الفصل العاشر - أشواك وحرير
الفصل العاشر
أصبحنا لا نصلح نحن للحب، الذنب كل الذنب علي الذين تسببوا لنا في تلك الآلآلم، الذين اقتحموا حياتنا بعد محاولات عديدة ثم استوطنوا قلوبنا وحياتنا، جعلونا نؤمن بالحب، بالحياة وبالأمل، وبعدما تملكوا من قلوبنا وتأكدوا أننا أصبحنا لا نطيق الحياة إلا في وجودهم، رحلوا عنا بكل الأنانية التي يمكن وصفها، رحلوا عنا ليتركونا في ظلام وبؤس أشد مما سبق، ليتركونا من جديد في ظلامنا، وبعدما تذوقنا لذة الأمل نعود لنتذوق مرارة الآلآلم مرتين
”محمد طارق/لن ينتهي البؤس “
❈-❈-❈
تململت في فراشها بإنزعاج بسبب أشعة الشمس التي داعبت جفونها...أعتدلت من نومتها وجلست في منتصف الفراش تحيط رأسها بكفيها..تشعر بصداع شديد أدركت بأنه بسبب ثمالتها الليلة الماضية لأول مره! فلا تعلم كيف وصلت لفراشها بالأمس!..ابتسمت بسخرية علي أحداث الأسبوع الماضي..تتذكر تبادل النظرات بينهما بتوجس عقب إستفاقتها من إغمائتها المؤقتة ثم سؤال صفوه المهتم عن شعورها الآن...لم تعطي سؤالها أي إهتمام وأعتدلت في سريرها قائلة بجمود :
_أنا عاوزه أعرف الحقيقة.
لم يتفاجئ أياً منهما من طلبها فبالطبع أدركا إحتمالية سماعها لحديثهما فأردف رأفت بهدوء :
_أنتي تعبانة دلوقتي..نامي وبعدين نتكلم.
سالت إحدى دموعها فمسحتها بعنف وتحدثت بصراخ :
_يعني إيه بعدين؟!..أنا من حقي أعرف أنا بنت مين ،وفين أهلي؟!
أنسحبت صفوه للوراء بينما زجرها رأفت بحده مخففه :
_أهلك فين يعني إيه؟!...أومال إحنا نبقي مين بلاش عبط نامي أنتي أعصابك تعبانه دلوقتي.
_لا أنا أعصابي مش تعبانه...أنتو ضحكتوا عليا خمسه وعشرين سنة ومفهمني إن أنا بنت صلاح المحمدي وصفوة عبد الحي ،ودلوقتي أسمع بالصدفة إن أنا مش بنتها من حقي دلوقتي أعرف فين أهلي الحقيقيين.
صاحت في وجهه بإنفعال حقيقي وقد كست الدموع عينيها وبرزت بهما الشعيرات الدموية..بينما هو تلقي صياحها بهدوء ولا مبالاة :
_أنتي بنت صلاح المحمدي وصفوة عبد الحي فعلاً...أنا مش فاضي للعب العيال ده وعاوز انام عندي سفر الصبح.
دفع صفوة أمامه وخرج من باب الغرفة دون أن يأبه أياً منهما لتلك التي انهارت باكية علي أرضية الغرفة حتي غفت مكانها...أيقظها في اليوم التالي طرقات عالية نسبياً علي باب غرفتها لتجد نفسها ممدده علي أرضية الغرفة ،حينها أعلمتها مدبرة المنزل بسفر جدها للخارج لإجراء بعض الفحوصات الطبية بالإضافة أن السيدة صفوة جمعت بعض ثيابها ،وغادرت المنزل مُغيره شريحة هاتفها المحمول...لقد تركاها أسبوعاً كاملاً تتخبط الأفكار بين ثنايا عقلها فتارة تظن أنها لقيطة من أحد الشوارع لا أصول لها، وتارة أخرى تعتقد بأنها مُختطفه من أهلها الأصليين ولكن كيف وهي لم تُعامل يوماً معاملة سيئة فلطالماً كانت تتدلل كالأميرات تتمني فقط لتنال فوراً ما تمنته!...أسبوع بأكمله ،والأفكار تتغذي علي عقلها بلا هواده...فكرت كثيراً في مهاتفة ابن عمها الذي سافر للسخنه متعللاً بأمور العمل علي وعد منه بالرجوع يوم الحفل ولكنه لم يعود ،ولكنها كانت في اللحظة الأخيرة كانت تتراجع تماماً....قاطع دوامة أفكارها رنين هاتفها الذي تعالي بالضجيج فنبتت علي وجهها بذرة أمل سرعان ما ذبلت وتساقطت حينما وجدتها صديقتها ميرنا...بدلت ثيابها وخرجت من الغرفة متجه إلى جامعتها
