الفصل الثاني والثمانون - شهاب قاتم
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
~ وكانت سعيدة.. ولم تكن تدري سر هذه السعادة.. لم تكن تدري أن الشفقة التي تحس بها نحوه هي سر سعادتها.. لأن الشفقة ما هي إلا نوع من الأنانية وحب الظهور وحب العطاء.. إنها إحساس بالقوة تجاه ضعيف.. إحساس بالعظمة إزاء انسان ضئيل.. وهو إحساس يرضي صاحبه ويملأ نفسه غروراً وزهواً فيخيل إليه أنه سعيد..
(إحسان عبد القدوس - الخيط الرفيع)
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
تجولت بأرجاء ذلك المنزل بالطابق الأرضي منه وهي تبتسم بمرارة.. بالكاد استطاعت الإنتهاء من تجهيز هذا الدور الذي يحتوي على غرفتان وغرفة معيشة متوسطة الحجم وحمام كبير ومطبخ.. أمّا الطابق العلوي الذي يحتوي على اكبر غرفة بالمنزل ومُلحقة بحمام خاص ستترك اعداده لاحقًا.. فلقد أرهقت للغاية بهذا الأسبوع الشاق..
راقها تلك الألوان وذلك الأساس وأرض المنزل الخشبية بالكامل، يبعث الدفء والراحة والأمان، يومًا ما ستملئه "كاميليا" بضحكاتها وذكرياتها مع صديقاتها وهنا ستتناول الطعام وهناك بغرفتها ستذاكر دروسها.. الكثير من الذكريات السعيدة ستنتظرها بصحبتها وسيكفي فقط أن تتابعها بعينيها وتشهد على أجمل الأوقات التي ستعيشها كلتاهما سويًا معًا.. كوالدة وابنة وكصديقتان كذلك!
تنهدت وهي تتذكر مساعدات "مُعاذ" لها بكل شيء.. فليست فقط تُقيم هنا بل تعمل كذلك كمدرسة بإحدى المدارس للأطفال.. الآن تتذكر كلمات والدتها بتلك الدراسة التربوية التي دامت لعامان، بالرغم من استطاعتها وقتها أن تحصل لها على فرصة للعمل ولكنها صممت أن تدرس تلك الدراسة! أحيانًا تكون رؤية الأم صائبة.. لا، بل دائمًا.. عندما تكون أم جيدة لأبنائها!
كم تمنت لو تستطيع الآن أن تلتقط بعض الصور وترسلها إلي "هبة" أو "فريدة" لترى ما إن كانتا ستوافقان على اختيارها للأثاث ودرجات الألوان أم لا.. سعيدة بالحياة الجديدة لا شك في ذلك، ولكن على صعيد آخر كانت مُبتلاه بحُزن أزلي لن ينتهي..
لوهلة ذهب عقلها ليُفكر به، كيف حاله، كيف يسير أمر علاجه، هل ذلك اليوم بمقهى المطار ومشاركته إلي ابنته سيترك بداخله ذكرى مُحببة إلي قلبه أم سيكره هذا اليوم إلي الأبد! الكثير من التساؤلات لاحت بعقلها.. شفقة وتلذذ بالإنتصار والفخر بأنها استطاعت الهروب بنفسها وابنتها وما تبقى من إنسانيته بعيدًا.. الكثير من الشعور بأن مثاليتها نجحت معه ومعها ومع ابنتهما.. ولكن ما تركه لها من ماضي لم يكن من السهل تعته بداخلها..
توجهت إلي الحمام ووقفت أسفل المياة الساخنة وهي تطنب بالتفكير في شأن خطوتها المُقبلة.. خطوة تتلخص في جملة واحدة.. هي تريد الحياة.. التنفس دون الشعور بالآلام.. أليس هذا طلب ضئيل؟ نعم.. ولكن بعد ماضي يصرخ برأسها كل يوم بتاريخ حافل من الصدمات، لم يكن طلبها هينًا أبدًا.. ليس من السهل تحقيقه!
أغمضت عينيها.. ترى نفسها بمكتب استقبال شركته.. تلمح تلك الأوراق المُعلقة على دولاب ملابسها.. تسجيلاته المرئية مع النساء.. تورط "ليوناردو بينسوليو" في صفقات سلاح ومخدرات.. غريب هذا الأسم.. أهو ايطالي الأصل؟
صوت "هبة".. قريب للغاية، تستمع لها وهي تخبرها بأن تبتعد عن طريقه.. ولكنني سأساعده.. سأستطيع النجاح مع مريض سيكوباتي بدرجة خطرة.. "غادة" .. المرأة التي حطمته واستمر في تدميرها لأعوام بمنتهى الذل والخيانة..
أبكي.. أبكي وتتساقط دموعي بصحبة تلك المياة الساخنة.. ولكن ملمس الدموع الجحيمية أقسى.. كلما لمس بشرة وجهي التي نجت من لهيب انتقامه من زوجته الخائنة أشعر بالإحتراق.. الآلم لا يتوقف.. لا يريد أن يبتعد عني!
أبكي بالمزيد.. اشعر بدفعاته وهو ينتهكني مرة بعد تسعة أيام من زواج كانت كل العلامات تشير إلي فشله.. ومرة بآخر يومٍ قُدر لهذا الزواج أن ينتهي به.. النيران، تلك السكين التي مرت على كامل جسدها من الخلف.. صوته.. لا يزال يتردد في أُذذني.. لست أنتِ من تخون، ولكنك إمرأة خائنة..
