-->

الفصل الرابع والسبعون - شهاب قاتم

 

- الفصل الرابع والسبعون -

     

 يالقوة النساء! لقد آمنت منذ ذلك الوقت بأنها لا حد لها.

يا لمكر النساء! لقد آمنت منذ ذلك بأنه لا أخر له ولا قرار.

يا لقدرة النساء على الكيد و براعتهن في التلوين و نهوضهن بأثقل الأعباء و ثباتهن لأفدح الخطوب


(طه حسين)

     

فرق عناقهما بمسافة ضئيلة ثم احتوى وجنتيها بين يداه وهو يرمقها متلهفًا لمزيد من معانقات عدةٍ تجمعهما ولكنه سيكتفي بالقليل كي لا تشعر انها مجبورة على كل ما يحدث بينهما، جزءًا نائيًا في اعماقه ود منها المودة ورغب أن ترغب به هي الأخرى كذلك دون إكراه منه على أن تفعلها.. الإجبار معها لم يعد غايته! 

جفف وجنتيها بإبهاميه ونظر متفحصًا عينيها التي طوال ذلك العام المنصرم قد فشل في تحديد لون ثابت لهما، تتأرجحا مُقلتيها بين ألوانٍ عدة، بداية بالعسلي والأصفر مرورًا بالرمادي الداكن ونهاية باللون الأخضر الذي يكرهه ولكنه لطالما انجذب بإندفاع ساقطًا في معاناته الخاصة بتلك الحدقتين.. 

تنهد وهو يبحث عن حل يُرضيه ويُرضيها ثم همس لها:

- أنا عايز نكون احسن بأي طريقة، بس خلاص مبقاش فيها غصب تاني يا فيروز.. يمكن أنا صحيت متأخر بعد ما وقت كبير ضيعته بأسلوبي الغلط معاكي، ويمكن كل اللي شوفتيني بعمله يخليكي مش عايزة تحاولي ولا تسامحي بس أنا لسه عندي أمل، حتى لو أمل بسيط في اننا نكون احسن! 

ترقبته وهي تنظر إليه بملامح مُرهقة ومعاناة بُكائها تتضح متجلية على وجها لتومأ بإقتضاب ثم تكلمت بصوتٍ خافت:

- إن شاء الله.. 

حمحمت وادعت التعب بكل ما اوتيت من ذرة كذب بداخلها ثم همست له بنبرة مُجهدة:

- شهاب أنا بردانة اوي من المطرة وحاسة إني دايخة.. ممكن تروحني لو سمحت؟

أومأ لها بالموافقة وسار بجانبها محيطًا كتفيها بذراعه وأكملا السير حتى عادا إلي السيارة التي دخلاها وانطلق من جديد مُكملًا قيادته كي يعودا إلي المنزل! 

ادعت الإرهاق واغمضت عينيها لتُفكر بخطوتها القادمة معه، هو منذ قليل قد اخبرها أنه سيترك المنزل بأكمله، ولو بالطبع حاولت أن تُخبره بأن يبقى وألا يُغادر لن تنطلي الخُدعة عليه! ربما عليها الإنتظار اكثر وعلّها ستحظى ببعض الهدوء بعيدًا عنه ولو لعدة أيام! 

اجبرها على فتح عينيها عندما عجت السيارة بصوته المُتسائل:

- انتي كويسة؟ تحبي نروح مستشفى؟

فتحت عينيها ونظرت له بإلتفاته سريعة وهي تومأ له بالرفض وبداخلها سخرية لاذعة على ذلك الإهتمام الذي غلف نبرته واجابته في النهاية:

- أنا بس مرهقة شوية.. لما اروح هاكون كويسة! 

حتى ولو سبب تافه ركيك كهذا ستتشبث به علها تنتهي من هذا الرجل الذي تبادل هواء السيارة معه بات يُشعرها بالخوف اللانهائي وكأن بجانبها كتلة خبث شيطاني غير متوقع!

أغمضت عينيها من جديد وهي تدرس خطواتها القادمة معه، عليها أن تبدو فولاذية صلبة من الداخل وكأن كل ما سيفعله وكل ما سيحدث بينهما لن ينتقل لداخلها إلا وسيقابل حائط صد تنهار معه أي مشاعر قد تتولد لن تستجيب إليها حتى ولو اصبح ناسكًا زاهدًا في كل ملذات الحياة! 

ولكن بخارجها عليها أن تُقنعه بشتى الطرق والوسائل أن كل ما يفعله له اثرًا ولو طفيفًا في عودتها إلي حال أفضل مما كان عليه! 

توقف فجأة بالسيارة لتفتح عينيها ظنًا منها انهما قد وصلا بينما وجدته قد صف السيارة بمكان ليس بمكان المنزل فنظر إليها وحدثها بهدوء متسائلًا:

- انا رايح اجيبلك موبايل.. حابة حاجة معينة؟

تفقدته لوهلة ثم أومأت بالإنكار ليعاود حديثه مستفسرًا:

- تحبي تيجي معايا ولا تستنيني في العربية؟! 

تنحنحت ثم اجابته مُدعية المزيد من الوهن والإرهاق:

- لأ هستناك هنا! 

هز رأسه بالموافقة ثم ترجل للخارج آخذًا معه مفاتيح السيارة لتتنهد هي بعمق واخيرًا تحظى ببعض الهدوء وبعض الهواء غير المُختلط بأنفاسه! 

يذهب ليُحضر لها هاتفًا.. يا له من كريم!! ولكنه بنفس الوقت لا يسمح لها بالوصول لجواز سفرها ولا أي اثبات شخصية ويأخذ معه مفاتيح السيارة.. يوسع نطاق سجنها.. فبدلًا من أن يسجنها بين اربع جدران هو يأسرها بدولة بأكملها لا تستطيع التحدث بلغتهم ولا حتى تستطيع الوصول للسفارة مثلًا، وبالطبع دون أموال.. 

بأي لعنة كان عقلها خامدًا يوم أن وافقت على مثل هذا الرجل ليُصبح زوجها؟ كيف تهورت إلي ذلك الحد وأخذت القرار بأن تتزوجه ولم تستمع لكلمات والدها وصديقتها؟ 

تكونت العبرات فوق مُقلتيها وهي جالسة بالسيارة كشبح إنسان، تتذكر تلك المواقف العديدة التي جمعتهما لتواجه نفسها من جديد، هل كان العشق وحب المغامرة معه هو من دفعها لذلك، أم رغبتها بإصلاح الكون بأكمله من دفعها لتوافق أن تكون بجانب رجل مثله، أم لإختلافه الكبير عن زوجها الراحل وهي تظن أن هذه العلاقة ستبدل حياتها تمامًا وهي تساعد من تعشقه لتراه يُصبح أفضل؟! 