❈-❈-❈
أنكبت روان علي حاسوبها المحمول تراجع المشاريع التي قدمها الطلبة لرصد درجات أعمال السنة ولكنها كثيراً ما كان يتملك منها الشرود فمنذ أن فجّر قنبلته في وجهها منذ أسبوع، ولم يهاتفها كما كان يفعل في نهاية كل يوم "هل كان يمازحها بحديثه ذلك اليوم؟!..أم كان حقاً جدياً كما ظهر علي معالم وجهه ،ولكن ماذا حدث ليختفي هكذا؟!"..كانت كل ليلة تأوي إلي فراشها في إنتظار مكالمته المعتادة ولكن كان الإحباط يخيم عليها، وفي الصباح تستيقظ متلهفة لمراجعة أسماء الأشخاص الذين رأوا منشورها علي تطبيق واتساب، ولكن دائماً ما كانت تقابلها خيبة الأمل..مضي يوم ثم تبعه آخر، وآخر حتي فقدت الأمل في أن التحدث إليها واستسلمت لإنقطاع تلك العلاقة قبل أن تبدأ من الأساس.
_صباح الخير.
قالها مالك الذي دلف إلي المكتب بدون أن تشعر به فبدت له منفصله كلياً عن الواقع...رفعت أنظارها إليه ،ورمشت عدة مرات بعدم تصديق ثم ردت تحيته بخفوت ولم تعقب :
_صباح النور.
وضع هاتفه وحافظة نقودة علي الطاولة أمامه ثم نظر إليها مباشرة، وأردف بهدوء حتي يضع النقاط علي الحروف :
_أنا سبتك أسبوع كامل تفكري في اللي قولته علي الأساس هتديني إجابة سؤالي.
أغلقت حاسوبها المحمول، واتأكت بذراعيها علي طاولة المكتب ثم أجابته ببساطة :
_بس أنت مسألتنيش علشان تأخد إجابة..."ثم أضافت بكبرياء وثقة" plus إن أسلوب الكلام مكنش عاجبني أصلاً...أنا مش بسمح لأي حد يتكلم معايا كده!
لم يرف له جفن، وأقترب بوجهه منها مما جعلها تتراجع في مكانها قليلاً للوراء بحركة عفوية ثم تكلم بإعتذار :
_أنا آسف مكنتش أحب إني اتكلم معاكي كده ولا إني أعرفك مشاعري بالطريقة دي.. بس خوفت إنك تروحي من إيدي بعد ما اتعلق بيكي لأني مش هقدر أكرر التجربة تاني!
تعالت ضربات قلبها إثر كلماته فها هو من جديد يصرح بحبه لها، ولكنها ذُهلت حقاً من صراحته الزائدة معاها...صمتت قليلاً فنبها سؤاله قبل أن تشرد من جديد رامقاً إياها بتفحص تام لم يروق لها أبداً :
_أنتي مرتبطة ؟!
هزت رأسها بنفي فتهللت أساريره وأبتسم لها إبتسامته الساحره مما أدى لظهور غمازته فاتكأ برسغه علي المكتب وسند رأسه علي قبضة يديه، ثم سألها بهيام :
_طب أنا عاوز أطلب إيدك..ممكن أكلم مين؟!
ضحكت بتوسع علي سؤاله ثم سألته متعجبه من بين ضحكاتها :
_هتطلب إيدي عالطول كده؟!
طالعها بإستخفاف :
_لا بالتقسيط يا خفه.
جعدت حاجبيها وزمت شفتيها ثم أجابته بنفس إستخفافه :
_أكيد مش قصدي يعني يا خفيف أنا بس معرفش عنك حاجة غير إسمك.
تثائب في نعاس وربع ذراعيه علي المكتب وانحني برأسه في وضعية النوم، ثم أردف بنبرة ناعسة للغاية "طب ما نتخطب وأعرفك اللي عاوزه تعرفيه عادي" بينما هي اتسعت عينيها في صدمة من أفعاله الصبيانيه فلكزته في ذراعه، وصاحت بتعجب وإستنكار :
_أنت إيه اللي بتعمله ده...قوم مينفعشي كده المكتب مفتوح ممكن حد يدخل في أي وقت!
