الفصل السادس والثمانون - شهاب قاتم
- الفصل السادس والثمانون -
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
~ أنا و أنت لا نصلح لنكون معاً ،
جربنا القُرب مراتٍ عديدة ، وفي كل مرة كُنت تخذلني أكثر !لم تَستطع يوماً أن تكون لي كما أُريدو لم أكن لكَ يوماً ما كُنت تنتظرلهذا فقط أقول لكَعُذراً سيدي فالقلب لم يعد يحتمل كلُ ما لحق به بُهتان و يطمح الآن لبر الأمان !
(نبال قندس)
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
ها هي ابنتها تكبر أمام عينيها وها هي تأت على ذكر الأمر، يبدو وأنه حان الوقت لتواجهها بالكثير من الأمور.. ربما جزءًا من الحقيقة وربما يومًا ما تستطيع فهمها وادراك لماذا فعلت الكثير من الأمور فابتسمت اليها بإقتضاب لتقول:
- كامي بصي.. اولا انا بحاول من سنين اهيئ نفسي للحجاب.. هو فرض.. وفرض على البنت أول ما تكبر وينفع تكون ماما انها تلبسه.. بس أنا كنت مترددة من اني اخد القرار وان شاء الله هاخد القرار قريب..
تعجبت ابنتها وتسائلت:
- هل تقصدين غطاء الرأس كما نرتديه ونحن نصلي؟
أومأت إليها بالموافقة واجابتها:
- ايوة.. الصح ان البنت تتحجب بس مش مجرد حجاب وخلاص.. لازم تراعي ربنا في لبسها قدام الكل.. مينفعش اغطي شعري وخلاص وأنا مش ملتزمة باللبس اللي يمشي مع الحجاب..
تريثت لبرهة وتنهدت واختلفت ملامحها بقليل من الحزن لتسألها:
- انتي عارفة تيتا وجدو اللي همّ مامتي وبابايا ماتوا ازاي؟
هزت رأسها واجابتها:
- في حادث حريق.. لقد اخبرتني ذلك منذ مدة..
أومأت لها وسيطر الحزن على ملامحها لتقول:
- لقد تأذيت ببعض الحروق يومها ولهذا اشعر بالإرتياح اكثر وأنا ارتدي هذه الملابس..
لاحظت الحزن يعتلي ملامح "كاميليا" لتدعي بعض المرح وسألتها:
- من حق الجميع أن يرتدوا مثل ما يريدوا.. هل اخبرتك يومًا أن ترتدي ما يعجبني أم دائمًا ترتدي ما تختاريه وما يُعجبك؟
رفعت حاجباها في تحفز واجابتها:
- أنا من اختار ملابسي ولا اختار سوى ما يعجبني..
تنهدت وردت معقبة لتقول:
- طيب تمام.. وانا كمان هدومي زي ما بحبها وزي ما بتريحني.. كده جاوبت على سؤالك! تيجي نقوم ننام بقى احسن تعبانة اوي..
أومأت لها لتنهض كلتاهما لتغمغم ابنتها مة جديد:
- إلي الآن لا زلت لا أصدق انه ابتاع القارب!
صدحت ضحكاتهما سويًا ثم حدثتها والدتها وهي تصعد الدرج نحو غرفتها بينما انتقلت الأخرى لغرفتها بالطابق الأرض لتقول بصوت عالي حتى يصل لمسامعها:
- لأنه يعشقك عزيزتي.. طابت ليلتك..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
بعد مرور شهرين. . .
جلست على احدى الكراسي التي تحاوط الجزيرة الرخامية بمطبخ منزله وتفقدته وهو يصنع لها الطعام وطال الصمت بينهما قليلًا عن المعتاد لتتسائل وهي تتابع ملامحه:
- هل لازلت تعشق والدتي؟
توقف عن اكمال ما يفعله ونظر إليها وهو لا يدري من أين آتى تساؤلها الذي تمنى لو تحدث بحقيقة ما يُكنه لها إلي الآن من مشاعر ولكنه لا يريد مجرد التحدث في الأمر ليجيبها مستفهمًا:
- وما سبب هذا السؤال؟ هل هي من اخبرتك أن تسأليني؟
أومأت بالإنكار وقالت بتلقائية:
- لا.. أنا فقط اتسائل.. وكذلك أرى انكما طوال الوقت أصدقاء وليس هناك أي مُشكلات بينكما.. لذا كنت أتسائل..
هز رأسه بعفوية بينما أكمل ما يفعله لتسأله من جديد:
- هل تريدني أن اساعدك بشيء ما؟ لطالما تعودت أن اصنع الطعام مع والدتي..