ترقرقت الدموع على وجنتيها وهي تعاود برأسها كل ما حدث معهما، لقد عشقته، هي واثقة من ذلك، عشقت رجلًا مريض مثله بأعتى الأمراض المتواجدة بقاموس التشخيصات المرضية.. ولكنها وقفت عند هذا الإدراك ولم تُكمل أن مشاعره لا تكون صحيحة هذا إن كان هناك بداخله مشاعر من الأساس، أغمضت عينيها رافضة كل الرفض ومنكرة لحقيقة كذبه وخداعه وخبثه، هذه هي الحياة مع رجل مثله والآن يملؤها الندم ويمزقها لأشلاء كل ثانية تمر عليها معه وهي تتسائل أين كان عقلها وقتها؟! 

لقد تملك الفشل منها بكل ما تحتويه الكلمة من معانٍ، ولكن لن تمكث بفشلها ذلك لكثير من الوقت، عليها النهوض والفرار بأي طريقة، ستخدعه أو حتى ستحكم خطة هروبها، ستفعل أي شيء ولكن عليها أن تدرس ما تفعله جيدًا وإلا ستُعرض نفسها لفرصة للرجوع مرة اخرى أما محاولات منه دون ملل ولا سأم! 

راقبها من على مسافة وهي تبكي، حاول أن يستحث بداخله الندم وهو يصرخ بنفسه أن كل ما يراه الآن من ملامحها الحزينة هو بصنع يديه، بقتامة هذا العقل الشيطاني.. يحاول أن يشعر بأي شيء سوى التلذذ برؤيتها تبكي، اللذة هذه تجعله يشعر بالسعادة ولكنه شيء خاطئ.. 

يتذكر أنه يومًا ما أراد أن يراها تبكي من اجله مثل ما كانت تبكي من أجل زوجها، ولقد صمم ووصل لهدفه، ولكن ما النهاية بعد تحقيق هدفه؟ بُكاء طوال الوقت وهي غير سعيدة بينما هو بعيدًا عنها؟ أهذا سيكون واقع حياتهما المؤلم؟! أم ينتظر أن يراها تتعرض لحادثة جديدة وهي تناضل كي تتمسك بالحياة أسفل عينيه حتى يشعر بالخوف من فقدانها؟ 

تنهد محاولًا السيطرة على افكاره الخاطئة وهم بالسير نحو السيارة وما إن لمحته يقترب حتى جففت وجهها ووضع هو الهاتف بالسيارة بالمقعد الخلفي وانطلق بالسيارة صوب المنزل..

     

ابتعدت تمامًا عن الغرفة التي يجمع ملابسه منها وصنعت مشروبًا دافئًا وجلست بغرفة المعيشة تحتسيه في هدوء وبكل ما بداخلها تنتظر بفارغ الصبر أن يغادر كي تنعم بقليل من الراحة والهدوء وشعاعًا من أمان ضئيلًا علها تشعر به عندما يُصبح خارج تلك الجدران الماكثة هي بينهم!

تُذكر الآن نفسها، كأخصائية نفسية سابقة، كانت ناجحة يومًا ما، بأن العلاقة مع شخص مثله تصيبك بالتشويش والتأرجح بين الواقع والخيال، تتذكر الإستنزاف البشع بدرجاته اللانهائية التي تعشق الشخصيات المريضة مثله بأن تمتثله وتبرع فيه بكل افعالهم، عليها ألا تستجيب وتثابر حتى تصل إلي خلاصها بأي طريقة..

استمعت لطرقات على بجانب تلك الحجرة بالرغم من عدم وجود بابًا فاصلًا بين الغرفة وبين باقي المنزل فهي تتوسطه بأكمله فانتبهت واشرأبت بعنقها نحو مصدر تلك الخبطات لتجده واقفًا بملامح لم تستطع أو ربما لم تقدر على قرآتها ليُحدثها بتساؤل:

- ممكن اتكلم معاكي شوية؟ 

أومأت بقلة حيلة بالقبول، وكأنها تملك المقدرة على الإختيار، وسرعان ما توجه ليجلس أمامها وقابلها بنظرات غريبة عليها وعلى ملامحه ولكنها لم تعد تحاول تفسير أو تصديق أي شيء قد يبدر منه! 

شق عليه أن يتركها، تفقدها ببنيتين تودعها، ولكن إن كان هذا الأمر سيُصلح بينهما فسيفعله بلا محالة، وبالرغم من كل ذلك هو لا يستطيع التحكم في نفسع بعد، لا يزال الرجل الذي لا يترك هفوة للمصادفة يتحكم بعقله!

حمحم وادعى الجدية ثم اخرج الهاتف ليضعه على منضدة تفصل بينهما ونظر إليها بتفحص ثم تكلم بجدية:

- أنا مش قادر اثق فيكي.. بعد موضوع بدر الدين وبعد كلامك اننا هنحاول وموضوع فرانك.. مش قادر، وفي نفس الوقت الصح إنك كمان متثقيش فيا!! 

ملامحها كانت تلقائية بالرغم من أنها لم تتذكر سوى جملة واحدة تُقال في مثل تلك اللحظات.. عندما تتحدث العاهرة عن الشرف .. هذا كل ما كان عقلها يصرخ به! 

عاود إكمال حديثه لها ليقول:

- يمكن كل اللي بحاول اعمله يصلح حاجة ما بيننا، ويمكن انتي ترفضي إننا نفضل متجوزين، وأنا بحاول اهيء نفسي إنك هتطلبي الطلاق تاني لما نرجع مصر بس خلينا نتكلم بالعقل وبالمنطقية! 

أي عقل وأي منطقية يريد التحدث عنهما وبهما؟ سخرت بداخلها، كثيرًا!! حتى ظنت انها تستمع لضحكاتها الساخرة بين طيات عقلها، ولكن لنرى ما اللعبة هذه المرة! 

استمعت إليه وهي تتفقده على مُكثٍ بملامح تلقائية لم تعكس سخريتها بداخلها بينما فعل هو المثل وتابع كلامه:

- دلوقتي هسيبلك الموبايل.. لسه فيه إجراءات علشان الرقم الجديد وهنا الدنيا مقرفة شوية في أي إجراءات في المانيا عمومًا.. بس في انترنت وواي فاي.. هتقدري تكلمي اختك واصحابك وكل اللي انتي تحبيهم.. وكمان ده يطمنك إني مش هاعرف اوصل لأي تسجيلات بالمكالمات خالص! بس خليني اكون واضح وصريح معاكي! 

رطب شفتاه وجلس بمزيد من الأريحية بينما ظلت هي جالسة ممسكة بالكوب خاصتها وقدماها اسفلها مستندة بإحدى ذراعيها على حافة الأريكة وانتظرته أن يُتابع ففعل:

- أنا عارف انا اخترت وحبيت مين كويس.. واحدة زيك مش هتقبل الإجبار.. فممكن تفكري إن معاذ هيساعدك.. صدقيني أنا مبقتش عايز أؤذي حد.. ودلوقتي بحاول اتغير.. بس في نفس الوقت لو حد جه يؤذيني هامنعه.. سواء معاذ أو حتى بدر الدين.. 

