

رمقته في ذهول وهي تحتقر كلاهما لإنعدام المسافة بينهما بهذا الشكل ثم صرخت به:

- إيه البجاحة اللي أنت فيها دي.. يا اخي مش طيقاك.. مش طايقة ابص في وشك بعد اللي انت عملته! مش طايقة لمستك كأن نار بتولع فيا.. مـ..

قاطعها صارخًا بطريقة جعلتها ترتجف لجزء من الثانية:

- ما كفاية بقى.. كفاية!

رمقها لاهثًا ثم تابع في همس:

- مكونتيش متوقعة مني اللي عملته مش كده؟ مكونتيش عارفة إني بمسك الستات اغصبهم؟! متوقعتيش إن شهاب اللي حبتيه واللي بيحاول يتغير علشان يرضي الدكتورة فيروز يعمل اللي عمله؟ 

صارحتك بكل حاجة واللي حصل حصل في لحظة كنت متعصب فيها ومعمي بإنك إنسانة كدابة وخاينة وثقت فيها وخانت ثقتي! 

وبحاول مرة واتنين وتلاتة معاكي من يومها وانتي برضو مصممة تكملي في هبلك ده!

عمالة تقوليلي بجح وقرفانة مني.. طب اللي أنا عملته كان متوقع، من عمايلي اللي عمري ما كدبت عليكي وانا بقولك إني عملتها، إنما انتي صاحبة لقيم والمبادئ، الإنسانة اللي بتحب الصراحة ومبتحبش الكدب.. لما تيجي تقولي انها كانت معيشاني في كدبة خمس شهور وشوية المفروض اعمل معاها ايه؟ 

اتسعت عيناها في ذهول لتصرخ به في جنون:

- وأنا لو مكنتش عملت الكدبة دي كنت سمحتلي اقرب منك؟ كنت رضيت إني اساعدك؟ عقلك المريض مخليك مش شايف غير إني كدابة؟ 

مش فاكرلي اي حاجة غير إني كدابة؟ كل اللي مر علينا ده مشوفتش منه غير إني خنت ثقتك؟ 

تحولت ملامحه للآسى ليُحدثها بحرقة:

- علشان فاكر حاجات كتير اديني بحاول! مش عارف انسى كدبتك ولا عارف انسى كل حاجة حلوة مرت علينا وكل كلامك عن حياة تانية أنا معشتهاش ولا عمري فكرت فيها غير بطريقتك.. انتي اللي علمتيني وادتيني أمل في الحياة دي! برضاكي أو غصب عنك هتحاولي معايا! 

 جذبها في عنف ثم ألقى بجسدها على الأريكة ثم سعل للحظات لترمقه بقليل من الريبة بينما تحدث في هدوء ومشقة اثر نوبة السعال التي واجهته:

- أنا حجزت عند زفت تاني لينا احنا الأتنين بس online.. انتي هتكوني معايا في الجلسات دي.. افتحي اللابتوب! 

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

الثاني عشر من مارس عام 2020.. 

لم تستطع الكف عن البكاء، لم تتوقف دموعها منذ تلك اللحظة التي سمعت صوته بها وهو يناديها، لا تستطيع منعها ولا تستطيع أن تترك يده وكل ما تمنته هو خروج الجميع حتى تستطيع أن تتحدث معه وحدهما وفي نفس الوقت شعرت بشلل لسانها وهي تحاول البحث عن الكلمات بينما لم تجد أيًا منها!

شعرت بحالة من الذهول، تستمع للجميع حولها ولكنها لا تستطيع الرد.. تشبثت بيده أكثر وذرفت المزيد من الدموع التي كانت دليل على أنها لا تزال حية..

رمقها في إرهاق ثم حاول التحدث لها في صعوبة من تلك الآلام التي لايبدو أنها لن تتوقف أبدًا:

- حبيبتي والله أنا هابقى كويس.. كفاية يا زينة علشان خاطري..

رمقته بزرقاويتيها ليتحول انهمار دموعها لنحيب لم تقو على ايقافه ليهمس لها مرة أخرى ممازحًا في خفوت كي لا يستمع أيًا من المحيطين بهما:

- طيب بذمتك موحشتكيش؟ أنا نفسي اخرج كل الناس دي برا علشان اطلع زوزا المزة اللي جواكي.. ونقضيها سفالة!

ارتسمت ابتسامة مقتضبة على شفتاها وقوت يدها على خاصته بينما لم تستطع أن توقف نحيبها فأقترب منها "بدر الدين" وهو يعانق رأسها إليه في حنان ثم حاول أن يمازحهما: 

- مش نبطل نكد ولا إيه.. أهو فاق اهو ياختي.. اتلموا انتو الاتنين بدل ما نفضل قاعدين في المستشفى دي.. لموا ليلتكوا ويالا على البيت وابقوا عيطوا في اوضتكوا براحتكم!