همهم لها وتريث للحظة فهذه هي المرة الثانية أن تأتي لتمكث معه بعض الأيام ليخبرها بإبتسامة:
- لن تفعلي شيئًا.. أريد أن ادللك اليوم..
ابتسمت له ثم قالت:
- أنت أفضل من والدتي.. علي أن اشارك بكل شيء في المنزل بينما أنت لا تطلب مني ذلك..
توسعت ابتسامته ليرمقها مضيقًا عينيه وقال:
- ماما بتخليكي تساعديها علشان لما تكبري تبقي تعرفي تعملي كل حاجة.. والمرة الجاية هخليكي تساعديني..
لمس طيفًا من التذمر ملامحها وحاول أن يُحدثها بالمزيد كي يتجاذبا اطراف الحديث فيسألها:
- كيف حال اصدقائك؟ هل تنتظرين بدأ الدراسة مرة أخرى لتصبحي معهم من جديد؟
قلبت شفتاها في امتعاض واجابته:
- لم أعد املك سوى لورين.. وبقيتهم اغبياء لأنني افضل منهم جميعًا..
اندهش من كلماتها ليسألها:
- ليه بتقولي كده؟
هزت كتفاها في عفوية وحدثته بضيق:
- مش عارفة.. منذ أن اصبحت الأولى على الصف وفجأة كرهني الجميع عدا لورين واحيانًا بيث تحدثني قليلًا.. أمقت تجمعاتهم سويًا ولورين احيانًا تكون معي وأحيانًا معهم! كما أنهم يخبروني ببعض الكلمات السيئة!
انزعج قليلًا مما تخبره به ليُحدثها بتصميم وتلقائية متناسيًا العديد من الأشياء التي عليه أن يُخبرها بها:
- لا تتركي أحدًا لينعتك بأي كلمة سيئة ولو فعل أحد هذا عليكِ أن توضحي له أو لها أنه لا يُمكنه الإساءة لكِ مرة أخرى!
نظرت له بتساؤل وقالت:
- كيف؟
هز كتفاه بتلقائية وقال بنبرة اقتراحية:
- تستطيعين فعل الكثير.. افساد طعامهم.. ملابسهم.. رسوماتهم.. ولكن فقط عندما يسيء إليكِ أحد لأن ما أُخبرك به ليس بجيد.. والأهم ألا يراكِ أحد وأنتِ تفعلين ذلك..
ابتسمت له بحماس وردت قائلة:
- لماذا لا تأتِ لتعيش معنا.. لو أخبرت أمي هذا سترفض على الفور.. وستعاقبني.. ولكن أنا لن اخبرها ذلك..
شعر بقليل من الإرتباك ولكنه تحدث في ثقة:
- بالطبع لن تخبريها.. نحن لدينا اتفاق اننا نحافظ على اسراري أنا وأنتِ.. ولو نمى ذلك إلي علم والدتك ستقتل احدنا بالتأكيد!
تريثت لبرهة وهي تفكر ثم من اللاشيء تحدثت بتلقائية:
- ولكن سيراني الله! والدتي قالت ذلك..
توقف عما يفعله ثم فكر كثيرًا ليعلم أنها مُحقة بكلماتها وتنهد ليقول:
- هي مُحقة.. لو تحدث إليك أحد وازعجك لكِ أن تُخبريني دائمًا وسأفعل لكِ ما تريديه..
نظرت له بإعجاب لتمدحه قليلًا:
- يُعجبني أن اتحدث معك دائمًا لأنك تفهمني للغاية ولا تعاقبني!
رفع رأسه متفقدًا اياها بإبتسامة ثم قال:
- ولكنني سأشارك والدتك في العقاب لو فعلتِ أمرًا خاطئًا..
امتعضت ملامحها قليلًا لتغمغم على مضض:
- أنت دائمًا تفعل كل ما تريده هي..
تنهد ثم امسك بعصاه ليستند عليه وتركها والتفت ليضع "البيتزا" بالفرن كي تنضج ومن ثم توجه نحوها وجلس بالقرب منها حتى اصبح مُقابلًا لها وسألها بجدية ولا تزال ملامحه تحمل اللين:
- مش ماما دايمًا بتقولك تعملي الحاجة الصح وتبعدي عن الغلط؟
هزت رأسها بالموافقة وملامحها لا تزال تحمل الإستياء وقالت:
- أيوة بس..
قاطعها كي لا تتابع بالمزيد من الأعذار الواهية:
- من غير بس.. ماما بتحبك وأنا كمان بحبك ومش عايزينك تكوني بنت مش كويسة.. علشان كده بتحاول تخليكي تعملي كل حاجة صح وأنا دايمًا هساعدها وهوافق على اللي بتعمله معاكي علشان أشوفك احسن بنت في الدنيا..
