-->

NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل العشرون الجزء الأول

 


الفصل العشرون الجزء الأول

استلمت خطابك،

أظن أنك اعتقدت أنه أفضل من مكالمة تليفونية..

أشكرك لأنك جنبتني سماع صوتك،

لكني أفضل اللاشيء، لا أريد اعتذارات..

رؤيتك على ركبتيك لا تعني لي شيئًا الآن!!


-تريستا ماتيير-



نظرت سارة مجددًا للعنوان الذي يشير إليه موقع تحديد الخرائط (GPS) على الهاتف لتتأكد بأنه العنوان الذي أرسله 'ياسر'، وأخبرها أن تأتي له دون إخبار الشرطة وإلا لن ترى ابنتها للأبد .. حدقت مرة أخرى بالمبنى العصري نوعًا ما في أحد الأحياء الراقية بمحافظة (الإسكندرية) لتطفئ محرك السيارة وتهبط منها.

الهدوء الشديد بمدخل البناية زاد من توجسها لتبحث عن حارس الأمن هنا أو هناك علّها تطمئن، ولكنها لم تجد أي شخص، لترفع هاتفها وما إن همت بالاتصال بـ ياسر حتى اهتز هاتفها بورود مكالمة منه، وما إن أجابت حتى آته صوته الآمر:

- أجل، هذه هي البناية، ادخلي المصعد الثالث وسأسحبك..!!

حبست أنفاسها وما إن تحرك بها المصعد حتى وجدت نفسها في الدور العاشر، وبدأت تفكر جديًا بكيف ستجري بها الأمور؟ وما الذي يخبأه لها؟ .. لكن كل ما أرادته حقًا هو أن ترى ابنتها من جديد، وقد استوحشتها في الساعات القليلة السابقة منذ أن ودعتها بصباح اليوم داخل مدرستها لتُفاجئ بحلول الظُهر أنها غير موجودة بالمدرسة، ولتصلها بذات اللحظة رسالة من ياسر يخبرها بأن ابنتها معه، ويحذرها من اخبار الشرطة أو ادخال طرف ثالث بالموضوع!!

وهو ما فعلته .. لم تستطيع اخبار أخيها، في الحقيقة لم يكن متاحًا بكل حال من الأحوال، فلديه أمور فريدة التي تكفيه، وكذلك كذبت على والدتها وأخبرتها أنها ستقضي بقية اليوم مع ابنتها بمكانً ما ولم تجرؤ على أن تخبرها أن ذاهبة بالأساس لتأتي بابنتها!! .. أرادها أن تأتي له راضخة، أن تزعن لإمرته انتقامًا لجرمها بحقه، انتقامًا للنبذ الاجتماعي الذي تعرض له بسببها، لطردها له خارج حياتها .. والآن سيستمتع برؤيتها وهي تتوسله أن يُنعم عليها بالبقاء في ظِلّه، بالبقاء بصحبته ورعاية ابنتها!!

وليته سيرضى عنها بعد أن تبلل الأرض أسفل قدميه بدموع الندم!!

 عرفت هذا، أنه لا يرغب شيء الآن عدا إذلالها؛ لأنه موقن من أن هذا هو المستحيل بعينه .. حتى ولو كان من أجل ابنتها .. طالما كانت سارة ذات كبرياء عنيد تضحي من أجله بكل عزيز وغالي، والدليل على ذلك ما فعلته به عندما جرب أن يخدش كبريائها هذا وتجرأ على خيانتها والتبجح بفعلته بدلًا من أن يطلب الصفح والغفران .. والآن، هو لا يفعل شيء سوى استغلال ابنته في الاقتناص لنفسه، ليست ساذجة، تكاد تجزم أن بعد كل هذا لن يعطيها ابنتها!! .. بل هي تشك بالأساس ان ابنتها خلف هذه الأبواب!!

قبل أن تُفتح أبواب المصعد، دست يدها بحقيبتها لتتأكد من الصاعق الكهربائي تحسبًا لأي حركة دناءه منه .. وما إن فارقت المصعد حتى وجدت ياسر يفتح باب الشقة المقابلة للمصعد ويُفسح الطريق لها لتدخل .. توقعت تمعن النظر حولها بقلق شديد بينما ترمقه بنظرات كارهه، لتتبدى منه ابتسامه ساخرة:

- أدخلي وكفي عن الحركات السينمائية هذه!!