قبل رأسها ثم اقترب من "سليم" هامسًا له:

- سمعتك يا حيلتها.. لم نفسك ولما تبقوا لواحدكوا ابقى قولها اللي أنت عايزه!

ابتلع في إرهاق وهو يشعر بحنجرته تؤلمه من موضع ذلك الأنبوب الذي تم وضعه له لأيام ثم همس به في مشقة:

- مراتي يا عم.. مراتي والله!! 

نظر له في غضب زائف سرعان ما تحول لحزن عميق ثم همس له معاتبًا:

- بقى كده تسبني طول الفترة دي؟ مش تاخد بالك وانت سايق يا ابن الكلب! عايز تحرق قلبي عليك! ماشي.. تقوم تمشي على رجليك وانا اربيك على عملتك السودا دي يا ابن ليلي!

ابتسم بإقتضاب وكاد أن يُحدثه لتهمس "زينة" في صعوبة ليلتفت كلاهما نحوها: 

- حمد الله على سلامتك يا حبيبي.. 

ابتسم إليها في عذوبة وهما يتبادلان النظرات  ليقاطعهما "بدر الدين" مازحًا:

- اهي فاقتلك اهى.. لموا ليلتكوا وكملوا في البيت بقى..

رمقه "سليم" بقليل من الإنزعاج بالرغم من تلك الآلام التي يشعر بها ثم حدثه متصنعًا الضيق:

- انت ليه باصصلي في رزقي.. ما تروح لمراتك يا عم وسبني اقعد مع مراتي..

رمقه مُضيقًا سودويتاه نحوه في غيظ زائف:

- ورحمة ابويا لا هافضل لازقلك علشان تاني مرة تبقى تعمل حادثة يا حيلتها.. أنا رايح اشوف دكتور يخرجك من المستشفى دي!! لسه حسابي معاك بعدين! 

تركهما وغادر وهو يشير إلي المتواجدين حولهما بأن يتركوا لهما الغرفة ليتنفس في راحة وحاول التغلب على مشاعره الشديدة التي تحاول دفعه للبُكاء بأي طريقة .. مجرد أن تحدث معه من جديد واستمع لصوته بعث به الحياة مرة أخرى!! 

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

الثالث عشر من مارس عام 2020.. 

لا تدري إلي أين ستتجه معه في هذه الطريق الوعرة، ولا تدرك كيف عليها الفرار والهروب منه، يبدو أنه محقًا بشأن عدم تطليقها.. تشعر أنها محاصرة في احدى السجون.. وبمجرد النظر إلي وجهه أو لمحه حتى ولو مصادفة تشعر بالتقزز الشديد!

أيجبرها الآن على حضور جلسات للعلاج النفسي.. أسيكون العلاج بالإجبار رغمًا عنها؟ أستكون هذه هي حياتها؟ مع زوج مريض يصعب علاجه ولا يرى خطئًا في اغتصابها؟

كيف فعلت هذا بنفسها؟ كيف لم تنتبه أن ذلك قد يحدث؟ كيف سمحت لنفسها بكل هذه التراهات واستندت على مشاعر ظنت يومًا أنها قد تستطيع اجتياز كل الصعاب بها؟ بأي عقل اختارت ذلك الإختيار؟ كيف سمحت لنفسها؟

المزيد من الأسئلة ارتطمت بعقلها حتى شعرت بآلم رأسها يتصاعد دون إنقطاع وخصوصًا بعد تلك الجلسة.. أتحولت لمريضة بسببه؟ أستفقد المزيد من روحها بسبب هذا المُغتصب القاتل الذي لا يود أن يكف الناس عن أذاه؟

سيطر الغضب عليها لتجد نفسها تلهث وأنفاسها تتزايد في خوف واستيقظت من شرودها خلال كل ذلك الوقت الذي كانت تحاول التفكير به لتقع عينيها على شاشة احدى القنوات الإخبارية أمامها لترى تصاعد حالات المرض في إيطاليا قد عبرت خمسة عشر ألف مُصاب ومائة تسعة وثمانون حالة قد لقت حتفها.. 

شعرت بهول شديد وسرت السخونة بجسدها بأكمله وهي لا تدري هل سيُصاب أيًا منهما؟ وماذا عن والدها ووالدتها وأختها؟ فرت ناهضة وهي تسير لتبحث عنه آخذة خطوات مسرعة وهي تفتش عنه في انحاء المنزل كالمجنونة التي فقدت عقلها لتجده بالنهاية يصنع بعض الطعام بالمطبخ..