غمز بإحدي عينيه قائلاً بنبرة لعوبه وهو مستكن علي نفس وضعيته " تحبي أقوم أقفل الباب ؟! "..اتجهت إليه ودفعته بقوة في ذراعه وكأنها غفت تماماً عن كونها تتلمس رجلٌ غريب! ثم همست بنبرة تهديد مصطنعه ظن أنها قاربت على البكاء :
_هناديلك الآمن!
استقام واقفاً في مواجهتها ليظهر فارق الطول بينهما فهي بالكاد وصلت إلى كتفيه فرمقته بإنبهار وابتلعت لعابها بتوتر من حضوره الطاغي...لاحظ هو حركتها العفوية مما جعله يبتسم بثقة وزهو...شبّك ذراعيه أمام صدره وسألها بتسليه :
_وهتقوليلهم إيه خطيبي بيضايقني ؟!
_خطيبي!
كررت حديثه بتعجب فزمت شفتيها، ثم رفعت رأسها بشموخ قائلة بكبرياء مصطنع :
_أنا لسه موافقتش.
ظل يقترب منها حتي بات قربه مثير للأعصاب ولكنها أدهشته بعدم التراجع للخلف حتي لايتمادي بأفعالة معه، ووقفت أمامه بجسارة عكس حالتها السابقة منذ دقائق مما جعله يتعجب لها...لفحت أنفاسه الساخنة بشرة وجهها مما جعل دقات قلبها تتراقص في صخب وهمس متسائلاً بهيام :
_أومال ليه عيونك بتقول غير كده؟!
اتسعت عينيها بذهول وازداد صخب ضربات قلبها ولكنها أخفت ذلك خلف قناع من الجدية والجمود الزائفان...وضعت إحدى ذراعيه في خصرها بعدما دفعته بكل قوتها للخلف فكاد أن يسقط للخلف متمدداً علي ظهره إثر حركتها المفاجأة، لوت شفتيها قائلة بسخرية لاذعه :
_يا سبحان الله أنا أول مره أعرف إن العيون بتتكلم..طول عمري فاكره إن اللي بيطلع الصوت الأحبال الصوتية واللسان.
كان يعلم تمام المعرفة أنها ستتفوه ببعض الحماقات فتفسد تلك اللحظة لأنها ليست من فئة الفتيات التي تتساقط حصون قلوبهم أمام كلمات الغزل المعسول ،فأبتسم بعدم تصديق وتمتم بنبرة خفيضة لم تستمع إليها "ده أنتي لسانك ده مبرد"...جمع متعلقاته الشخصية واتجه ناحية الباب تحت أنظارها المتعجبة من فعلته الغريبة ثم آجلي صوته قائلاً بجدية :
_فكري براحتك وابقي كلميني قوليلي ردك إيه.
اومأت برأسها وابتسمت بهدوء ثم أطرقت رأسها مره أخرى، وعادت لأداء عملها علي الحاسوب فنادي عليها حتي يجذب إنتباهها فرفعت أنظارها إليه بإهتمام مما جعله يستطرد قائلاً بغزل صريح :
_علي فكره...أنتي عيونك دّباحين.
اتبع حديثه بغمزه من إحدي عينيه وأختفي من أمامها بسرعة البرق بينما هي أحاطت بكفيها المتعرقين من التوتر وجنتيها فشعرت بإندفاع الدماء الساخنة نحوهما كما دبت القشعريرة بطول عمودها الفقري، ورمشت بعينيها عدة مرات بعدم تصديق ولكن سرعان ما ابتسمت بسعادة بالغة تشعر وكأنها مراهقة صغيرة سمعت للتو إحدي عبارات الغزل من حبيبها!
❈-❈-❈
خرج مالك من بوابة الجامعة فلمحته ميرا التي كانت تهرول مسرعه نحو جراج السيارات بعدما قاطع محاضرتها إحدى الرسائل التي وصلتها من والدتها ،والذي لم يكن محتواها سوي بعض الكلمات المبهمة ولكنها عنت لميرا الكثير والكثير..حيث كان محتوي الرسالة "لو عاوزه تعرفي الحقيقة تعالي قابليني بعد نص ساعة في اللوكيشن اللي هبعتهولك دلوقتي"...ابتسمت ميرا فور رؤيته مباشرة وكادت أن تناديه، ولكن سرعان ما سقطت الإبتسامة عن وجهها حينما تذكرت أنه آتي هنا لزيارة الأخري!.. تلك التي آثارها عليها، واعترف لها بحبه بل ،ومنحها قلبه بدلاً عنها... أبتسمت بسخرية علي حالتها فلقد قدمت قلبها قربان لمْن لم يلمحها من الأساس ولا حتى بدافع الصداقة، فلقد مرت سبعة أيام بدون أن يطمئن علي أحوالها، ولو برسالة واحده! فرت دمعه ساخنه مسحتها سريعاً وأخذت تتمتم لنفسها ببعض الكلمات علها ترسخ تلك الحقيقة المؤلمة في رأسها "مش بيحبك ومش هيكون موجود، وأنتي مش محتجاه ولا محتجاه غيره، هتكوني كويسه" أخذت تردد جملتها الأخيرة مراراً وتكراراً، واستقلت سيارتها متجه سريعاً نحو وجهتها المنشودة!