قالها وتركها واقفه على الباب بترددها لتقبض بيدها على الصاعق داخل حقيبته ثم تبعته دون أن تغلق الباب .. ليلتفت لها متسائلًا عن ذلك لكن عينه لمحت يدها المتخشبة داخل الحقيبة ليخطفها منها دون سابق إنذار .. شهقت به وقبل أن تحاول استرجاعها، كان يخرج الصاعق منها وينهار بالضحك المتهكم:

- حقًا سارة، لا أنكر، لقد تفاجأت .. لم أعهدكِ عدوانية هكذا!!

ثم أتبع ضحكه وهو يقترب منها مشغلًا الجهاز على قوة عالية في نية واضحة لصعقها، لتتراجع سارة بخوف وهي تهتف به في فزع:

- أنت .. أنت ماذا ستفعل؟؟

لم يجب، بل استمر في ارهابها بالصاعق الذي يصدر ازيز اربد جسدها حتى حاصرها في زاوية لتنكمش على نفسها مصدره صرخة مبحوحة من فرط خوفها .. ابتسم ياسر باستهزاء وألقى الجهاز ارضًا بعنف ليتهشم ومعه سحبت سارة انفاسها بشحوب شديد، وعندما أفاقت على نفسها كان ياسر قد دنى منها على مقربة شديدة ودفن رأسه قرب عنقها لتفزع وتحاول ردعه عنها لتفاجئ به يكبل يديها ويتهجم عليها بقبله العنيفة!!

ابعدت عنه وجهها بتقزز شديدة صارخة وهي تكاد لا تستوعب ما يفعله، لن تقول انه صدمها في الشخص الذي عشقته لسنوات، لأنه قد فعل مسبقًا بخيانته .. لكن اعتداءه عليها، وخاصةً أنها الآن مُحرمة عليه، قد كان مستوى أعلى من الحقارة:

- ابتعد عني .. هل جُننت؟!

تصلب جسده وابتعد عنها لينظر بوجهها المحتدم وقد دُهشَ من ردة فعلها ليعنفها باحتراقٍ بائن:

- جُننت لأنني اشتقت لكي وأريد استرجاعك؟؟

دفعته سارة في صدره ليبتعد عنها مسافة أكبر:

- بالزنا؟؟ .. بالأصل ماذا أتوقع من زاني مثلك!! .. لكن بفعلك هذا أثبت لي أني كنتُ على صواب حينما خلعتُك ولستُ مختلة لأعود لك!! .. والآن أين ابنتي؟؟

رمقها، وكم كانت نظرة غريبة عليها، مزيج مُريب لم تفهمه مطلقًا، ليهمس ياسر بهدوء شديد بعد أن جمد الدم في عروق وقد اعتقد لوهلة أنه سيقتلها من نظرته:

- نائمة بالغرفة..

تبعت سارة بعينها إشارة يده نحو غرفة بعينها، لتعدل من شعرها وملابسها التي تبعثر بسبب قذارته ثم بحذر شديد ابتعدت عن نطاقه هاتفه باسم طفلتها بلوع .. كل ما أرادته تلك اللحظة هو أن تأخذها وترحل منها بأقصى ما يكون .. وما إن فتحت باب الغرفة حتى سمعت بالتزامن صوت انغلاق باب الشقة بعنفٍ خلع قلبها، خاصة والغرفة كانت فارغة!!

تراجعت قدماها بتخاذل وحدسها يُنبئها بوجود كارثةً ما، وقبل أن تخطو خطوة بالصالة كمم فمها يد غليظة محكمة على قماشة تحوي مخدر لم يعطيها وقت للمقاومة أو حتى استيعاب أي شيء..

عدا أن تلك اليد هذه المرة لم تكن للـياسر!!


❈-❈-❈



باليوم التالي..


- .. الرصاصة بالأساس كانت مُسممة بـ(السيانيد)!!

”للمرة العاشرة تراوغين الموت، فريدة ..

 ما بالك تتمسكين بالحياة إلى هذا الحد!!“

رددت فريدة داخلها همسًا حينما غادر غرفتها الطبيب، وقد أخبرها أنها نجت من ستة شظايا انشطرت لهم الرصاصة فور أن فاتت بجسدها، من حُسن حظها أن واحدة فقط منهم نفذت عميقًا، ولم يخترق أيّا منهم عظمة الترقوة أو الشريان أسفلها!!

هل قال للتو أن الرصاصة كانت مُسممة بالسيانيد؟؟ .. حسنًا إذا كانت محظوظة بفضل مرورها من جسد أدهم أولًا ووصول نسبة ضئيلة جدًا إليها من السُم، فماذا عن أدهم الآن الذي غادر المشفى وهو في وضعٍ حرج على حد وصف الطبيب؛ إذ أصر والده على نقله إلى مشفى تابعه لهم لفرق التجهيزات الطبية المتطورة .. ولا تعرف حتى إذا كان على قيد الحياة!!

