-->

الفصل الأول - كيان مُستغَل


 

- الفصل الأول -


صرخة مدوية اهتزت على إثرها أرجاء البيت ليفزع جميع العاملين به عند استماعهم إليها ومن ثم توجهوا لمصدر الصوت لمعرفة ما الذي طرأ والذى لم يكن سوى صوت "كيان" القابعة بغرفة والدها منذ بداية غيبوبته التى دخلها والتى رفضت رفضا قاطعا ذهابه لأى مشفى وطلبت من طبيبه الخاص أن يتولى الإشراف على حالته من البيت وهى ستجلب له كل ما يحتاجه من أجهزة طبية، أدوات، أدوية، وغيرها وكل ذلك لخوفها الشديد من الولوج لأى مشفى وعلى جانب آخر رغبتها فى البقاء بجانبه لذا تولت هى المسؤولية التامة لبقائه بالبيت 


لم تتوقف عن الصراخ الذى صاحبه تشنجات عصبية آبية أن يبعدها أى أحد عن جثمان والدها الذى فارق الحياة لتوه بسكتة قلبية ظلت تصرخ وتناديه متمنية أن يستمع لندائها ويفيق من نومته كما خُيل لها ظلت تدفع بكل من يقترب منها وتصرخ به حتى شعر الطبيب بخطورة الحالة التى وصلت إليها فقد أصابها إنهيار عصبى حاد ، أمر ممرضتين أن تتوجها إليها وتحكما الإمساك بها وبالطبع فعلتا بينما كانت هى لا تكف عن الصراخ ومحاولة إفلات جسدها منهما ، قبض الطبيب على أحد ذراعيها بقوة لكى لا تستطيع سحبه منه وحقنها سريعا بإبرة ليتخلل المهدئ بعروقها شيئا فشئ


شعرت هى باسترخاء بكامل جسدها وعدم قدرتها على الحراك بل وصوتها لم تعد تستمع له رغم أنها تشعر بخروج الكلمات من بين شفتيها سحابة ضبابية ظهرت امام عينيها انهالا جفنيها لأسفل رويدا رويدا إثرا لها لم تستمع سوى لصمت ساد بالمكان من حولها ولم تشعر بعدها بأى شىء ، بعد عدة ساعات بعد زوال مفعول المهدئ بدأت تفتح عينيها ببطء وأخذت تتنقل بنظرها بأرجاء الغرفة وهى تائهة، قامت من نومتها لتجلس على الفراش وهى تحتس بدوار وصداع لعين يكاد يفتك برأسها وضعت يدها تتحسس جبهتها وهى شاعرة بتألم بالغ وبعد مضى الوقت وزوال المخدر بشكل تام اكتشفت انها بغرفتها 


أحست بوخزة بقلبها وقامت بوضع يدها فوق موضوع قلبها محاولة تهدئة دقاته الهادرة بعنف وهى تقنع نفسها أنه كان حلما بل كابوسا ووالدها مازال بخير وعلى قيد الحياة، لم تكَد تنهض من فوق الفراش إلا ووجدت والدتها تلج الغرفة مرتدية ثوب أسود اللون ويبدو أنها كانت تبكى لتزداد وتيرة تنفسها عن الطبيعى شاعرة أن قلبها سيخرج من موضعه من كثرة دقاته تخشى أن يكون ما توقعته صائبا وأنه لم يكن حلما بالأصل


لتفق من حالة الشرود تلك على يد والدتها التى وضعت فوق ذراعها والتى تبعها صوتها المبحوح وهى تتسائل :


- بقيتى كويسة يا كيان ؟


ابتلعت بوجل وغصة استقرت بحلقها تكاد تخنقها من هيئة والدتها وقالت برغبة فى تكذيب كل ما يجول بفكرها بشأن موت والدها سائلة بصوت مهزوز :


- با.. بابا مجرالوش حاجة.. صح ؟ 


ربتت "سُمية" على ذراعها بأسى وحزن بالغ طغى على ملامحها وأجابتها :


