-->

الفصل الثاني والستون - شهاب قاتم



 الفصل الثاني والستون

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢


~ رنّ صوتي في صمت الغرفة الضيقة .. أخذته الأحجار المقوسة و حولته إلى صدى غريب .. صوت مهزوم لا ينتمي إليّ .. عاجز عن الحب و عن مواصلة الحياة..


و ها هو ملجئي الأخير .. تلك الغرفة الشبيهة بالقبو .. أبحث فيها عن أي نوع من التواصل .. و حياتي شذرات متفرقة .. تخضع للمصادفات العمياء و الحوادث العارضة .. 

من حب إلى فراق.. و من قسوة إلى يأس ..

محمد المنسي قنديل- انكسار الروح) 


 ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

تفقدته بينما انتظرت أن تقوم "كلوديا" بالرد على المكالمة لتجد محاولاته في التنفس تتعالى في الصعوبة ليتعالى قلقها وفزعها مما يمر به، هي لا تدري كيف عليها التصرف وهي وحيدة معه دون أي مُساعدة تُذكر! 

استمعت فجأة لصياح بالإيطالية لم تفهم منه شيء:

- أيها الوغد!! أين أنت؟! 

حمحمت ثم هتفت في لهفة وهي تتحدث لها في توسل بالإنجليزية:

- كلوديا.. أنا فيروز.. نحن هنا في منزل شهاب بكاتانيا.. هو مريض، لديه جميع أعراض كوفيد وبالكاد يستطيع التنفس.. هل لكِ أن تساعدينا؟! 

آتاها الرد سريعًا: 

- وهذا عقاب من يتزوج من خرقاء.. حسنًا سأتصرف!! 

ضيقت "فيروز" ما بين حاجبيها في تعجب مما استمعت له وهي ترمقه لتجد أن حالته تزداد سوءًا ليُأتيها تمتمة من جديد بالإيطالية بلهجة ساخرة:

- أسوأ عاصفة تهب عند الحصاد.

استمعت لإنهاء المكالمة بينما نظرت بشاشة الهاتف للتأكد فوجدت بالفعل أن المكالمة انتهت لترفع عسليتيها نحوه وتلمست جبينه لتجد أن حرارته تزداد فحاولت من جديد أن تُغير تلك الكمادات وسعلت هي الأخرى لثواني بينما وضعت تلك المنشفة الباردة فوق جبينه وكادت أن تخفض يدها ليُمسك بها ونظر لها بأعين مُرهقة ثم همس في مشقة بين لهاثه:
- أنا آسف.. آسف على كل حاجة! 
رمقته في حُزن وقلة حيلة ثم نهضت لتبتعد عنه في محاولة منها للسيطرة على تلك المشاعر التي غزت وجدانها لا تدري هل هي الإنسانية لمجرد رؤية إنسان مريض.. التعاطف الشديد من أجل رجل قد ربما تنقضي حياته بعد عدة لحظات.. 
أم من أجل رجل وزوج عشقته بشدة قد أنالها الخذلان والقسوة والآن لا تستطيع أن تسامحه حتى ولو ذرف بدلًا من الدموع دماء!! 
حتى ولو كان الموت يطرق على باب حياته.. لم يعد هناك بداخلها قدرة للمسامحة على كل ما فعله بها.. 
تستمع لصدى أنفاسه اللاهثة وهو يحاول انتشال بعض الهواء إلي رئيتيه.. تخلف له ظهرها كي لا تتملكها الشفقة نحوه من جديد وهو يصارع المرض الذي قد يؤدي به إلي موت محتوم.. تحاول وتثابر بشق الأنفس وسط أوجاعها الجسدية والنفسية ألا تنظر له، تحاول ألا تتملك تلك المشاعر منها.. لأنها ببساطة تعلم جيدًا أنها لو نظرت إليه نظرة واحدة فقط ستتلاشى قدرتها على التحمل!


استمعت لرنين جرس المنزل لتلتفت ثم توجهت إليه وسألته:

- الـ pass code كام علشان افتح؟

نظر لها بأعين يشعر وكأنها الجحيم من شدة إعياءه ثم همس في مشقة:

- هاتي الموبايل..

تعالى غضبها وهي تنظر له وهو خائر القوى لتتسارع أنفاسها من كثرة عناده التي يأبى بها أن يُعلمها الرقم السري ورفعت احدى حاجباها ثم عقدت ذراعيها في تحفز لتخبره:

- خليك.. لا قادر تجيب الموبايل ولا عايز تعرفني الرقم! براحتك!