هذا يجعلها تتساءل إذا كان عليها أن تمتن لافتدائه لها بحياته، أم تلعنه لأنه مَن أقحمها من البداية في كل هذا!!

زفرت فريدة وهي تدلك فروة شعرها بضيق، بدى لها كل ما مر وكأنه أحلام متداخلة، رؤى من عالم آخر بعيد عن عالمها؛ مواجهتها مع أدهم، انهيارها وتعرضهما لضرب النار، حتى اصابتها.. بالكاد تصدق وتعاني من تشوش كبير بعد كل ما خاضته، وبالتالي تحتاج لوقت أكبر لتعرف ماذا عليها أن تفعل حيال هذه الفوضى .. وعلى أول هذه القائمة، أنها أصبحت وحدها الآن، منذ أن استفاقت ولم تجد أمامها سوى الطاقم الطبي وخيبة كبيرة تعتصر قلبها .. تلك المرة لا أحد من الأهل أو الأصدقاء .. رائع فريدة، لقد عملتِ بجِد لتصبحي منبوذة!!

لكن هذا لا يلغي حقيقة أنها بحاجة لوجود أحدهم الآن، على الأقل ليتولى إجراءات خروجها وقد سرح الطبيب بإمكانية خروجها مع نهاية اليوم، وبالطبع سارة ومراد لم يعودوا بالخيار المُتاح وكذلك أهلها، وهذا ليس لأنها لا تعلم إن كانوا في مصر أم لا، ولكن بعد ما فعلوه معها وتسليم أمرها لمراد، ثمة حاجز وُضع بينهم من جديد .. تعلم جيدًا أنهم يثقون بمراد وعقليته، وأن والدتها تعدّهُ كـابنها الكبير وتعتمد عليه في كل كبيرة وصغيرة، ومن زمن بعيد أوكلته مهمة رعاية فريدة وكامل شئونها، حتى حينما تعرضت لحادثة 'بن' ورغم ما كان بينهم، اعتمدت عليه في مهمة البحث عنها .. نعم، إن صح التعبير، فـ مراد هو رجل الأسرة الأول .. لكن حتى هذا بالكاد يُسوغ فعلتهم!!

وفي خضم هذا، فوجئت فريدة بثلاثة من رجال الشرطة يستأذنونها في الدخول لتتوتر كل عضلة بجسدها .. اعتدلت بالفراش لتشعر بألم مميت في كتفها لتتجاهل ذلك على الفور وتستعد للقادم الذي بدأ حينما قال أحد الضباط بجدية شديدة:

- سيدة فريدة، نحن هنا لأخذ أقوالك في أكثر من قضية وقد صرح الطبيب بأن حالتك تسمح بهذا..

أومأت له فريدة .. ليفتح أحدهم دفتر استعدادًا لكتابة ما سيُتلى عليه من الآخرين، وبعد تحرير ديباجة قانونية أتبعها قائلًا:

- بالتأكيد لديكِ خبر أنه تمّ تبرئة السيد أدهم الشاذلي من قضية حادثة المطار، لعدم ثبوت أدلة عن كونه المسؤول عن محاولة قتلك وتهديد الأمن العام .. ما قولك في هذا؟؟

هدئت فريدة أنفاسها نسبيًا ثم اردفت ببساطة:

- قطعًا استبعد أن يكون أدهم وراء هذا!!

- وما رأيك بأنه كان وراء منعك من السفر واحتمال كبير أن يكون قد فعل هذا ليُسهل عملية قتلك؟؟

تبسمت باستنكار نوعًا ما:

- ولمّ عساه يفعل هذا؟؟

- هذا بالضبط ما نحن هنا لنعرفه!! ما الذي يجعل شخص يحاول قتل مطلقته، وحينما تنجو من هذا يختطفها؟؟ .. وأنتِ على علم أن السيد مراد اتهمه، والذي هو خطيبك وجه إليه هذه التهمة مباشرةً، إضافة لوجود أدلة مادية وشهود عيان..

طرح عليها السؤال الضباط الآخر وقد تراءى الاستغراب عليه، لتقاطع حدته مستحضره الجمود على محياها:

- ثمة شيء أحب أن أوضحه أولًا، لقد تم فسخ خطبتي من مراد عقب عودتي .. ثانيًا هناك سوء فَهم، لم اتعرض بالأساس لواقعة اختطاف فلا يوجد أي عداء بيني وبين أدهم..

