-->

الفصل الأول : الفصل الخامس - عتمة الزينة - الجزء الثاني من ثلاثية دجى الليل





الفصل الأول


مارس 2018..


"لا مش عايز اصحى دلوقتي" همس بنعاس ثم احتضنها بكل ما أوتي من قوة لتبتسم هي على طفولته التي لن يتوقف عنها أبداً

"لأ هاتصحى.. يالا كده صباح الخير وصباح النور ويالا فوق على ما أحضرلكوا الفطار" 

"طب بذمتك صباح النور ايه وانا في حضني النور كله؟!" سألها بنبرة ناعسة لتتوسع ابتسامتها 

"طب هقولك.. تعالى نصحيهم ونفطرهم اللي يروح شغله واللي تروح جامعتها وننام تاني بعدها"

"يوووه بقا يا نوري.. مبقاش فيه حب ودلع خلاص، كله بقا لسليم وسيدرا وأنا بقيت كخه"

"لا فيه دلع وحب وكله كله بس بردو لازم نصحي الحلوين دول وبعد كده عندنا اليوم كله نعمل اللي عايزينه براحتنا"

"افهم من كده إن فيه قلة أدب النهاردة؟" همس بنبرة رخيمة بأذنها ليقبل عنقها لتهز نورسين رأسها في إنكار

"مبتكبرش على قلة الأدب أنت؟! ما تبطل بقا يا ملك الكون!" صاحت بإبتسامة 

"لا أنا لسه شباب.. الدور والباقي عليكي.. عجزتي يا نوري ولا ايه؟!" 

"مين دي اللي عجزت.. ده أنا اللي زيي بيعملوا افراحهم اليومين دول!" اجابته بإنزعاج 

"طب ما تيجي نعمل فرح وشهر عسل!" 

"يوووه بقا با بدر.. وسع كده أما أقوم" نجحت في الإفلات منه لتنهض ثم نظرت له "قوم يا عم الشباب خدلك شاور على ما اصحيهم وحصلني على تحت عشان تساعدني"

"ما يعملوا هما فطارهم.. يهون عليكي تسيبيني؟!" اخبرها متصنعاً الحزن لتزفر هي في حنق ثم توجهت لتغادره 

"متتأخرش يا بدر الدين" صاحت وهي تمسك بمقبض الباب وتتوجه خارجاً لينهض هو وهو يحاول ازاحة النوم عن وجهه ليتمتم

"أنا قولت ماخلفش احسن محدش سمع كلامي" 

 

❈-❈-❈

اقترب منها ليحاوط خصرها بكلتا يداه ثم دفن وجهه بعنقها لتبتسم هي على أفعاله التي لن تتغير أبداً ثم التفتت له وتوسعت ابتسامتها لتخبره بنبرة جادة 

"يعني لو حد شافنا دلوقتي يقول علينا ايه؟ مراهقين؟!"

"محدش ليه دعوة بينا.. اتنين متجوزين وبيحبوا بعض.." تبادلا النظرات لبرهة ثم قبلها بدر الدين على جبهتها 

"طب اتفضل روح رص الأطباق دي وبنتك أنا مش عارفة اصحيها وعندها جامعة.. روح اتصرف معاها"

"ماليش دعوة بيها.. خللي سليم بقا يروح يتصرف معاها" هز كتفاه ثم حاول أن يقبلها ولكنها نجحت بالإفلات منه 

"بدر بطل بقا هزار.. مش وقته بجد" صاحت في تآفف وأكملت إحضار الفطور 

"ماشي.. كلها ساعة والبيت هيفضى علينا وهتتفرتك يا جميل" هزت رأسها في إنكار لحديثه ثم أكملت ما تصنعه بينما توجه بدر الدين للأعلى حيث غرفة سيدرا ابنته.

"سيدرا.. روح بابي.. مش هانصحى بقا؟" ناداها بينما جلس بجانبها على سريرها لتلتفت للجانب الآخر من السرير بينما همهمت في امتعاض بنبرة ناعسة 

"يالا يا سيدرا يا حبيبتي.. اصحي عشان تروحي الجامعة، هتتأخري كده على فكرة" ناداها مرة أخرى لتتمتم بنعاس

"معلش يا بابي سيبني شوية"

"سيدو حبيبتي مش عايزة تصحى ليه بقا؟" صاح سليم الذي دلف الغرفة بينما نظر له بدر الدين وكأنه وجد نجدته

"أيوة.. شيل بقا يا عم.. اتصرف أنا ماليش في الحوارات دي" أخبره بدر الدين ثم توجه خارجاً 

"سيدو، هاتصحي ولا مش هاتصحي؟!" وقف سليم الذي وضع كلتا يداه بخصره وهو ينظر لها بعد أن أضاء أنوار الغرفة وازاح الستائر

