-->

الفصل الثامن - وكر الأبالسة - Den of Devils

 

الفصل الثامن


❈-❈-❈


"حبسوه في كيس مع إبليس طلع إبليس منه يستغيث"


🤷🤷

مثل شعبي..

❈-❈-❈



ابتلعت الصدمة بمنتهى الدبلوماسية التي تمرنت عليها لسنوات مستبدلة احتقان دمائها برؤية طفلها الذي فجأة خرج عن سيطرتها بالشروع في زواج من إمرأة لا تعرفها بإبتسامة غاة في اللطافة متناهية اللباقة لا تُظهر سوى سعادتها بمعرفة الأمر ثم قالت بنبرة تملؤها السعادة:

- سلمان يا حبيبي.. أخيرًا.. ألف ألف مبروك.. بجد دي أحلى مفاجأة سمعتها من سنين.. 

تفقدتها في سعادة بالغة بينما اندهشت "نانسي" لسعادة والدتها ولكن لو أنها تعلمت شيئًا من والدتها فسيكون إخفاء ما تشعر به جيدًا لتشاهد الأمر في استمتاع تام وتفقدتها وهي تُمسك بيد "رغدة" في سعادة بينما قالت:

- اتفضلي.. نقعد شوية مع بعض..

اقتربت "نانسي" منهم بينما قالت بإبتسامة لطيفة:

- مبروك يا سلمان.. مبروك يا رغدة!

بداخلها حماسٍ شديد استطاع أن يُذهب ما تمر به بالفعل مع زوجها بأن ترى ما ستفعله والدتها بهذا الشأن.. يا له من أمرٍ ممتع سيُمثل لها أكبر إلهاء وهي تشاهد أحداثه القادمة، يبدو أنها على وشك مشاهدة تمثيلية رائعة حقًا.. 

وضع "سلمان" يداه بجيبيه وهو يوزع ابتسامات دبلوماسية تشابه ابتسامات والدته وازدادت هيئته غروروًا ليقول:

- ميرسي.. أظن الوقت متأخر واحنا جينا من المطار على طول على هنا ورغدة عندها تصوير بدري.. نخليها يوم تاني..

اتسعت عيني والدته "سوزان" بينما هتفت:

- لا ازاي.. عايز خطيبتك تمشي على طول كده أول مرة تدخل بيتنا.. اتفضلي يا رغدة..

أشارت لها بينما شعرت "رغدة" بقليل من الحيرة وهي تنظر له في استغاثة فهي لا تعرف كيف عليها التصرف وهذه أول مرة تتعرف بها على عائلته ليومأ لها بإقتضاب فتوجه الجميع إلي الداخل حتى يجلسوا جميعًا تاركين كلًا من "جاد" وإيناس" خلفهم بينما قد سبقتهم بالفعل "رُفيدة" منذ دقائق ولم تُكمل المشهد فهي بالفعل تمر بالكثير الذي لا يعرف عنه أحد!

قلبت "إيناس" شفتاها ثم غمغمت:

- رغدة الكومي وسلمان يكن!! شكلها كده هتبقى جهنم الحمرا على السوشيال ميديا! بس فجأة كده! غريبة! ده سوزي هتزنجفهم!

عقد حاجباه وهو لم يُفسر أغلب كلماتها التي نطقت بها كإنعكاس لما يدور في رأسها ولكن تفلتت أفكارها ليتلفظ بها لسانها دون تحكم:

- انتي بتقولي حاجة؟ 

انتبهت على تساؤله لتحمحم وهي تهز رأسها بالنفي وتذكرت ملامح صديقتها التي رآتها ودفعتها للقلق على حالها ولكنها سترى هذا لاحقًا فما قد يفعله الثعبان زوجها قد يحتاج للكثير من الوقت حتى تستطيعا كلتاهما أن تجدا حلًا للأمر فهي لم تنس تلك الوقيعة التي كان هو السبب بها يومًا ما وأدت إلي افتراقهما لسنوات فسألته وهي تقصد أن تُغير مجرى الحديث:

- أنت مش كنت عايز تروح لأختك.. يالا بينا!

❈-❈-❈


حدقت داكنتيه بالسقيفة الكئيبة، هذه الليلة الأخيرة التي سينظر بعينيه لها.. غدًا لن يكون عليه أن يلمح نفس المنظر الكئيب، ليلة غد سينظر إلي سقف الغرفة، وداعًا سقف "المنكوبة"..

ارتعشت شفتاه لجزء قليل من الثانية عندما تذكر ذلك الإسم الذي كان يُطلقه "جاد" على السجن بأكمله، لقد اشتاق لهذا الصغير ولا يدري كيف يواجه الجميع بمفرده..

هل قد انهى الأمر مع اخوته؟ هل حصل على كل ما يُريد؟ هل سيُغيره كل ذلك أم سيظل أخيه الصغير الذي عرفه طوال عمره؟ ربما قد يختلط بهذا الجزء من العالم الغريب وسوف تُفرق بينهما الأيام.. وربما سيكتسب المزيد من القوة والمال وهذا كل ما يُخيفه!

لو يعلم عنه شيئًا منذ أن كان طفلًا صغيرًا هو سرعة تعكر مزاجه، غضبه وحدته، إندفاعه الشديد الأهوج، ويشعر بالذعر لو أن فقط أُجبر على مواجهة أمر صعب، لا يستبعد أنه قد يؤذي نفسه وغيره معه!