- أقرأيله الفاتحة يا حبيبتى واترحمى عليه ، هو مش محتاج غير كده دلوقتى 


هزت رأسها بعدم تصديق وتهاوت الدموع من عينيها ونهضت راكضة للخارج متوجهة إلى غرفة والدها الذى تم غسله وتكفينه 


دلفت الغرفة باندفاع فكل ما ترغب به هو رؤية وجهه واحتضانه للمرة الأخيرة لتجده فوق الفراش ملفوف بشرشف ابيض اللون عندما وقعت حدقتيها عليه بتلك الهيئة وقعت على الأرض لم تستطع قدماها تحمل المنظر اتكأت على الأرض بذراعيها وظلت تبكى بقهرة فقد فارقها والدها، حبيبها، وصديقها فهى لم يكن لديها رفيق غيره ظلت تبكى وجسدها ينتفض بقوة نتيجة لنهنهاتها وشهقاتها التى قطعت نياط قلب الواقفين يتابعون بصمت ولم يقتربوا منها او يمنعوها خاشيين من عودة انهيارها مرة أخرى 


قامت بصعوبة بالغة فهى تشعر برجفة فى قدميها تجعلها لا تقوى على الحراك خطوة واحدة بل على الوقوف حتى، اقتربت من الفراش وهى تتحامل على نفسها بخطوات مهزوزة تعركلت فى الفراغ لأكثر من مرة وما إن اقتربت من الفراش حتى رمت نفسها فوق صدره وانهارت باكية بصوت هادر ، قابضة على كفنه تهز جسده وهى دافنة رأسها بصدره وتقول بنحيب :


- قوم يا بابا عشان خاطرى ، مش هعرف اعيش من غيرك يا بابا قوم ، انت مش هتموت وتسيبنى لأا ، قوم يا بابا.. انت قولتلى هتفضل ماسك فى ايدى طول العمر متخلفش بوعدك معايا ، انا ماليش اصحاب غيرك ، ماليش حد غيرك عشان خاطرى يا بابا متسيبنيش ، قوم يا بابا


انهمرت دموع كل من بالغرفة من كلماتها ولكن أحدهم اندفع نحوها عندما وجدها تحاول فك الكفن من عند موضع الرأس ممسك يديها متكلما بهدوء ولين محاولا تهدئتها ومنعها قائلا :


- مينفعش يا بنتى هو خلاص اتكفن اللى بتعمليه ده حرام 


ادارت وجهها نحوه ورمقته بعينيها الحمراوتين وقالت بترجى وتوسل ودموعها لم تتوقف عن الإنهمار :


-هشوف وشه بس.. الله يخليك سيبنى اشوف وشه عايزه ابوس دماغه واشوف ملامحه لآخر مرة


حاول ردعها قدر الإمكان فهو يعلم إنها إن رأت وجهه لن تبتعد عنه ولن يستطيع أحد حينها عن التصدى لها وإبعادها، احتوى جسدها بين ذراعيه ورفعها من فوق الفراش برفق لكى لا تُعند وتتشبث على نزع الكفن وهو يقول بصوت هادئ حانٍ :


- قومى يا بنتى وادعيله بالرحمة اللى انتى بتعمليه ده غلط.. وخلاص الناس هيشيلوه دلوقتى 


مسكت يده بضعف محاولة ابعادها عن جسده ومثبتة نظرها على والدها الذى لا يظهر منه إنش ثم تكلمت بوهن وقلة حيلة :


- هبوس دماغه طيب من فوق الكفن.. مش هاجى جنبه والله هبوسه واحضنه بس


انهى الرجل حصاره لجسدها وابعد ذراعيه عنها لتتحرك هى ناحية جسد ابيها بخطوات متثاقلة اقتربت من الفراش وجلست بروية بجانبه واقتربت واحتضنته بقوة ودموعها لا تكف عن الإنهمار وقربت شفتيها من جبينه وطبعت قبله فوق القماش واغمضت عينيها وظلت متكئة بشفتيها فوق جبهته لدقيقة ثم ابعدت وجهها وقالت له بخفوت كى لا يستمع أحد لهما كعادتها معه حيث انه كان يجمعهما العديد من الأسرار التى لا يعلم عنها أحد غيرهما :