بينما هو منع نفسه بالكاد من الرجوع إليها حتي يري تأثير كلامته عليها، وأبتسم بسعادة حينما تذكر حديثه معها...لم يكن أبداً ليصدق أن زيارته إليها ستحسم المعركة القاطنة بداخله، ولكنه مازال لا يستوعب هل فضلته علي ذلك المدعو "مجد" أم أنه لم يخبرها إلي الآن بحقيقة مشاعره لذلك لم يظهر عليها! تشاحنت الأفكار بداخله خوفاً من رفضها إياه ،والقبول بالآخر الذي ومن المؤكد سيفوز عليه فوزاً ساحق...نفض تلك الأفكار عن رأسه، واكتفي فقط بالأمل بداخله لانه لا يريد تعكير صفو مزاجه...استقل سيارته فلاحظ رنين هاتفه ولم يكن سوي مازن صديقه..آتاه صوته المرح :
_وحشتني يا ملوكي.
قهقه مالك عالياً وأردف بسأم مصطنع :
_مش هتبطل تقول الإسم المستفز ده..ده حتي عيب علي سنك يا أخي، وبعدين هتتنيل تيجي امتي؟!
ضحك مازن بإستفزاز ثم همس متسائلاً بصوت نسائي عابث :
_وحشتك ليالينا مع بعض؟!
توسعت أعين مالك وضحك بعدم تصديق :
_اتهد يالا يخربيتك هتتفهم غلط.
هز مازن رأسه بلامبالاة قائلاً بجدية :
_ما يفهموا اللي يفهموه هو أنا يعني في الحرم!
_أنت فين يا أستاذ؟!
فآتاه صوت نسائي من الطرف الآخر قائلاً بدلال أنثوي مثير للإشمئزاز :
_بتكلم مين يا بيبي مش يلا بقي؟!
صاح مالك بإستنكار :
_أنت بتعمل إيه بالظبط يا *** ؟!
كتم مازن الضحك وأشار للفتاة ببعض الدقائق وسيلحقها فتعجبت، وانصرفت بهدوء مما جعل مازن يتحدث بجديه مصطنعه :
_عيب علي فكره تشك في صاحب عمرك، وبعدين متنساش إني ابن ناس ومتربي.
تهكم مالك قائلاً :
متربي!..وبتقولك يا بيبي!...مين البت دي يا زفت؟!...أنت رايح تشتغل ولا تصيع.
_وحد الله يا عم اصيع إيه هو أنا برضه بتاع الكلام ده...دي آيسل بنت رجل أعمال كده اتعرفت عليها هنا، صاحبها فكسلها فطلبت مني اروح معاها عند صحابها علشان برستيج أبوها يعني ميبقاش في الأرض.
عاد مالك لتهكمه من جديد قاصداً إستفزاز الآخر :
_أمم...كوبري يعني!
عدل مازن من ياقة قميصه ثم تحدث بثقه وعنجهيه :
_لا مش كوبري ده الوضع هنا عاجبني أوي..شوية مزز إنما إيه صواريخ والله .
_طب اتنيل ارجع يا أخويا الشغل كله عليا..بدل ما يرحلوك علي هنا في قضية تحرش.
_والله يا ابني هم اللي بيتحرشوا بيا وأنا محترم وفي حالي!
همّ مالك بتوبيخه فقاطعه مازن مسرعاً لإنهاء الحديث بعدما تكرر نداء آيسل وأصدقائها عليه :
_أنا لازم أقفل دلوقتي، ومتقلقش هاجي أصلاً علشان اطمن علي البيت لأن جدي مسافر من كام يوم...سلام .
أغلق مازن الخط فظهرت أمامه خلفية هاتفه والتي لم تكن سوي إحدي صوره مع ابنة عمه، تنهد في إشتياق، وأطفئ تلك الرغبة التي اشتعلت بداخله في التحدث إليها والإطمئنان علي أحوالها!