على كلٍ لقد اتفقا أنه من سيأتي له بالغد، سيتبين له الكثير مما لا يعرفه، وأمّا الآن، أو منذ غادر أخيه السجن فهو يستطيع النوم، يستطيع أن ينال قِسطًا مطولًا من الراحة..

المسئولية التي تحملها كي يُخفف عن أخيه قد انتهت منذ اسابيع، وغدًا ستبدأ رحلته معه من جديد، ومع أخته الصغرى "رحمة" كذلك.. هذا هو اليوم الأخير الذي يستطيع ألا يكترث سوى لراحته التي لم يستطع الحصول عليها لسنوات بسبب بقائه العين الساهرة التي تحرس "جاد" عكر المزاج الأهوج! 

لا يكترث بنفسه، فلقد ضاع كل ما أراد في يومًا مر كلمح البصر حينها.. لم يُكمل دراسته الجامعية، مات والده مُتأثرًا بما حدث له، وبعدها بخمس سنوات لحقته والدته.. 

هو لا يشعر بالخوف على نفسه، لم يعد هناك ذلك الشعور بداخله، أصبح خاويًا تمامًا بل وعاجزًا أن يلاقي رغبة وحيدة له في هذه الحياة سوى أخوته! من أجل هذا سيبقى.. سيؤرق نفسه من جديد.. سيحاول معهما ولأجلهما.. ولاحقًا، ربما بعد عدة سنوات سيستطيع النوم براحة مرة أخرى.. ولكن الآن، ليجعلها إذن المرة الأخيرة التي سينال قسطًا وفيرًا من الراحة كي يستعد لما هو قادم..

❈-❈-❈


انعطفت إلي احدى الشوارع التي أشار لها نحوها بينما وجدت في النهاية أن هناك شارع صغير يتفرع منها لن تستطيع السيارة أن تتحمله فتوقفت بينما التفتت له وسألته:

- كده هنا تمام؟! وصلنا ولا لسه؟

تنهد وهو ينظر لها بإمتنان ثم اجابها:

- لا كده كتر خيرك أوي.. وصلنا اه..

أومأت له بالتفهم ثم بدأت في الترجل بعفوية من السيارة ليفعل هو الآخر المثل سريعًا بينما هتف متعجبًا:

- هو ولامؤاخذة في السؤال، انتي رايحة فين؟

احتل الإستغراب تقاسيم وجهها بينما اجابته بعفوية وهي ترفع كتفيها ثم تخفضهما:

- رايحين نجيب أختك!

ابتسمت له متعجبة لتمتعض ملامحه وقال رافضًا:

- لا بلاش.. أنا هابقى اخدها وهتصرف انا!

رفعت حاجبيها في دهشة وقالت:

 - الساعة داخلة على اتناشر، لسه لو اخدت مواصلات هترجعوا متأخر اوي..

عقد حاجباه منزعجًا وأخبرها بإقتضاب:

- ما هو علشان الساعة داخلة على اتناشر كفاية عليكي كده وروحي..

زمت شفتاها في استياء ثم عقدت ذراعيها وهي تتجه نحوه ثم تحدثت بلهجة لن تتقبل أي محاولات لرفض قرارها بالذهاب معه:

- بص بقى يا عم جاد، أنا متعودة إن اكون جدعة مع اصحابي، بس برضو هم يستحملوا زني ويشلوني فوق راسهم.. يالا بينا كده من سُكات نروح نطمن على أختك، ونجيبها تبقى معاك، وكويس اوي إنك هتجيبها بليل بدل ما سوزان توقفلك المراكب السايرة وهنلاقيها نايمة.. وبعدين أنا كده كده راجعة لرفيدة.. بلاش نقار وهري كتير مالوش لازمة وتضيع وقت.. قولت هاروح معاك يعني هاروح معاك! متوجعش قلبي معاك بقى!

وقفت أمامه تمامًاعلى مقربة منه ليتنهد بحيرة شديدة في أمر هذه المرأة الغريبة التي لا تزال إلي الآن مع رجل غريب عرفته للتو، يا تُرى أتفعل كل هذا لأنها فقط تريد مساعدته كما تدعي أم أن واحدًا من الأبالسة قد أرسلها لتوسوس له؟

أومأ لها بالموافقة ولكنه حدق بجسدها بأكمله من أعلاها لأخمص قدمها وتسائل:

- بس ولامؤاخذة يعني.. أهل الحتة.. مش زي ولاد أنور الشهابي ولا الموول ده اللي كنا فيه الصبح.. هتدخلي معايا كده بلبسك ده؟

ابتسمت له نصف ابتسامة لتتلاعب على أمرٍ لن يتملك سوى اعجاب رجل مثله:

- مش ماشية وأنا معايا راجل يقدر يتصدرلي.. يبقى هادخل معاك نجيب اختك كده! ولا بتخاف من الخناق؟

نظرت له مُضيقة عينيها في انتظار أن تستمع لرفضه بينما حدقها بإبتسامته تلك الغريبة الممتزجة بين الجرأة والخجل ولكنه بالرغم من محاولة أن يجعل ابتسامته مُقتضبة إلا أن غمازتيه الغائرتان على جانبي وجهه قد اتضحا للغاية لتقول في النهاية بعد عدم استماع لإجابته:

- يالا عرفني الطريق علشان مش عارفاه!