حاولت التحلي بالقسوة ليرمقها بإبتسامة ارتسمت على شفتاه في مشقة ليهمس بين لهاثه:

- مش هاسيبك تمشي يا فيروز غير وأنا ميت..

عاودته نوبة من سعال جاف مزقت حلقه وازدادت صعوبة محاولات تنفسه وكادت شفقتها تتحرك نحوه لتُذكر نفسها بما فعله بها منذ أيام وهي كالجثة الهامدة بين يديه لتبتلع في آلم ولم يُخيل لها أبدًا أن تكون بمثل هذه القسوة والصرامة على إنسان يُصارع الموت!! 

ظلت تنظر له في جسارة وتقزز ولم تكترث لأصوات رنين جرس المنزل ومنعت نفسها بأعجوبة ليتلاشى كل ذلك في ثوانٍ عندما بدأ وجهه يتحول للون الأزرق بسبب انعدام الأكسجين بجسده لتهرول وناولته الهاتف لترمقه بإحتقار وانهمرت احدى دموعها فهمست بمرارة له:

- اتفضل الموبايل.. عمري ما هبقى زيك يا شهاب! 

امتدت يده بصعوبة نحو هاتفه ليجد تطبيق الحماية الذي يسمح له بإدخال رمز المرور المتصل بنظام حماية المنزل لتذهب هي متجهة نحو باب المنزل لتجد رجلًا بالكاد استطاعت تبين ملامحه بين تلك الملابس وقناع الوجه الطبي الذي يُغلف وجهه بالكامل ووجدت بيده أنبوبة أكسجين وكذلك حقيبة أخرى فسمحت له بالمرور وصحبته للأعلى حيث الغرفة التي يمكث بها "شهاب"!

 ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

انهمرت احدى دموعها في صمت ذلك الغرفة الماكثان بها وهي تنظر له بمزيج مر كمذاق العلقم من المشاعر المختلطة لا تدري أتكون قاسية؟ متسامحة؟ مشفقة؟ أم مجرد زوجة بائسة كإمرأة غبية استجابت يومًا ما لمشاعر ظنت أنها ستجتاز بها كل الصعاب معه في ليلة من عشق غامر وعندما انقشعت الظُلمة فُجِعَت على حقيقة مؤلمة كانت مختبأة في طي قتامة الليل؟! 

ابتعدت عنه بعد أن تأكدت من نومه وذهبت لتقف بالقرب من تلك النافذة ولم تعد تدرك ما الذي عليها فعله! الحياة معه أصبحت كسجن تحيا به.. مرض وعذاب وإهانة وقسوة.. ثم يأس.. يأس تام!!  

إلي أين كان عليها الهروب وهي مريضة مثله؟ أتذهب هكذا دون أخذ أية أوراق تخصها؟ هي حتى لا تملك المال اللازم لشراء تذكرة طيران للعودة، وحتى لو نجحت بإستخدام بطاقة ائتمانية فهي تعلم أن المطارات مُغلقة، لن تستطيع الفرار بمرضها ذلك.. أم تسير بلا وجهة محددة لتلوذ بالفرار منه وتُمسك بها السُلطات ليقوموا بعزلها وقد يحصل عليها بنفوذه.. 

مهلًا لقد رآها ذلك الطبيب دون ارتدائها للحجاب.. تشعر بالإعياء والخوف والآلم مما يفعله.. تتشتت أكثر بين كل تلك المشاعر وهي تشعر بإنهاك هائل.. 

متى كانت بمثل تلك القسوة أمام إنسان يُصارع الموت؟ هل سيموت حقًا؟ هل تتمنى هذا بطيات عقلها؟ حالة من شتات هائل لا نهائي بين مشاعر شتى!!

انتحبت في وهن ولم تستطع تمييز ما تفعله بين تلك الشهقات والبكاء الجارف واحست بأنها لم يعد بها قيد ذرة من أية مشاعر سوى اليأس التام الذي حطمها بالكامل!

انتبه من شبه اغماءه على صوت نحيبها لينظر لها في إرهاق شديد وهتف مناديًا اسمها في صعوبة وهو يحاول التخلص من ذلك القناع الذي يمده بالأكسجين:

- فيروز.. 

لم تستمع إلي صوته الخافت ليحاول في مشقة وإرهاق أن يعاود الكرة من جديد بنبرة أعلى قليلًا: 

- فيروز.. 