- هتوحشنى اوى ، بس انا هفضل فكراك وهقرألك قرآن على طول ، هفضل مستنية اليوم اللى هجيلك فيه ونرجع مع بعض تانى.. مع السلامة يا حبيبى 


اقتربت وقبلت جبينه مجددا وقامت من جانبه ليأتى رجلين من خلفها وانتشلا جثمانه من فوق الفراش وعاونهما رجلين آخرين ووضعوه بداخل الصندوق الخاص بالموتى المسمى بالتابوت ، لم تتحمل رؤية ما يحدث وشهقة ذريعة خرجت منها وهى تبكى والتفتت مغادرة الغرفة 


❈-❈-❈


دلف حجرة الإجتماعات دون استئذان مما أدى لتصاعد النيران لوجه ابنه وهو يرمقه بنظرة تحمل خليطا من الغضب والتفاجؤ بآنٍ واحد وما زاد تفاجؤه أكثر عندما تكلم بنبرة عالية موجها حديثه للموظفين وهو متوجه نحوهم قائلا :


- الإجتماع انتهى ، كله يروح على مكتبه 


عاد ابنه بظهره على المقعد الذى يرأس الطاولة الكبيرة التى يجلس حولها الموظفون أثناء حضورهم الإجتماعات التى يقيمها كونه المدير العام وابن مالك الشركة ، ينظر لوالده بتلك الهيمنة وغروره المعتاد بعينيه الرماديتين ، ليقابله والده بنظرات مبهمة ووجه خالٍ من المشاعر لم يفهم من خلاله شيئا 


بينما كان والده واقفا قبالته مباشرة صدح صوته متكلما بنبرة ثابتة :


- عمك مات قوم معايا عشان نحضر الدفنة ونبقى موجدين من بدرى عشان ناخد العزا


اعتدل الأخر فى جلسته واتسعتا عينيه بصدمة وقال مرددا :


- مات !


أومأ له الآخر برأسه وقال بنفاذ صبر وهو يغادر الغرفة :


- ايوه ، واخلص يلا انا هستناك فى العربية 


غادر الغرفة وأخذ يخطو خطواته نحو المصعد من ينظر إلى هيئته الصلبة تلك لن يتوقع انه تلقى منذ قليل نبأ وفاة شقيقه الأصغر وانه ذاهب الآن لدفنه فتلك التعبيرات المجردة من جميع المشاعر الإنسانية مؤكدا لن تخرج من احد سواه هو "نوح الراشدى" ، رجل فى أواخر الخمسين من العمر ولكنه ذو جسد مازال محتفظا بقوته يملك العديد من شركات الإلكترونيات ، يملك ملامح تتسم بالجمود والحدة مع نظرة ثاقبة تجرد من ينظر إليه 


بداخل المرأب حيث سيارته الفخمة تقدم إليه سائقه وأسرع لفتح باب مقعده الخلفى ليجلس به منتظرا ابنه حتى ينتهى ويذهبان معا لبيت أخيه الذى توفاه الله 


بداخل حجرة المكتب ..


كان "راغب نوح الراشدى" الأبن الأكبر ل"نوح الراشدى" وذراعه الأيمن بالعمل حيث انه أعطى له إدارة شركاته وسلمه هو حرية التصرف بهم لدهائه وحنكته فى العمل والنظام الذى يتداوله فى إدارته للشركات وتنفيذه بطريقة مُثلى 