سار كلاهما سويًا على مسافة معقولة بينهما وهو بداخله يتعجب من هذه المرأة وما تعجب له أكثر هو موافقته والرضوخ لما قالته بأن تذهب معه، هل تسرع بموافقته؟ هل يا تُرى هناك شيئًا لا يعلمه بشأنها؟ ولكن منذ عدة ساعات وهي الوحيدة بهذا الوكر من عامله بالحُسنى! ليرى إذن ما النهاية معها! 

لوهلة اهتدى أن الأمر سيكون أفضل بوجودها، فهو لا يأمن مكر "رزق" وكلماته التي لا يصفها سوى بكلام إمرأة ثرثارة، وهو لا يريد أن يفتعل المزيد من المُشكلات خاصةً وأن "سعد" سيكون هنا غدًا ولا يريد المزيد من الفضول حوله هو و "رحمة".. قد يكون تواجدها معه أمام أيًا كان من يراهما في مثل هذا الوقت بمثابة ورقة دفاع عن أي ظن يجول بعقول هؤلاء المزعجين!

تفقدت أعينها المنطقة حولها، الأمر حتى لا يبدو مثل ما تراه على الشاشة الفضية، بل الأمر يبدو أسوأ بكثير، هل حقًا تربى "جاد" هنا في هذه المنطقة؟ ثم سجنه والده؟ ثم فجأة يرث الكثير من الأموال؟ تُنقل حياته من سابع أرض لسابع سما!! يا لها من قصة خيالية حتمًا..

صعدت خلفه ذلك البيت البسيط الذي شعرت بالخوف داخلها أن ينهار بأي لحظة الآن فوق رأسها ولكنها لم تُظهر ذلك لتسأله مباغتة اياه وكان الأمر بالنسبة لها عفوي للغاية فهي لا تكره أكثر من عدم معرفة التفاصيل:

- هي دي أختك من مامتك؟

توقف أمام باب الشقة التي كانت تخص "عطا الله" ابن عم والدته في السابق منذ سنوات والآن باتت تخص "سعد" و "رحمة" ثم التفت ليُجيبها:

- بنت الراجل اللي رباني.. وزي أختي..

قلبت شفتاها في استغراب، هل حقًا يكترث للغاية لمجرد فتاة هي في الحقيقة لا تمت له بأي صلة تُذكر؟ غريب!! يبدو أنه حقًا كان يُريد معرفة ما حدث بين "رُفيدة" وزوجها فقط ليُساعدها.. على كلٍ ستضح نواياه عاجلًا أم آجلًا بخصوص هذا الشأن عما قريب..

طرق الباب عدة مرات ثم تحدث بصوته الجهوري هاتفًا:

- افتحي يا رحمة أنا جاد..

استمعت لصوته لتتهلل ملامحها وهرعت نحو الباب لتفتحه بإبتسامة وكادت أن تقول شيئًا بينما تلاشت ابتسامتها سريعًا عندما وقعت عينيها على إمرأة غريبة خلفه!

❈-❈-❈

تفقدتها "سوزان" بإبتسامة تبدو سعيدة للغاية بتلك التفاصيل التي استمعت لها عن كيف التقيا وكم أنهما استمرا أصدقاء للكثير من السنوات والآن النهاية التي ستجمعهما هي الزواج.. 

تخدع الجميع، تخدع اعتى الشياطين، تخدع الأموات بقبورهم، ولكن "نانسي" لم تبتع ولم تُصدق أيًا من تلك الإبتسامات الدبلوماسية التي توزعها.. ربما فعل أخيها، أمّا هي فلم ولن يحدث! 

ظلت تشاهد هذا العرض الرائع بين والدتها وخطيبة اخيها، هي لا تكترث بالأمر حقًا، على كلٍ تبدو الفتاة رائعة، ناجحة، ملائمة لأخيها، لو كان هذا قراره وسيجد معها سعادته فلم لا؟! ليسعد إذن وليكون زواجًا مباركًا.. لقد تعلمت شيئًا واحدًا من كل أفعال والدتها طوال الحياة، ألا وهو أن تدع كل إمرؤ وشأنه.. هذه هي الحكمة الوحيدة التي استطاعت أن تشعر خلالها بالراحة، فكل إنسان يعاني ما لا يعرفه الجميع عنه، وهي لا تحتاج لمزيد من الفضول تجاه أمور الآخرين..

رنت ضحكة والدتها السعيدة التي تعرفها جيدًا.. ضحكة مُجاملة تُظهر السعادة والفرحة ولكن ما استتر خلفها هو الرفض القاطع لما يقوله من أمامها وإعلان خفي بالحرب:

- بجد خلتيني عايزة اسيب كل اللي ورايا ونفضل قاعدين مع بعض على طول..

التفتت نحو ابنها بسعادة انطلت عليه جعلت ابنتها تريد الضحك من شدة اتقانها للدور:

- سلمان.. حبيبي.. بجد عرفت تختار..