انتحب بالمزيد لأتذكر الطفل، فاقد أُمه، المُغتَصب الذي نهش المجتمع به، أقع في حُبه وأقسم على مساعدته، أشعر بالشفقة عليه.. وأشعر بالشفقة على حالي..
يتعالى نحيبي ويتحول إلي صُراخ آليم، حنجرتي تأذت وتستغيث أن أتوقف عما أفعله، ولكن ما ذنب يداي التي تشعر بتجاعيد تلك الحروق أسفل شعري الأشقر الذي لا أُميزه؟ ما ذنب أنني عشقت.. عشقت فحسب.. أردت أن اغيره بعشقي.. وفعل.. فعل ذلك ولكن بعد أن ذهب بكل ذرة عشق بداخل قلبي لأصبح شبح إنسان.. إنسان خائف.. يرتجف بداخله وهو يعلم الذي بداخلي ولا يعلمه أحد غيري..
كلما سمعته يبكي طوال عام كنت أشعر باللذة.. كلما شعرت بقهره كان يسري بعروقي التشفي والشماتة.. أمّا عندما لاحظت قدمه التي فشلت في حمله وكأنما تبدلت حروقي وأوجاعي بجبال من جليد لم يسطع عليها شعاع شمس واحد منذ خلقها.. رؤيته ذليلًا مُنكسرًا لا يعرف كيف يحمل ابنته بين يديه جعلتني أريد الصراخ.. انظروا إلي هذا الطفل الخائب ذو الساق الواحدة، حليق الرأس، الحزين على كل ما ارتكب.. لا يستطيع حمل طفلة! لا يعرف كيف يحيطها بين ذراعيه! أردت أن اجعلك مُزحة أمام الجميع..
يزداد صراخي ودموعي الحارقة تنهش بروحي، لست أنا تلك المرأة، لست أنا من أؤذي غيري بداخلي، لقد ضاعفت مرضي أيها اللعين.. أحولتني لأن أُفكر بكل هذا الشر؟ أريد أن انسى وأسامح وأكف عن عذابي لنفسي.. أليس هناك نهاية لكل ذلك الآلم؟ لماذا حولتني لأُفكر بك بهذه الطريقة حتى اصبحت إمرأة يسري شياطين الشر بداخلها ليتعالى صراخهم المفزع بأن أُفكر بك بهذه الدرجة من البشاعة؟
أشعر بتأذي حلقي.. لقد حُرق مثلما حُرقت روحي وأنا احاول الصمود بين أن لهيب إنهاء أمرك.. كان لي أن أتركك للقانون كي يُحاسبك كالذليل.. كنت أمنع نفسي كل يوم وكل لحظة وأنا بجانب تلك الغرفة وأنت حبيس بها أن أذهب واخبر الجميع هذا هو الحقير الذي تبحثوا عنه.. أقسم لك أنني أوشكت على فعلها ملايين المرات بكل ثانية مرت علي وأنت تبكي كالمقهور.. ولكنني تماسكت.. لأجد نفسي بين اختياري اللعين بأنك والد ابنتي..
يا ليت عيني تتوقف عن ذرف الدموع، يا ليتني هناك بالمشفى بعد تلك السيارة التي ارتطمت بها، يا ليتني مت قبل أن أراك.. لماذا رأيتك؟ عانقتك وقبلتك؟ لماذا شعرت بتآلف روحنا وأجسادنا؟ لماذا قمت بإختيار أدى إلي انهيار لا استطيع أن انهض منه أبدًا؟!
هل كل ذنبي أني عشقت؟ عشقت رجلًا بروحه القاتمة؟ أظننت أن اختياري لك سيساعدني في أن استعيد نفسي وحياتي؟
يا للسخرية! يا أسوأ اختياراتي في الحياة أنا نادمة على كل ما فعلت.. الندم يُمزقني كل يوم.. لم أعد استطيع المثابرة أكثر من ذلك وحدي..
لو كان أنيني وبكائي سيجعلوني انهار لن استطيع إذن الصمود في هذه الدنيا.. وهذا كل مالا أريد.. ولن يحدث من جديد..
فتحت عيناها وهي بتلقائية تجفف وجهها ولم تدرك أنها بالفعل أسفل المياة، انهيارها حتى لم يجعلها تفقه ابسط وأقل الأمور الحيوية حولها لتجد نفسها تبتسم ثم ضحكت.. ضحكت كثيرًا.. احدى نوبات الضحك.. ولكنها سعيدة.. سعادتها تملئ العالم كله.. سعادتها بأنها ربحت..
فتاة تسري بعروقها دمائها هي الأخرى، رجل تغير بالفعل ملازم لأحدى المصحات، طفلة ستناديها أُمي، ويومًا ما سيكون لها أب صديقها.. لا بل ليس أب، الأب الأفضل على الإطلاق.. شاء أم آبى سيكون!
ولكن ماذا عن نفسها؟ وعن روحها المُحترقة؟ كيف ستفعل كل ذلك قبل أن تُربي فتاة لا تريد لها سوى السعادة.. السعادة وحسب لن تقبل لها غير السعادة.. أليس عليها أن تسعد أولًا؟!
أغلقت المياة وذهبت لتجفف جسدها، منذ أن توقفت عن الضحك توقفت عن البُكاء، الذكريات لا تتوقف، تلك الهوة اللعينة التي ألقت بنفسها بها تحرقها ببشاعة، الآلم أقسى وأكبر وأبلغ من أي مرة سابقة، وهو يحرق ذلك الرجل وهو يحرقها هي نفسها!