انحنت رأسه إلي احدى الجوانب متفقدًا اياها ولكنها تحلت ببعض الذكاء والتحمل ولم تعطه أي ردة فعل فتابع هو ما ود قوله:

- دلوقتي بدر الدين وابنه كل اللي معاهم شوية معلومات عن صفقات ومهمات من اللي كنت بخلصها لكارلو.. كلهم بإسم ليوناردو بينسوليو مش شهاب كرم الدمنهوري.. علشان بقى تثبتي إن ده هو ده في بلد زي بلدنا هتحتاجي سنين، ومفيش داعي إني اعرفك إن كلوديا دلوقتي وصلت لدون عيلة مافيا، وهتساعدني لو انا بس طلبت ده.. فمش بسهولة حد يعترف إني نفس الشخص وكل العيلة ماتت خلاص! ولو على وليد فعلشان نفتح قضيته تاني هتاخد كتير اوي! مش بعيد سنين كمان! غير إني ساهمت في حاجات كتيرة اوي في البلد بمليارات.. الفلوس بتعمل مُعجزات صدقيني!

تحذير وتهديد خفي.. فلتُكمل إذن ايها الحاذق، ما الذي تبقى بجعبتك؟ فلتأتي به بأكمله فأنا في مزاج رائق لسماع المزيد من الترهات.. ابتلع وهو يتفقدها فأكمل سيمفونيته الركيكة قائلًا:

- شوية بقى الفيديوهات وانا نايم مع ستات مأجبرتش ولا واحدة فيهم إنها تيجي لغاية عندي محدش هيقدر يضرني بيهم، أولً لأن ولا واحدة عملت بلاغ ضدي، وسلمى كانت بتاخد فلوس واثباتات كل حاجة موجودة غير إني مأذيتهاش خالص! يعني من الآخر فضيحة جنسية وأنا حاليًا برا البلد.. شوية دوشة ليا وليكي! 

ينبهها بذكاء أنها سيصيبها الضرر معه، جيد للغاية، ماذا بعد؟! فلتابع حديثك، كلي أذانٌ صاغية لك، وفعل هو بعد أن تنهد بعمق:

- أنا فاهمك كويس يا فيروز.. انتي بتخافي من الفشل وبتحبي تنجحي.. كرامتك مش هتجيبك تكوني فاشلة قدام هبة وفريدة وهاشم اللي عرفوكي سنين والكل بيضرب المثل بقد إيه انتي مثالية.. اظن كفاية اوي كلام في الحاجات دي.. نحاول نثق في بعض تاني.. ونحاول المرادي بجد! 

ابتلع وهو يحاول أن يزن كلماته بعقله الثُعباني فاستطرد مُتحدثًا:

- الموبايل عندك.. ممكن تغيري جو وتنزلي تجري كل يوم حوالين البيت والجيم موجود في البيت.. هجيلك في مواعيد الجلسات وهاجي اوديكي المستشفى وكل كام يوم هابقى اطمن عليكي لو محتاجة حاجة.. وهابقى في مكان قريب منك لو محتجاني في أي وقت هتوصليلي بسهولة! 

تفقدها للمرة الأخيرة بأعين حادة مختلطة بمشاعر عِدة لم تستجب لأي منها ثم همس لها:

- أنا مش قادر ابعد عنك ولا اسيبك.. بس صدقيني بحاول.. أنا غلط وعارف ده.. بس مش لاقي تصرف افضل من ده اعمله في الوقت الحالي! 

تنهد مبتلعًا ثم تحشرج صوته الهامس:

- ارجوكي متبوظيش كل اللي بعمله.. سلام يا فيروز!

نهض وتوجه للخارج وهي تتابعه بعينيها إلي أن وقف بمحازاة باب المنزل وأخرج من سلسلة مفاتيحه المفتاح وتركه على احدى المناضد القريبة وورقة لم تعلم ما بها ثم توجه مغادرًا في هدوء! 

تناولت نفسًا مطولًا ثم زفرته بعمق وتوجهت مسرعة نحو الباب واغلقته لترى الورقة المكتوب بها كلمة المرور الخاصة بإتصال الإنترنت وكذلك الكود الخاص بنظام الحماية المنزلي لتبتلع بقليل من الأمان ثم اغلقت عينيها في راحة لمجرد فكرة أنه لم يعد معها بمنزل واحد!

     


بداية أكتوبر عام 2020..

كادت أن تقتل نفسها غيظًا من كثرة الغضب وهي لا تُصدق أن تلك الفتاة وزوجها بالكدا يغادران المنزل بمفرديهما، فهي منذ أن عادت من سفرها بالخارج وهي لا تغادر المنزل بتاتًا وزوجها يغادر يومًا وبالأسبوعين لا يفعل، هذا الوباء الذي جعل الجميع بمنازلهم تكاد تود قتله!! 

حتى "عاصم" اخيها و "لميس" زوجته ابتعدا وكأنهما غير متواجدان بالحياة وبالكاد يحضرا لمنزلهم منذ زواجهما ولم تستطع بشتى الطرق أن تصل إليهما، فعندما ترى اخيها بالشركة هذا إن آتى وحضر يتصنع الإنشغال وإنشغال زوجته وانعدام الوقت وقارب الحقد على أن يأكلها بداخلها.. ولكنها لن تتوقف..

هي فقط في انتظار أن يتواجد كلًا من "هاشم" و "فريدة" سويًا بأي سيارة وهي كفيلة بتعريضهما لحادث، لقد ظلت طوال تلك المُدة تتحكم في عديد من رجال يراقبوهما ويراقبوا منزلهما، ستفعلها بالتأكيد لتجبر كلًا من اخيه واختها على الحضور لتتأكد من نجاح خطتها هذه المرة، ولكن عليها فقط الإنتظار واصلاح الأمر مع "عمرو" أولًا!

عبثت بهذا الفنجان الذي تحتسي به القهوة وهي في انتظار قدومه منذ ما يقارب النصف ساعة ليظهر في النهاية بملامح متجهمة ليجلس بقبالتها ثم تسائل بنبرة حادة:

- عايزة ايه يا أروى؟ ايه المهم اوي في اننا نتقابل؟

نظرت إليه وهي تدعي الحُزن الشديد وهمست بكذب اقنعه بشدة:

- حاولت ابعد يا عمرو بس مقدرتش.. طول الأيام اللي فاتت حاسة إن حياتي مش كاملة من غيرك! 

تفقدها لوهلة وعقد حاجباه ثم سألها:

- وأنا قولتلك إني بحبك.. وعندي استعداد اتجوزك.. بس إني اطلق شروق دلوقتي هيعملي مشاكل كتيرة مع ماما! وأنا مش ناقص وجع دماغ! 