"امشي بقا يا سليم وسيبني أنام!" صدح رنين هاتفها ولكنها لم تكترث ليقترب سليم ويتفقده 

"ايه ده.. ده أدهم بيكلمك" تحدث في خبث لتفر هي ناهضة وموجات شعرها البني المبعثرة دفعته للضحك على مظهرها "ايه يا أدهم صباح الفل" تحدث سليم له بعد أن أجاب هاتفها وتوجه وكأنه سيغادر غرفتها لتلحق هي به وتناست ذلك النوم الذي ارادته بشدة منذ دقيقة واحدة 

"هات الموبيل يا سليم وبطل سخافة" صاحت سيدرا التي تحاول أن تحصل على هاتفها من على أذنه بينما لم تستطع الحصول عليه لفرق الطول بينهما "يا رخم بقا هات" أخبرته بإمتعاض مرة أخرى 

"طب ثانية يا أدهم" كتم الصوت بينما نظر لأخته "ايه؟ هتموتي كده وتكلميه؟ ما أنتو في الجامعة كل يوم ما بعض!" تفقدها بنظرة جدية وهو يخفي ضحكته بتلك الملامح الصارمة التي رسمها على وجهه بينما ارتبكت هي "ايه المهم اوي اللي يخليكي هتموتي وتكلميه؟!" 

"ايه؟!" حمحمت ثم ازداد توترها "ده.. ده.. أنا وهو وأسما كنا هنروح النهاردة نـ.. نعمل shopping وبعدين طنط شاهي قالتلي اجي اتغدى عندهم، فكنا عايزين نتفق يعني.." اجابته وهي تدعو بداخلها ألا يرتاب بشيء

"ممم.. طنط شاهي!! طب ابقي سلميلي عليها.. ويالا بسرعة علشان تلحقي تروحي كليتك.. سلام" ودعها ثم قبل جبينها وأعطى لها هاتفها بينما توجه خارج الغرفة ليضحك متمتماً 

"عيال هبلة وربنا!" 

 

❈-❈-❈

 

 



"صباح الخير يا نوري.. صباح الخير يا بدر" صاح سليم بنبرته التي خرجت من فمه الممتلئ وهو على عجلة من آمره

"مش قولنا هنبطل نوري دي وأنا بس اللي أقولها" تمتم بدر الدين منزعجاً

"ما تسيبه يا بدر براحته بقا.. صباح الخير يا عيون نوري.. مش هتفطر ولا ايه؟ على الواقف النهاردة؟!" ابتسمت له بطيبتها المعهودة

"يادوبك الحق لحسن عندي Meeting مهم اوي"

"ايه!! ولاد الدمنهوري مش كده؟!" أومأ له سليم "طيب خد بالك كويس ولو عايزني في اي وقت كلمني" 

"خير متقلقش.. همّ جايين يتكلموا في شغل.. أهلاً وسهلاً يعني، أكتر من كده ملهومش حاجة عندنا" تعجبت نورسين بداخلها من تلك الكلمات ولكنها ستعرف لاحقاً من بدر الدين لذا أسرت الكلمات بداخلها ولم ترد أن تبدأ بالحديث الآن 

"سيدرا محدش فيكو عرف يصحيها؟!" تسائلت نورسين 

"لا زمانها نازلة اهى، بتجهز وهتنزل على طول" اجابها سليم الذي شرع في المغادرة "يالا سلام، أنا احتمال اتغدى مع إياد متستنونيش، وسيدرا عند طنط شاهي" صاح وهو يتجه للخارج 

"شوفتي.. البيت كله هيكون لينا النهاردة" غمز لها بدر الدين هامساً بينما هي نظرت له بتحفز 

"مين ولاد الدمنهوري؟ وفيه ايه اللي بيحصل؟ حسيت شكلك قلقان" تفقدته بزرقاوتيها في جدية 

"ابن أخو كريم الحيوان اللي كان متجوز هديل! وأخوه كرم الدمنهوري" تحولت ملامحه للجدية هو الآخر لتزفر نورسين في ضيق

"ودول عايزين مننا ايه؟!" 

"معرفش.. بيقولوا عندهم كذا compound وعايزين يمضوا عقد معانا، بس أنا مش مطمن.. حاسس إن الموضوع ده وراه حاجة" تحدث بجدية بينما توقف عن تناول الطعام 

"حاجة زي ايه يعني؟ ممكن مثلاً يكون كريم جي معاهم؟" سألته بتلقائية شديدة لجهلها بما حلّ بكريم 

"استحالة يجي معاهم" اجابها بإقتضاب ثم شرد بسوداوتيه بكل ما فعله بكريم من قبل 

"اشمعنى يعني بتقول كده؟!" ضيقت ما بين حاجبيها ونظرت له في تساؤل

"علشان أنا هددته وماسك عليه حاجات كتير، استحالة يفكر يواجهني أبداً" تبدلت نبرته لتُصبح أكثر قتامة بينما ودّ أن ينهي ذلك الحديث معها "ما تندهي سيدرا علشان تلحق تفطر!" 