امتعضت ملامحها أكثر بمزيد من الإنزعاج ليشرد بها قليلًا وهي تبدو كوالدتها تمامًا عندما تنزعج لتندفع متحدثة:
- ولطالما أنت ستساعدها وتوافقها لماذا لا تأتي لتعيش معنا؟ بيث ولورين وكل اصدقائي يعيشوا مع والديهما!
رمقها بإبتسامة مُنكسرة وتمنى لو يستطيع أن يفعلها ولكنه حاول أن يُخفي آلمه ليقول:
- كامي.. أنا نفسي أعيش معاكم بس.. أنا وماما مش متجوزين.. مش هينفع نعيش سوا مع بعض من غير جواز..
تعجبت ملامحها لتسأله بعفوية:
- بس انتو اكيد كنتو متجوزين.. ليه سبتو بعض مع انكم اصحاب؟
حمحم وهو يتفقدها ولا يدري كيف سيكذب عليها بهذا الأمر ليجيبها بوهن:
- علشان ماما كانت عايزاني اعمل حاجات كتيرة صح وانا مسمعتش كلامها.. كنت بعمل حاجات كتيرة غلط وأنا تصرفاتي معجبتهاش.. متفقناش وسيبنا بعض! يمكن نرجع لبعض في يوم ويمكن لأ.. لسه مش عارف..
توقف من تلقاء نفسه وشعر وكأنه يعطيها أملًا زائفًا بينما اليأس يحتله بأكمله لينهض وهو يخبرها:
- أنا هاقوم اشوف البيتزا علشان ناكل..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
بعد مرور بضع أيام. .
جلس في صمت تام يتأملها في سكون متمتعًا بملامحها، هذا اصبح أقصى ما يستطيع الحصول عليه، أن يتفقدها في صمت ويشعر بالألفة والراحة وهو بالقرب منها ليتذكر كيف كانا يومًا ما وكل ما فعله معها ليجعلها ترفض أن تقترب منه حتى ولو بعفوية ليتجدد الندم بداخله ويصاب باليأس والإحباط.. أكثر من ثماني سنوات.. ولم يكن الأمر كافيًا أن تغفر له فعلتِه..
يكاد أن يصرخ بها ليُخبرها بأن تتوقف ولكنه يعود بذاكرته ليتذكر صراخها بين يديه اكثر من مرة.. يتمنى لو رآت تلك الجروح بداخله التي تنزف ندمًا ولكنه يتذكر جروحها عندما مزق جسدها بذلك السكين الحاد.. مجرد حديثها مع رجل أمامه يجدد بداخله رغبة حرق رجال الأرض جميعًا ليأتي على عقله تلك الجُملة التي اخبرها بها يومًا ما..
لقد قال لها أنها لا تخون.. ولكنه بمنتهى السذاجة والغباء صدق وقتها انها قامت بخيانته.. ولم يستطع التصرف يومها سوى بحرقها هي وليس حتى ذلك الرجل الآخر.. كيف كان بكل ذلك الغباء وقتها؟ أين ذهب عقله؟
مهما فعل، ومهما تغير لن يتبقى له سوى اليأس معها.. لقد برهنت له آلاف المرات أن ما بينهما لم يعد سوى ابنتهما فقط..
تنهد محاولًا أن يسيطر على ذلك الآلم وتهادى إلي اذنيها صوت تنهيدته ففتحت عينيها وهي تحاول ألا تنظر في اتجاه الشمس مباشرة لترفع يدها كي تحجب تلك الأشعة عنها وسألته:
- انت قاعد هنا من بدري؟
أومأ بالإنكار وحمحم كي يتأكد ألا تختلف نبرته وحدثها بتلقائية مُجبرًا ابتسامة:
- مفيش.. سيبتهم مع بعض شوية.. قولت اجي اقعد معاكي حبة..
حاول أن يشيح بنظره عنها كي لا تلاحظ اختلاف ملامحه ولكنه تأخر للغاية ليُدرك هذا عندما سألته:
- مالك؟ شكلك متضايق.. فيه حاجة حصلت؟
أومأ بالإنكار وكاد أن ينهض لتهمس به هاتفة بإهتمام:
- فيه ايه بجد يا شهاب؟ انت شكلك مش طبيعي..