❈-❈-❈
ارتشفت ميرا بعض القطرات من فنجان قهوتها في أحد المحلات الشهيرة...لمحت والدتها تدلف للمكان فلوحت لها بيديها ،وبدأت تزداد نبضات قلبها في الخفقان بالتدريج مع تقدم الأخري...جلست صفوة في مواجهتها وقامت بوضع حقيبة يدها على الكرسي المجاور، وألقت بنظارتها الشمسية علي الطاولة تحت نظرات ميرا المترقبة :
_أنا مش هطول عليك بس اسمعيني للأخر لو سمحتي.
اومأت ميرا بقلق فزفرت الآخري واستكملت حديثها بهدوء :
_من خمسة وعشرين سنة ربنا بعتك هدية حلوة لصلاح رأفت المحمدي، وصفوة عبد الحي المحمدي وكانوا فرحانين بيكي أوي علشان مامتك كانت ممنوعه من الخِلفة بسبب تعب في قلبها، وبعد الولادة بفترة صفوة اشتد عليها التعب أوي وكان لازم تعمل قلب مفتوح.
لاحظت صفوة ارتعاش ميرا في كرسيها وانهمرت الدموع من مقلتيها فيبدو أنها ربطت الخيوط ببعضها ،وبدأت تستوعب القادم...صمتت صفوة بضع ثوانِ ثم زفرت بحزن :
_للأسف ماتت وهي بتعمل العملية.
وضعت كفها علي فمها بحركة تلقائية منها ،وتعالت شهقاتها بالبكاء مما جعل بعض الجالسين يلتفتون إليهم...أعطتها الأخيرة بعض المحارم الورقية لتجفف دموعها فتجمدت الأخرى تماماً ولم تمد يدها...تابعت صفوه بأسي مرير :
_رجعت من الشغل علي ملا وشي بعد ما عرفت إن توأمي هتعمل عمليه في قلبها.
رفعت ميرا أنظارها المصدومة إليها، وجحظت عينيها بتساؤل مما جعل الأخري تومأ برأسها وتبتسم بحزن :
_مستغربيش...أنا ابقي خالتك صفيه أخت صفوه التؤام...خليني اكمل..رجعت البيت لقيت جوزي بيخوني مع واحده، مستوعبتش غير لما قتلته بس الكلبة اللي معاه هربت وبلغت...روحت علي المستشفى علشان احكي لبابا وعمي رأفت، وقتها الدكتور خرج وقال البقاء لله...المرحومة توفت وهم بيجهزوها للعملية بسبب هبوط مفاجئ في الدورة الدموية...أغمي عليا، صحيت بعدها بكام يوم وعمي رأفت بيقولي حمد الله على سلامتك يا صفوة.
تنفست صفية بعمق حتي تمنع دموعها من الهطول بسبب ذكري ذلك اليوم الأليم ثم تابعت بمرارة :
_اتقال إني أنا اللي مت بسبب الهبوط المفاجئ علشان ميخسروش البنتين...لأن القانون هنا بيعاقب الست اللي بتقتل جوزها لو شافته خاين.
سألتها ميرا بتيه، وقد تحشرج صوتها من آثر البكاء :
_طب والدكتور والعملية؟!
تنهدت صفية وأجابتها بوضوح :
_أنا وصفوة عندنا نفس المرض..مخلوقين بيه، والمستشفي مالكها صاحب جدك فضغط علي الدكاترة يسكتوا.
بللت ميرا شفتيها بلسانها ،وسألتها مره أخري بفضول :
_معاملتك ليا قبل ما بابا يموت كانت كويسه...ليه بقيتي تكرهيني؟!
نفت صفية برأسها عدة مرات وهدرت بصرامة :
_مكرهتكيش!...أنتي بنت أختي، ويعلم ربنا إني حبيتك أوي...بس أنا اتظلمت لما شيلت شيله مش شيلتي!..أنا عملت إيه علشان اتحرم من الجواز والخِلفة؟!...صلاح كان بيعاملني بإحترام بس عمره ما قربلي ولا حسسني إني متجوزه...أنا آسفه يا بنتي بس أنا دفعت التمن غالي أوي، وكنت دايماً بتعاير!، أظن من حقي أشوف حياتي بقي يمكن ألحق ابقي أم!
طفرت الدموع من عيني الأخري من جديد وسألتها بتقطع :
_ليه جايه تقوليلي دلوقتي؟!