ولكن ما العمل؟ أظنت انها ستستطيع التماسك أكثر من ذلك؟ تتماسك وتصمد عامٍ بأكمله؟ تُرتب هذا وتعد لذاك وعلاجه وجنينها، والولادة وحدها.. الهروب من الفضيحة والعار دون ذنبٍ لها، أظنت انها ستستطيع الإنكار أكثر؟! أظنت أن بقطع قماش تخفي جسدها وعُنقها ستستطيع النسيان؟!
ارتدت ملابسها بسرعة، شعرت بالإمتنان بأن هناك من يُراقب ابنتها، هذه البلد تختلف كثيرًا عن بلدها الأم.. كان هذا هو القرار الصائب.. أن تهرب إلي حياة جديدة سعيدة!
خرجت لتستقل السيارة المتواضعة التي استطاعت ان تبتاعها وتوجهت فورًا كي لا تتأخر عن موعد جلستها.. هي تعلم كل الخطوات، تعرف كل شيء وتعرف كيف عليها أن تبدأ ولكنها تحتاج الدعم، تحتاج أن يؤازرها أحد وهو يستمع إليها.. تحتاج إنسان لن يحكم عليها أبدًا.. وجه جديد بمسمى مُعالج تُشاركه محنتها وصدماتها التي لن تستطيع التخلص منها بسهولة!
دخلت لتنظر إلي المُعالج.. رجل ذو ملامح جذابة ربما في الاربعينيات من عُمره.. تبتسم بسخرية بالرغم من أن الإبتسامة تبدو رسمية.. لا تزال تستطيع النظر إلي وجه رجل! بل وتحكم أنه جذاب.. يا له من إنجاز!
جلست على احدى الكراسي اثناء تبادل جُمل روتينية ثم نظر إلي المُعالج، بقوة وصلابة، تواجه وليست خائفة، سعيدة لأنها ستفعلها اليوم.. أخذت نفسًا مطولًا كعادتها قبل قص المصائب وفي النهاية تواترت الكلمات من شفتاها:
- أنا روز.. أبلغ من العمر ثلاثين عامًا.. لقد خرجت لتوي من علاقة سامة.. انفصلت أنا وزوجي ولدي فتاة.. تبلغ أربعة شهور الآن.. اسمها كامي.. لقد مررت بالكثير معه، هو سيكوباثي.. يُعالج بأحدى المصحات منذ عام كامل..
الأمر انني تعرضت للكثير من الصدمات.. لست مُهيئة بعد أن اتحدث بالتفاصيل وأعرف بعض الخطوات لمعالجة الصدمات.. ولكن أريد أن..
تلعثمت لوهلة وهي تنظر لها بإبتسامة حزينة وتابعت:
- أريد أحد أن يدعمني في العلاج ليس إلا..
عقد المُعالج حاجباه ليسألها بالإنجليزية مُتعجبًا:
- من الواضح أنكِ تعرفين الكثير عن علم النفس، هل أنتِ مُعالجة أو اخصائية؟
شردت للحظة وهي تتذكر الكثير من السنوات وملامح والدها لتهمس بشفتان مرتجفتان لتحاول منع نفسها عن البكاء واجابته:
- كنت فقط مهتمة بالمجال واحبه كثيرًا بالسابق.. ربما قرأت مئات الكتب التي تتحدث عن علم النفس.. ولكن هذا كان منذ زمنٍ بعيد!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
بعد مرور ما يُقارب من أربعة اعوام..
قبيل نهاية عام 2025..
اقترب من تلك المائدة ثم جلس بصعوبة على الكرسي الذي لا يتلائم مع قصر قامته ليرمقه الآخر بثاقبتيه دون أن يُساعده وانتظر ليعلم ما وراء تلك الملامح التي لا تُبشر سوى بأمرٍ عظيم ليعقد الآخر ذراعيه ثم تحدث بجدية:
- بدر! لازم تشوف حل لإبنك! أنا خلاص مبقتش مستحمل تصرفاته! بدل ما هو اللي يشتكيلك مني أنا جاي اشتكيلك منه! أرجوك انت لازم تتكلم معاه!
يريد أن يعلم كيف لهذا القصير أن يتحدث وكأنه بلغ الثلاثون من عمره ليتنهد في آسى ثم سأله:
- عايز إيه يا ابن سليم؟
التفت يتفقده بأعين شابهت خاصته الثاقبتان ذات اللون الأسود اللامع ليجيبه بمنتهى الجدية:
- ينفع كل شوية يقولي انت طالع قصير لمين؟ عاجبك كرامتي المتبعترة قدام الكل والمفروض أنا الكبير قدام ليلي وولاد اعمامي وولاد خلاني.. احكم انت يا بدر! احكم علشان خلاص الموضوع أكبر من إني اتحمله لوحدي وخرج عن سيطرتي خلاص! ده حتى غلط ويُعتبر تنمر فظيع!
كتم ضحكته بأعجوبة وأخذ الأمر بجدية شديدة ليهُز رأسه في تفهم ثم رد بجدية هائلة:
- لا فعلًا معاك حق.. أنت صح.. مينفعش يتريق عليك كده.. ده تنمر فعلًا زي ما بتقول..