رمقته في احتقار ودفعها قلقها الشديد للخوف بسبب تلك الأفكار التي تطرق على رأسها دون انقطاع ولم تنتظر إلتفاته لها لتصرخ به على الفور:

- اتفضل اتصرف.. أنا عايزة ارجع مصر حالًا.. ومفيش جلسات ولا زفت!! سامع! أنا مش هاستحمل القاعدة هنا معاك.. وهتطلقني غصب عنك.. ولا حتى مطلقتنيش أنا هاخلعك! 

التفت لها بملامح غريبة تدل على ارهاقه الشديد لتتعجب لوهلة من تلك الهيئة التي يبدو عليها لتتذكر أنها منذ انتهائهما من الجلسة منذ أكثر من يوم لم تره ليحدثها في صعوبة:

- مظنش هنعرف نرجع! 

ضيقت عينيها متفحصة اياه في قلق واقتربت منه على حذر ثم همست سائلة:

- شهاب، انت حاسس بإيه؟ 

رمقها بأعين مُتعبة وهز كتفيه بتلقائية ليسعل بشدة لتتذكر سعاله منذ يومين لتتلمس جبهتها مغلقة عينيها في قلة حيلة وهي لا تستبعد أبدًا أن يكون قد أُصاب بعدوى بذلك الفيروس الذي تتزايد أعداده كل يوم بكثرة لتشعر بالخوف على نفسها.. 

ورغمًا عنها دون تحكم منها شعرت بالشفقة والخوف عليه خاصةً وأنها تعلم بأمر اصابته المتكررة بالحمى وتعرقه الشديد ليلًا وعند النوم لطالما ارتابت أنه قد يكون احدى الإشارات التي تدل على ضعف المناعة!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

الخامس عشر من مارس عام 2020.. 

ابتسمت في انتصار ثم زفرت في راحة شديدة وهي تُمسك بدرابزون شرفة غرفها وعينيها شاردة بذلك المنظر المألوف التي ظنت أنها قد لا تراه للمزيد من الوقت..

لقد صممت والدتها على مغادرتها للمصحة بسبب ذلك الوباء.. ربما يكرهه الكثير من الناس ولكنه قد نفعها كثيرًا.. 

والآن هل تبدأ بـ "زينة" أم ربما عليها البدأ بـ "شهاب".. على كلٍ حادث السير الذي تعرض له "سليم" يكفي لإصابتهما بالحزن للمزيد من الوقت.. وإلي أن يعود كما كان ستكون قد أعدت كل شيء!! 

اتسعت ابتسامتها في راحة وهي تشعر بالمزيد من الحُرية بعد أن عرف الجميع أنها استعادت القدرة على السير من جديد.. وبعد تلك الأزمة التي تمر بها العائلة ومع تزايد أعداد المرضى وتلك التنويهات والتحذيرات سيجعل اختصاص شركاتهم عليه إقبال هائل..

التعقيم وامداد الشركات بالمواد اللازمة وتطهير المجمعات السكنية وتلك المشفيات التي يديروا خدماتها وكذلك البنوك.. يا لها من انتعاشة عظيمة لسير العمل! ولكن يا تُرى من سيستطيع التصدي؟!

والدتها، خالتها، وحتى خالها سيخشى جميع الأبناء عليهم لتقدمهم في العمر.. "إياد" و "سليم" لا يزالا يعانيان من تلك الكسور بسبب الحادث.. وبالطبع بعد سفر خالها "زياد" لن يبقى سوى هي و "عاصم" لإدارة الشركة والذهاب إليها إذا استلزم الأمر.. وهذا ستستطيع احضار الكثير من المبررات له وبسهولة شديدة..

وبوجود "عاصم" سيؤدي ذلك إلي تواجد "لميس" التي تعمل منذ الأزل مع "عمرو" الذي وقع بعشق تلك التافهة التي تزوجها "شهاب الدمنهوري".. يا لها من جائزة بعد صبرها لطيلة أشهر!! 

يا تُرى متى عليها العودة لسيدة الأعمال التي كانت عليها لتنقذ العائلة من براثن تلك المصيبة التي يتعرضوا إليها؟ غدًا؟ أم بعد غد؟ أو ربما بعد أسبوع؟

لتستمتع بالقليل من الحرية.. أو لتقوم بالتضحية من أجل العائلة.. ستُفكر بهذا الأمر مليًا ولترى كيف ستصل لما أرادته دائمًا وبشدة..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

مساء السادس عشر من مارس عام 2020.. 

جلست ترمقه في رعب من حالته التي تتفاقم يومًا بعد الآخر ولا تدري لماذا يُصمم على عدم الذهاب إلي مشفى وقد رفض هذا رفضًا قاطعًا! 