شعر بالإنهاك الشديد وانتابته نوبة سعال مرة أخرى لتنتبه فالتفتت نحوه في غضب لا تدري من نفسه أم منه هو ودموعها لا تتوقف لتصيح به:

- بطل بقا!! مبقيتش طايقة اسمع صوتك.. أرجوك اسكت! 

وضعت من جديد القناع على وجهه والتفتت لتغادر فأمسك بها في وهن لتلتفت نحوه بملامح متعبة وأعين لم يستطع تمييز لون حدقتيها بفعل تلك الدموع الكثيفة التي حجبتهما عنه لينزع القناع من جديد وهتف في صعوبة:

- اسمعيني .. أنا .. أنا مش عايز.. مش عايز اشوفك كده

تحدث في صعوبة لترتجف شفتاها في قهر وهي لا تطيق لمسته على يدها ليعاود التكلم من جديد في مشقة بالغة:

- لو مقدرتش ومت ادفنيني هنا .. أنا ماليش حد هناك هفرق معاه.. وسامحيني.. أنا آسف على كل حاجة عملتها معاكي! 

تساقطت دموعها وهي تنظر له في يأس تام وعاد صوته من جديد في همس:

- ولو بقيت كويس اوعديني إنك هتديني فرصة أخيرة.. آخر مرة! آخر مرة ومش هاطلبها تاني.. أنا بحبك! والله بحبك اوي! 

انهمرت احدى دموعه وهو يتوسلها ثم عاد له ذلك الشعور بعدم استطاعته للتنفس مرة أخرى لتنتحب بشدة وهي تشعر أن كثرة بكائها تعتمي مرمى بصرها ولا تستطيع الرؤية خلاله ليهمس مرة أخرى:

- أنا آسف.. 

وضعت القناع على وجهه مرة أخرى لتصرخ بين بُكائها:

- اعمل ايه بآسفك.. اعمل ايه بفرصة تانية زي مليون فرصة قبل كده.. انت فكرك إي مبسوطة بكل اللي بيحصل ما بيننا ده!! 

بالكاد تحسن قليلًا وهو يحاول إمرار الهواء لرئيتيه ليحاول بكل ما استطاع أن يستحث قواه ليجذبها من يدها بالرغم من تلك الآلام التي تفتك به لتصيح وهي تجلس خائرة القوى بجانبه وصاحت في حرقة بصعوبة نقلت تلك الجروح التي تعكس روحها المُمزقة:

- أنا حتى مبقتش عارفة اعمل ايه ولا اسامحك ازاي ولا حتى احاول إني انسى واسامح.. انت.. انت عمرك  ما هتتغير.. عمرك ما هتكون إنسان كويس.. لو كنت عايز تبقى بني ادم كنت استغليت مليون فرصة اديتهالك.. انت استحالة تكون بتحبني .. انت مبتحبش غير نفسك! 

أومأ بالإنكار وحاول التحدث ليُدرك أن صوته المنخفض لا يظهر من خلف ذلك القناع فأزاحه وهو يبكي ثم همس في توسل:

- والله بحبك.. أنا عمري ما حبيت حد زي ما حبيتك.. آخر مرة.. أوعدك إني احاول المرادي بجد! ولو حصل اي حاجة تانية ابقي سيبيني وابعدي! 

توقفت عن البكاء ونظرت إليه في آسى وخذلان ثم همست:

- ولو مقدرتش اسامحك هتسبني ولا هتهددني بأهلي؟ ولا هتحبسني؟ ولا يمكن هتمد ايدك عليا؟! 

أومأ بالإنكار وهو يبتلع بمشقة وهمس بخفوت:

- مش هاعمل اي حاجة.. هاخليكي تعملي اللي انتي عايزاه! بس فعلًا تديني فُرصة وأنا اوعدك إن هـ..

انتابته من جديد نوبة من ضيق التنفس وشعر بآلم مبرح في صدره لتعاجله بوضع القناع مرة أخرى ثم زجرته بحدة:

- لما نخف من اللي احنا فيه نبقى نشوف!! كفاية كلام! 

وجدت قبضته تقوى على يدها عندما حاولت المغادرة ليُشير إليها بعينيه أن تنتظر بجانبه لتومأ بالإنكار ليعيد خلع القناع وتوسلها:

- مش يمكن اموت.. خليكي جنبي.. متسبنيش! 

رمقته وهي تحاول أن تمنع شفتاها عن ارتجاف بكائها لتعود من جديد تلك المشاعر المُختلطة لتسيطر عليها وتملكتها الشفقة التي دفعت قدماها للجلوس بجانبه! 

 ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

السابع عشر من مارس عام 2020..