حاول أن يتمالك نفسه بينما أردف "سيف" بالمزيد:
- أنا كنت ممكن ادخل mrs. مروة في الموضوع واعمله استدعاء عندي في المدرسة بس قولت اكلم باباه الاول في الموضوع يمكن يبطل ..
تنحنح ثم تفقده ليقول:
- لا كلامك صح.. انا هتدخل حاضر.. لو استئذنك بس يا سيف.. ممكن اطلب منك تندهلي سليم؟
أومأ له لينهض بعد أن قال:
- طبعًا.. لازم اندهه.. ولازم تعرفه إن التنمر غلط! وأن تصرفاته دي متنفعش.. والافضل اننا مندخلش حد غريب ما بينا..
تحرك بخفة نحو الداخل ليضحك "بدر الدين" على تلك الكلمات التي يُدهشه بها كل يوم وكأنه رجل كبير يملك أُسرة وأولاد بل وكبير عائلة ليُذكره بوالده نفسه يومًا ما وسرعان ما ظهر من جديد ليمشي كلاهما متوجهان نحوه وبهما الكثير من الملامح المتشابهة وحتى نفس طريقة السير ليجلس حفيده في تحفز وكذلك جلس "سليم" ليتفقد كلاهما بتفحص وسرعان ما بدأ في زجر ابنه بنبرة جادة:
- وبعدين يا سليم!! مش هنبطل هزار وتريقة وتنمر؟
زم شفتاه مُدعيًا التأثر ثم رد بضيق:
- انا كنت بهزر معاه على فكرة وهو اخد الموضوع جد..
تريث ثلاثتهم لبرهة ليتحدث "سيف" منزعجًا برسمية شديدة:
- اني انسان قصير ده مش مقبول فيه الهزار والضحك.. وماما فهمتك ده مليون مرة.. وممكن لما اكبر يحصلي عقدة.. لو سمحت يا بدر فهمه قبل ما اخد اي قرار تاني.. انا هسيبكم تتكلموا..
بمجرد ابتعاده اطلق "بدر الدين" ضحكاته المكتومة ثم تكلم بسخرية:
- جايبلي مستشار يا حيلتها؟ ولا دكتور علم نفس؟ رايح تخلفلي شبر ونص يدينا دروس في القيم والاخلاق!! بتضايق الواد ليه يا سليم؟ ما تتلم شوية وبطل تعايره بقصره..
لانت شفتاه بمزيج من الفخر والغيظ بآن واحد ثم رد معقبًا:
- ما خلاص بقى يا بدر ما هو اوزعة فعلا.. ده ليلي قربت تجيب طوله واهي اصغر منه بسنة وشوية..
حدجه بنظرات متفحصه ليهمس بتحذير:
- انا حايشه عنك بدل ما كان هيروح يفضح حضرتك وسط الصولات والمخبرين.. اقصد المدرسات والمدرسين.. هي مين صحيح ميس مروة دي؟؟ حلوة؟
رفع حاجباه في تعجب ليصيح في ثوان:
- يا نوري.. بدر بيسألني على مُزة جـ..
اوقفه عن استمراره بالصياح مكممًا فمه بيده لينهاه مسرعًا:
- يا ابن الكلب هتوديني في داهية علشان بحل مشاكلك انت وابنك.. قوم ياض غور من هنا واياك تضايق سيف تاني.. ولعلمك بقى وانا في سنه كنت اوزعة زيه وربنا طرح فيا البركة بعدين.. وبكرة يبقى اطول منك وهنهريك تنمر..
رفع حاجباه مغتاظًا من كلمات والده الذي لتوه اخفض يده ليُصيح بعد ان نهض:
- نوري .. بدر يعرف المُزة الجامدة اللي في مدرسة سيف وعايز رقمها مني!
لاحقه بواحدة من عبوات المياة البلاستيكية الموضوعة أمامه لتصطدم به ليغمغم بضيق:
- لو مكنتش خلفت مكنش زماني اتهزأت كده.. شورة سودا!!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
أشرأب بداكنتيه إلي سماء الشتاء التي غابت زرقتها لتحتجب خلف تلك الغيوم الرمادية الكئيبة وها هو يحصي يومٍا آخر ليضيفه إلي رحلة بحثه عن الإنسانية التي يبدو أنه لن يعرفها بأكملها ولو عاش فوق عمره عمر مماثل..
ثلاثة سنوات وثماني اشهرٍ حبيس تلك المصحة الغريبة ذات الطعام الذي يجعله يندم على كل مرة كان بإمكانه أن يصنع الطعام الشهي بمفرده ولو كان تحكم في تلك الأفكار وتغير لكان تذوق طعامًا افضل..
لقد كانت محقة.. هي لا تريد العودة إليه أبدًا وإلا لما كانت توقفت عن رؤيته لكل هذه المدة.. يا لها من قوية.. هو لا يزال يتذكر كل شيء ويعشقها أكثر من السابق وها ها لم تأتِ سوى مرة.. مرة وحيدة فقط في كل تلك الأشهر التي يحصيها والأيام التي تمر لتتركه شاعرًا بفداحة كل ما كان عليه يومًا ما.. ربما تغير في فهم الكثير من الأمور.. ولكن ما لم يتغير به هو عشقها..