يُشاع عن الرجال أنهم مخادعين.. ربما لم ير البشر ما معنى أن تكون المرأة مُحنكة حتى تستطيع الإيقاع بأقرب الرجال بل وأي رجل عللا الإطلاق.. الأمر كله يتوقف على مدى رغبتها وإرادتها في المكر نفسه.. حتى لو أنها ترغب في أن تخدع ابليس ستفعلها.. الأمر يتوقف فقط على إرادتها، والآن.. "سوزان بدوي" قد أرادت ذلك، ونجحت به، وهناك حربًا وشيكة ستشنها على تلك المسكينة التي لا تعرف بعد من ستواجه! 

فهمت ابنتها كل ذلك وهي تحافظ على ابتسامتها ولكنها كانت فقط من الشفقة الشديدة التي تشعر بها على أخيها وخطيبته بينما نهض "سلمان" ليقول:

- ميرسي يا ماما.. أنا شايف كده الوقت أتأخر أوي..

هتف بقوله وهو يتفقد ساعة يده باهظة الثمن بينما تابع:

- يالا يا رغدة هخلي السواق يوصلك علشان كل واحد عنده شغل بدري.. أكيد القاعدة دي هتتكرر..

تدخلت والدته التي نهضت عندما فعلت "رغدة" وكذلك ابنتها لتقول:

- أكيد.. ده أنا هستناها بنفسي ولازم نخرج كتير سوا مع بعض.. مبروك يا حبايبي..

ودعتهما لتأخذ كذلك ابنتها في الوداع الدبلوماسي شديد السعادة والبهجة الزائفتان:

- مبروك يا رغدة.. بجد مبسوطة إني اتعرفت عليكي.. Good luck 

نظرت لكلاهما بينما اصطحبها هو وغادر كلًا من أخته ووالدته خلفهما واتجها للخارج حيث المرأب ليقوم بإيصالها للسيارة فتحدثت لوالدتها برجاء وتوسل:

- أرجوكي تسيبيهم في حالهم.. بلاش يا مامي تبوظي العلاقة دي.. bonne nuit

التفت لها بشهقة فزعًا مما قالته ابنتها وقبل أن تتفوه بتراهات زائفة تركتها ابنتها وتركتها وحدها لتُفكر "سوزان" هي لا تريد أن تُفسد الأمر، ولكنها لا تسمح كذلك أن يختار ابنها احدى الممثلات الشابات التي لا تعرف عنها ولا عن عائلتها شيئًا دون أن يُخبرها مُسبقًا.. لترى إذن ما الذي ينتظرها مع تلك الفتاة، إمّا أن ينصاع ابنها لما تُريده وإمّا أن ينصاع كلاهما هو وهي، وإمّا فربما قدرهما ألا يتزوجا!

❈-❈-❈


في نفس الوقت. . 

ريثما كانت تلك الجلسة العظيمة تنعقد بسعادة زائفة هناك أخرى جلست عاقدة ذراعيها على مضض بالكرسي الخلفي للسيارة وهي تمثل المعنى الحقيقي للبركان الذي سيحرق من حوله.. هي لم يُعجبها هذه الفتاة أو ربما إمرأة لا تعرف من أين له بها! بالكاد قد تحملت طريقتها في الحديث وهي تتودد إليه فضلًا عن ملابسها الضيقة التي لا تليق ولا تناسب.. كيف عرفها؟ متى حدث ذلك؟ 

لقد كانت تظن أنه أخيرًا بعد أن يحصل على الأموال واثبات نسبه لوالده الحقيقي ستفرغ لها قليلًا وأنها ستستطيع أن تصارحه بكل ما تُكنه له منذ أن كانت فتاة صغيرة حتى باتت شابة ينظر لها البعض برغبة، ولكنها فضلته هو بكل ما هو عليه عن الجميع..

انتظرت لسنواتٍ وسنوات وهي تتحمل أن يكون لقائهما على فترات لمدة دقائق قليلة، واليوم الذي يُحرم به أخيها من الزيارة بالرغم من شفقتها عليه وحزنها عليه ولكن هذا كان الحل الوحيد لتحصل عليه منفردًا..

زفرت بغلٍ شديد ولو كانت احدى الخوارق لكان يُليق بها أن تكون المرأة ذو الأعين القاتلة التي ينطلق منها رصاصات لا تترك أيًا منهما سوى قتيلان! 

وما الذي يريد أن يتحدث بشأنه؟ ما الذي دفعه أن يُخبرها بأن تأتي للمكوث هذه الليلة بمنزل هؤلاء الأبالسة الذين لا يكترث منهم أحدًا سوى لنفسه، ونفسه وحسب؟! ما الذي يريد أن يخبرها به؟ 

هل أخيرًا سيعترف لها بأنه يُبادلها المشاعر؟ بعد كل هذه السنوات أخيرًا شعر بها وسيروي ظمأها الذي طال لسنوات بعدة كلمات قد تحول حياتها للبهجة والسعادة؟

هذا التفكير جعلها تهدأ قليلًا وهي تحدق بما ظهر منه أمام عينيها ولانت ملامحها ونظراتها تجاهه وهي تنظر له في عشقٍ تام وأخذت تتخيل لو أن هذا وحده حدث ستشعر أخيرًا أنها لا تريد شيئًا من الحياة وستكتفي به وحده دونًا عن سائر العالمين..