امتعض الضابط من انكارها المستمر وكأنها تستهزأ بهما كما فعل المدعو أدهم الشاذلي من قبل، وكأنهما قد رتبا الأمر معًا، ليتحدث معها بلهجة جافة تحمل في طياتها التهديد:

- سيدة فريدة، يبدو أن ليس لديكِ علم عن حجم القضايا المنوطة بكِ، والتي آخرها محاولة إرداؤك أمس عقب اطلاق سراح السيد أدهم .. فلابد أن تأخذي في الحُسبان أن أي محاولة للتهوين من هذا، ستُعرضين نفسك لموضع اتهام بدلًا من كونك ضحية!!

رفعت فريدة حاجبها باستغراب من رد فعله غير المبرر لتحاول فهم ما يلوحون له:

- اتهام بماذا؟؟ .. حضرة الضابط لقد سألتني وأجبت وها انا أكرر مرة أخرى .. أدهم لم يختطفني ولم يحتجزني طوال الفترة السابقة، بالأساس أدهم يستحيل أن يُقدم على فعلٍ كهذا!! .. إنما ما فعله ليُبعدني عمَن أرادوا ذلك وللأسف تعطلت بنا مركبه الخاص وقد تعذر عليّ التواصل مع مراد لذلك أساء فهم ما حدث..

- مَن هم؟؟ .. لقد قُلتِ للتو أنه فعل هذا ليُبعدك عمَن أرادوا قتلك، إذًا هو يعرفهم؟؟ .. هل أخبرك شيئًا عن هذا؟؟

استبقها أحد الضباط السؤال بتلهف وكأن أوقعها بالقول، لتنزعج فريدة من بلاهته وتجيب دون أن تحمل نفسها عناء إخفاء انزعاجها:

- الأمر لا يحتاج لتخمين .. إنهم نفس الأشخاص الذين حاولوا قتلي بدل المرة أثنين، وتسببوا في فقداني الذاكرة..!!

- أنت تتحدثين وكأنكِ على علم بهويتهم؟؟

- وكأنها استعدتِ ذاكرتك؟؟

- هل هذا صحيح؟؟

حملقت فريدة بكلا الضابطين بلامبالاة في انتظار أن يفرغوا من تكهناتهم العبقرية، لا تصدق أنها مجبرة الآن على الخوض في كل هذا من جديد .. بدا لها الأمر وكأنه لن ينتهي أبدًا .. هزت رأسها بالإيجاب متعمدة أن تصدر تأوه واهن وتمسك بموضع إصابتها ليتبدى عليها الإجهاد ربما يساعدها هذا في التملص ولكنهم بدوا كالعلكة .. ليعلن أحدهم وعلى وجهه تعابير مَن سيستمع لقصة مسلية:

- إذًا ستخبريننا بكل شيء من البداية..

- أوه .. لا أظن أن لديكم الصلاحيات التي تمنحكم حق استجواب موكلتي في شأن قضايا تابعة لمكتب التحقيقات الفيدرالية بولاية كاليفورنيا .. التي هي بالمناسبة ولاية أمريكية تهتم كثيرًا بشئون مواطنيها، والتي موكلتي واحدة منهم!!

تركزت وجوه الجميع نحو الدخيل الذي أصبح يقف بينهم في الغرفة من اللامكان .. رجل بأواخر الثلاثينيات كان حليق الرأس، وجيه الطلة، وذو بنية عريضة، يرتدي قميص رسمي يرفع أكمامه دون سترة أو رابطة عنق، ويضع إحدى يديه داخل جيبه بخيلاء .. تحمحم قائلًا بسماجة وهو يستعرض نفسه أمام الضباط الذين لم يفيقوا من الصدمة بعد:

- أعتذر عن المقاطعة!!

ثم وجه حديثه لفريدة المصدومة كالجميع من وجوده المباغت متابعًا بجدية شديدة:

- هل فاتني شيء؟؟ .. اللعنة على المرور!!

ما إن تمتم بهذا حتى أفاقوا من صدمتهم وتغضنت وجههم لينتفضوا وكأنهم رأوا شبحًا لدى إدراكهم لما قاله، وأن أيًا كان الشخص الذي أمامهم فهو بشكلٍ أو بآخر يمثل كابوس لضابطين في أوائل مسيرتهم المهنية، ويستطيع بمحض إشارة أن يضعهم في مشكلة قيادية تُعيق حركة ترقيتهم .. وقبل أن يتفوه أحدهم بكلمة اعتدار أو انسحاب، عاجلهم بذات الابتسامة السمجة:

- حسبما أعتقد أن إجراءات كتلك ستحتاج منكم بعضٍ من الوقت والجهد .. تعرفون، خطابات مُوجه وما إلى ذلك؛ مما يعني أن التحقيق قد انتهى الآن، أليس كذلك؟!