يلتقط سترة حُلته الرسمية الموضوعة فوق ظهر مقعده ، ارتداها وهندم ملابسه جيدا فهو من الذين يهتمون بالمظاهر الخارجية للغاية ، ورث عن والده غروره وهيمنته الطاغية التى لا جدال عليهما ، يملك عينين رماديتين ضيقتين تعطى مظهر خلاب مع بشرته الخمرية وخصلاته بنية اللون ولحيته المشذبة بنفس لون خصلاته فهو كما يقال لا تشوبه شائبة 


غادر الغرفة وأخبر مساعدته الخاصة فى طريقه أن تقوم بإلغاء اجتماعات اليوم وأى موعد ليوم آخر ، سار حتى المصعد بخطوات واثقة بجسده الرياضى عريض المنكين الذى يليق وبشدة مع طول قامته الفارعة ، لم يعطِ بالا لنظرات الموظفات التى تسترقاها إليه فهو على علم بمدى تأثيره عليهن ولكن غروره الساحق يمنعه من النظر لواحدة فيهن 


دلف المصعد وضغط على ذر النزول لأسفل حيث المرأب الذى ينتظره والده به ليذهبا معا لدفن عمه ، لم يكن على علاقة طيبة بعمه وعائلته او بالأحرى لم يكن بينهما أية علاقة، لم تجمعهم أحاديثا من قبل فهو منذ الصغر كان واضعا جم اهتمامه بدراسته وبعدها بعمله لم يضع العائلة فى أولوياته ، كل ما يهمه مكانته الإجتماعية ونزواته الشخصية التى يقوم بها فى الخفاء لعدم رغبته فى تدخل أحد فى أموره الشخصية وكذلك لا يحب الأحدايث المتفرقة حوله وحول ما يفعله 


التقطتا عيناه سيارة والده ورآه منتظرا بالداخل ولكنها كانت تبعد عن سيارته بمسافة ليست بصغيرة أخرج هاتفه من جيبيه وأتى برقمه وهو متوجه نحو سيارته وقام بمهاتفته ، فتحت المكالمة فى حين دلوفه السيارة ليتكلم راغب قائلا بهدوء وهو يدير محرك السيارة :


- بابا انا هاجى بعربيتى ، خلى السواق يطلع يلا انا خارج من الجراج خلاص


استشاط والده من عدم إخباره برغبته فى الذهاب بسيارته وجعله ينتظر لكل تلك المدة لينهى المكالمة دون رد وأخبر سائقه بأن يتحرك 


سارتا السيارتين بحانب بعضهما فى طريق الذهاب لبيت "بكر الراشدى" وكل واحد منهما بداخل ذهنه أمرا يختلف عن الآخر ، ف"راغب" لم يكن يشغله سوى تأدية الواجب ظاهريا أمام الجميع ليس إلا ومظهرهم الإجتماعى فقط الذى لا يفكر بسواه ، بينما كان "نوحا" برأسه أمور عدة يرى أنه جاء وقتها ومؤكدا سيحدث كل ما رتب إليه مسبقا فهو لا يقبل بالخسارة ولن يتوانى فى وصوله لكل ما أراده ومازال يريده


❈-❈-❈





لم يستطع أحد منعها من الركض خلف النعش الموضوع به جثمان والدها فقد أصابتها حالة هوجاء من مجرد تطرق فكرة انه ذاهب بلا رجعة ولن يتسنى لها رؤيته مجددا وأنها مفارقة أبدية لا سبيل بعدها للقاء آخر ، ظلت تركض وهى تصرخ من بين نحيبها قائلة :


- بابا استنى متسيبنيش.. مش هقدر اعيش من غيرك ، استنى عشان خاطرى 


وجدت أحدهم أحكم ذراعيه حول جسدها من الخلف مانعها من الحراك خلف النعش لتلتفت له بذعر وحدقت به بعينيها الحمراوتين التى أختفتا رماديتيها خلف دموعها المنهمرة بقوة فوق وجنتيها لتجده "راغب" ابن عمها حاولت دفعه بذراعها بضعف وهى تفرق نظرها بينه وبين النعش الذى يبتعد وقارب على الخروج من البوابة الخارجية لبيتها 