_علشان عدي خمسة وعشرين سنة فخلاص مفيش قضيه ولا حاجة تديني، وجدك مش هيقدر يهددني بعد كده.
استقامت صفية وأخرجت ورقة طويت عدة مرات ثم وضعتها على الطاولة مقابل ميرا، قبّلت رأسها بحنان أمومي لأول مرة وأردفت ببكاء :
_سامحيني يا بنتي لو مكنتش في يوم الأم اللي تتمنيها...بس أنا والله حاولت..أنا هسافر أمريكا وهتجوز ادعيلي أعرف أخلف..أشوف وشك بخير!
قالت جملتها وابتسمت من بين دموعها ثم قبلت رأسها مره أخرى وفرت من أمامها مسرعه، بينما ميرا ازدادت شهقاتها في الإرتفاع، وبكت بحرقه كما أنها لم تبكي من قبل حتي تشكلت شبكه من الشعيرات الدموية حول قرنية العين!
❈-❈-❈
فتحت روان باب شقتها ودلفت لغرفة المعيشة فوجدت كلاً من والدتها وزوجة خالها في إنتظارها...رحبت بهما بحفاوة ،واتجهت للجلوس على الأريكة أمامهما بتعب بسيط، رمشت عدة مرات ثم سألت بإبتسامة :
_البواب فتح لكم عالطول ولا إيه؟!
اومأت "سهير" برأسها، وابتسمت قائلة بتحفيز :
_قومي بس دخلي الحاجات دي التلاجة وتعالي نتكلم شوية.
هزت "روان" رأسها بموافقة ثم شكرت والدتها بإمتنان حقيقي :
_تسلم إيديكي يا ماما..مكنش ليه لزوم أبداً تتعبي نفسك.
مصمصت ريهام شفتيها بإمتعاض، وأخذت تجول بأنظارها في أرجاء الشقة حتي عادت روان من جديد...ابتدأت "سهير" الحديث قائلة ببشاشة :
_إحنا قولنا نيجي نشتري شوية حاجات لجهاز رنا وبالمرة نعدي عليكي علشان عوزاكي في موضوع مهم.
أنهت حديثها وحولت أنظارها إلي زوجة شقيقها بمغزي فردت"روان" بإستنكار :
_إيه يا ماما اللي بتقوليه ده! ده بيتك ،وأنتو تنوروا في أي وقت.
أخرجت سهير هاتفها من حقيبتها وأخذت تتفحصه قليلاً ثم أعطته لإبنتها وسألتها بإبتسامه واثقه :
_ها قوليلي إيه رأيك في ده؟!
رفعت "روان" إحدي حاجبيها بتعجب من سؤال والدتها وتناولت منها الهاتف علي مضض ويبدو أنها استنبطت حديث والدتها القادم...ثم سألتها بجهل مصطنع :
_ماله يعني؟!
_عريس بقي إنما إيه مقولكيش يا ريري..مركز، وفلوس وهيستتك بيشتغل محاسب في بنك، ويبقي ابن أختي!
أندفع هذا الحديث من فم "ريهام"...مما جعل الأشمئزاز يزداد بداخل الأخري فهل انتهت كل راجل العالم لتقترن بـ ابن أخت "ريهام" ؟!...كتفت "روان" ذراعيها أمام صدرها وهتفت بسماجه :
_طب وأنا إيه المطلوب مني يعني؟!
ردت "سهير" قائلة بضيق :
_هو أنا بهاتي في عبس؟!...بقولك عريس إيه اللي مش مفهوم في كلامي؟!
أبتسمت "ريهام" بإصطناع ووجهت أنظارها نحو "روان" التي بادلتها الإبتسام ولكن بسخرية، فأردفت الأولي قائلة بود مزيف :
_بالراحه يا سهير الكلام ميبقاش كده!..بصي يا حبيبتي!! أكرم..أنا كنت خطبتله بنت وهو في السعودية بس لما رجع معجبتوش لأنها قمحيه شويه ومعاها كلية عاديه، وقالي يا خالتو أنا هفسخ الخطوبة لأنها مش نفس مستوي تعليمه وطلب مني ادور له علي عروسة تكون بيضه وطويلة! وأنا مش هلاقي أحسن منك!
أخذت "روان" الهاتف مره أخري ،ونظرت فيه تلك المرة بتمعن ثم ضحكت عالياً مما جعل شعور الغيظ يزداد بداخل زوجة خالها، وسألتها بضيق مكتوم :
_إيه اللي بيضحك؟!