في مثل هذه الحالات، تكن كلمة (احراج) أقل وصف يُقل!! .. تبًا، للحظة نسيت فريدة ألم كتفها وهي تكاد تشاهد الأبخرة متصاعدة من وجوه الضباط، بينما يكزون أسنانهم بغيظ دون كلمة وما إن حاول أحدهم رد ماء وجهه .. اخرج الرجل بطاقته الشخصية من جيبه ووضعها بوجه الآخر مستطرد ببرود:

- هذه بطاقتي الشخصية .. يسعدني أن نحضر التحقيق معًا .. لحظة واحدة..

قالها وارجع البطاقة قبل أن يأخذها الضابط ثم رمقهم بنظرة تقييمية شاملة وابتسم ابتسامة صفراء:

- على ما يبدو أنكما لستما من النيابة، أليس كذلك؟؟ .. عذرًا، أحيانًا يختلط عليّ الأمر بين هنا والخارج، أعتقد أن مهمتكما أخذ أقوالها لا أكثر؟؟ .. لمّ لم تقولا هكذا من البداية؟؟ .. ماتيو، أوصل السادة من فضلك للمصعد، لقد انهيا مهمتهما .. شرفتمونا!!

لم ينتظروا أن يرافقهم ماتيو ليغادروا على الفور، وقفت فريدة وقد أحست بالخطر من الشخصية التي أمامها، وقبل أن تنبث بكلمة، كان يخاطب ماتيو متجاهلًا إياها تمامًا:

- لا تدعها هنا للحظة، الوضع ليس آمنًا .. وللحقيقة، أنا في غنى عن الدفاع في قضايا أخرى!!

هكذا فقط .. وكما حضر فجأة، ذهب فجأة، لتردف فريدة متظاهرة بالرزانة:

- مَن ذلك المهرج!!

قالتها وهي تضغط على كل حرف بها، وما إن أتمت الجملة حتى فُتح الباب مجددًا ليطل منه ذات الرجل ويصحح لها لقبه باعتزاز:

- 'الحـاوي' .. وليس 'المهرج'!!

ثم أتبعه بمزيد من الثرثرة وكأنه لم يشبع بعد من الكلام:

- يمكنك مناداتي بـ 'يوسف ارنست' .. أو 'ارنست' مباشرةً .. أنا شخصيًا أفضل 'چو' .. سعدت بلقائك دكتور 'فريدة'!!

فور انغلاق الباب من جديد أغمضت فريدة عينها لاحتواء غضبها الذي يتصاعد لمجرد فكرة أن هذا الشخص قد وكلّ نفسه للدفاع عنها دون حتى أن تعرف هويته، واطلق كلماته كمدفع رصاص ولم يعطي لأي شخص فرصة واحدة في قول كلمة .. لتخرج بالنهاية عن طور هدؤها منفعلة في ماتيو:

- هل مِن تفسير؟؟

أومأ لها ماتيو بينما يفتح الباب ليجيبها بينما ينجو بنفسه هو الآخر، فآخر ما يريده هو الاشتباك مع امرأة رئيسه:

- سأخبرك، ولكن لنتحرك من هنا أولًا؛ كما سمعتِ الوضع ليس آمنًا .. سأنهي اجراءات الخروج ريثما تنتهي!!

- انتظر..

اتبعت فريدة حينما عاد لها وهي تبتلع ريقها:

- هل أدهم من أمرك بهذا؟؟ .. أعني هل أا..

- كلا، لم يفق بعد..!!

أضاف ماتيو حينما رأى الحزن يُغشي عينها مع مزيج من التساؤلات التي تخشى أن تطرحها:

- لكنك طالما كنتِ على قائمة مسؤولياتي دون شك!!