"ماشي يا بدر!! بتحور عليا! والله لأعرف" صرخت بداخلها بينما ابتسمت له "حاضر يا حبيبي" توجهت لتستدعي سيدرا وبداخلها صممت على أن تعرف كل ما يُفكر به بدر الدين!

 

❈-❈-❈

"أنا مش فاهم أنت ليه مصمم متجيش؟ مش بعد ما تكون أنت صاحب الفكرة تجبرني إني اروح.. أنا أصلاً مش فارق معايا عمي ده اللي طول حياتنا منعرفش عنه حاجة!" تحدث شهاب بعنجهيته الدائمة التي لم تفارقه أبداً وعبست ملامحه الحادة في ضيق مبالغ به

"يا ابني أنا خلاص كبرت، أنا بس كل اللي عايز أعرفه أخويا راح فين السنين دي كلها" تحدث كرم الدمنهوري بنبرة تحمل القلق

"يعني أنت مستنيني بعد العمر ده كله إن أنا اجي وادور عليه؟ ما يولع بجاز واحنا مالنا؟ وبعدين ندخل مع ولاد الخولي دول في شغل وحوارات وهباب، ايه لازمة كل ده أنا مش فاهم!"

"معلش يا ابني عشان خاطري اسمع الكلام ومتقاوحش معايا، أنا عمري ما طلبت منك حاجة أبداً يا شهاب، وبعدين مراته أنا حاولت اتفاهم معاها أكتر من مرة بس شكلها كده مش سهل، حاول مع ولاد عمك يمكن تعرف منهم" تآفف شهاب ثم تفحص والده بعينتاه البنيتان التي شابهتا عينا الصقر

"ماشي.. طيب.. بس أول ما اعرف راح فين أنا مش هاشتغل مع الناس دي وهافسخ العقود، ده لو وصلنا يعني لمرحلة العقود معاهم" امتعضت ملامحة وبثق الحروف من أطراف شفتاه وكأنما يتحدث عن شيء مقزز ثم شرد في الفراغ.

"ليه يا ابني دول ناس كويسة وليهم سمعتهم ومعروفين من زمان، أنا صحيح مش هدفي الأول الشغل بس بردو الناس دي معروفة من زمان"

"مش أنت عايزني أنا اشيل الليلة، سيبني اتصرف بقا" اجابه بإقتضاب دون إبداء أسباب حقيقية ثم توجه للخارج في منتهى الحنق ثم غادر الشركة وشرع في قيادة سيارته وهو يتحدث بالهاتف.

"أنت فين؟" تحدث شهاب سائلاً بهاتفه لصديقه وليد

"كالعادة يعني في النادي بفطر"

"طيب معاك حد؟"

"البت اللزجة اللي اسمها ميرال دي نازلة على دماغي هري عنك.. شهاب فين، طب ما تكلمه، تعالى حوشها عن دماغي"

"ماشي.. انا ربعاية وهبقى عندك" أنهى المكالمة وبداخله يشعر بالحقد الشديد وهو يحاول تهدئة نفسه بأي طريقة قبل ذلك الإجتماع المزعوم!

ظل يقود سيارته إلي ذلك المجمع الرياضي الذي لا ينتسب إليه سوى صفوة المجتمع، لا يستطيع الهدوء بتاتاً، هناك شيئاً بداخله لا يستطيع قبول أنه سيواجه تلك العائلة بأكملها، سمعتهم معروفة منذ زمن، مستواهم يعرفه الجميع حتى هو، هو من يحاول بشتى الطرق أن يبتعد عن مثل هؤلاء الأشخاص بحياته دائماً بينما حكم عليه والده أن يواجههم بمثل هذه الطريقة بل ووحده تماماً حتى دون وجوده!

صف سيارته وهو يتنهد موصداً عيناه ليُذكر نفسه أنه مثلهم الآن وليس هناك ما يستدعي ذلك الشيء الذي لطالما حاربه لسنوات، هو رجل الأعمال الناجح الذي يمتلك الكثير وليس هناك ما قد يعكر صفو حياته الحالية، لا تلك العائلة ولا غيرها..

توجه للداخل وآخذ يبحث بعيناه عن وليد وتلك الفتاة ميرال فهو لم يخطر على باله من قبل أي علاقة بينه وبينها ولكنها تبدو اليوم أنها آتت له في مزاج مناسب للغاية حتى يسمح لها بالإقتراب منه!