التفت رامقًا اياها وهو يحاول أن يكبح لسانه كي لا ينطق بالكلمات لتقول هي بتلقائية:
- مش هتحايل عليك بقى.. فيه ايه اللي ضايقك؟ حد من اهالي الولاد قال حاجة تضايقك؟
نظرت نحو الجميع وهم مجتمعون على القارب الذي ابتاعه لإبنته وتتعالى اصوات الجميع من على مسافة فقال بإقتضاب:
- مفيش حاجة!
تنهدت بضيق وسألته بجدية:
- خلاص انت حر! متتكلمش لو تحب..
انزعجت ملامحها ولاحظ أنها اوشكت على النهوض ليتحدث بصوت خافت انعكس به الآلم:
- اصلي لما شوفتك النهاردة بالحجاب افتكرت اليوم اللي..
قاطعته سريعًا كي لا يُكمل وهي تزم شفتاها لتبدو كخط مستقيم ونظراتها مليئة باللوم:
- احنا قولنا مش هنتكلم في اللي فات..
حمحم وهو يومأ بالموافقة وادعى عدم الإكتراث ليقول مسرعًا:
- أنا مقصدش.. بس شكلك حلو كده!
زفرت بعمق وابتسمت له وقالت:
- كنت عايزة اتحجب كده ولا كده.. والحمد لله اخدت القرار.. بصراحة كامي هي اللي شجعتني.. قالتلي ليه دايمًا بلبس مقفول وقولتلها اني بحاول اعود نفسي على الحجاب ولبسه.. يمكن ربنا جعلها سبب.. مش عارفة.. بس حسيت اني مستعدة اعمل كده..
صرخت عينيه بإعتذارات شتى وقاربت على قول شيئًا ليوقفها بأعين لمعت بها الدموع وهو يهمس متوسلًا:
- فيروز.. أنا بحاول.. بس.. انا مش قادر على موضوع الاصحاب ده.. بقالي من يوم ما اتفقنا.. اكتر من تلت سنين، بس أنا مش عارف!
اخفض رأسه ليحاول أن يُخفي ملامحه وعينيه التي شارفت على البُكاء من مرمى بصرها ليستمع لها تتناول نفسًا مطولًا فشعر أن أيًا كان ما أوشكت على التحدث به سيصيبه بمزيدًا من اليأس فظل لا ينظر لها واكتفى بسماع كلماتها:
- احنا وصلنا لمرحلة حلوة اوي.. اصحاب وبنهزر وبنضحك ودايمًا مبسوطين مع كامي.. وبعدين لما اكلمك تبصلي..
رفع رأسه إليها ورآت عينيه ليست فقط تلمع بالبكاء بل بالندم والحزن، تعرف أنه تغير كثيرًا ولكن هي تعلم أيضًا أنها بداخلها لم تعد تستطيع النظر إليه كزوج وحبيب فحدثته بإبتسامة صادقة:
- شهاب.. أنا انفع أكون أم كويسة.. صاحبة حلوة آوي وجدعة.. ادي نصح وإرشاد.. مُدرسة شاطرة.. اعرف اربي اطفال كويس.. اعرف احافظ على الصح والغلط والعقاب.. إنما حب وجواز.. مظنش.. عمري ما كنت كويسة كحبيبة وزوجة..
ابتسم بسخرية كما كانت كلماته بصوت مكتوم بالعبرات السجينة بحنجرته:
- على اساس مكونتيش متجوزة ماهر وحبتيه وكنتي بتعيطي عليه!
تأتأت كعلامة على عدم الموافقة على كلماته ثم قالت بعد أن تنهدت بعمق:
- بص.. أنا وماهر مكنش بينا جواز بجد.. كان دايما حاسس إنه مقصر علشان شغله كله سفر وعايز يعوضني فكنا مقضينها خروجات واصحاب وقرايب وحتة الاجهاض كمان كنت بصعب عليه فكان بيحاول يفرحني على قد ما يقدر في الكام يوم اللي بيقعدهم معايا..
ابتسمت على سذاجتها يومًا ما ثم استطردت:
- تعرف.. زي ما إنت مريض بإنك شخصية مضادة للمجتمع انا كمان مريضة بالمثالية ومريضة اني مبعرفش احب.. ولو كنت حبيت بجد في يوم فهيبقى حبيتك إنت.. بكل عيوبك اللي عرفتها عنك من زمان وبكل مميزاتك اللي اكتشفتها فيك لما قربنا من بعض.. إنما ماهر كان احترام وتعود وشكله ومظهره.. مش اكتر من كده..