تفلتت الدقائق المتبقية سريعًا، هي حتى لم تشعر كيف مر الوقت، ربما حدث ذلك وهي تتمعن وتنهل من تفاصيله الرجولية التي تعشقها وتحفظها ولا تكتفي منها إلي أن انتبهت عندما غادر السيارة لتجد نفسها بمرأب هذا المنزل الذي اعتادت أن تعمل به كممرضة ولكن الليلة ستكون ضيفة به.. ضيفة "جاد الشهابي"! من كان يُصدق أن هذا ما ستكون عليه يومًا ما!

ترجلت هي الأخرى بينما وجدت "جاد" يتحدث إلي "إيناس" بإبتسامة جعلت دمائها تحتقن بالغيرة العمياء من جديد:

- متشكر بجد على النهاردة..

ابتسمت له وهي تهز رأسها وقالت دون اكتراث:

- ابقى تعالى كل يوم يا عم جاد.. يالا تصبحوا على خير.. أنا هاروح أشوف رفيدة..

ودت لو عقبت أن تصبح على الهجرة الأبدية فهي لم ترقها ولكنها ابتسمت لها ابتسامة صفراء ولكن الأخرى لم تكترث وتركتهما لينبهها صوته أن تتوقف عن إطلاق رصاصات الغيرة من عينيها وهي تتابع "إيناس" حيث هي ذاهبة:

- رزق عمل ايه في الكام يوم اللي كنت مشغول فيهم؟

التفتت له مهمهمة بإستفهام بينما نظفت حلقها وتذكرت أنها كانت مجرد حيلة خائبة منها لجعله يأتي فقط فقالت مُجيبة بتردد:

- مفيش.. نفس البصات والحركات وعقبال ما سعد يشرف بالسلامة والكلام البايخ ده.. ما أنت عارفه يعني يا جاد.. مش هتتوه عنه!

تفحصها مليًا وهو يستمع لصوتها المهتز ورأى تحركاتها المتوترة بينما مسح على شفتاه وهو يهز رأسه بالموافقة وعقب على كلماتها:

- حساب الكلب ده معايا بعدين.. 

تنهد بعمقٍ وهو يتفحصها ثم حمحم في حيرة سرعان ما تلاشت ليستبدلها بالثبات، فما يود قوله قد تأخر به كثيرًا ولم يعد هناك وقتًا، فكلاهما يفصلهما عدة ساعات عن رؤية "سعد" وهو لن يقبل أبدًا أن تسوء علاقته به بسبب تلك المشاعر العالقة بينهما، فلا هو يستجيب لها ولا هي تتوقف عنها وكان عليه أن يضع نهاية لتلك الأحاسيس المُعقدة بينهما:

- شوفي يا رحمة.. أنا لولا موت أمي وهي راضية عني وحظي الحلو وانتي مكونتش عرفت اتعامل مع الناس دي.. لو اقدر اديكي عينيا هاعملها من غير ما افكر.. انتي اكتر واحدة ساعدتيني.. عمري ما هانسى جميلك عليا طول عمري..

رمقته بإبتسامة حقيقية وهي لا تُصدق أنها تستمع لتلك الكلمات منه وسيطرت الفرحة على وجهها لتهتف به:

- جاد.. ده واجب عليا، أنت متعرفش غلاوتك عندي قد إيه، لو كنت أقدر أعمل أكتر من كده ولا حتى قبل ما تخرج من السجن كنت عملت.. أنت عندي أغلى واحد في الدنيا ومقامك أ..

لحقها ليُقاطعها كي لا تتواتر في تلك الحلقة المُفرغة من المشاعر غير الصائبة:

- ده برضو اللي تعمله أي أخت مع أخوها.. ربنا يبارك لأبوكي اللي ربانا احسن تربية، بدعيله كل يوم إن طلعني راجل، راجل بجد واحد زي أنور الشهابي معرفش يطلعه.. أنا بحمد ربنا إنه هو اللي رباني وحسسني إن ولاده أخواتي بجد! 

ابتلعت وقد انطفئت بأعينها تلك السعادة التي ودت لو شعرت بها منذ كثير فتابع هو:

- بكرة سعد هيخرج بالسلامة.. عايزك متشغليش دماغه بموضوع اللي اسمه رزق ده، لو أنا سيحت دمه فأنتي عارفة سعد مش بعيد يموته.. الموضوع مفيهوش هزار.. سعد بايع ومش باقي على يوم في عمره.. خللي الكلام ده حلقة في ودنك ويوم ما يعمل حاجة عرفيني وأنا اوقفه عند حده.. بلاش نشغل سعد بالحوارات دي يا إما مش بعيد نلاقيه اتاخد من وسطنا تاني..

أومأت له بإقتضاب شديد وقد قتلتها كلماته بالإشارة إلي أنهما أختٍ وأخٍ وليس أكثر من هذا، مرة أخرى يقتل بداخلها ذلك الأمل، ولكنه لم يكن بغبي.. هو يعرف ذلك الحزن الذي اعتلى ملامحها ويعرف ما السبب خلفه فأردف بثقة شديدة وثبات علها تستيقظ من ذلك الحُلم الذي لن يتحقق أبدًا:

- رحمة انتي اختي.. اختي وبس! لو عايزاني اجيبلك لبن العصفور هاجيبه، كفاية أوي وقفتك جانبي اللي ميوقفهاش غير بنت بمليون راجل.. إنما اكتر من كده مفيش حاجة ممكن تحصل، وهتفضلي أختي لغاية ما أموت!