”بالطبع هو كذلك .. طالما كان!!“

همهمت فريدة لنفسها بينما تحدق طويلًا في الباب وقد انطفأت بعينها كل المشاعر بعد أن أعادت جملته الأخيرة لها الذكريات .. ذكريات الأيام الحالكة التي كان يطبق فيها بحرسه على أنفاسها حتى في غيابه .. وتحديدًا ماتيو، طالما كان شاهدًا على كل لحظاتها السوداء مع أدهم .. الوغد كان يثق به أكثر منها، لا تنسى أن حتى رقمه الخاص كان يحمله ماتيو، وهي لا!! .. هو مَن منعها عن الدفاع عن مراد ليلة اعتداء أدهم عليه، وهو مَن قبض على انطوان، وصاحب أدهم في قتل لوكاس .. ظِلّه الذي ينوب عنه في غيابه، ويستعين به في أعماله القذرة .. كرهت هذا، كرهت ماتيو نفسه فقط لأنه ظِلّ أدهم .. كلب سيده وتابعه .. ماتيو رمز الشيطان ومُمثله، مجرد رؤيته كافية لتثير بها ماذا يثيره سيده!! .. حتى ولو كان غير موجود .. حتى ولم يفق بعد!!

والآن، ماذا؟!

هل عُدنا لسابق عهدنا؟؟ .. يتأمر عليها باسم سيده ويراقب أنفاسها في غيابه ليُحصيها له بالحرف ريثما يعود؟؟ .. تبًا لحظها، حينما فكرت أنها تحتاج لأحدهم أن يكون بجوارها، بالتأكيد كان هو آخر شخص قد تتمناه!!


❈-❈-❈



- كيف حاله الآن؟؟

سأل مصطفى الطبيب بوجه متجهم من القلق عن وضع أدهم ليجيبه الطبيب:

- لايزال تحت الخطر، سيبقى في العناية المركزة .. أحد فصوص الرئة اليمنى قد تضرر بشكلٍ كبير، وقد أدت الرصاصة إلى تجمع الدماء المُسممة لفترة كافية لإتلاف الحويصلات الهوائية هناك .. نتمنى أن يستجيب للعلاج وإلا سنحتاج للبدء في البحث عن متبرع بالرئة!!

لم تستطيع أن تسمع ريم أكثر من هذا، لتجري مبتعدة عن أصوات والدتها التي تنادي أسمها ووالدها الذي انهار بينما يسأل الطبيب بأن يأخذ رئتيه هو لأنه سيكون بالتأكيد مُطابق لأدهم!! .. أدهم الذي للتو رأته موصول بالعديد من الأجهزة في محاولة أخيرة لجعله يتنفس!!

توقفت وأجهشت بالبكاء كطفلة حينما صارت خارج المشفى وكل ما يلاحق خيالها أنها قبل دقائق من سماع خبر اقتناصه كانت تتحامل عليه بكل مشاعرها السخيفة، وتلقي عليه اللوم بأنانية طفولية!! .. لا تصدق أنها أرادت هجر أخيها الوحيد والسفر في الوقت الذي كان يواجه فيه هو الموت .. كم شعرت بضآلتها وغباءها تلك اللحظة وتمنت الموت بدلًا عنه!! .. فكرة أن أدهم قد يموت ولا يكون بحياتها، كانت قاتلة!!

حضرتها شهقات بكاء عنيفة وشعور مميت بالذنب كانت تختبره للمرة الأولى وما أمكنها تحمله ولو بمقدار ذرة .. لتخرج هاتفها بيدٍ مرتجفة وتهاتف أحدهم:

- تعال على الموقع الذي سأرسله لك، ومعك طلبي المُعتاد..

- جرام واحد؟؟

- كلا .. أريد اثنان!!



❈-❈-❈



تأففت فريدة من حياتها مجددًا وإلى الأبد، بينما تدلف من المستشفى لتجد ماتيو يفتح لها باب السيارة بشيء من التقييد والإلزامية الخانقة .. دار في عقلها مئة طريقة وطريقة لإهانته والدعس فوق كرامته وكرامة سيده، لكنها بالنهاية ارتأت أنها في غنى عن مجهودٍ كهذا الآن، خاصة بعد ما عانته .. ربما في وقتٍ لاحق!!

- هل لي أن أعلم أين سنذهب؟؟

سألت ليرمقها في المرآة بينما يجلس في الأمام كعادته بجوار السائق ويتواصل مع السيارات المهيبة التي تغطيهم من الأمام والخلف كموكب سياسي ليُحدد المسار الذي سيسلكونه .. ثم قال وكأنه يتصدق عليها بالإجابة:

- بما أن إصابتك لاتزال تحتاج لرعاية وسيد أدهم لم يفق بعد، فمن الأفضل أن تكوني بالمشفى التابعة للعائلة، وللأمان أيضًا!!

- ما مدى سوء وضعه؟؟

سألته فريدة وهي تدعي عدم الاهتمام، ليجيبها بعد برهة بيقين:

- لا تقلقي، سينجو منها..

- ليس لدي شكٍ في هذا .. وإلا مَن سيُخرج روحي غيره!!