بدلت له تلك الكمادات الباردة التي باتت تظن أنها غير كافية لحالته بينما شعرت هي الأخرى بنفس الأعراض ولكن أقل بكثير منه وشردت لتُفكر كيف عليها التصرف! لا تستطيع مغادرة هذا المنزل دون معرفة الأرقام السرية وقد حاولت من قبل بإستخدام نفس الرقم الذي كان يستخدمه بالسابق في احدى منازله في مصر ولكنها باءت بالفشل!.. 

لا يزال لا يسمح لها بإمتلاك هاتفًا وحتى هاتفه قد نفذ كل ما به من شحن كهربائي وبالرغم من محاولات عدة بأنه تعيد تشغيله إلا أن كل محاولاتها آتت دون فائدة!! حتى محاولة الإتصال بالطوارئ لا تعمل مما جعلها تشعر بمزيد من القلق والتشتت!

نظر لها بصعوبة وهو يشعر بأن تلك الحمى قد باتت لا تُطاق وكأنما عينيه تحترق ولكن مجرد النظر إليها وهي جالسة بجانبه بهذا الهدوء يجعله يشعر بأنه لا يزال هناك أملًا في استعادتها مرة أخرى، فابتلع بصعوبة وحاول التغلب على آلم حلقه ثم همس في تساؤل:

- فيروز.. فاكرة لما جيتيلي لما تعبت؟

التفتت ناظرة له بإبتسامة لم تُعبر سوى عن خيبة أملها به ثم أومأت بالموافقة:

- كنت هبلة..

ابتسم بإقتضاب ثم حاول الإمساك بيدها لتنظر نحو يده في تقزز بينما توسلها:

- اوعديني لو بقيت كويس هتسامحيني وهتحاولي معايا! 

جذبت يدها بعيدًا عنه وهي تشرد لأحدى أركان الغرفة ثم همست بآلم:

- مش معنى اني بساعد انسان يبقى خلاص بحبه ومسامحاه.. مظنش بعد كل اللي حصل هينفع احاول معاك تاني يا شهاب!

بدلت تلك الكمادات من جديد وهي تتحاشى تلاقي أعينهما ليأتي صوته المتوسل مرة أخرى الممزوج بالإعياء الشديد ليهمس في صعوبة مستعطفًا اياها:

- أنا آسف.. مش هاعمل أي حاجة تضايقك تاني.. خلاص صدقيني أنا.. أنا مش عايز أي حاجة غير إنك تسامحيني.. اللي أنا فيه ده عمري ما حسيته، مش دور برد عادي.. أنا المرادي حاسس إني ممكن أموت ومش عايز الوحيدة اللي حبتها بجد يكون آخر أيام بشوفها فيها وهي مش طيقاني! 

التفتت لترمقه بمشاعر مُشتتة وهي تنظر إلي تلك الدموع التي انهمرت على وجهه وكادت أن تتحدث لتجد أنه بالكاد يستطيع التنفس واتضحت مجاهدته الشديدة وهو يمرر الهواء إلي رئيتيه بينما همس في صعوبة بالغة:

- الموبايل.. 

اشتد سعاله من جديد لتهرع مسرعة لتأتي له بالهاتف وأحضرت كذلك الشاحن الكهربائي لتقوم بإيصاله سريعًا بالقرب من السرير الجالس عليه وبمجرد استقبال الهاتف للتيار قامت بتشغيله وهو لا يزال على نفس الحالة من النهجان الشديد ليشير لها أن تُعطيه إليه وبصوبة بالغة قد آتى برقم "كلوديا" بعد أن كتب الرقم السري وأشار لها أن تحدثها ففعلت على الفور ولم تُفكر في أي شيء سوى أنه ربما لن ينجو مما يمر به!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

#يُتبع . . .

62 يوم الثلاثاء الموافق 26 - 1 - 2021 الساعة التاسعة مساءًا على مدونة رواية وحكاية وسيتم نشر نفس الفصل بعدها بأربعة وعشرين ساعة على الواتباد

63 يوم الخميس الموافق 28 - 1 - 2021 الساعة التاسعة مساءًا على مدونة رواية وحكاية وسيتم نشر نفس الفصل بعدها بأربعة وعشرين ساعة على الواتباد

64 يوم الأحد الموافق 31 - 1 - 2021 الساعة التاسعة مساءًا على مدونة رواية وحكاية وسيتم نشر نفس الفصل بعدها بأربعة وعشرين ساعة على الواتباد

في شهر اتنين هاخد اجازة هاخدلي كام يوم افصل فيهم علشان أنا مش إنسان آلي.. ووالله ما شايلة الأجزاء ولا بحتفظ بيها.. أنا بكتب وبنشر على طول.. بس لسه مش عارفة الاجازة هتكون امتى بالظبط..

ملحوظة : الرواية في حدود 80 فصل..

دمتم بخير