ظهرًا..

فتح عيناه وهو يشعر بظمأ شديد للغاية يجتاح حلقه وشعر بثقل على ساقاه فأخفض رأسه ليجد أنه لا يزال ممسكًا بيدها منذ الليلة الماضية وقد سقطت في النوم لتتوسد ساقاه بينما كامل جسدها خارج السرير بالفعل! 

تفقدها مُطولًا في ذلك السكون، دون بُكاء أو توسلات منه، دون نوبة من سعال أو ضيق تنفس.. تفقدها وهو يتمنى بداخله لو تدوم هذه اللحظة إلي سنوات! 

كيف وصلا إلي هذا؟ كيف فعل بها ما فعله؟ تسائل وهو يرمقها وشفتاه تلتوي بإبتسامة مريرة.. كل ما بهذه الملامح يُحيه فذهب وقتل نفسه بدلًا من أن يحيا!

لم يكن عليه فعل ما فعله، على الأقل كان عليه أن يقتل "بدر الدين" ولكن لم يكن عليه أن يؤذيها.. وكلما اقترب من الموت يُدرك فداحة ما هو عليه ومقدار الأذى بداخله الذي لا ينتهي قد تفلت منه حتى نال منها! 

ماذا لو كان الأمر اختلف؟ لو لم تكن كذبت تلك الكذبة، هل كانت لتساعده أو حتى لتعشقه؟ إمرأة مثلها بكل ما هي عليه هل كانت لتختاره وتقع بعشقه؟ أم أنها فعلت لأنه حاول بكل ما أوتي من جهد واستطاعة؟! أم لأنه عشقها أولًا؟ 

لأول مرة يشعر بهذا، أنه يريد أن يرى الرغبة من إمرأة به هو، بعيدًا عن كل الأسباب وعن تلاقي الطُرق، يريد عشقًا له هو فحسب! 

تلمس خصلتها القصيرة في احتراس كي لا يوقظها، يتذكر كل تلك الكلمات التي مرت عليهما سويًا.. ويا للسخرية يتذكر تلك الكلمات التي غادرت فم ذو النظارة القبيحة وذلك الآخر الذي لا يملك ولو شعرة وحيدة برأسه من جلسة الأسبوع الماضي.. كلاهما وهي معهما لا يستطيعان فهم ما الذي يشعر به نحوها ولا حتى يستطيع هو أن يُعبر عن ذلك.. 

أكثر ما يقتله، بالرغم من كل ما مرا به، وبالرغم من تأكده أنها كذبت ولكن هو يعشقها.. إن لم يكن ما يشعر به هو العشق فهو لا يعرف إذن ما معناه!  

هي الوحيدة بين نساء العالمين من استطاعت أن تجعله يبتسم، يشعر لمجرد الشعور، يختبر أشياء جديدة لم يعرفها أبدًا سوى معها.. سواء محادثات عن حقيقته المُظلمة، عن الدين، عن الحياة نفسها، تلك الأفلام التافهة.. كل أوقاتهما معًا مثلت له كل شيء، وكأن مجرد تواجدها بالقرب منه يكفي!

يُدرك أنها تجعله يشعر بمشاعر لا يستطيع وصفها، احيانًا يتمنى لو أنه طفلًا وهي صديقته، وأحيانًا يتمنى لو أنها إمرأته للأبد والدة اطفاله، وطوال الوقت يجد بها كل ما تمناه يومًا.. العائلة والعشق والقبول غير المشروط للطفل المُنتهك، للمراهق الخائف، وللرجل القاتل!.. لا يدري كيف تفعلها ولكنها لطالما نجحت بكل شيء!

هل له أن يؤمن؟ يوثق تلك الوريقات؟ بداية جديدة هي كل ما يريد.. أليس كذلك؟.. ما الذي ينتظره إذن؟ ليبدأ معها بعيدًا عن تلك الكذبات.. ليحاول معها! ما الذي سيخسره أكثر من خسارتها هي نفسها؟ وستكون هذه بمثابة اثبات أنه يريد المحاولة! ولكن ماذا لو رفضت؟ لن ترفض.. هو لطالما وجد حلًا لكل شيء! عليه فقط أن يتخلص أولًا من ذلك المرض اللعين الذي يجعله يشعر وكأن الحياة بأكملها ستنتهي غدًا..