تمتمت ساخرة بعدائية وهي تشيح بوجهها للنافذة، ولا تعرف تحديدًا ماذا دهاها لقول هذا؟؟ .. كل ما تعرفه أنها كانت تحاول وأد ذلك الشيء الذي ارتجف داخلها لمجرد تخيلها عكس هذا!!

تحديدًا ذات الشيء الذي انقبض داخلها بعنفوان بينما تقف بالمشفى خلف الزجاج، وتُطالع جسد أدهم الممد على الفراش بلا قوى، وثمة أنابيب تشق صدره لتوصله بالحياة، لا يُعرض أمامها سوى صورة واحدة .. أسمها المحفور بجلده!!

حرقًا كبير، تكاد تراه من موضعها، منذ إفاقتها اليوم، وحتى وصولها إلى هنا، ظنت أنها قد توهمت ما رأته قبل سقوطها، مواساة بائسة من عقلها، ليس إلا!! .. خالت أن تلقيه الرصاصة بدلًا عنها ما هي إلا إحدى ألاعيبه عليها من جديد، وكم حطم آمالها حقيقة أن الرصاصة كانت مسمُومة بِـسُمٍ مميت كـ(السيانيد)!!

 تعرفه، مثله لا يلهو بحياته مطلقًا، فقط حياة الآخرين هي لُعبته!!

غريبًا ذلك الشعور الذى حضرها تلك اللحظة، انتابها غضب شديد واستياء من رؤيته على هذا الضعف، شيئًا داخلها يرفض هذا وينُكره .. لا تعرف، كرهت هذا وأرادته بكامل قوته وجسارته، تمنت صورته المهيبة التي تحتفظ بها في عقلها، جبروته الذي لا يُهزم وحقارته المتغلغلة في دماءه، أرادته بكل مساوئه التي تعرفها .. ربما انكرت كل هذا، وبما فيه لحظة تذللـه لها؛ لأنها لم تتصور أبدًا أن ضعفه سيُضعفها .. يشوش مشاعرها نحوه، يهز كراهيتها له، ويشككها بكونه ذات المتجبر الذي هشمها .. لم تشاء أن تراه هكذا أبدًا، لم تشاء أن تعترف بحقيقة افتدائه لها بروحه، لم تريد أن يقدم لها أي معروف ولو حتى نظرة تملئها العاطفة .. رغِبَتُه أن يعاملها كالسابق، أن يحاول أذيتها كما عهدته وليس ليحميها، أن يظل متمسكًا بخصاله الدميمة التي عرفتها ويتجلى لها من قشرته النبيلة .. يظهر على آخر صورة سجلتها له بذاكرتها داخل القلعة!! .. ولذلك لفترة طويلة أنكرت شعوره بالذنب تجاهها؛ فهذا لا يساعد في مداوتها، لا يساعد في تغذية كراهيتها له كي تُشفى منه .. وبالتأكيد ليس هذا ما تحتاجه لتأخذ بحقها وتنتقم لكل مَن سلبهم حياتهم دون حق!!

 الحقيقة هي، أنها باتت لا تتعرف على الجاني بقصتها!!

ولو كان هناك دافع أقوى لكُرّههِ الآن، فهذا الدافع سيكون المعاناة الجديدة التي أوجدها لها..!!


”تمامًا كالأيام الخوالي، أدهم..

تُبكيني وتأتي لتُهدهد مشاعري بحنو،

تُؤذيني ثم تغمرني بحضنك،

تصفعني وبعدها تربت علي خديّ بدفيء،

تدعس على رأسي بحذائك، وها أنت تُجرّب رفعي إلى عنان السماء مجددًا!!

ألم نكتفي بعد؟!“


- ماذا تفعلين لديكِ؟؟ .. ومَن سمح لكِ بالأساس بأن تدخلي هنا!!

التفتت فريدة ببطيء شديد وبصعوبة أبعدت عينها عن أدهم لتنظر لوالده الذي كان يقابلها بعداء شديد لم تفهمه مطلقًا، خاصة حينما تابع:

- لم أرى بحياتي متبجحة مثلك، تتسببين في قتله والآن تأتي لتتشمتي به!!

- أنت.. ماذا تقول؟!

سألته فريدة وهي تعقد حاجبيها باستغراب جلل .. لتجد صوت مصطفى يعلو بشدة:

- لا تتغابي عليّ، تعرفين أن تلك الرصاصة كانت تستهدفك وحدك!! .. أنتِ فآل شؤم عليه، منذ أن وضعتِ قدمك بحياته وحلَّ الموت .. فلترحلي الآن، وعن حياة ابني للأبد!!