شرد ليتذكر ملامحها يومها.. يتذكر تلك الصور بكل ما فيها من تفاصيل.. لا يزال يحتفظ بها إلي الآن ولكنه يتسائل كل يوم كيف تبدو كلتاهما.. لا يملك سوى تلك الصور التي حفظ كل تفاصيلها عن ظهر قلب وكل ملامح تلك الصغيرة تبدو مثل والدتها.. ربما هناك القليل من ملامحه بها ولكنها كذلك تبدو كصورة طبق الأصل منها هي.. حتى في ملامح ابنتهما تغلبت عليه!!
ذهب بعقله العليل الذي يقتنع الآن بتمام مرضه ليتذكر كل حرف وكل كلمة غادرت شفتاها وهي تجلس أمامه بهذه القوة التي لم يمتلكها أبدًا يومًا ما..
- بقى عندها سنتين ونص.. خد اتفرج!
ناولته تلك الصور التي سُمح لها أن تمررها فهي لم تستطع أن تحمل هاتفها معها كي تريه المزيد ليتفقد هو تلك الصغيرة ليجد انها تملك زوجًا من العيون ذو لونًا معدوم لا يستطيع التعرف عليه ليبتسم بداخله بسخرية.. يدرك أنه عند رؤيتها يومًا ما سيُعذب بنفس ذاك العذاب وهو يتسائل ما لون أعين ابنته!
تفقد المزيد ليلاحظ الطفيف من ملامحه بها.. نفس الفم.. ربما طريقة النظرات نفسها.. عنقها طويل قليلًا.. هل هذا يلائم طفلة في مثل عمرها؟! كذلك تبدو طويلة القامة كفتاة لم تبلغ الثلاث اعوام بعد..
نبهته بصوتها المُتحدث لتقول:
- علشان مقدمناش وقت اكبر.. انا هسيبلك الصور ممكن تتفرج عليهم براحتك..
رفع رأسه ليتفقدها بداكنتيه وبالرغم من إرادته أن يتحدث بالكثير ولكن رؤية ملامحها أمامه كان أكثر ما يُريده فنظر إليها بإشتياقٍ شديد استطاعت هي ادراكه ولكنها لن تكترث لنظراتٍ كتلك فتابعت حديثها لتردف بصوت خافت كي لا يسمعهما احد:
- انا طبعًا قبل ما نسافر هنا مقدرتش اسحب كل الفلوس بس قدرت يبقى معايا تمن البيت اللي قاعدة فيه أنا وكامي وفلوس المصحة والسفر.. ماهر كمان كان سايبلي مبلغ كويس ساعدني في الفترة اللي كنت فيها في مصر واتبقى منه جزء بسيط قدرت اخده!
ابتسم بسخرية ثم تمتم:
- ماهر!
أومأت له لتبتسم ساخرة هي الأخرى ثم تكلمت بتنهيدة:
- اصله كان بيفكر فيا وخايف عليا حتى بعد موته.. ولولا إنه وصى معاذ عليا مكنش زماني أنا وأنت قاعدين هنا بنتكلم! راجل طيب محترم كان بيفكر في أسوأ الظروف وعايز يوفرلي حياة كريمة.. حتى بعد موته..
تريثت لوهلة بعد أن أشاحت بعينيها إلي الأرضية وهي تنزعج بداخلها جراء ما قالته وما اجرته من مقارنة سريعة بينهما لتدرك أن تلك الكلمات لا فائدة منها وانها لن تفعل سوى جرح كلاهما لتبتلع ورفعت رأسها نحوه لتتابع بجدية:
- الفلوس دلوقتي كلها راحت لفريدة وهاشم.. وحازم اخوك لسه مع مامتك هي اللي بتربيه.. سمعت إن هاشم قدر يثبت في المحاكم مصدر الفلوس.. أو جزء كبير جدًا منها وشركاتك رجعت تشتغل تاني.. بس فيه قضايا اتحكم عليك فيها بكذا سنة!
ربما تفوهت بإحدى الكذبات ولكن ربما سيكون اختبار له عندما يُغادر يومًا ما.. حاولت ألا تنظر له مباشرة بعينيه التي تصرخ بالكثير من الكلمات التي لا تود سماعها وتتجاهلها بكل ما لديها من قوة وقدرة على الصمود فهي لا تريد المزيد من المشاعر التي قد تدمر كل ما عملت على تشييده لما يزيد عن عام كامل..
نظفت حلقها لتُكمل ما آتت لقوله له:
- كامي ذكية جدًا.. سابقة سنها في حاجات كتير.. متأكدة إن هيجي اليوم اللي تسأل فيه بابا فين وليه مش معانا.. وأنا مش هاكدب عليها.. كفاية اوي انها متعرفش اسامينا الحقيقية ولا حقيقة اهلها..
يوم ما هتسألني هقولها إنك عملت حادثة وتعبان وتاني يوم هاجيبها تشوفك.. يا ريت يبقى كلامنا واحد قدام البنت علشان متتأثرش.. هحاول اعرفها وافهمها اننا انفصلنا بهدوء لأن مفيش تفاهم بيني وبينك.. ومتقلقش هحافظ على صورتك قدامها واخليها تحبك وعمري ما هاغلط فيك قدامها!
تريثت من جديد وهي لا تدري كيف ستفعلها بينما أومأ هو بالتفهم ثم تفقدت ساعة يدها اسفل سترتها التي تغطي الكثير من ملامح جسدها ونظرت له بجدية شديدة وهمست:
- فيه مبلغ شايلهولك، يوم ما تخرج لازم هتشتغل في يوم.. ولغاية ما اليوم ده يجي فكر كويس هتعمل إيه مشروع ولا هتشتغل بشهاداتك اللي قدرت اخرجها بإسمك الجديد.. انا مش هاقبل أب فاشل لبنتي أبدًا.. سلام!