ابتلع بصعوبة وهو يعلم أن ذلك الأمر الذي تريده به "كلوديا" لن يكون هينًا.. بتواجده في صقلية هنا وبصحبة "فيروز" لابد وأن تعرف كل ما سيفعله.. سيقتل مستشارًا لأحدى عائلات المافيا الصقلية.. أو لن يقتله.. هو فقط سيساعد! ولكن كيف؟! 

تنهد في إرهاق ليجد نفسه يسعل رغمًا عنه فاستيقظت هي على صوته وقد لمح على وجهها القليل من الفزع فحمحم وهو ينظر لها في إرهاق ليجدها تفر ناهضة وهي تمسح آثار النوم على وجهها وهي تهمس بنبرة ناعسة في عفوية:

- معلش نمت هنا مخدتش بالي.. 

ارتسم شبح ابتسامة على ملامحه المرهقة وهو ينظر لها بأعين تحمل الكثير من العبارات ولكنه فضل الصمت أمامها، لا  يدري أهذا لمواجهة نفسه بما فعله بها منذ قليل أم لأنه لم يبق أي شيء كي يُقال!!

نهضت وهي تتفقد الوقت ثم تفقدته بحدقتيها الزمرديتان لتقتنع أنه بات أفضل عن ليلة أمس ثم توجهت لتصنع بعض الطعام لكلاهما كي يتناولا تلك الأدوية والمسكنات كما أوصى ذلك الطبيب..

 ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

الثامن عشر من مارس عام 2020..

ظهرًا..

وقفت خارج المنزل ترمق أمواج البحر من على مسافة وابتسمت في سخرية.. مجرد فيروس لا يُرى بالعين المجردة يمنعها من أن تشتم تلك الرائحة التي لطالما عشقتها..

سبحت بحدقتيها بعيدًا لتغرق في شرود هائل.. لم تعد تستطيع معرفة ما تشعر به ولا زالت بمجرد النظر إليه تشعر بفشلها في الحياة بأكملها.. لا تسأل نفسها سوى سؤال واحد.. كيف لرجل أن يوصلها لهذه الدرجة من اليأس والإحباط؟! 

يكفي إنكارًا، لن تنكر بعد اليوم أي مشاعر أو أي أمر وبالطبع لن تُنكر امرًا يؤرقها منذ أمس.. لن تنكر أن رؤيته مريض دفعها من جديد لتشعر بالشفقة.. ولكن ليس من أجل حالة إنسانية، بل لأجل زوجها الذي غرقت في عشقه يومًا ما رويدًا رويدًا دون أن تدري.. 

ضمت شفتاها تلتهمهما في محاولة لمنع نفسها عن البُكاء، ألا يزال يحمل القلب نفس العشق حتى بعد الأذى؟! من الذي سيمحي آثار ما جرحها به إذن؟! من الذي يستطيع أن يُجردها من هذا العشق؟ لماذا لا نملك زرًا ما عندما نريد أن نتوقف عن عشق أحد نضغط عليه فيتلاشى في ثوانٍ وكأنه لم يكن يومًا؟

هتف بنبرة مُرهقة من خلفها:

- فيروز..

بسرعة جففت تلك الدمعة الخائنة التي فرت بالرغم من محاولاتها ألا تبكي ولم تلحظ أنه كان يهتف بإجابة سؤالها والتفتت نحوه في زجر:

- انت ايه اللي خلاك تسيب الأوضة.. المفروض ترتاح! 

أومأ لها ثم تحدث قائلًا:

- معاد الجلسة خلاص.. كمان خمس دقايق! 

رمقته في حيرة شديدة وهي لا تدري أهو محق هذه المرة أم أنها مثل الكثير من الجلسات التي لم تغير به أي شيء! 

دخلت ثم توجه كلاهما لنفس الغرفة التي كان يمكث بها في صمت تام لإقتراب جهاز التنفس له عله يحتاجه وبدءا الجلسة الثانية لهما بجملة واحدة منه همس بها باللغة الإنجليزية بعد أن تفقدها مليًا بينما تجاهلت هي نظراته ليتنهد في اعياء وقال بصعوبة بعد أن ابتلع اكثر من مرة:

- لقد اخطئت بحقها وأريد أن أصلح ما فعلت ولكن لا أدري كيف! لا أريد أن افسد الأمر معها مرة أخرى!

 ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

العشرون من مارس عام 2020..

استند بثقل جسده بأكمله على والده بينما اتجه معه بصعوبة حيث ذلك الكرسي بحديقة منزلهم ليجلس عليه الأول بينما جلس الآخر في مُقابلته وزفر في ضيق:

- اترزع يا اخويا اترزع.. وبعدين أنت هتفضل متجبسلي كده كتير يا حيلتها.. وسايبني أنا الوص في الشغل! ماشي يا سليم! 