همت فريدة لتجيبه ولكنها لمحت تجمع طفيف حولهما وشخص يقف مواري يرفع هاتف وعلى الأغلب يسجل ما يحدث، لتفهم ما يدور حولها .. زمت شفتيها وتصنعت ابتسامه سوداوية قبل أن تقترب من مصطفى وتهمس له:

- أتعرف؟؟ .. كنت لأصدقك لولا أني سمعت حديثك السابق مع أدهم على المركب .. كلانا يعلم أن أدهم في حاجة لوجودي بالأساس لأجل أن يعيش، فلا داعي لافتعال هذا الشجار من أجل الإعلام!!

انهت فريدة جملتها لتتركه وتعابير الصدمة تحتل وجهه وغادرت بلامبالاة دون أن تعيير المفرجين نظرة .. خاصة ماتيو الذي وقف يتابع المشهد من بعيد كغيره، لتندفع في طريقها للحمام وحينما أصبحت بداخله تلون وجهها بالعصبية المفرطة التي اصطنعت السيطرة عليها منذ قليل..

كزت على أسنانها دون فائدة، لا تصدق مدى تبجح الرجل ليفعل ما فعله، كلا هي تصدق ما فعله، فذلك ليس بغريب عن والد الشيطان نفسه، لكن كل ما هنالك أن أصبحت هشة لتحمل مثل تلك المناوشات، وحاليًا على وجهه، تمنت ولو دقائق من الهدوء تعبر حياتها، فقط تأخذ نفسها من الركض قليلًا!!

تأوهت بصوتٍ منخفض بينما تنتبه أخيرًا لألم كتفها الذي اشتد وعلى ما يبدو أن أحد جروحها قد تفتقت غرزها لتبدأ في النزيف من جديد من فرط انفعالها .. خلعت حاملة ذراعها وهي تصدر سَبّة نابية تلعن بها الحقير مصطفى، اللعين يريد قلب الأدوار الآن، واظهارها أمام العالم أنها مَن تركض وراء ابنه وتستهدفه كأي صائدة ثروة متسلقه .. لا يعرف أن وحيدهُ العزيز هو مَن جرّ الموت على حياتها جرًا، ولو كان يواجهه الآن فهي فاتورة أفعاله ليس أكثر، ليس لها دخل في هذا، وحتى لو كانت، فصدقًا هي لا تشعر بذرة ندم واحدة لأنه استحق كل ذرة مما يُعانيه الآن!!

فليُجَـرّب الموت كما جَـرّبهُ فيها، وفي الكثيرين غيرها!!

جذب انتباهها صوت استنشاق عنيف لأحدهم خلف أحد أبواب المراحيض خلفها، لتترقب عينها بالمرآة لجزء من الثانية حتى سمعت الصوت يتكرر مرة أخرى بطريقة مؤذية تتبعها شهقات قوية وكأن صاحبها يعاني من ضيق في التنفس، ليتصلب جسدها وتوقف عقلها تفكر عقلها تفكر هل تطرق الباب لتسأل إذا كانت مَن بالداخل تحتاج لمساعدةً ما؟، أم تهرع لطلب المساعدة؟؛ فالأصوات قد اختفت تمامًا بغتةً .. وفي خضم هذا فُتح الباب، لتتسلط عينها على الخارجة منها والتي لم تكن سوى ريم..!!

دهشت فريدة لوهلة وهي ترى ريم أمامها ولأول مرة منذ سنوات بعد أول لقاء لهما، وتحولت ملامحها للقلق عندما انتبهت لحدقتيها الساقطة وعدم اتزانها في مشيتها بينما ترمي بجسدها مستندها على رخام الصنبور تفتحه على آخره وتغسل وجهها بقوة متقصدة فرك أنفها العديد من المرات وتنظيف فجواتها بالماء!!

دون تردد اقتربت فريدة منها لتسألها بقلق:

- هل أنتِ على ما يرام؟؟ .. تحتاجين لمساعدة؟؟

بصعوبة رفعت ريم رأسها وما إن وقعت عينها على فريدة بالمرآة وتعرفت عليها حتى تبدلت تعابيرها المرهقة لأخرى ضاحكة، لتفرد جسدها وتقترب منها بابتسامة محتقرة ثم همست أمام وجهها:

- بلى بخير .. منذ أن دخلتي حياتنا وأنا أعيش أسعد حالاتي!!

ثم رحلت لتترك فريدة في ذهول جمّ وهي حقًا لا تفهم ما مشكلة هذه العائلة اللعينة معها!!



يتبع