هذا كل ما أتت لقوله يومها.. زيارة قصيرة مقتضبة دامت لحوالي عشرة دقائق.. كانت تحاول الإختباء عن اعينه يومها.. كانت تبدو كرأس بشعر اشقر وكفان تهربا من تلك الاكمام التي تعج بالقماش الثقيل.. لم يعرف من تلك المرأة يومها.. ولكن ربما من الأفضل له أنه لم يلمح تلك الندوب على عنقها..
منذ سنة ونصف ينتظر كل يوم أن يراها ولكنها لم تُنصفه ولو لمرة واحدة.. حتى كان يظن أنه سيرى تلك الفتاة التي تشبهها ولكنها لم تأت هي الاخرى..
يلوح الآن بعقله بين الحين والآخر الكثير من الكلمات بأنه ينتهي بمفرده.. بعيدًا عن الجميع ولا يكترث له أحد.. يبدو أن تلك الكلمات كانت حقيقية بكل ما توضحه وتحتويه من معانٍ..
فأخيه لديه زوجته وربما أبناء.. واخيه الآخر حصل على الوالدة التي لم يحصل هو عليها.. وابنته لديها "فيروز" التي لم يعد يُسكن نفسه ولياليه الباردة سوى بتذكر تلك اللحظات السعيدة بينهما التي لم تكن كثيرة على كل حال..
من سيخدع الآن بحقده الداخلي على الجميع.. حتى "كلوديا" لديها العائلة بأكملها.. وهو، وبكا ما ارتكبه من اخطاء أذى نفسه قبل أن يؤذي غيره.. الحقد والكراهية ولذة الإنتقام لابد وأن يظلوا بداخل عقله كمجرد حلم مستحيل.. عليه دفنه في اعمق بقاع نفسه القاتمة وألا يستمع إلي صوت شياطينه.. وإلا ستُعاد الكرة وسيُعاد نفس السيناريو الكريه.. وبالطبع لن ينتهي إلا بفقدانه نفسه مرة أخرى وربما سيزيد عليها ساق أو يد.. ربما أذن.. هو لم يعد يتخيل سوى الأسوأ لنفسه وكل هذا بسبب افعاله يومًا ما..
الإنتظار شاق.. والأسوأ انتظار قرار طفلة.. انتظار يوم لا يدري متى سيأتي.. ينتظرها أن تسأل يومًا ما عنه كي تسمح لها والدتها برؤيتهما سنويًا..
يا للسخرية، لو كان لديه والدة مثلها كان سيكتفي بالدنيا وما فيها عنها.. ولكن ربما يومًا ما ستكترث تلك الصغيرة له!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
مشت بخطوات متعجلة وهي تحاول أن تكبح غضبها عما سمعته منذ قليل.. تلك الفاتة ستصيبها بالجنون عن قريب.. ليس بصدمات ولا ماضي مؤلم كما فعل والدها ستتفوق عليه بأن تدفعها إلي الجنون الحتمي بالتأكيد!
دخلت تلك الغرفة التي تعاقب بها بالإحتجاز ثم نظرت إليها لتقابلها الأخرى بثبات هائل فالتفتت هي لتغلق الباب ثم عقدت ذراعيها وحاولت التحكم في نبرتها ألا ترتفع لتسألها بالإنجليزية في النهاية بهدوء استطاعت استلهامه بأعجوبة:
- ما الذي فعلتيه كاميليا؟
عقدت ذراعيها مثلها في تحفز وهي ترمقها في ثقة ثم اجابت:
- لم أفعل شيء!
أومأت في تفهم لكذبتها التي تعرف أنها ترتكبها لتخبرها بنبرة مُحذرة:
- لقد رأيت تسجيل كاميرات المراقبة.. من منكما يكذب.. الكاميرات التي قامت بتصويرك وانت تدخلين إلي غرفة الرسم أم انتِ؟؟ فكري جيدًا قبل الإجابة.. لن اقبل بالكذب كاميليا ولقد اخبرتك كثيرًا أن الكذب يُكشف دائمًا..
اخفضت ذراعيها حتى تكف ابنتها عن فعل كل ما تفعله هي لتطأطأ الاخرى نظرها للأرض وبعد ثوانٍ اخفضت يديها وتوجهت والدتها لتجلس امامها وهي تتفحصها مليًا في انتظار اجابتها على تساؤلها لتهمس في النهاية:
- حسنًا.. لقد قمت بتبديل انابيب الاقلام حتى خُدع الجميع بالألوان الخارجية وافسدوا رسوماتهم!
هزت رأسها في تفهم ثم قالت:
- شكرًا لأنك قلتِ الحقيقة واطلعتيني على التفاصيل
زمت الأخرى شفتاها بضيق لتسألها والدتها مرة أخرى:
- لماذا فعلتِ ذلك؟؟
نظرت إليها بإستياء ثم غمغمت على مضض:
- من أجل المرح ليس إلا..
همهمت في تفهم لتسألها بلهجة مُحذرة:
- وماذا قلنا عن المرح الذي يتضمن ايذاء الآخرين؟
زفرت في تأفف لتصيح:
- هم اغبياء.. لم اظن انهم لن يكتشفوا مثل تلك الحيلة التافهة..