أومأت له بإقتضاب بالموافقة واستدعت عبرات زائفة بمُقلتيها ثم همست له:

- طيب معلش اديني فرصة المرادي.. نرجع لبعض ونشوف هنـ..

قاطعها حانقًا بلذاعة:

- وأنا قولتلك على الحل اللي عندي.. مبقاش فيه نشوف ومنشوفش! 

ابتلعت ثم هزت رأسها من جديد بالقبول وطأطأت برأسها للأسفل وهمست وهي تبكي بحرقة ادعتها ببراعة: 

- أنا موافقة اتجوزك.. بس ارجوك اديني وقت.. إني اتجوز في السر بعيد عن الناس الموضوع صعب عليا.. ممكن؟

نظرت إليه بإستعطاف ليومأ لها بإقتضاب بالموافقة لتشعر هي بالفرحة بداخلها وقررت أن تستعطفه بالمزيد من الكذبات حتى تنجح فيما ودت الوصول إليه منذ معرفتها به!

     


أنهت عدوها وهي تلتقط أنفاسها لتنخفض بجسدها ممسكة بكلتا ركبتيها وجذبت سماعات الأُذن فهي لم تعد تُفيد في اسكات صوت رأسها ومن جديد، بكت بمرارة! 

هي باتت تفعل كل ما اخبرها به، هل هذا لأنه هو الحل الوحيد؟ تهرول وتعدو كل يوم بالصباح الباكر، تواظب على تلقي العلاج والجلسات، تتحدث مع الجميع ولكنه بما قاله كان مُحقًا للغاية، هي لا تستطيع فعل شيء وإلا ستكون العواقب لكل فعل سيئة.. سيئة للغاية.. سيئة لأبعد ما يكون!! 

لن تستطيع أن تؤذي أناس ليس لهم ذنبًا بشي، لن تستطيع أن تُقدم على إيذاء صديقة عمرها، ولا اخيها الذي هو زوج اختها وللتو يكونان أُسرة سعيدة، لن تغامر بطلب المساعدة من "بدر الدين" الذي قد يؤذيه من جديد كما فعل، وبالطبع "معاذ" الذي يملك أُسرة لن تُقدم على أن تؤذيه هو وزوجته وأطفاله! يا له من ذكي بغيض! 

جرَّت ساقيها بقلة حيلة وهي تتجه عائدة إلي المنزل لتُفكر من جديد، منذ أن استيقظت والأمر بأكمله هادئًا، هناك تحكماته وحصاره ولكن لم يعد الأمر مثل السابق، هل يدفعها تغيره الوقتي الذي دام لأشهر هذه المرة بأن يتملك عواطفها مرة أخرى، يستحيل أن تُفكر بهذه الطريقة للمرة المائة معه!

لقد تسامحت كثيرًا، لقد تسامحت لأكثر من مرة، قبل الزواج وبعده، صدقته قبل الزواج وبعده، قبل كل مرة غابت بها عن الوعي وبعده، تصرفاته تتكرر، كل شيء يُعاد من جديد معه، حتى تصرفاته الشيطانية التي دائمًا ما يملك الكثير منها تُعاد مرة ثانية! 

ما الذي اختلف هذه المرة؟ طوال المُدة في ادعاءه بالتغيير؟ ربما ذلك الهدوء الذي يتركها بأن تتنعم به قبل عاصفة جديدة مُدمرة؟ هل سيخدعها هذه المرة بذلك النُبل الجديد عليه تمامًا؟ عفوًا ولكنها قد تحملت الكثير!! 

لن تملك حيله طائلًا من ارادتها بالإبتعاد النهائي عنه، الآن الأمر يبدو من بعيد أنه يُعطيها المساحة ويخضع للعلاج، يأتي في هدوء يترك لها كل عدة ايام ما قد تحتاجه من طعام وغيرها ثم يتركها ويغادر، يطرق الباب دون أن يلج للداخل قبل سماحها، يصوم، يُصلي، هادئ تمامًا اثناء الجلسات واصطحابها للمشفى.. ولكن بطياتها لا تستطيع أن تُصدقه.. شهرًا أمام سنة بأكملها من عذاب وكذب وخداع ببساطة لن تملك سلطانًا على عقلها بالإذعان له! 

دخلت المنزل واغلقته خلفها بذلك الكود الذي قامت بتغييره ثم توجهت للحمام وخلعت كل ملابسها استعدادًا للإستحمام ثم توقفت لوهلة وهي تتمن ملامحها في المرآة..

شعرها بات اطول بكثير عن تلك المرة التي قصرته بها، ولكن هذا ليس شعرها بتاتًا الطويل الذي عهدته.. تلك العلامة بمنتصف صدرها، أو ما تركته كل عمليات التجميل ولم تقدر عليه.. ترى تلك الندبة بمصاحبة الندبة الصغيرة في ذراعها وقت تلقيها لتلك الرصاصة.. تلك الملامح لإمرأة لم تعد تعرفها..

وجهًا شاحبًا، ملامح لم تكن عليها يومًا ما، الأمر يشابه تلك الليلة المشؤومة التي اعتدى بها عليها، الإختلاف ربما في اثر الندبات والكدمة التي اعتلت عينها، شعرها يومها كان ممزقًا اشعثًا بفعل يديه أمّا هذه المرة فشعرها اشعثًا بقلة اهتمامها به.. أهذا فقدان كثير لوزنها من كثرة الحُزن أم من العدو والتمرينات التي لا تتوقف عنها؟ على كلٍ هناك صلابة بجسدها وملامحها.. صلابة لم تكن عليها يومًا ما!! 

بالسابق كان الأمر جديدًا عليها وهي تنظر لنفسها بالمرآة، أمّا اليوم فهي أكثر تقبلًا للأمر بصحبة جمود ورغبة في المحاربة لأجل نفسها.. لأجل كرامتها.. ولأجل الخلاص! 

توجهت لتستحم بالمياة الساخنة وهي تحاول أن تصفي ذهنها كثيرًا لفعل ما ودت فعله منذ أن بدأ هو بالمغادرة.. ولكن ربما تلك الأيام كانت كفيلة بأن تجعلها تنعم ببعض الراحة والقليل من الأمان المشروط!

انتهت ثم ارتدت ملابس تصلح للمغادرة من المنزل وصنعت بعدها بعض الطعام ليكون فطورها ثم تناولت نفسًا مطولًا وهي تبتلع بإرتباك وأخيرًا حسمت قرارها واتصلت به ليآتيها صوته بنبرة رائقة تمامًا فحدثته دون مبالغة بنبرتها التلقائية المُقتضبة:

- شهاب.. لو فاضي النهاردة كنت عايزة اخرج اشتري هدوم، اروح لكوافير.. يعني.. حاسة اني اتخنقت من كتر القاعدة في البيت.. لو حابب توصلني وتيجي معايا ممكن تعدي عليا لما تفضى؟

لم يتعجب ولم يترك نفسه أن يُحلل الأمر بداخل عقله كي لا يتهادى لأفكار خاظئة وسرعان ما اجابها:

- عشر دقايق وابقى عندك! 