رفع حاجباه في دهشة ثم حدثه متعجبًا بنبرة ساخرة:

- معلش الحادثة الجاية هبقى معملهاش!! 

رمقه والده في اعتراض بينما تابع "سليم":

- ما بالراحة عليا يا عم فيه ايه.. اعتبرني واخد اجازة.. ولا احسن تسمع كلامي وتقتنع إن زفت ده هو ورا كل اللي حصلنا! 

امتعضت ملامح "بدر الدين" ثم زجره في جدية:

- برضو هتقولي شهاب.. يا غبي لو كان هو ورا كل اللي بيحصل يبقى من باب اولى إن مكنش الفترة اللي فاتت جالنا مشاريع بالهبل! منين هيولع في المخازن ويعملك الحادثة ويخسرنا مشاريع فرع أمريكا ويجي عند مشاريع مصر ومش هيقوفلنا فيها! ده احنا الأسبوع اللي فات بس أكتر من تلاتين عقد جديد اتمضوا.. أنت اهبل ياض!

تحولت ملامحه للغضب وحدثه في استياء:

- مفيش أي حد ليه في الوساخة واللي حصل ده غيره! 

رمقه في تهكم واحتدت نبرته قليلًا:

- يا سلام.. طيب سيبك من انه جه وزارك وكان بيكلمني قبل سفره وكل الكلام ده.. ازاي بعد كل التحقيقات معرفوش إن هو؟! 

ابتسم له في سماجة شديدة ثم اجابه في غيظ:

- ما هو ده اللي أنا بقوله.. معرفوش يمسكوا عليه حاجة لأنه باللي نعرفه عنه وفاهمينه قتال قتلة!! واحد بتاع مافيا.. مستني منه ايه؟

زفر حانقًا وعقد حاجباه ليتفقده بثاقبتيه مليًا وحدثه في جدية زاجرًا بصوته الرخيم:

- اسمع يا سليم.. شهاب ده اتعالج ولا متعالجش.. اعتبره صفحة في حياتنا وانتهت وربنا يوفقه بعيد عننا.. اهو بقاله حياة وربنا هداه واتجوز وخلصنا منه.. بطل بقى تفضل شايل منه!! قولتلك ده إنسان كان مريض في يوم ز..

قاطعه بحدة هو الآخر:

- برضو هتقولي مريض زيك!! قولتلك يا بابا مليون مرة انت حاجة وهو حاجة.. ولو بقى آخر مرة بآخر مرة يبقى تمام.. دي آخر مرة اسكت على كل الإثباتات اللي معانا وتوديه في داهية!! ولو انت حتى قابله ومسامحه أنا مش قابل! 

رمقه في غضب ولأول مرة منذ كثير من الوقت يستمع لتلك اللهجة من ابنه لينهض تاركًا اياه ولم يلتفت لنداءه خلفه لتمتعض ملامح "سليم" في حنق شديد وأدرك أنه لم يكن عليه أن يُحدثه بتلك الطريقة ولكنه في نفس الوقت لم يقتنع سوى بأن "شهاب" هو من خلف كل ما حدث لهم!

 ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

الثاني والعشرون من مارس عام 2020..

اضطراب ما بعد الصدمة بسبب كذبتها وهو سيكوباتي معادي للمجتمع!! جيد جدًا.. لا بل جيد للغاية.. اضطراب فوق اضطراب ليتعامل معه!! هذا أمر شيق للغاية.. وكأنه ليس لديه في الحياة سوى الإضطرابات ليتعامل معها! 

والوضع في مِصر لا يسمح بتوثيق أوراق الزواج!! كل شيء يؤجل بسبب ذلك الوباء الغبي.. يا لها من أخبار مُفرحة!

لقد سأم الجلوس بهذا السرير بكل تلك الأيام! ولكن أين عساه أن يذهب وكل البلاد مُغلقة.. لن ينفع كل ما يملكه الآن وهو مصاب بذلك المرض اللعين! 

نهض وهو يسير في المنزل دون هدف محدد وشعر بالملل الهائل ليجد نفسه يلعن يداه وتفكيره وكل ما به على ما فعله معها يومًا ما!! لو كان فقط كل الأمور بينهما على أتم وجه مثلما كانت قبل ذلك اليوم المشؤوم لكانا الآن يفعلان احدى الأشياء الممتعة التي لطالما فعلتها معه بالسابق! 