دمعت "روان" من كثرة الضحك، وأردفت من بين ضحكاتها :
_أصل ما شاء الله عليه وسامته مقوية قلبه.
صاحت بها والدتها سأله بإنفعال :
_وهو ده إيه اللي يعيبه؟!
بدأت علامات الضيق تظهر بوضوح علي وجه "ريهام" التي عقبت بحديث سطحي تافهه :
_وهو الراجل يعيبه إيه غير جيبه يا ست هانم؟!
كادت"روان" أن تلقنها بعض الكلمات القاسية ،ولكنها فضلت إستفزازها فضحكت بإستفزاز وسخرت قائلة ببرود :
_هو عاوزها طويلة ليه؟..قصير للدرجادى علشان يتجوز واحده طويلة تجيب ليه الحاجات من فوق الدولاب؟!
_روان!..متنسيش إني أنا موجوده وإحنا بنتناقش..قوليلي إيه اللي يعيبه أو بطلي سخرية!
هدرت"سهير" بشراسه فتناولت الأخري نفساً عميقاً ،وعادت ملامحها للجدية مره أخري وتكلمت بهدوء :
_يعيبه إنه متنمر يا ماما وسطحي، وتافه كمان..قالك عاوزها بيضا وطويلة، ومتعلمه مش عارفه إيه! ماشي حقه يختار شريكة حياته بالطريقة اللي تناسبه هو حر...بس فين أدبها فين أخلاقها؟!..ليه يسخر من القمحاويات والقصيرين؟!...أنا آسفه يا ماما بس مش هقدر أعيش مع الإنسان ده.
نكست "سهير" رأسها بأسي وردت بملامح حزينه غمرها الإحباط :
_براحتك يا روان...بس أنا جبت أخري.
بينما ضربت "ريهام" كفيها ببعضهما وهدرت بنبرة سوقيه مرتفعه :
_أنتي بتتنطتي علي إيه يا أختي؟!...مش تحمدي ربنا إنك في سنك ده وجايلك عريس لقطه متحلميش بيه!...ابقي تفي علي وشي لو حد عبرك بعد كده!
تنهدت "روان" وردت بنبرة متعبه، ولكنها حملت كثيراً من الكبرياء والغطرسة :
_لو أنا أحمد ربنا علي ده زي ما بتقولي يا ريهام يبقي أنتي المفروض متقوميش طول عمرك من علي سجادة الصلاة!
_إحنا هنبات الليلادي يا روان.
أنهت "سهير" الحديث عندما لاحظت هجوم ريهام الموشك علي ابنتها مره أخري، بينما حسمت روان أمرها بالخطبة "لمالك" حتي تخرس الألسنة، وقررت إعطاء نفسها فرصة للتعرف عليه بعد الخطبة ، فطالعت "ريهام" بتحدي تفوهت بنبرة متريثة :
_ماما أنا جالي عريس النهاردة!
❈-❈-❈
دلف "مجد" إلي أحد محلات بيع المجوهرات الشهيرة والعريقة بمنطقة وسط البلد..ابتسم ببشاشة ،وألقي بتحية المساء :
_مساء الخير مسيو چورچ.
بادله الآخر التحية مبتسماً بعملية وأشار إليه بالجلوس :
_مساء النور يا باشمهندس...اتفضل أقعد.
جلس مجد علي أحد الكراسي ،وسأله بإستعجال :
_الخاتم خلص ولا إيه.
اعتذر الآخر قائلاً بدبلوماسية :
_متأسف مجد بيه...بس التصميم اللي حضرتك طلبته معقد كتير وأنت نبهتني علي الدقة فبعتذر تاني بس هناخد فيه وقت علشان الكوالتي تكون مظبوطة.
أومأ له مجد بتفهم ثم رفع سبابته في وجهه معقباً بتحذير وإستعجال في آن واحد :
_يومين كمان يا خواجة وهاجي استلمه يكون جاهز، لأني مش هتحمل تأخير أكتر من كده.
اومأ الأخر برأسه مؤكداً ثم دعي له بود :
_ربنا يسعدك حبيبي مجد.
أمن مجد علي دعائه ثم شكره بإمتنان وصافحه مودعاً، وخرج متجهاً نحو سيارته.