همهمت ثم ردت بإقتضاب:

- تمام.. مستنياك!

أغمضت عينيها في اخر لحظات تنعم بها وحدها، تحاول التمسك والتحلي بالقليل من قوتها التي اندثرت منذ زمن بعيد واهتزت ولم تعد مثل السابق، هل نفعتها كل تلك الجلسات الأربعة من العلاج النفسي  بالشهر السابق وقبلها الكثيرات؟.. لا تدري.. ولكنها سرعان ما ذكرت نفسها أنها لطالما كانت قوية وانها ستحصل على كل ما ارادته!

     

خرجت لتجده منتظرًا أمام صالون التجميل ثم سارا سويًا نحو السيارة وهو يحاول ألا يُحدق بمظهرها بينما هي ممسكة بكوبان للقهوة بداخل عبوة كرتونية صُنعت خصيصًا لوضع اكثر من كوبٍ بها بعد أن فرغت من تعديل مظهرها وقد حافظت على طول شعرها الذي تعلم أنه لطالما ملك تأثيرًا عليه ولكن هذبته قليلًا بعد اعتناء مكثف به وببشرتها وخضعت لجلسة تدليك رائعة بعد العناية التي خضع لها جسدها بأكمله لتشعر بإنتعاش هائل عزز القليل من ثقتها بنفسها..

شعرت ببنيتيه تحاولا المجاهدة ألا يتفقداها للحظات طالت دون حديث منه لتلتفت له بتلقائية ثم حمحمت وهي تتفقده:

- تشرب! 

مدت يدها بواحدة من الأكواب له ليبتسم وتناول منها الكوب وهو يتطلعها ثم أوما لها بالإنكار ورد بهدوء:

- شكرًا.. صايم! 

رفعت حاجبيها وهزت رأسها بالموافقة لتبتسم بإقتضاب هي الأخرى وحدثته:

- معلش نسيت.. انت لسه بتعوض الأيام اللي قبل كده؟

أومأ لها بالقبول لترتشف هي من قهوتها امامه بينما وضع هو الأخرى جانبًا بعد أن دخلا السيارة لتتناول نفسًا مطولًا ثم حدثته:

- طيب ممكن لو لسه عندك وقت نروح أي مكان اجيب منه لبس شتوي.. الدنيا ابتدت تبقى برد اوي هنا ومعنديش هدوم كتيرة تنفع للجو ده! 

أومأ بالموافقة وشرع بالقيادة نحو احدى المجمعات التجارية التي لم تبعد كثيرًا عن صالون التجميل وبداخلها تتعجب أنه اعطى لها بطاقته الإئتمانية بمنتهى الثقة ولكنه ستُكمل حتى النهاية كي لا تكون دموية تنتهي بإصابتها من جديد وتوقف عن القيادة ليترجلا من السيارة وسار كلاهما في صمت وهي تبتاع بعض الملابس! 

بالرغم من تواجدها بجانبه وارادته أن يخبرها بالكثير مما توصل له وربما التغير الهائل الذي اصبح عليه وعاداته الكثيرة التي تغيرت ولكن كان كافيًا أن يراها هي وملامحها التي باتت افضل بمرور الأيام تتبدل هكذا اسفل عينيه! 

يوقف عقله بمشقة أن يُفكر بالكثير من الأمور، لا يريد تحليل المواقف والتغيير الشديد الذي شرعت به فجأة، هذا الأمر تلقائيًا بالنسبة لها، لقد كانت تفعل مثل هذه الأشياء بالسابق منذ زمنٍ بعيد..

تذكر تلك المرة بأول الجلسات بينهما عندما لاحظ أنها بدلت ملابسها السوداء وقصرت شعرها قليلًا لتلين شفتاه بإبتسامة وهو يتذكر تلك المرأة التي كانت عليها يومًا ما وشرد بأفكاره بعيدًا بتذكر العديد من اللحظات الأولى بعلاقتهما لتباغته بتحدثها له وربما قد مرّ الكثير من الوقت دون أن يشعر:

- أنا كده خلصت! 

همهم في تفهم ثم قدم يده بنُبل لم تبتع أيًا منه وهو يقدم المساعدة أن يحمل معها بعض الحقائب فأعطت له البعض وتوجه كلاهما يسيرا سويًا إلي السيارة فاطرقت بعنقها نحوه وتفقدته لتتسائل:

- معلش.. ممكن نوقف عند أي supermarket اجيب شوية حاجت؟! 

أومأ لها بالموافقة وعقب بهدوء: 

- حاضر.. 

وضعا كل ما بيديهما بالسيارة ثم توجها للذهاب لواحدًا من الأسواق المركزية لتبتاع ما تريده وانقذتها احدى المكالمات التي تلقاها من "هاشم" بخصوص العمل فسرعان ما تركها لتُكمل ابتياعها ما تريده ووقف بتركيز بعيدًا بأحدى الأركان لتأخذ هي في ارتباك احدى عبوات موانع الحمل الخاصة بالرجال فهي فرصة امامها بعد أن قررت برأسها أن تجذبه بشتى الطرق وفي النهاية تتحجج بأنها قد حاولت جميع المحاولات معه ولكن الأمر لم يعد في مقدرتها! 

تفقدت الساعة وقد قارب الوقت على المغيب لتنجح فيما ارادته وبسرعة توجهت لتدفع الأموال ببطاقته وهي تحاول النظر حولها ما إن كان يُلاحظها أم لا وتأكدت أنه لا يزال يتحدث إلي اخيه بمنتهى التركيز لتزفر وهي تخفي العبوة بالحقائب وتوجهت نحوه فأشار بسبابته أن تعذره لبعض الوقت وأخذ يُكمل حديثه بعدة أشياء تتعلق بالعمل!

انتظرت وهي تتفقد لحيته النامية المُهذبة اكثر من أي وقتٍ مضى التي تظهر من اسفل قناع الوجه الطبي وشعره الملفوف الذي لم يكن عليه بالسابق أبدًا.. لم يعد يبالغ بمظهره فاحش الثراء، لم يعد يتوتر ويتحرك بجسده في تواتر كان يُزعجها يومًا ما ويحصل على انتباهها.. هل بات الآن يهتم بالعمل وهو يتحلى بقليل من المسئولية كرجل ناضج؟ ولم تغفل عن سؤاله اياها أن يذهبا ليقوما بتأدية الصلاة، هل يؤثر به الأمر هذه المرة حقًا؟! 

لماذا تتسائل بهذه الأسئلة؟ لماذا يهمها الأمر من الأساس؟ نفضت تلك الأفكار بعيدًا وسرعان ما انهى هو هذه المُكالمة وتوجه ليحمل معها الحقائب وتوجها نحو السيارة في صمت! 