لتعود بنظرها إليه وهى تتلوى بجسدها محاولة فك حصاره عنها قائلة بصراخ ونبرة تأثرت للغاية من بكائها التى لم تكف عنه منذ وقوع خبر موت والدها عليها :


- سيبنى ، ابعد عنى خلينى اروح وراه ، ابعد عنى هياخدوه ويمشوا ، يا بابا استنى متمشيش ، سيبوه متاخدوهوش مش هقدر اعيش من غيره ، سيبنى.. يا بااباا


لم تتمكن من إزاحة ذراعيه عنها فقوته الجسمانية تفوقها بمراحل ناهيك عن الوهن المتمكن منها والضعف الجلى عليها ، ولكنها لم تكف عن الحراك ودفعه والتلوى بجسدها 


لتستمع من بين صرخاتها لصوتها الأجوف بنبرته الجامدة وهو يقول بجانب أذنها :


- اهدى.. هو خلاص مات اللى بتعمليه ده مش هيرجعه ، فوقى يا كيان وبطلى اللى بتعمليه ده ابوكى مات 


أومأت برأسها بنفى بحركات هيسترية وتوسعتا عينيها بصدمة بالغة رغم علمها بحقيقة موته ولكن أن يخبرها أحد بذلك بتلك الطريقة وبذاك الوقت ما جعلها تفقد ما تبقى من قوة تحكم بعقلها ، انهارت بين يديه أكثر وظلت تصرخ بطريقة فجعته فهو لم يرَها على تلك الحالة من قبل 


لم يستطع التحكم فى صراخها او تشنجات جسدها ولكنه ظل محكم ذراعيه عليها ممسكا بيديها بكفيه لكى لا تحاول الفكاك فهو لا يضمن ما يمكن ان تفعله بحالتها تلك ، ارتخى جسدها شيئا فشىء بين ذراعيه وأخذت فى الوقوع وهو كذلك حتى خارت قواها تماما وأغشى عليها فى أحضانه ، أنزل أحد ذراعيه أسفل ركبتبها والأخر موضوع خلف ظهرها وحملها واستقام واقفا وسار بها متوجها نحو الباب الداخلى للبيت 


كان البيت فارغا لم يكن به سوى العاملين المتواجدين بالمطبخ ، توجه مباشرة نحو الدرج قاصدا غرفتها محاولا تذكر أين كانت فهو لم يأتى إليهم منذ شهور عدة 


بعدما كاد يدلف بها لغرفة خاطئة تذكر أين كانت وتوجه إليها بينما كانت الأخرى بين يديه لا يخرج منها سوى نفسا ضعيفا ، دلف بها الغرفة وتوجه مباشرة صوب فراشها وضعها عليه بتمهل وجلب الغطاء ووضعه فوق جسدها المستكين تماما عكس حالتها منذ دقائق 


ارتفع بالغطاء حتى عنقها وهو منحى بجسده فوق جسدها دون أن يلامسه ليجذبه وجنتيها المحمرتين والمغرقتين بالدموع رفع يديه بحركة تلقائية وكفكف عبراتها، وقعت عينيه على شفتيها المنتفختين شديدى الإحمرار إثر بكائها ليبتلع وهو لا يستطيع التحرك وإبعاد مرمى بصره عنهما ودون تحكم وجد نفسه يقترب نحو وجهها ليوقفه عن المتابعة صوت رنين هاتفه المعلن عن وصول مكالمة له 


فاق على صوته وابتعد سريعا وهو يلهث بأنفاس متثاقلة وأخرج هاتفه من جيب بنطاله ليجده والده فتح المكالمة ووضع الهاتف فوق أذنه مجيبا بصوت مهزوز قليلا :


- ا. ايوه يا بابا


جاءه صوت والده المتكلم بحنق متسائلا :


- انت فين يا راغب ؟


قلب عينيه بملل من طباع ابيه التى أصبحت تثير حنقه ليرد فى النهاية بإيجاز :


- فى الفيلا 


صاح والده به فى غضب يحاول كتمه سائلا إياه :


- بتعمل ايه عندك ؟!