امتلئت أعينها بالدموع المحتبسة وبنفس الوقت الصدمة بما قاله ونطق به لتتردد قليلًا لتتسائل بهمس متلعثمة بنطقها:

- أنت.. أنت تعرف من امتى؟

نظر إليها بشفقة شديدة وأعينها قاربت على ذرف الدموع، فهو لا يُريد أن يجرح فتاة لطالما شعر نحوها بكل الأخوة، وبنفس الوقت لا يُريد لها الحياة على حلم لن يستطيع تحقيقه لها ليجبها بنبرة هادئة:

- من زمان، من أيام ما كنتي بتجيلي في الزيارات، لهفتك وخوفك عليا وأسلوبك معايا كل ده ما يطلعش غير من واحدة مشاعرها مش مشاعر أخت لأخوها.. أنا فاهم من زمان وعارف كويس أوي!

انهمرت دموعها أخيرًا بعد أن حطم كامل آمالها به لتهمس له بتساؤل حزين:

- يعني كنت عارف كل ده؟ كنت عارف وبتتعامل معايا عادي علشان تستغلني مش كده؟ علشان بس اساعدك في اللي أنت عايزه!

أمال رأسه إلي احدى الجوانب وهو يرمقها بحزن مختلط بصدمته من سماعه إياها تلك الكلمات وبدأ الغضب في تملُكه وكاد أن يتحدث لتُشير واضعة سبابتها على شفتاها ألا ينبس ببنت شفة وصاحت به:

- أنا سعد حذرني كويس.. حذرني منك.. فاكر المرة الوحيدة اللي اتحرمت فيها من الزيارة وسعد بس اللي قابلني.. حذرني يومها.. قاللي خدي بالك جاد هيدخلك وسط حوارات مع ناس احنا مش قدها.. وفعلًا كان ممكن أي حد من اللي في البيت ده يؤذيني..

رطبت شفتاها بملامح مرتجفة وهو يرمقها بندم ومزيد من الشفقة لتردف هي بنبرة تحولت من الصياح لأخرى تصرخ بالحزن ووأد أملها:

- مسمعتش كلامه وسمعت كلامك ووقفت جانبك.. بقى دي جزائي معاك يا جاد.. عارف إني حاسة ناحيتك بإيه ومن زمان، وكمان مفرقش معاك إنك تظلمني وتديني الأمل ده وبعد ما وصلت لكل اللي أنت عايزه بتقولي اننا أخوات!

رمقته بإحتقار ودموعها تنساب على وجنتيها دون توقف لتتحدث بحرقة بين أسنانها التي تطبقهما غيظًا لتقول:

- بجد أنا الوحيدة اللي بقيت شايفاك على حقيقتك.. زيك زي اخواتك.. قلبكوا قاسي وكل واحد فيكو بتاع مصلحتكو.. باينها حاجة في الدم ملهاش دعوة مين اللي رباك، ولا حتى مين اللي فاكرهم اخواتك بجد.. أنت لا شبهي ولا شبه سعد..

تعالت أنفاسه في ضيق من تلك الكلمات وبداخله يعلم جيدًا أنه فعل، كان لا يصدها ولا يُخبرها بشيء، لم يأخذ عهدًا معها ولكنه في نفس الوقت تركها تعامله كما تريد وترغب بل وتأمل يومًا ما بأن تؤول علاقتهما إلي علاقة أخرى تمامًا فقط لتستطيع مساعدته بكل ما لديها من طاقة وحيلة.. يعرف أنه فعل ذلك، ولكن ماذا كان عليه الفعل ليلهو مع هؤلاء الشياطين؟ طريقته الوحيدة كان عليه أن يوسوس لتلك المسكينة بطريقة غير مباشرة حتى تفعل كل ما يُريده.. سبيله الوحيد حينها هو أن يغدو شيطانًا مثل الشياطين حتى يدخل بينهما!

لو كان ما قاله بأكمله الآن لها بعد حصوله على ما أراد، لم تكن أبدًا لتساعده وتعاونه أن يستطيع إثبات نسبه وأخذ حقه، ولكن ما العمل؟ لم يكن أمامه سوى هذا الحل وقتها!

حدقها بندم شديد وهمس بنبرة حقيقية:

- أنا آسف بـ..

قاطعته ناهية ورفضت أيًا ما كان سيقوله رفضًا قاطعًا:

- متقولش حاجة.. ولا آسف ولا مش آسف.. امشي يا جاد وسيبني لوحدي!

رطب شفتاه ثم زمهما في حركة تلقائية لطالما ظهرت على ملامحه عند الحيرة وهو يبحث عن الكلمات المناسبة التي عليه أن يتلفظ بها وكاد أن يتكلم لتنهاه بصياح لم تصرخ به قبلًا بوجهه:

- قولتلك امشي ومتتكلمش!

زفر حانقًا ورمقها للمرة الأخيرة ثم التفت وغادرها متمتمًا بسُباب عِدة وكل ما يُقلقه حقًا هو تأثير كل هذا على "سعد"، فلو نمى ذلك إلي علمه لن تكون العواقب جيدة أبدًا..