لقد طال الصمت أكثر من اللازم في السيارة لتبدأ هي بمحاولة ضعيفة لكسر هذا السكوت فالتفتت له بلمحة سريعة في تساؤل:

- اخبارك ايه؟ 

لمحها بطرف عينيه في تعجب ثم عاد ليُسلط تركيزه على الطريق:

- تمام! 

تنهدت بعد تلك الإجابة المقتضبة لتحمحم في تساؤل وقد قاربا على الوصول للمنزل فالتفتت نحوه دون أن تبتعد بحدقتيها عنه هذه المرة:

- معلش أنا شغلتك النهاردة بس لو عندك وقت نروح نـ..

قاطعها بقليل من الحِدة قائلًا:

- فيروز أنا مش غريب عنك.. قولي اللي انتي عايزاه وخلاص! ملهاش لازمة معلش ولو عندي وقت والكلام ده!

أومأت له ثم تحدثت بنفاذ صبر مثرثرة:

- بصراحة أنا حاسة إني مخنوقة ومش عايزة اروح.. تقريبًا بقالي شهور مخرجتش.. وجعانة اوي ومش لسه هاعمل اكل بعد لف طول النهار برا.. وانت كمان كنت صايم.. تحب نروح نتغدا في أي مكان؟ هادخل الحاجة اللي جيبناها البيت وبعدين نروح أي مكان! حتى لو هنجيب الأكل takeaway!

أومأ لها بالموافقة ثم همس قائلًا:

- ماشي..

 ترجل ليُساعدها في نقل الحقائب للداخل ولم تمانعه هي بعد أن وصلا كلاهما إلي المنزل الذي تجلس به، كان بالنسبالها أولى المحاولات في استقطابه لما تريده، وبالنسبة له منع نفسه بأعجوبة أن يُفسر ما تفعله هي هذه المرة وهو يُجاهد عقله ألا يُفكر بالأمر!

      

بعد مرور عشرة أيام..

توقف بالسيارة أمام منزلها بعد أن كانت هذه هي المرة الرابعة لمصاحبته اياها وهما يحضران الطعام السريع وهما يتناولاه في صمت لم يفقد بعض الأسئلة المقتضبة  من كلا الطرفان عن حالهما ولاحظ مظهرها الذي باتت تهتم به كثيرًا عكس السابق بينما لم يود هو البدأ في كسر أي حدود أو المبادرة بكلام منه كان سيقوله مثل السابق! 

حمحمت وهي توشك على مغادرة السيارة ثم همست له دون أن تنظر له مباشرة وادعت التلعثم:

- شهاب.. لو حابب ترجع البيت.. يعني.. مفيش مشكلة اتفضل.. 

غادرت سريعًا ليتابعها ببنيتين غرقتا في التفكير بمحاولة جديدة لتفسير ما يحدث لها بالآونة الأخيرة وقارب على الإرتياب بالأمر ولكنه من جديد نجح في محاولة منع نفسه وانطلق بالسيارة نحو منزله الذي لم يبعد عنها سوى بعدة منازل قليلة تُعد على اصابع اليد! 

انهى وضع سيارته بالمرأب وهو عاقدًا لحجباه للحظات وباء بالفشل في تحمل الأمر ومواجهته بداخل عقله، لم يستطع منعه، كلمات المعالج ذو اللحية لا تغيب عن رأسه ولكنه وجد نفسه يُفكر في الأمر من جديد فأخرج هاتفه ثم اتصل برقمها وبمجرد سماع صوت انفاسها سألها مُسرعًا:

- تقصدي إيه بإني ارجع البيت؟! 

حمحمت في تريث لتجيبه بعد نفسًا مطولًا استمع إليه جعله يتوتر قليلًا:

- بصراحة اللي احنا عايشينه ده مش حياة! أنا ملاحظة حاجات كتيرة انت بتحاول تعملها وواخدة بالي كويس اوي من كل حاجة.. يمكن لو رجعنا تاني في بيت واحد الموضوع يتغير.. مش عارفة! 

تنهد في صمتٍ دام لمدة ليست بالقليلة ليأتي صوته مستفسرًا:

- انتي واثقة من القرار ده؟ 

ابتسمت بسخرية لم يرها هو واجابته:

- انت عارفني كويس.. لو مش واثقة مكنتش قولتلك عليه! 

همهم في تفهم وحول أكثر من مرة أن يتحدث لينعقد لسانه وهو يعمل بحرص على أن يختار كلماته لتبادر هي:

- لو شايف إنه كده انت مرتاح ومش عايز تـ..

قاطعها بحدةٍ وغضب قائلًا:

- أنا بسألك علشان المرادي لو رجعنا سوا في بيت واحد أنا مش هاقدر ابعد عنك بسهولة يا فيروز! 

زفرت بعمق متريثة ثم ردت بهدوء كتعقيب منطقي على كلماته:

- مش هاقدر اوعدك بحاجة يا شهاب.. بس منكرش ان الشهر والنص اللي فاتوا، وقبلها تصرفاتك من ساعة ما صحيت في المستشفى لغاية دلوقتي بتقول إنك بتحاول فعلا وفيه تغيير كبير بس.. أنا اخدت القرار ده بعد تردد كبير.. أرجوك متخلنيش ارجع فيه! 

تريث لبرهة ملتزمًا الصمت ليفاجئها بردًا غير متوقع ليقول:

- تمام.. سيبيني افكر يومين! 

رفعت حاجبيها في دهشة من تلك الكلمات بينما ردت عليه قبل أن تُنهي المكالمة:

- تمام.. تصبح على خير..

     

الثامن والعشرون من أكتوبر 2020..

نظرت إليه وهي تراقبه مثل ما باتت عادتها منذ أن آتى من جديد ليصبحا بنفس المنزل ليزداد اندهاشها بداخلها، لم يعد هذا هو الرجل الذي عرفته يومًا ما، كل شيء بات اصعب معه لأنها لم تعد تتوقع ما الذي سيتصرف به..

طوال الوقت إما يقرأ شيئًا، منشغلًا بالعمل أو بالجلسات، يتحدث لفرد من أُسرته ولا يفعل أي شيء آخر.. هادئ هدوء غريب، لا يبادر حتى بملامستها ولا حديثها مثل ما عهدت منه، ليجعلها ذلك تتسائل كل يوم بداخلها ما الذي يُفكر به وما الذي يوشك على فعله؟! 

تحاول أن تتحدث لأخته واخيه كلما هاتفهم أو أجرى اتصالًا مرئيًا وهي تتظاهر بالسعادة وأنهم بخير، لن تتجرأ بعد أن تبكي وهي تتحدث إلي "هبة" كي تُخبرها بأن كل رفضها وكلماتها إليها قبل زواجها منه كان حقيقيًا وهي كانت ساذجة.. لا يزال بداخلها بعض الكبرياء بأن تكون مثال للفشل الذي لا يصفه غير الغباء الهائل! 