زفر بحنق ثم أجابه :


- كيان كانت بتصرخ ومنهارة واغمى عليها وهى هنا لواحدها فاضطريت اطلعها وافضل معاها


تكلم الآخر بنبرة هادئة قليلا ولكن يشوبها الأمر قائلا :


- تمام.. خليك عندك وهنخلص واجيلك 


أنهى المكالمة وهو يسب بداخله على تلك المعاملة التى سأم منها فهو ليس بصغير كى يتتبع خطواته هكذا ويطالب بلائحة لما يفعله ، كاد يغادر ولكن وقع نظره عليها من جديد أحس بقليل من الشفقة عليها ولكنها لم تدم كثيرا ليضع الهاتف بجيبه وتحرك متوجها صوب الباب ليغادر الغرفة نزولا لأسفل بانتظار ابيه لأخذ العزاء لينتهى ذلك اليوم الذى أشعره بضيق بغتة لا يعلم من أين له به 


❈-❈-❈


بعد مرور عدة أيام ..


طرق مرتين على باب غرفتها وانتظر لبضع ثوانٍ حتى فُتح الباب وقابلته بزيها الأسود وابتعدت قليلا سامحة له بالدلوف ، أغلق الباب خلفه وتوجه نحوها وهو يقول بهدوء :


- أكيد مش هتفضلى حابسة نفسك فى الأوضة كده يا سُمية 


قابلته بابتسامة مقتضبة وتكلمت وهى تنظر لأسفل :


- انا مش حابسة نفسى.. انت عارف ان مينفعش اعمل غير كده عشان أبان الزوجة الأصيلة اللى حزنت على فراق جوزها 


رفعت نظرها إليه فى نهاية ردها ورمقته بنظرة خبيثة وابتسامة تتلاعب على شفتيها ليقترب هو منها وحاوط خصرها وقربها إليه قائلا بخبث مماثل لخبثها :


- وهو فى زوجة أصيلة زيك.. ده انتى الأصل بذات نفسه


ضحكت بخفوت كى لا يستمع إليهما أحد ثم تمتمت متسائلة بترقب :


- حد شافك وانت جاى ؟!


أومأ بالإنكار وهو يقترب ليقبل شفتيها بينما ابتعدت هى بتمنع مصطنع ووضعت يدها فوق شفتيه قائلة بدلال :


- بلاش عشان كيان، وممكن تيجى فى أى وقت


جاب بيده بظهرها وهو يقربها إليه أكثر وتكلم أمام شفتيها بأنفاسه الساخنة قائلا :


- كيان مش بتخرج من اوضتها من ساعة موت بكر وزمانها نايمة أصلا 


استجابت للمساته التى أججت رغبتها به رفعت ذراعيها وحاوطت عنقها وهمست بأنفاس لاهثة :


- وحشتنى أوى يا نوح 


لم يُجبها واقترب مقبلا شفتيها بشبق بالغ وأيديهما لم ترأف بهما بلمساتهم التى أججت الإثارة بهما ليدفعها بجسده حتى الفراش ، ليسقطا بواحدة من علاقاتهما المحرمة والشنيعة التى تجمعهما منذ سنواتٍ عدة ، خائنين مثيرين للإشمئزاز فهى خائنة لزوجها وهو خائن لأخيه والحقيقة التى لا جدال عليها أنهما خائنين لنفسهما أيضا 


❈-❈-❈


مستلقية بظهرها فوق فراشها بوجه شاحب شحوب الموتى لم تغادر غرفتها منذ وفاة والدها ، كيف تغادرها وهى تشعر بأنها كالغريية ببيتها دونه ، لم يبتعد عنها يوما من قبل كانت حياتها كلها تتمحور حوله ولم تكن تتخيل الحياة يوما دون وجوده ، هو لم يكن والدا فحسب بل كان صديقها الأوحد ، لم تكن تتحدث لشخص سواه ، كانت تخبره بكل شىء خاص بها ، لم يكن هناك أسرار فى حياتها إلا وهو بئرها 