شعرت بالحسرة الشديدة بل والإستغلال البشع الذي تعرضت له وأخذت تُراجع تلك الزيارات التي كانت تذهب لها وكأنها ذاهبة لحفل تكريم وجائزتها هي رؤيته، كان يعلم إذن؟ لماذا لم يقل شيئًا؟ حسنًا لأنه وغد لعين كل ما أكترث له هو مصلحته وما يُريده! 

جلست على جزء بارز بالحائط بأحدى الأركان خلف تلك السيارات غير مكترثة للمكان الذي هي به وهي تنتحب بحرقة على كل ما استمعت له منذ قليل وهي تتذكر العديد من المواقف بينهما ولا تشعر سوى بالخداع التام من قِبَله! 

لم تنتبه سوى بعد أن استمعت لصوت يتحدث لترفع رأسها لتفقد من الذي آتى وهي تحاول الرؤية خلال تلك السيارات المصفوفة بالمرأب لتجد هذا البغيض الآخر وفتاة بجانبه، لماذا هذه الليلة هي الأسوأ على الإطلاق؟

امتعضت ملامحها بصحبة انتحابها وحُزنها ولم تكترث لهمسهما ولا حتى يهُمها ما يقوله هذا المتعجرف ولا تلك المرأة شبه العارية بثوبها القصير ولكن ما جعلها تحدق بكلاهما في صدمة شديدة وتتوقف عن البُكاء هو تلك الوقاحة المتبادلة فيما بينهما.. فهو يُقبلها بطريقة بذيئة للغاية وهي تجذبه من عنقه إليها لتتباعد شفتاها في ذهول لتنهض فجأة وهي تشهق من ذلك المشهد الذي لا تصفه سوى بالفاحش البذيء الذي يبعد كل البُعد عن الإحترام!

لمح هو بطرف عينه شيئًا يتحرك ليلتفت فالتقت اعينهما مما جعلها ترتبك مبتلعة في توتر شديد ولا تدري ما الذي عليه فعله لتهرول تاركة اياهما بالمرأب وخرجت من احدى الأبواب الخلفية!

كاد أن يُنادي موقفًا اياها، فتاة الصدمات.. ولكن وجوده مع "رغدة" وتوديعه لها منعه، ما الذي تفعله تلك الفتاة ذات اللسان السليط بمنزلهم بعد أن مات زوج خالته؟ أليست هي الممرضة؟ لماذا لا تزال هنا بعد أن مات؟

التفت محافظًا على ابتسامته لها ثم همس لها عندما شعر بقدوم السيارة بصحبة السائق الذي سيقلها إلي منزلها:

- لو كانت مش موافقة كان بان عليها، مش عايزك تقلقي.. ويالا علشان متتأخريش يا حبيبتي.. العربية وصلت.. 

ابتسمت له لمناداته لها بتلك الكلمة بينما همست له:

- حاضر.. تصبح على خير..

توسعت ابتسامته بعد أن طبع قُبلة رقيقة على يدها ثم أخبرها:

- وانتي من أهله..

❈-❈-❈

مشت وتركت كلاهما خلفها وهي تتعجب من تلك الفتاة ونظراتها إليها، لا تدري لماذا تعاملها بجفاء، على كلٍ تبدو فتاة بسيطة للغاية، ربما هناك أمرًا يُشغلها أو بسبب تلك المشكلة التي أخبرها بها "جاد" عن ذلك الرجل الذي لا يتركها وشأنها.. 

توجهت سريعًا إلي المصعد الداخلي للمنزل فهي لا تريد المرور عبر البهو عندما استمعت لعدة أصوات تبدو أن "سوزان بدوي" صاحبة صوت منها، فمجرد النظر بوجه تلك المرأة يجعلها تتجرع النفاق وهي الكارهة الأولى للتملق بهذه الحياة..

خرجت من المصعد واتجهت لغرفة "رفيدة" وطرقت الباب ثم فتحته بهدوء فهي ربما قد نامت كي تذهب لعملها بالصباح وشعرت أنها تأخرت كثيرًا عليها ولكنها صُعقت من تلك الملامح التي رآتها..

عينيها تبدو كجمرتان في قاع الجحيم.. وجهها بأكمله قد تلوة بالكُدرة الشديدة.. هذه آثار موتٍ بالتأكيد وليست مجرد آثار بُكاء طبيعي! ولو تعرف شيئًا عن "رُفيدة الشهابي" فلابد تعلم أنها بحالة إنهيار شنيعة لم تمر بها أبدًا منذ أن خُلقت..

هرولت نحوها وحتى تناست باب الغرفة دون أن تُغلقه خلفها وهتفت متسائلة بنبرة مصدومة:

- فيه إيه يا رفيدة؟ إيه اللي حصل؟

رفعت نظرها إليها في حالة ذعر اختلط ببكائها:

- كلب.. كلب.. يا ريتني ما عرفته! 

جلست بجانبها وهي على يقين تام بأن زوجها الخائن هو من خلف ذلك فسألتها:

- عمل إيه؟ فهميني إيه اللي حصل؟

انهمرت دموعها مختلطة بشهقات مزقت حلقها واجابت بين نحيبها الذي يهشم روحها:

- الكلب.. كان مسجلي كل حاجة قولتهاله، صوت وصورة.. الكلام ده لو طلع هبقى رفيدة الشهابي اللي بتتحايل على راجل يتجوزها، صورتي قدام الناس كلها هتتهز.. أنا بجد مش عارفة هاعمل إيه! 