ولكنها لن تترك الأمر يمر مروار الكرام.. يفصلها يومان عن يوم مولدها وبعدهما اسبوعان ليحل يوم ميلاده، وبعد تلك الأخبار بمضاعفة الإجراءات الخاصة بهذا الفيروس بألمانيا بعد أربعة أيام تجعلها تشعر بضياع الوقت وتأخرها الكبير فيما ارادت أن تفعله! 

هندمت من هيئتها وخللت شعرها لتجمعه إلي احدى الجوانب وقد عبر كتفيها بقليل ثم طرقت باب غرفة مكتبه ليلتفت بكرسيه إليها ليُفاجئها بإرتدائه لنظارات طبية مما جعلت شكله يبدو غريبًا للغاية لتسأله:

- من امتى وانت بتلبس نضارة؟

ابتسم بإقتضاب إليها وخلع نظارته وفرك عينيه بعد أن وضع احدى الكُتب جانبًا ثم اجابها:

- من زمان بس لما بقرا واخر فترة من كتر القراية الموضوع بقى صعب شوية

همهمت مجيبة وهو تهز رأسها إليه وادعت أنها تناست الأمر الذي آتت من اجله لتقول مقترحة:

- طيب.. أنا كنت داخلة اعمل الأكل.. تحب تاكل حاجة مُعينة على الفطار النهاردة ولا مش صايم؟

تفقدها بنظرات استفسارية ثم اجابها بتساؤل:

- ما أنا اللي بعمل الأكل كل يوم، اشمعنى النهاردة يعني؟

هزت كتفيها بتلقائية واجابته:

- عادي يعني حسيت بملل مش اكتر..

نهض ثم توجه نحوها ووقف على مسافة مقبولة منها ليعاود سؤالها:

- ممكن نعمل الأكل سوا لو تحبي؟

أومأت له بالموافقة والتفتت فورًا لتتوجه حيث المطبخ فتبعها لتقف بعد أن فتحت المبرد وهي تنظر بداخله ليقف عاقدًا ذراعيه خلفها ثم سألها:

- حابة تاكلي ايه؟

هزت كتفيها واجابته:

- أي حاجة مش فارقة! 

همهم متفهمًا وبدأ في انتشال مكونات الطعام الذي سيصنعه بعد أن اقترب قليلًا وتركته هي فهو أعلم منها بشأن الطعام على كل حال وتوجه دون أن ينظر لها إلي المنضدة الرخامية ليضع ما بيديه عليه وبدأ في املاء التعليمات:

- ممكن تبتدي تغسلي دول! 

نظرت إلي الخضروات التي اخرجها ففهمت وابتعدت لإحدى الأركان لتخلع كنزتها حيث انها لن تكون عملية وهي تقصد بالطبع بداخلها اظهار قوامها امامه ولكن بنفس الوقت لم تبالغ بكشف الكثير من جسدها حتى يبدو الأمر منطقيًا.. 

بدأت في غسل الخضروات بينما تولى هو امر الدجاج الذي استمعت له وهو يقطعه حيث اصدر السكين فوق ذلك المقطع الزجاجي صوتًا متواليًا لا يتوقف بينما انتهت هي واخذت الخصروات لتتجه على مقربة منه وجذبت احدى المقاطع الخشبية وسألته:

- اقطعهم؟! 

نظر إليها بطرف عينيه ولم يتوقف عن التقطيع بينما اجابها بإقتضاب:

- آه! 

بدأت في تهيئة الخضروات بينما شعرت به يتفقدها لأكثر من اللازم ولكنها ادعت الإنشغال فيما تفعله لتجده ترك الدجاج وهو لم يكمله بعد واستمعت لصوت المياة خلفها لتتعجب لماذا لم يُكمل ليباغتها بعد ثوانٍ بتلمسه لشعرها وهو يعقده ثم حدثها قائلًا:

- مش قولتلك قبل كده مبحبش الشعر في الأكل ومتنسيش الـ apron أبدًا.. 

سرعان ما استمعت للمئزر وهو ينفضه ليقوم بتخليصه من طويه وامتدت يديه ليعقده حول خصرها لينتعش لوهلة نفس الذكرى عندما كانت تصنع معه الطعام بالسابق! 

التفتت لتنظر له بعسليتين قرأ بهما التردد ولكنها ادركت انه كان يرتدي لمئزر واقي قبلًا منها وعاد ليُكمل اعداده للطعام وفعلت هي المثل إلي ان انتهت بعده فنقلت الخضروات لأحد الأطباق الغويطة واستدارت لتبحث عنه ليتقاطع طريقهما بعفوية لم يُبيت لها أحدًا منهما النية ولم يستطع احدهما افساح المجال للآخر حيث تصادمت خطواتهما في نفس الإتجاه فاستغلت الموقف جيدًا ووضعت احدى يديها على ذراعه حيث تُمسك الطبق باليد الأخرى وحدثته بإبتسامة:

- خلاص استنى انا هامشي من الناحية دي.. 

أشارت برأسها ثم تركت ذراعه وتوجهت بعيدًا ثم سألته بينما لم يتحرك هو ولا يزال متجبًا انها أول من بدأت بملامسة بينهما منذ أن عاد للمنزل:

- تحب اعمل ايه تاني؟! 

تناول نفسًا مطولًا وهو يتفقدها ببنيتيه دون أن تراه هي ليقول بعد مُدة:

- ممكن تسيبي كل حاجة أنا هاكمل! 

التفتت ناظرة له بتعجب بينما تصنع هو الإنشغال بإكمال بقية الطعام ولم ينظر لها نهائيًا لتشعر بالإستغراب الشديد لجفاءه الذي لم تتوقعه أبدًا..

     

انهى كلاهما تناول الطعام الذي لأول مرة تتناوله معه منذ أن عاد للمنزل وانتظرت حتى اذان المغرب حيث افطاره وكالعادة تخلل وقتهما بعض الأسئلة الروتينية منها عن علاجه وعن والدته والعمل لتباغته بأحدى الأسئلة غير المتوقعة:

- أنا فاكرة إني سمعت صوت انفجار وانا طالعة الطيارة، وانت كنت قولتلي إن كلوديا ممكن تساعدك تاني.. هي ازاي مجرلهاش حاجة؟

مط شفتاه بعد القليل من التعجب لسؤالها ولكنه اجابها:

- كنت محضر لينا احنا التلاتة لبس واقي من النار لو تفتكري يومها هي كانت لابساه ومستنيانا.. اكيد نطت من على السطح قبل الإنفجار وجريت.. كلوديا دايمًا بتعرف تلحق نفسها! 

همهمت في تفهم وكلاهما يرفعان المائدة ويعيدا كل شيء إلي موضعه ليباغتها متعجبًا:

- بس اشمعنى بتسألي عنها؟

تنهدت ووقفت تريح جسدها على المنضدة الرخامية خلفها ثم اجابته:

- لأ حاجة جت في دماغي يعني.. استغربت مش اكتر! 