خلال تلك الفترة الماضية كان يحضر العديد والعديد إليها هى ووالدتها لتعزيتهما وكان يمتلئ البيت عليهما بالناس ووسط هذا الخضم لم تشعر سوى بوحدتها التى تملكت منها فور مفارقته وابتعاد انفاسه وروحه عن البيت ، تشعر ببرودة تتوغل بكيانها لقد ذهب هذا الدفء الذى لطالما تنعمت به بين أحضانه ، كم تشتاق لصوته وهو يناديها ، رائحته ، وحنانه الذى لم تشعر به إلا معه 


ذكريات عديدة لها معه تواتيها وتحتل ذهنها ولا تترك لها سوى الألم الذى أصبح جليا على كل إنش بها ، صوت يصرخ بداخل عقلها يخبرها أنها أصبحت الآن بلا مأوى رغم وجودها بداخل بيتها ولكن بوفاته لم يعد لها بتلك الحياة مأوى ولا ملجأ ، لم يعد لها بتلك الحياة حياة 


وصل لمسامعها تلك الطرقتين فوق بابها لم تسمح للطارق بالدلوف او حتى تجِب عليه بالرفض ظلت صامتة ناظرة أمامها فى الفراغ بلا وجهة ، ثوانٍ ودلفت مدبرة البيت تلك المرأة الحنونة والتى تحاول مواساتها منذ وفاة والدها ، اقتربت منها وهى تحمل بين يديها طعام لها وضعته فوق الطاولة الصغيرة بغرفتها واقتربت من فراشها بابتسامة طيبة وأردفت بهدوء وهى تربت على ذراعها :


- كيان يا حبيبتى ، عشان خاطرى يا بنتى قومى كليلك لقمة ، انتى بقالك يومين محطتيش حاجة فى معدتك 


لم تجِبها كالعادة فى الأيام السابقة ليعترى وجه العاملة الأسى عليها ولكنها اطنبت متكلمة بإصرار فهى لن تتركها لكل تلك المدة بلا طعام فهذا انتحار حتمى :


- طب بلاش عشان خاطرى ، عشان خاطر بكر بيه اللى استحالة كان هيرضيه حالتك دى 


رفعت مقلتيها التى امتلأت بالدموع على ذكر والدها إليها لتدنو الأخرى منها أكثر وقالت بتوجس وهى تملس على خصلاتها برفق :


- هتقومى يا حبيبتى تاكلى صح ؟!


أومأت بضعف وساعادتها المدبرة على النهوض فقد وهن جسدها للغاية ولم تعد تستطيع التحرك بمفردها  ، ظلت بجانبها تعاونها على تناول طعامها الذى تناولته الأخرى ممزوج بدموعها التى لم تكف عن الإنهمار لثانية واحدة حتى أصبحت تشعر أنها لم يعد لديها تحكم بها 

 

❈-❈-❈




جالسون معا بمكتب المحامى الخاص ب"بكر الراشدى" حيث أخبرهم أنه سيعلمهم عن وصيته حول تركته التى قام بتبليغها إياه قبل وفاته وكلفه بإثباتها فى الشهر العقارى بالتوكيل الذى بحوزته ، بعد صمت دام لبضعة دقائق كان يعبث فيهم ببضعة ملفات بين يديه ليتكلم بنبرة رسمية جدية للغاية عالما أثرها الذى ستخلفه عليهم قائلا :


- بكر بيه قبل ما يموت بشهرين تقريبا ، كتب كل أملاكه بإسم انسه كيان بنته 


برقت أعينهم جميعا فى صدمة ألجمت لسانهم عداها هى فقد كانت جالسة بهدوء تام تنظر للفراغ بنظرات ثابتة خاوية من الحياة ولم يصدر منها أى ردة فعل تجاه الآمر وكأنها لم تستمع لما قيل بالأساس ، بينما انتفضت "سمية" كأن أفعى قد لدغتها وهدرت بالمحامى بانفعال وحالة هوجاء تملكت منها :