تفقدها بحزن لتبتسم هي بمرارة وهمست له بمصداقية وآسى بعد أن تنهدت:
-أنت ادتني اغلى هدية في الدنيا كلها بجد.. كاميليا.. البنت اللي كان نفسي فيها.. مفيش حاجة اجمل منها في الدنيا.. كفاياني محاولات في حاجات أنا مش قدها، لا أنا قد الحب ولا قد الجواز وهظلمك لو رجعتلك في يوم.. ذكريات ومعاتبة وعياط وقلق وخوف وعدم امان وقلة ثقة.. صدقني مش هنخلص..
تريثت لبرهة ثم هتفت به هامسة في تصميم:
- خلينا أصحاب وجنب بعض.. لكن حب وجواز أنا هضغط عليك وإنت هتنتكس وهنوجع بعض! كفاية إني متأكدة إنك الراجل الوحيد اللي حبيته وكفاية إنك تعرف إن دايمًا جانبك.. أنت أبو بنتي وصاحبي ومحدش هيهون عليا ولا عليك كل اللي حصلنا في حياتنا غير صحوبيتنا ووجودنا جنب بعض..
ابتسمت له بعذوبة ثم نهضت وأخبرته:
- هاروح اقعد مع الناس علشان سايبنهم بقالنا كتير لوحدهم.. يا ريت تيجي انت كمان علشان القاعدة بتبقى حلوة بيك..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
بعد مرور شهر . .
ابتسم إلي ذلك الرجل برسمية شديدة بعد أن تأكد من اثبات وصيته والإنتهاء منها بأن تؤول كل أمواله وكل ما يملكه إلي ابنته بعد أن تبلغ السن القانونية وإلي ذلك الحين فإن والدتها ستكون هي المُتحكمة في سائر الأمور..
أغلق ذلك الظرف الورقي واتجه مُستقلًا سيارته وبداخله لم يعد يشعر برغبة في الحياة بعد الآن.. كل ما به ليس سوى اليأس والإحباط.. لقد حاول كثيرًا.. مرات ومرات ولكن الحياة دونها أمرًا لم يعد يقدر أن يتحمله أكثر من ذلك..
يشعر بأنه شارد.. شارد في كل سبيل يحاول أن يسلكه يجد نهايته بابًا مُغلقًا.. يظن كل مرة يحاول بها أنه سيسعد أخيرًا ولكن قتامة ماضيه لا تترك له أي فرصة لشعاع منكسرًا يستطيع التمسك به..
هو لا يود أن يقتل نفسه وبعد كل هذا يُلاقي خالقه وهو كافرًا.. لن يستطيع فعل ذلك، بعد كل ما حاول أن يصل إليه الأمر أكثر مما يستطيع تحمله وحده، الآلم لا يتوقف ولا يريد أن يندثر أبدًا..
يعلم أن ابنته تُحبه وربما هو يفعل المثل أيضًا.. يكفي أنه يستطيع التحدث لها وهي حقًا تُشبهه في الأفعال وتشبه والدتها في الملامح ولكن هذا ليس كافيًا..
لقد حاول أن يكون والد جيد، آمن له كل ما قد تحتاجه لسنواتٍ.. لكن أن يقوم بتنشئتها بطرق سليمة، مهما فعل ستظل "فيروز" هي التي تتفوق وتعلم الصواب والخطأ وماذا عليها فعله في كل موقف..
هي رائعة، تستطيع التغلب على كل شيء.. أمّا هو.. هو لا يعرف حتى كيف يتحمل نظرة منها أو ابتسامة دون الشعور بالندم على كل ما ارتكبه بحقها!
صف سيارته وهبط منها واتجه للداخل بعد أن خلع نعليه.. هذا هو المسجد الأكبر هنا.. لابد من أن يجد أحدًا كي يُؤكد له أنه عندما يقتل نفسه سيغفر له الله! كل ما قرأه تضارب كثيرًا ولم يُؤكد له الحكم تجاه هذا!
قام بتأدية الصلاة خلف الإمام وانتظر قليلًا بعد انتهاء الصلاة جالسًا على احدى الكراسي وعندما أصبح الإمام بمفرده توجه نحوه مستندًا على عصاه وحدثه قائلًا:
- سلام عليكم.. هل تتحدث العربية؟..
ابتسم له الرجل ثم حدثه:
- وعليكم السلام.. اه طبعًا اتفضل..
ابتسم في تعجب ثم همس غير مصدقًا:
- وكمان مصري ده أنا حظي حلو..
بادله الرجل الإبتسام ورد معقبًا:
- احسن ناس زي ما بنقول..
لانت ابتسامته بهدوء وحمحم ثم حدثه ليقول:
- مش هعطلك بس أنا كان ليا واحد صاحبي، ويومها عاملنا حادثة جامدة شوية وللأسف اتشل..