حاولت التماسك كي لا تصرخ بوجهها فلقد اكتفت من تصرفاتها غير المنطقية تجاه الجميع فتحدثت بزجر دون مبالغة قدر استطاعتها:
- اغبياء! هم مثلك تماما لا يختلفون عنك في شيء نفس المرحلة بنفس المدرسة.. هل أنتِ غبية أيضًا؟؟ لم اكن اظن هذا!
تفقدتها في تحفز وعلامات الإعتراض تتضح على ملامحها ولم تردف بالمزيد لتنظر لها والدتها في استياء لتهمس بحزن:
- ابنتي كاميليا تسخر من الآخرين.. هذا لم اكن اعتقد انه سيأتي من ابنتي الذكية المتفوقة!
تنهدت "فيروز" وهي تتفقدها مليًا بأعين حزينة والعتاب ينهمر منها بينما نظرت لها ابنتها بتمرد شديد لتقول الأولى بحزم:
- اختاري عقابك.. لن الزمك بعقاب محدد.. هناك ثلاث طرق لفعل هذا.. الحرمان من مشاهدة الأفلام لأسبوع، عدم الذهاب معي لإحضار مستلزمات المنزل لشهر كامل، التوقف عن الرسم لمدة اسبوع.. الأمر متروكٌ لكِ..
تريثت لترمقها الأخرى وهي على مشارف البكاء لتصرخ بتمرد:
- لقد قامت تلك المدرسة الغبية بـ
جحظت عينيها في زجر شديد لتتوقف من اكمال كلماتها وانفعلت في عصبية لتقول:
- حسنًا.. لن اشاهد الأفلام..
شددت والدتها من نطق الكلمات بتحذير جاد:
- التحدث مع الكبير يكون بطريقة افضل من تلك..
امتعضت ملامحها ثم اكتظت عينيها بالعبرات التي كتمتها بمنتهى القوة والصمود لتذكرها بنفسها يومًا ما لتجدها تنهض وتصرخ بها:
- أنا حقًا اكرهك.. اكتفيت من عقاباتك لي.. لماذا تفعلين بي كل ذلك؟ لماذا علي فعل الصواب دائمًا؟ اقسم انني اكرهك.. ربما لو كان لدي والدًا لكان حالي افضل حال دونك..
رفعت حاجبيها وهي تشعر بالصدمة من تلك الكلمات التي لأول مرة تستمع لها تغادر شفتاها بينما استطردت سائلة بصراخ:
- أين هو؟؟ لماذا لم يظهر بحياتي ولو لمرة واحدة؟ اجعلتيه يتركني بسبب تصرفاتك المثالية التي اكتفيت منها.. أين هو أمي؟ لماذا ارى كل زملائي بصحبة والدهم ووالدتهم وأنا فقط لا أملك غيرك؟ ماذا حدث حتى يتركنا وحدنا؟
تفقدتها وهي تحاول التحكم في صدمتها من صراخها وسؤالها الذي كانت تعلم أنه سيأتي بلا شك ولكن بهذه الطريقة، لم تتوقع ذلك أبدًا..
تناولت نفسًا مطولًا ثم زفرته بتريث لتجيبها بإقتضاب:
- أتريدين رؤيته.. حسنًا.. سنذهب إليه بنهاية الأسبوع..
نهضت لتلتفت كي تغادر كي تكمل عملها بنفس المدرسة التي تدرس بها ابنتها ثم توقفت للحظة لتضيف:
- لست أنا الأم التي ستحرم ابنتها من والدها.. ولكنني بالطبع أنا وأنتِ بعد ما استمعت إليه لم نعد اصدقاء بعد اليوم!!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
مساءًا.. بعد مرور يوم..
اقتربت بخطوات متريثة نحوها وهي تصنع لكلتاهما الطعام ولم تعد تحتمل ذلك الصمت الذي دام منذ احتجازها يوم أمس لتهمس بندم:
ـ أنا آسفة.. لقد بالغت يوم امس.. لم يكن علي التحدث بمثل تلك الطريقة.. اعتذر
أومأت لها بإقتضاب ثم ردت قائلة:
- حسنًا
همهمت بطفولية ثم سألتها بنبرة متوسلة:
- حسنًا من الوالدة أم من الصديقة.. أم من كلتاهما؟
توقفت عن صنع الطعام ثم فكرت لوهلة لتلتفت لها واجابتها بحزم لم يغادره الحزن بعد:
- من مامتك.. صاحبتك لسه زعلانة منك..
تنهدت وهي ترمقها بإمتعاض ثم اقتربت وهي تجذب يدها لتتوسلها:
- أنا آسفة.. خلاص مش هاعمل كده تاني..
اخفضت رأسها لتنظر لها فترة لتهمس في النهاية:
- ماشي.. خلاص
ابتسمت اليها وعانقت ما استطاعت ان تصل اليه من جسدها لتهتف في فرحة:
- هل هذا يلغي عقابي؟
ضمتها في المقابل وهي تداعب شعرها ثم اجابتها في تحفز:
- بأحلامك كامي..
زفرت الأخرى بقليل الامتعاض ثم حاولت أن تراوغها لتتسائل:
- هل لي أن اغير العقاب؟
أومأت بالرفض واطلقت تأتأة وقالت:
- لقد قمتِ بالاختيار وستتحملين نتيجة اختيارك..