- ايه التهريج ده، ده كذب استحالة بكر يعمل كده 


تغيرت تعبيراته إثر تشكيكها فى أمانته ولكنه تحامل تلك الإهانة ورد عليها بهدوء مرددا :


- يا هانم معايا الأوراق اللى بتثبت كلامى ومتسجلة فى الشهر العقارى تقدرى تاخدى نسخة تتأكدى من صحتها بنفسك 


تمادت فى إهانتها له وتكلمت بصراخ وهيسترية :


- ده تزوير وانت مساعد فيه وانا هرفع عليك قضية وهطعن فى صحة الورق ده 


احتدت ملامحه من اتهامها الصريح له وأردف بجدية :


- سمية هانم انا مفيش أى إفادة هتعود عليا من إنى ازور وصية وقلت لحضرتك تقدرى تاخدى نسخة تتأكدى منها إذا كانت مزورة ولا سليمة


كادت تتحدث مجددا ولكن منعها "نوح" الذى نهض من مقعده وتوجه نحوها ووضع يده فوق كتفها وتكلم بتريث :


- استنى يا سمية، "وجه حديثه للمحامى قائلا بتوجس" مش بتقول برضه يا متر انه من شهرين تقريبا قبل موته كتب كل املاكه باسم كيان 


أجابه الآخر بإيجاز قائلا :


- بالظبط 


ضم شفتيه بتفكير وسريعا ما أردف بتخبط لم يظهر عليه علاماته :


- وهو من شهرين تقريبا قبل موته برضه كان جاله جلطة وكان مبيتحركش ولا بيتكلم 


أغمض عينيه وتنهد مطولا ثم تكلم بنفاذ صبر موضحا :


- بكر بيه الله يرحمه كان الجزء الشمال عنده اللى اتشل، طلبنى وروحتله الفيلا وهو تعبان وكتبلى وصيته وانا مشيت فى الإجراءات بعد كده بالتوكيل اللى معايا 


استشاطت غضبا مما يقوله فقد ساورتها شكوك حول صدق كلامه فقد علمت أثناء مرضه من العاملة ببيتهم بتردد المحامى إلى البيت ولكن غليان الدماء بعروقها يجعلها تنكر تلك الشكوك لتصيح به بتكذيب له مدمدمة :


- ولما هو كده معرّفش حد فينا ليه !


رد عليها على مهلٍ مما آثار استفزازها :


- بلغنى إن الموضوع يتم فى سرية تامة، وده شغلى وانا نفذته، أى أمور شخصية بعد إذنكم اتكموا فيها بره المكتب 


كادت أن تتحدث مجددا ليضع "نوح" يده أمام وجهها مانعا إياها من التفوه بكلمة أخرى وتكلم هو بجمود :


- المتر معاه حق، ملهاش لازمة قاعدتنا هنا اكتر من كده


كانت ثائرة للغاية ورغم ذلك استجابت لما قاله وغادرت المكتب بخطوات تعتريها الغضب بينما نهضت "كيان" وهى لا تدرى حتى ما الذى دار بالمكان من حولها من أحاديث ولكنها لمحت طيف والدتها وهى تغادر لذا استنتجت أن عليها هى الأخرى المغادرة 


وقفا بالخارج كل من "نوح" و "سمية" أمام سيارة الأول ووجهها يملأه الحمرة إثر عصبيتها المكتومة وأردفت بحنق مستفسرة :


- هنعمل ايه ؟!


ظل ينظر فى الفراغ أمامه لجزء من الدقيقة لينشق خلالها ثغره تدريجيا بابتسامة أظهرت الخبث الدفين بداخله فقد طرأت بفكره فكرة شيطانية توًا ليتكلم بفحيح مجيبا إياها :


- انا عارف كويس هعمل ايه 


يُتبع...