أشار على قدمه لتتأثر ملامح الرجل في حزن فسرعان ما تابع حديثه، فهو لا يحتاج تلك الشفقة نهائيًا:
- بس قبل الحادثة يعني افتكر إن مراته بتخونه واتعصب عليها جدًا وأذاها جامد وطلقها كل ده وهو مكنش يعرف الحقيقة.. حاول يرجعلها في تمن سنين بس مرضيتش فانتحر.. هو كده يبقى ميت كافر وربنا مش هيغفرله؟
تأثرت ملامح الرجل ثم قال:
- لا حول ولا قوة إلا بالله.. ربنا يرحمه ويغفرله.. والله الحكم إن النبي عليه الصلاة والسلام دعى بالمغفرة لواحد انتحر.. ولكن هيفضل ذنب وكبيرة من الكبائر وآثم.. مش من حق الإنسان يقتل نفسه يوم ما يحب..
ربنا يرحم صاحبك، بس لو كان ليه اعمال خير عسى الله يغفرله ويرحمه.. أمره متروك لله عز وجل.. بس مهما كان مينفعش حد ينتحر لأي سبب من الأسباب..
تفقده الرجل مليًا ليحاول ألا يدع ملامحه تختلف أمامه وحاول السيطرة عليها ليباغته الرجل:
- هو يعني انتحر علشان هي مسامحتهوش؟ محاولش يكلمها أو يردها ليه في العِدة؟
عقد حاجباه وأومأ له وحدثه بتلقائية هامسًا بيأس:
- هو شافها بعد الموضوع بسنة كاملة وأصلًا أول ما اكتشف خيانتها يعني اعتدى عليها بعلاقة وضرب والموضوع كان شديد لدرجة انه اعتدى عليها بالحرق وطلقها في لحظتها.. الموضوع اتقفل..
اندهش الرجل رافعًا حاجباه وتمتم قائلًا:
- يا سُبحان الله.. اهو صاحبك كان قدامه طريق ميموتش نفسه.. لو طلقها وهو في حالة غضب شديدة الطلاق لا يقع.. لأنه معندوش سيطرة ولا تحكم في عقله ووصل بيه الغضب إنه اعتدى عليها بالطريقة اللي انت قولتها.. حاجة صعبة جدا.. الله يعينها ويغفرله!
اختلفت ملامحه لتلتوى شفتاه في صدمة إلي احدى الجوانب ليتسائل:
- يعني.. يعني لسه متجوزين؟ يعني هي على ذمته؟
تعجب له الرجل واجابه متسائلًا:
- مش بتقول إنه اتوفى؟
حمحم وتدارك بسرعة ما قاله ليجيبه مُدعيًا التلقائية:
- أنا بس اتصدمت.. يعني لو كانت لسه مراته يمكن مكنش موت نفسه.. بس هو حضرتك متأكد من الكلام ده؟
ابتسم له الرجل ناظرًا له بقليل من اللوم ليتدارك ما قاله:
- أنا آسف.. أنا بس مش مصدق.. يعني كانت مفاجأة..
تهللت ملامحه ليتفقده الرجل في استغراب ثم همس له:
- اديك اهو جيت ودخلت بيت ربنا وشكلك اتبسطت لما عرفت إن مراته كانت لسه على ذمته قبل الموت.. لو كان بس جه وسأل كان يمكن عرف الحكم ساعتها.. يالا ربنا يغفرله..
ابتسم له في راحلة ولا يدري بمثل تلك الكلمات كم تجدد بداخله أملًا في هذه الحياة وانزاحت غمة عن عينيه ليشكره بإمتنان:
- متشكر جدًا لحضرتك..
تركه وبداخله أخذ يحمد الله وهو يتوجه بإبتسامة وملامح متهللة إلي السيارة كي يعود.. لم يكن يظن أن بمجرد تأكده من فعل شيء قد يكون مُحرمًا وخوفه من أن يُعاقب من خالقه جعل الحياة بأكملها تبتسم له.. لا تزال زوجته.. أيكافئه الله بهذه الحقيقة؟ ربما يفعل.. وربما كذلك لأنه بعد كل ما فعله لا يتوقف عن التوبة عما فعل..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
بعد مرور شهرين . . .
تريث وانتظر لهذه اللحظة بفارغ الصبر، كان يرتقب أي لحظة هما بمفرديهما بها حتى يُحدثها بالأمر.. ربما تجدد بداخله ولو أملًا ضئيلًا.. كان يتمنى لو أن كل ما كان يفعله بتلك السنوات المنصرمة سيشفع له لديها..