اطلقت من جديد زفرة ثم همست بحزن سائلة:
- هل ستشاهدين الافلام من غيري ام ستشاركيني العقاب؟؟
يا لها من مراوغة لا تكف عن محاولات الهروب من تحمل مسئولية اخطائها.. كل يوم تجعلها تشعر وكأنها تتحدث إلي والدها وليس ابنتها لتجيبها بإصرار:
- عقابك تستحمليه لواحدك .. انا مغلطتش انتي اللي غلطتي وبوظتي رسومات زمايلك لما بدلتي الالوان مش انا..
تأففت وهي تشعر انها لن تستطيع الافلات منها أبدًا فتسائلت لتحاول أن تغير مجرى الحديث علها ستستطيع الهروب من عقابها:
- ماذا عن والدي؟ لماذا لا يمكث معنا مثل بقية اصدقائي؟
همهمت في تفكير ثم اقترحت بحماس:
- ايه رأيك احكيلك كل حاجة ونخليها حدوتة قبل النوم بعد ما نتعشى؟
أومأت لها بالموافقة لتناولها مكونات المائدة ثم اردفت:
- يالا ساعديني علشان نحضر الاكل بسرعة ونتكلم في كل حاجة..
استجابت لها بينما هي بداخلها تشعر بالارتباك لأن تلك اللحظة قد حانت.. اربعة سنوات وشهران هذا كل ما استطاعت ان تحصل عليه منها في هدوء.. تملكها الرعب وهي لا تدري كيف اصبح وكيف سيتعامل مع ابنتهما.. لن تتركه يُفسد أي مما شيدته هي.. تقسم انها مستعدة أن تسلمه للسلطات لو فقط قام بأي من افعاله كسابق عهده..
- روزي.. هل انتِ بخير؟؟
ادركت انها شردت للكثير عندما استيقظت من تفكيرها على صوت ابنتها لتبتسم اليها واجابتها:
- ايوة يا حبيبتي كويسة..
توجهت لتتناولا الطعام وكلتاهما تتسامران سويًا ولكنها لم تعي ولو حرف واحد مما تستمع إليه .. تتظاهر انها مجرد امسية نهاية الاسبوع العادية بينما بداخلها كانت تشعر بالخوف مما سيحدث بمجرد رؤيته لها..
انتهت كلتاهما وكما عودتها أن تشاركها بكل اعمال البيت فهي لا تريدها أن تكبر لتفشل في تحمل المسئولية، لن تصنع "شهاب" جديد ابدًا ولو كان عليعا تحمل المستحيلات من أجل هذا.. يكفي عدوانيتها وتصرفاتها الخبيثة التي لا تنتهي عنها فهي بالكلد تسيطر عليها..
تمددت كلتاهما بفراش "كاميليا" وهي تنظر لها بأعين تشابه خاصتها لتهتف في حماس:
- احكيلي بقى.. كل حاجة..
تناولت زفرة مطولة لتطلقها بتريث ثم ضمتها اليها لتبدأ في الكلام:
- لما شوفت راي حبيته جدًا .. كان شاطر اوي في شغله.. شكله حلو.. وهو كمان كان بيحبني اوي.. واتجوزنا وحبينا بعض وجات كامي بس احنا مش بنتفق على كل حاجة فانفصلنا..
رفعت عينيها اليها لتسألها بعفوية وطفولية شديدة:
- هل يكرهني لذلك هو ليس معنا؟
اجابتها مسرعة بمزيج بين الانجليزية والعربية:
- بالطبع لا.. هو يحبك كثيرًا أكثر من أي شيء بحياته.. بس راي عمل حادثة ورجليه اتعورت.. ولما راح المستشفى لقى نفسه تعبان جدًا وكان لازم يقعد هناك فترة.. وهنروح ونشوفه بكرة، وهتتكلمي معاه وهتحبيه جدًا..
استفسرت من جديد ببراءة:
- هو حيكون هناك على طول؟
أومأت لها بالانكار ثم اجابتها:
- لا يا حبيبتي.. هو هيخرج إن شاء الله قريب..
اراحت رأسها على صدرها لتتعجب بنبرة حزينة:
- هو انتي بتكرهيه علشان كده مش بتشوفيه؟
تنهدت لتفكر قليلًا ولكنها اجابتها في النهاية سائلة:
- هو انتي عندك كام واحدة صاحبتك؟
اجابتها بالإنجليزية لتقول:
- ثلاثة..
همهمت في تفهم ثم اردفت سائلة:
- ومن الاقرب اليكِ منهن؟
اجابتها بصوت خافت:
- لورين..
ضمتها اكثر اليها وهي تداعب شعرها في حنان ثم اكملت حديثها:
- معنى ان لورين اقرب صديقاتك انكِ تحبيها اكثر من نتالي و بيث.. ولكن هذا لا يعني أنكِ تكرهي أي منهن.. انت تحبين لورين لأنها تحب الرسم مثلك والتلوين وتحبان نفس الأفلام وتقطن بالقرب منك.. أليس كذلك؟
همهمت بنعاسٍ لتستطرد هي:
- أنا أيضا احب والدك واحترمه كثيرًا.. ولكننا ليس لدينا اهتمامات مشتركة.. وستريه غدًا وستسأليه بنفسك..
شعرت بإنتظام انفاسها لتخفض رأسها لتتيقن أنها ذهبت إلي النوم فقبلت جبينها ثم عدلت جسدها بفراشها ودثرتها جيدًا بالغطاء وهمست إليها بإبتسامة:
- تصبحي على خير يا حبيبتي..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
#يُتبع . . .
الفصل القادم يوم الاثنين او الثلاثاء