❈-❈-❈
تعالت أصوات الموسيقي الصاخبة في إحدى الملاهي الليلية التي أعتادت "ميرا" ارتيادها الفترة الأخيرة...جلست في إحدى الأركان البعيدة بمحازاة البار مرافقه لصديقتها ميرنا، أحاطت ميرا رأسها بكفيها في محاولة بائسة منها لتسكين الألم قليلاً فلقد أهلكها كثرة البكاء طوال اليوم...لكزتها ميرنا بخفة وهي تتمايل مع الموسيقي في مقعدها وغمزتها بعبث :
_إيه يا مزه ما تفكي كده، وقوليلي إيه اللي مزعلك بقالك فتره؟!
هزت "ميرا" رأسها بنفي وأردفت بلامبالاة مصطنعه
أدركتها الأخري :
_مفيش حاجه يا ميرنا...أنا بس مخنوقة شوية والصداع هيأكل رأسي.
صمتت "ميرا" بضع ثوانِ ثم سألتها بوجع اتضح جلياً علي معالم وجهها :
_معاكي مُسكن؟!
_معايا..بس أنتي مخدتيش ليه قبل ما تيجي.
وضعت كفها أعلي جبهتها ونكست رأسها بألم خالص ثم أردفت بنبرة أوشكت على البكاء :
_خدت بس مش بيعمل حاجه.
ألتفتت "ميرنا" حولها بإرتباك ثم سحبتها من ذراعها قائلة بأمر :
_تعالي معايا.
أستسلمت لها "ميرا" واتبعتها نحو دورة المياة فسألتها الأخيرة بتأفف وإنزعاج :
_إحنا جايين هنا نعمل إيه يا ميرنا؟!..أنا مش فايقه.
أخرجت "ميرنا" إحدى الأكياس البلاستيكية الشفافة الصغيرة من حقيبتها ،والذي احتوي علي مادة بيضاء، ناولته للأخري في كف يدها...رفعت "ميرا" أنظارها وتسألت بعدم فهم :
_إيه ده يا ميرنا؟!
لم يرف لها جفن فكتفت ذراعيها أمام صدرها وأردفت بثقة متناهية وهدوء شيطاني :
_مفيش غير الهيروين ده اللي هيريحك بسرعه، وكمان هينسيكي الزعل ده وهيخليكي طايرة من الفرحة.
هزت "ميرا" رأسها بعنف، وهدرت في الأخري بإستنكار :
_أنتي اتجننتي ولا إيه؟!...أنا عمري ما اتعاطيت مخدرات...أنتي عوزاني ابقي مدمنة؟!
زيفت "ميرنا" ملامحها ببراعه شديدة كالحرباء وهتفت بصدمة ولوم مصطنع :
_بقي أنا يا ميرا هتمنالك حاجه زي كده وإحنا أصحاب وأخوات؟!...أنا بس صعبتي عليا ومقدرتش اتحمل أشوفك كده، وأنا في إيدي أساعدك خصوصاً إني جربت قبل كده كذه مره لما كنت بتخنق من أهلي علي فترات متباعدة واديني قدامك اهو كويسه...بس أنا آسفه مكنتش أتوقع إنك هتفهميني غلط.
عبست ملامح "ميرنا" وزمت شفتيها بعبوس وطلبت الكيس من الأخري...مما جعل الأخري تشعر بالندم الخالص علي سوء ظنها بصديقتها، وقد تلاعب الشيطان بعقلها مصوراً لها منطقية حديث صديقتها وأنها حقاً تتطلع لسلامتها سريعاً، فرمقت الكيس في يديها بتردد واعتذرت بندم خالص...جثت علي ركبتيها بجوار المقعد وقامت بسكب محتوي الكيس علي ظهر هاتفها وكادت أن تقرب منه أنفها فأقتربت منها الأخري مسرعة هاتفه بتحذير :
_استني استني مش كده!
طالعتها "ميرا" بعدم فهم فأخرجت الأخري بطاقتها الائتمانية ،وقامت بتفريق الحبيبات عن بعضها وشكلتهم بطريقة معينة، وأخبرتها بغلق إحدى فتحات أنفها ثم حركت يديها بحنان علي ظهرها قائلة بحب مزيف :
_أنا عمري أبداً ما هأذيكي!
أكدت "ميرا" علي جملتها واقتربت بوجهها من الهاتف فتشكلت أمامها لوحة وهمية تجمع صور كل مْن فارقوها يوماً...فرت دمعه ساخنه من إحدى عينيها فأغمضت عينيها وهمست لنفسها بألم "حتي لو غلط خلاص مبقاش يفرق"...واستسلمت تماماً لمصيرها المجهول أسفل زوج من العيون الشيطانية التي تطالعها بتشفي!
يتبع...