لا ينكر أحدًا لا هو ولا هي ولو رآه من عرفه يومًا ما سيقسم أنه تغير وبات رجلًا آخر غير الذي كان عليه طيلة حياته.. ربما بعد تلك السنوات المريرة بمحاولة أن يُصادقها قد يدعها تدرك أنه تغير بالفعل..
شعر بتواجدها خلفه ليلتفت ناظرًا إليها ثم تحدث قائلًا:
- مش هسهرك اكتر من كده.. أنا قربت اخلص خلاص..
سلط تركيزه من جديد على إنهاء ذلك النموذج الذي كان يصنع به ثلاثتهم منذ ساعات حتى ينتهوا منه ولكن ذهبت "كاميليا" للنوم حيث نامت بالفعل على الأريكة الملحقة بهذه الغرفة بينما لم يعد مرسمًا فحسب.. لقد اصبحت الغرفة التي تستذكر به دروسها ومرسمًا وتستقبل صديقتها بها واليوم ولأول مرة تشارك في احدى السباقات بهذا التصميم!
زمت سترتها عليها وعقدت ذراعيها في تحفز ثم ردت لتقول:
- أنا مش موافقة على اللي بيحصل ده.. مش معنى انها طلع في دماغها فجأة تشارك في حاجة يبقى نسهر ونشتغلها احنا.. لازم تتعلم تعتمد على نفسها يا إما هتستسهل كل حاجة.. وأنت مدلعها على فكرة زيادة عن اللزوم!
رمقها بطرف عينيه في تعجب ثم سألها:
- مدلعها ازاي يعني.. كل ده علشان سهرت شوية اخلصلها حاجة؟
تنهدت وهي تحاول انتقاء كلماتها بعناية لتحمحم قائلة بقلة حيلة:
- كامي بقت عايزة تجري عليك كل شوية لأن مفيش غلط وصح وأنا متأكدة إنكو من ورايا فيكو انتو الأتنين بلاوي أنا معرفهاش..
لانت شفتاه بإبتسامة ثم غمغم:
- بصراحة آه.. فيه حاجات كتيرة متعرفيهاش..
حدقته بملامح جادة لتتناول نفسًا مطولًا فتوجس من المُقبل من كلمات وصغى جيدًا لما ستقوله:
- بص.. خلينا نكون واضحين.. أظن أنا عرفتك الصح والغلط فين.. بس لو هي اتدلعت عليك هتكبر وهتقصر معاك وهتكمل دلع عليك.. لكن أنا مش هتقدر تعملها معايا ولا تدلع عليا.. أرجوك دي تكون أول وآخر مرة تعملها ماكيت من غير ما تفضل معاك وتخلصوه سوا.. اعملها كل اللي نفسك فيه بس بالعقل.. موقف زي ده يخليها متتحملش المسئولية طول العمر وتفتكر انها تنام وتصحى تلاقي كل حاجة بقت موجودة وسهلة ومتاحة..
زفر بعمق وهو ينظر إلي هذا النموذج الصغير بالنسبة له أمامه ثم التفت لها بملامح لينة وقال:
- أنا خلصت خلاص.. كان ناقص فيه حاجة بسيطة.. وبعدين متنسيش انها اتحرمت مني كذا سنة ولسه يادوب من فترة قصيرة ابتدت تيجي وتقعد معايا وأنا برضو مكونتش عارف اتعامل اوي.. ما صدقت وصلنا للي وصلناله! معلش لو دلعتها في حاجة صغيرة.. هي كمان لازم هتصحى بدري بكرة علشان كده كملته لواحدي..
زمت شفتاها وهي تومأ له وسرعان ما استطرد بنبرة مترددة:
- كمان كنت عايز اكلمك في موضوع وأنا متأكد اننا لوحدنا!
ضيقت ما بين حاجبيها في تردد لتسأله بعفوية:
- موضوع إيه؟
حمحم وهو يتفحص ملامحها محاولًا تبيُن لو انها ستستجيب لما يقوله ليحك مؤخرة رأسه في ارتباك لتتوجس هي من توتره وكادت أن تتكلم فسبقها هو:
- أنا.. أنا كنت مخنوق شوية و..
تلعثم قليلًا بينما ازداد استغرابها من ارتباكه لتهتف به بعفوية:
- ما تقول وتخلص.. فيه ايه؟ ما أنا وأنت بنتكلم كل شوية تقريبًا.. قول متقلقش من حاجة..