دخل غرفة المكتب الخاصة به ليجدها جالسة تطالع احدى الكتب الإنجليزية في هدوء فجلس بالقرب منها لتنكمش هي على نفسها وتحاشت النظر له تمامًا فبدأ هو بالحديث:

- فيروز.. احنا محتاجين نتكلم.. 

أغلقت الكتاب وهي لا تزال تتحاشى النظر إليه ونكست رأسها لأسفل نحو يديها وبعد لحظات من الصمت همست:

- انت المفروض ترتاح بدل ما تتكلم وتتعب نفسك.. مبقاش فيه حاجة نتكلم فيها تاني يا شهاب!

نهضت لتغادره بينما تبعها ثم أوقفها مناديًا ونبرته شعرت أنها بدأت في التحسن قليلًا:

- فيروز استني.. أنا مش عايز المسك ولا اضايقك زي ما كنت بعمل.. مش هينفع احاول لوحدي! 

توقفت عن أخذ الخطوات ثم التفتت له لتنظر له بحدقتان مترددتان لوهلة فبادلها في صمت لتتكلم هي بنبرة تحمل في طياتها الآسى:

- هتحاول لغاية فين؟ لغاية ما ارجع كويسة واسامح وبعدين ترجع تاني تشتغل في جنانك علشان سبب تافه! 

ابتسمت في تهكم ورطبت شفتاها ثم حدثته بحرقة وصوت خافت يعكس أوجاعها:

- اسامح في ايه؟ إنك اعتديت عليا؟ ضربك ولا إهانتك؟ يمكن تهديدك ليا بأهلي؟ ولا إنك خاطفني هنا وبتديلي الموبايل كل كام يوم مرة؟ شهاب أنت فاهم أنت عملت ايه معايا؟ أنت دمرت كل حاجة ما بيننا في يوم.. يوم واحد بس! أقل من يوم كمان.. كام ساعة هدت كل حاجة بيننا!

توسعت ابتسامتها في مزيد من التهكم لتهمس ساخرة:

- كان فيه زمان قصة بنحكيها للأطفال.. كان فيه راعي كذاب.. مرة حس بملل فقال الحقوني الحقوني الذئب اكل الغنم.. كل الناس خرجت علشان تلحقه وتقدمله المساعدة.. انما ملقوش حاجة.. تاني مرة حس بملل عمل نفس العملة.. وتالت مرة بقى لما فعلا طلع الذئب نادى على الناس وقال الحقوني.. بس محدش راحله.. الذئب المرادي اكل الغنم بجد! 

اهو انت زي الراعي الكذاب.. خلاص مبقتش اصدقك.. كل مرة تقولي فرصة ونحاول وكل الجلسات والكلام ده مبقتش اصدقه ولا اثق فيه.. 

ولو كنت حتى صادق بجد المرادي.. كويس ليك لنفسك.. ربنا يعينك على ما ابتلاك.. إنما أنا خلاص.. شطبت سذاجة وطيبة وهبل.. المرادي عمري ما هصدقك! 

التفتت لتغادره وهي لا تريد أن تشعر بالوهن أمام تلك البُنيتان المحتجبتان خلف الدموع ليوقفها صوته المتحشرج الذي صاح بحرقة:

- لا أنا مكذبتش عليكي! كل مرة كنت بحاول! لغاية ما عرفت إن كل محاولاتي كانت علشان خاطر كدبة كبيرة عشت فيها!

التفتت له بأعين اتسعت من كثرة الدهشة لتصرخ به:

- تاني! تاني كدبة تاني! أنا كنت عايزة اساعدك.. لو من أول يوم كنت قولتلك إن بدر الدين قالي عالجيه كنت هتاخدني بالحضن؟ ها!! رد عليا! 

انهمرت احدى دموعه واقترب منها وهمس بصوت باكي:

- كنت هموتك! مش بكدب اهو.. بقولك الحقيقة! 

فيروز أنا مش بعرف اقول اللي بحس بيه.. بس أنا بحبك ومش عايز اضيعك من ايديا.. أنا آسف.. وندمان على كل اللي عملته معاكي! أرجوكي كفاية كده! 

لم تشعر بنفسها وهي تصرخ به وانفجرت بالبكاء والكلمات على حد سواء:

- وأنا مش عارفة اقبل آسفك.. مش عارفة اسامحك.. أنا اتخيلت إنك ممكن تعمل كل حاجة لكن تعتدي عليا.. تجبرني.. تعاملني بالطريقة دي؟ أنا مش هاقدر اسامح واحد حبيته واتعلقت بيه وحاربت كل اللي قاللي إني بتسرع وفي الآخر هو اللي وجعني ودمر كل حاجة ما بيننا!