ها هو كيان راسخ كان يظنه الجميع لا يُقهر ولكن دعني أخبرك كيف تدمر واحدًا.. ضع إنعدام الثقة بالنفس، وأضف الخوف، وامزجهما مع طفولة وحيدة، وبعض قطرات من تنمر مجتمعي وإستماتة كي تحافظ على صورتك أمام الناس.. اخلطهم جيدًا، اخفقهم بشدة وقدمهم كصحن متكامل لرجل خائن مستغل.. ها أنت أصبت كيان قوي بالدمار الشامل..

❈-❈-❈


ليلة غريبة الأوجه على الجميع..

فهناك من قُتل أملها في مبادلتها عشق الطفولة والصبا، وهناك آخر يأمل أخيرًا بأن حياته ستستقر بعد ثماني وثلاثون عامًا..

والدة كانت المتحكم الوحيد بكل ذلك المنزل كالبيادق بين أناملها وفجأة يُرسل لها صغيرها رسالة بأنني لا أحتاجك بعد الآن ليقتل بداخلها قدرها في أعين نفسها..

زوجة عشقت، وتحملت، وصبرت، أعطت الأعذار، كتمت الأسرار والآن يُفجعها القدر بأن زوجها في لمح البصر لم يتراجع ليعاملها بالعنف وعدم التقدير..

وعلى صعيد مستتر زوجها بقلة ثقته بنفسه يحاول الإستتار والفرار، لا يعرف فن المواجهة، يرتعب من تلك النظرة بعينيها لعدم مقدرته أن يمارس علاقة طبيعية معها.. يا لها من ليلة، حديث واحد ومناقشة بقليل من الكلمات استطاعت تعريته في ثوانٍ، أخبرته بما هو خائف أن يستمع له.. هو حقًا يبحث عن المزيد بالخارج لأن بالداخل وخصوصًا بقرارة نفسه هو على يقين تام بأنه لا يستطيع أن يحظى بعلاقة زوجية طبيعية بينه وبين زوجته بالفراش..

وهناك أخرى وضعت الثقة والأمان برجل، جعلته ملكًا متوجًا على عرش حياتها، ولكن سقطت الأقنعة والكذب لم يدم، فهو خائن، مُستغل، لا يرتقي سوى لتلقيبه بالحقير وإنعدام المروءة به دفعه ليُهددها بأن ينشر كل ما معه أمام أعين الجميع.. 

ومن عليه تحمل المسئولية سواه؟ مجرد التفكير أرقه من جديد! لم يستطع النوم، فهو منذ أن سُجن ربما لم ينم إلا أقل القليل، العين الساهرة قد ادمنت السهد وأصبح كالمخدر، فلطالما أخيه بخير هذا كل ما يريد، وصية أبيه الأخيرة وآخر كلمات استمع لها لا تزال تحرمه النوم.. لم ينم "سعد" حتى دون وجود من يحميه..

لقد حماه بالفعل ووقف بجانبه، لقد كان نعم الصديق والأخ، ولكن هل سيكافئه كرد للجميل بأنه استغل أخته؟ يا له من وغد لعين! ولكن ما الذي كان عليه أن يفعل حتى يلج وكر الأبالسة اللعين هذا؟! حتى بعد كل ما وصل له لا يستطيع النوم على هذا الفراش الذي ينام عليه أبناء الصفوة، هل هذا لا يليق به؟ 

تقلب من جديد في هذا الفراش الذي انزعجا جانباه منه بشدة، ليونته كانت مؤلمة، ومجرد التفكير بأن هذا هو الفراش الذي كان ينام عليه أخوته طوال حياتهما كان يؤلمه أكثر..

صدح هاتفه برنين مُزعج لم يعرف في البداية من قد يُهاتفه في هذا الوقت ولكنه أجاب مثلما علمته "إيناس" أن يفعل ليؤتيه صوت لم يعرفه في البداية ولكنه سرعان ما تذكر صاحبه:

- معلش قلقتك.. بس لولا إن الموضوع مهم أوي ومحتاجين راجل يحل بينا مكونتش كلمتك دلوقتي.. 

عقد حاجباه في استغراب لتذكر أمر "رُفيدة" وقبل أن ينطق بكلمة واحدة تابع "ياسر" حديثه كي يصل لما يُريد:

- اقعد معاها وعقلها وفهمها إنها كانت مُشكلة وخلصت.. قولها ترجع عن الطلاق وعن اللي في دماغها.. يا إمّا الفيديو اللي معايا هيلف البلد حتة حتة ومش هيسيب بيت غير لما يدخلوا.. وأنا عارف إنك راجل وشهم وهتخاف على اختك غير راغب خالص! .. يالا معاك يومين وترد عليا!

احتقنت دمائه بتلك الصيغة المُهددة التي استمع لها منه لينهض آخذًا خطوات نحو غرفة أخته غير مكترثًا بطرقًا أو غيره واندفعت كلماته الغاضبة بتصميم شديد ليهتف بها:

- فيديو ايه اللي بيتكلم عليه الوسخ اللي انتي متجوزاه؟!

يُتبع..