تنهد وهز رأسه بالموافقة بينما تابع بصوت خافت:
- أنا كنت مضايق وروحت المسجد ولقيت نفسي بتكلم مع الإمام اللي هناك.. ويعني قولتله على اللي حصل ما بيننا
رفعت حاجبيها وتملك الرعب من ملامحها وكادت أن تزجره ليستطرد مُسرعًا:
- متقلقيش بطريقة غير مباشرة.. قولتله إن ده موضوع واحد صاحبي وطبعًا ميعرفش اسمي الحقيقي ولا حتى قولتله على اسمك.. حكيتله إنه.. أو أنا يعني طلقتك وأذيتك قبلها وكنت متعصب جدًا ومش شايف قدامي ومش عارف انسى الموضوع فقالي..
ترقبت كلماته في استغراب هائل مما تستمع له بينما تابع هو بصوت مهتز:
- قالي إن الطلاق في حالة غضب مبيوقعش.. يعني احنا لسه متجوزين!
احتلت الصدمة ملامحها وكادت أن تدخل في احدى نوبات ضحكها ولكنه تذكرت مع من تتحدث لتسأله بسخرية:
- ويا ترى دفعت لإمام المسجد كام؟ ولا كان ايه مُقابل الفتوى؟!
عقد حاجباه في انزعاج من كلماتها وحاول ألا يغضب من سخريتها لتقول متسائلة مرة أخرى:
- زي ما زمان خليت جوازنا حرام.. دلوقتي جاي تحلله.. ما شاء الله.. شيطان مبيبطلش تفكير.. دماغك اذكى من أي راجل شوفته في حياتي..
رمق ملامحها الهازئة بتلك الكلمات وقد تعالى غضبه ليهتف بها مشددًا نطقه على حروف اسمها:
- فيروز! أنا مـ...
قاطعته قبل أن يُكمل كلماته بغضب شديد:
- من فترة قولتلي مش قادر نكون اصحاب.. فضلت سنين بتحاول تثبتلي إنك اتغيرت.. والنهاردة جاي تقولي إننا لسه متجوزين!! كعادتك يا شهاب.. دايمًا بتلاقي حل لكل حاجة.. بس اقولك أنا مش مصدقاك! وهنا قدام الناس والورق اللي معايا بيثبت طلاقنا.. امشي اتفضل روح بيتك لأن الوقت اتأخر..
رمقها في تردد بين أن يهتف بها بغضب شديد لتتعالى انفاسه التي يكبح بها نفسه عن تفلت أعصابه وبنفس الوقت يشعر بالآلم من كلماتها ليقول بحزم:
- أنا ماشي.. وصدقيني مش هكلمك ولا اقولك حاجة في الموضوع ده تاني.. بس هاقولك حاجة.. كلمي دار الإفتا ولا أتأكدي من أي شيخ أو إمام مسجد.. انتي فعلًا عمرك ما هتصدقيني.. بس انتي يا فيروز لسه مراتي!
أضاف بتوسل إليها ليهمس:
- ارجوكي أتأكدي من كلامي..
تحرك ليغادر الغرفة ولكنها لم تُفسح له مجالًا كي يفعل ورمقته بغضب شديد بينما آتى صوتها هامسًا في تهكم:
- مراتك!! مرات مين! مراتك أنت ولسه هتيجي تقولي متجوزين.. ده مجرد حاجة واحدة بس بتقولهالي فتحت ما بيننا القديم في ثواني!
نظرت له بجدية وتابعت في حزم ولم تشعر سوى بالغضب يُسيطر عليها:
- أنا وأنت مبقاش ينفع حاجة ما بيننا، أنت أبو بنتي وأنا أم بنتك.. عايزنا نرجع زي زمان نتعامل برسمية مفيش مشكلة ومش مهم نكون اصحاب.. إنما أنا وأنت مفيش ما بيننا جواز ولا رجوع ولو حتى واحد كذاب زيك هيحاول يقنعني.. مع السلامة..
افسحت له المجال لتتوجه بعيدًا عنه وبداخلها براكين تنفجر في تواتر وهي لا تُصدق ما سمعته منه! كيف تكون زوجته ولقد استمعت بأُذنيها تطليقه إياها؟!
لا يزال يحاول، ولا تزال تتذكر.. وكلًا منهما لن يتوقفا ولو بعد عشرات السنوات!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
#يُتبع . . .
ملحوظة هامة..
شكر خاص للقارئة أية السيد التي لفتت نظري على أن طلاق الغضبان لا يقع وبعد التأكد من الفتوى قمت بتعديل الأمر في الرواية حتى لا أكتب معلومات خاطئة..
تنويه..
الفصل القادم بتاريخ 5 أبريل 2021
لو تم الإنتهاء قبل الموعد المحدد سيتم نشر الفصل ..
دمتم بخير..
رمضان كريم