أسامحك ازاي؟ ازاي بعد ما عملت اكتر حاجة بتضايقني؟ أنا مش عارفة ابص في وشك ولا لنفسي في المراية.. مش بفتكر غير مكان ضربتك ليا في وشي! 

عندك حل ينسيني كل ده؟ عندك حل سحري يخليني بين يوم وليلة انسى؟ لو عندك قول.. قول لأني مبقتش عارفة اعمل اي حاجة.. 

جذبها رغمًا عنها ليعانقها ببين ذراعيه بعد أن تحول بُكائها إلي بُكاء هيستيري وبالرغم من محاولاتها التفتلت منه إلا أنه منعها وحاول أن يُهدأ من بكائها وهو يضمها بقوة إليه وأخذ يتحدث لها:

- اهدي اهدي.. أنا آسف.. هتنسي كل حاجة.. بس ادينا فرصة علشان نساعد بعض! 

همست في وهن وقد كفت عن محاولات تفلتها منه:

- مبقتش قادرة خلاص.. تعبت من كل حاجة والله! مبقتش عارفة حتى اصدقك ازاي! 

ربت عليها في حنان وهدوء إلي أن استقرت شهقاتها ليبتعد عنها وتلمس أسفل ذقنها ليرى نفس ذلك التقزز والإحتقار بعينيها ورفعت عسليتيها إليه في كراهية ومقت ولكنه لن يتوقف عن محاولاته فجفف دموعها بأنامل مُرتجفة في تردد ليهمس لها:

- هتقدري.. هتقدري زي ما قدرتي تغيريني.. متصدقنيش بس سيبي نفسك وشوفي الإنسان الجديد اللي هتتعاملي معاه ده هيبقى عامل ازاي! لو ينفع تكملي معاه كملي.. لو مش هاينفع ابقي ابعدي او اعملي اللي يريحك! حتى لو عايزة تطلقي ساعتها براحتك! 

رمقته في حيرة بأعين تفتقر للثقة فيما يقول وكادت أن تتحدث ليقاطعها صوت جرس الباب ليُخرج هاتفه وتفقد من الطارق ليُصاب بالذهول!! هو يعلم تلك الهيئة جيدًا.. لا تملكها سوى إمرأة واحدة فقط.. "كلوديا"!

أدخل رمز المرور وهوي يتوجه نحو باب منزله لتتبعه "فيروز" كي تتفقد من الطارق ليفتح هو الباب بينما دخلت "كلوديا" في ثوانٍ لتصيح بالإنجليزية:

- يبدو أننا شركاء في الجريمة وفي كوفيد أيضًا ليو!!

التفتت نحو "فيروز" التي امتعضت بمجرد رؤيتها لتحدثها الأخرى في سماجة:

- العروس الخرقاء.. يبدو وأن زواجك بات أمرًا نحسًا وأصاب الكرة الأرضية بسوء الحظ!

توجهت على الفور إلي غرفة المعيشة لترمقه "فيروز" بنظرات غاضبة ليتنهد في ضيق وتبعا كلاهما "كلوديا" وسألها بنبرة غير مُرحبة:

- ماذا تظني أنكِ بفاعلة كلوديا؟

هزت كتفيها في تلقائية ثم اجابته بإبتسامة واسعة وهي تتحدث بالإنجليزية:

- للتو علمت أنني مُصابة بكوفيد.. لقد أرسلت لك بالطبيب وليس لدي من يعتني بي.. أنت لديك الخرقاء.. وأنا لدي معروفي الذي اسديته لك.. لذا عليك أن تساعدني ..

بربك ليو لا تنظر لي هكذا وكأنك لا تدرك ما الذي أريده منذ أن رأيت وجهي.. سأمكث معكما عصفوري الحب!! إمّا سأموت وإما سترد لي المعروف!!

 ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

#يُتبع . . .

اعتذار وتنويه 

بعتذر لإصابتي بدور انفلونزا شديد وللأسف مقدرتش اكتب فصل طويل..

سيتم الإعلان عن موعد بقية الفصول في القريب العاجل.. شكرً للجميع..


63 يوم الأحد الموافق 31 - 1 - 2021 الساعة التاسعة مساءًا على مدونة رواية وحكاية وسيتم نشر نفس الفصل بعدها بأربعة وعشرين ساعة على الواتباد


ملحوظة : الرواية في حدود 80 فصل..

دمتم بخير