وضع آخر الصحون بغسالة الأطباق ثم التفت ليقترب منها متسائلًا:

- عايزة توصلي لإيه يا فيروز؟

تطلعته لوهلة بمقلتين فشل في ادراك لونهما لتزفر بعمق ثم اجابته بتلقائية ساخرة خدعته بشدة:

- المفروض اننا بنحاول سوا تاني.. عايزة اعرف ايه آخر العصابات!

ابتسم متهكمًا ثم رد عليها:

- متقلقيش.. كلوديا بقت دون العيلة كلها! سواء فاكرين انها اللي ورا الإنفجار فده يخوف الناس منها وهيعملولها آلف حساب، أو حتى لو فاكرين إنها الوحيدة اللي باقية من العيلة.. كده مبقالهاش حاجة عندي! 

ادعت الإنزعاج لتذهب بملامح عابسة بعيدًا فأوقفها دون أن يتلمسها واكتفى بالحديث:

- فيروز استني!

التفتت له على مضض متصنعة الإنزعاج وترقبته أن يُتابع ما يُريد بنظرات معبرة ليسألها بنبرة متوسلة:

- تحبي إيه اللي يثبتلك إني بعدت عن كلوديا وعن المافيا وكل الكلام ده؟

شعرت وكأنهما تحدثا بنفس الأمر بالسابق لتتفقده لترتجف ملامحها في قلة حيلة وسرعان ما استطاعت البُكاء، مجرد النظرة إليه تستطيع فعل الكثير، حتى ولو تغير الأمر بكل تلك الشهور الماضية فهو لطالما سيُذكرها بغبائها وسذاجتها في اختيار رجل مثله فهمست له بنحيب:

- علشان مش عارفة جوزي هيكون اخرته إيه في كل ده، وهل فعلًا ممكن اديله اماني وثقتي تاني ولا لأ.. ولا ممكن في يوم الاقي قنبلة اترمت في اوضة النوم اللي احنا فيها! واقضي ليلة قتل وحرق في ناس انا معرفهومش!

اشتد نحيبها وهي تستجمع كل ما مر عليهما ليقترب منها قليلًا ولكنه حافظ على مسافة مقبولة وحاول أن يُهدئها:

- صدقيني خلاص.. انا بقيت كارت محروق.. وطول ما أنا بعيد عن ايطاليا محدش هيقدر يقرب مننا.. متخافيش يا فيروز أرجوكي.. كل حاجة اتغيرت ومبقتش زي زمان! 

اقتربت نحوه لتتوقف بغتة عن البكاء وصاحت بحرقة والآلم يُمزق صوتها:

- يا سلام! أنا بقيت قاعدة حاطة ايدي على قلبي لا يعملوا حاجة في هاشم وفريدة وهم في مصر.. ولا مش بعيد تكون أنت اللي قولتلهم يعملوا حاجة في أهلي ولا كمان يـ..

أومأ بالإنكار لها وقاطعها:

- أنا عمري ما توصل بيا الدرجة إني أؤذيكي بالطريقة دي.. يمكن اه في ساعة عصبية اكون هددتك بس مكنتش هاعملها أبدًا.. عارف إني غلطت كتير معاكي بس متوصلش لكده.. أنا آسف.. صدقيني أنا آسف على كل اللي عملته معاكي! 

تواترت دموعها من جديد على وجنتيها واقتربت منه تتفقده وهمست بتوسل سائلة:

- بجد.. المرادي بجد يا شهاب ولا هنعيده تاني؟

رفع أنامله على تردد وجفف دموعها وهمس إليها بمصداقية:

- بجد! المرادي غير كل مرة.. اللي واقف قدامك مبقاش فيه اي حاجة زي زمان خلاص وعرفت قيمتك عندي! 

ابتسم بوهن نصف ابتسامة ساخرة ثم تحدث بحسرة:

- لما شوفتك قدامي على سرير المستشفى حوالي شهرين اتعلمت كويس قيمتك عندي.. وعرفت فعلًا إن ربنا موجود وبيختبرني فيكي.. يمكن بفكر غلط أو مش عارف اعبر عن اللي عايز اوصلهولك بس.. أنا بتوب كل يوم وبدعي ربنا كل يوم إنه يسامحني ويخليكي تسامحيني.. يمكن يجي بنتيجة كل ده! 

تفقدته بأعين ادعت إرادة تصديقه بشة ثم أغمضت عينيها وتوسدت احدى كفيه بوجهها وبداخلها تحاول تحمل لمسته بأي طريقة ثم همست:

- ياريت علشان تعبت من الحياة دي.. حياة كلها صدمات ووجع وكدب بس مبقتش عايزاها.. عايزة ارتاح واعيش زيي زي البني آدمين! 

تعجب من فعلتها ليشعر بقليل من التردد بداخله، بينما الكثير من التساؤلات تحاول أن تدفع عقله للتفكير في طريقتها تلك ولا يُصدق أنها من تُشجعه على تلمسها وبعد لحظات من صمت رفعت جفنيها تنظر له بخمول وهو يرى تلك النظرة بعينيها التي كانت بمثابة التساهل في حدود كثيرة قد وضعت بينهما يومًا ما ليهمس متسائلًا بتعجب:

- انتي بتعملي إيه بالظبط؟

نظرت له ورفعت يدها لتتلمس كف يده الذي تتوسده وهو ينظر لها في استغراب وكأنما تخبره بألا يبتعد لتهمس له مجيبة بتساؤل:

- تفتكر بعمل إيه؟!

ابتلع وهو يتفقدها واسدلت جفنيها من جديد تغمضهما واحتوت يدها المزيد من يده ليقف هو في حيرة من أمره وراقب تنفسها الذي تسارع قليلًا فحمحم واقترب نحوها عاقدًا لحاجباه ولم ير مانعًا في أن يُقبل شفتيها في بُطئ وقد تاق منذ ثماني أشهر لعينة لقبلة متأنية مثل تلك! 

عمق من قبلته وهو يُغلق عينيه في استمتاع بكل ذلك الشغف الذي ظن أنه اندثر للأبد بينهما ولم يأتِ ذكره على عقل بالأيام الماضية بأن يحظى به بهذه السرعة من جديدوبدأ في احتواء شفتيها بين خاصتيه وجذب وجهها أكثر إلي أن ظن أن احدهما سيُصاب بالإختناق لإنعدام الهواء فابتعد ملتقطًا انفاسه وفتح عينيه يتفقدها ليجد الإستمتاع جليُا على ملامحها وللحظة تملكه التردد من جديد ليدفعها بعيدًا عنه برفق لتنظر له في تعجب ثم تركها وغادر!

     

#يُتبع . . .

الفصل القادم هحاول يكون اقصاها يوم الأربع (على المدونة) ولو خلصته بدري هنشره قبلها..