جلس على الكرسي أمام كل من وليد وميرال وصمم بداخله أن اليوم لن يمر دون أن يخرج كل ما بداخله من كبت شديد على تلك الفتاة، هي تريده إذن بنظراتها التي تنهال منها لوعتها لرؤيته ويبدو الإشتياق قد بلغ منها منتهاه، تسأل عنه وتنتظره كل صباح هنا، حسناً.. هو لها اليوم!

"شهاب.. عامل ايه؟ كده بردو متجيش الأيام دي كلها؟" صاحت بنبرة مزقها الشوق وتفحصته بنظراتها المتلهفة

"كنت مشغول" اجابها دون أن ينظر إليها وتصنع الإنشغال بينما بدأ يجوب ببنيتاه المكان بحثاً عن النادل "لو سمحت" صاح برسمية شديدة ليأتي له النادل مهرولاً وبدأ بالإبتسام بداخله على تلك الخُطة التي سيشرع بتنفيذها "عايز فطار.. اومليت بالزيتون وجريب فروت، او ممكن mashed potatoes with cheese، أو بص هاتلي Pan a la Catalana و orange Juice وPlain omelette وبعدهم قهوة سادة" أخبره بكل ذلك بسرعة شديدة وهو قد تأكد أن النادل لم يستطع تدوين كل ما تفوه به ثم أخبره مجدداً بهدوء "شكراً.. تقدر تروح أنت"

أمسك بهاتفه وتظاهر بالإنشغال الشديد بينما تعجب وليد لطريقته تلك، فهو ليس ذلك الشخص الذي يطلب تناول تلك الأشياء ولطالما عرف شهاب ما يريده جيداً وليس من عادته التردد أما ميرال فظلت تنظر له تلك النظرات التي لا تعبر سوى عن الوله الشديد تجاهه بينما تظاهر هو بعدم الإكتراث ثم نهض وتظاهر بأنه انشغل بمكالمة هامة ووليد لا يريد أن يتحدث له إلا عند الإنفراد به تماماً.

لاحظ أن النادل قد أحضر فطوره فأنهى المكالمة وجلس مجدداً بينما نظر ملياً إلي ما يضعه النادل ليعقد حاجباه ولكن دون إنفعال مبالغ به ثم أخبره "بس مش ده اللي أنا طلبته"

"حضرتك.. أنا آسف.. لو حابب نعيد الـ Order مفيش مشكلة يا فندم"

"أنت ايه الطريقة اللي بتتكلم بيها دي؟ واحنا هنستناك عشان نعيد الـ Order.. امشي روح اندهلي الـ manager" صرخت به ميرال 

"بس يا فندم أنـ.."

"وكمان ليك عين ترد عليا وأنت حتة جرسون لا روحت ولا جيت؟ أنت متعرفش أنا بنت مين ولا اتعميت عشـ.."

"ميرال!" صاح بمنتهى الهدوء المبالغ به ليقاطع مقاطعتها للنادل "خلاص الموضوع خلص!" تحدث بهدوء مجدداً لتتطرق رأسها لأحد الجوانب وتوسعت عيناها في غير تصديق لما يخبرها به 

"لأ ازاي كده هو مش عارف إنـ..." لم يتحدث ولكنه أوقفها بتلك النظرة الحادة الصارمة التي لا تقبل النقاش بينما نظر للنادل الذي شعر بأنه يتمالك غضبه بعد تلك الإهانة اللاذعة التي تلقاها من ميرال

"خلاص روح حصل خير" أخبره ثم بدأ في تناول طعامه وهو بداخله قد لامس تلك النقطة التي كان يريد أن يصل إليها منذ أن آتى ويعلم جيداً أنها ستبدأ الآن بما سيوقعها فيما لا تتوقعه أبداً

"ازاي كده يا شهاب تسيبه وتقوله حصل خير و.."

"قولت.. حصل.. خير" نظر لها نظرة جانبية تعجبت لها كثيراً ولوهلة ظنت بداخلها أنه لو كاد أن يقتلها لما رمقها بتلك الطريقة البشعة وما استفزها أكثر هو نطقه لجملته بمنتهى الهدوء والزجر لها بل وتريثه بين كل كلمة والتي تليها جعلها تتعجب لأسلوبه هذا!

"طيب، أنا لازم اقوم دلوقتي عشان عندي معاد" نظر له وليد نظرة فهم شهاب جيداً ما خلفها ليومأ له "سلام يا ميرال" ابتسمت له بإقتضاب ثم أعادت نظرها لشهاب وفجأة أمسكت بيده 

"وحشتني اوي، ليه مفكرتش تكلمني ولو لمرة واحدة بس الأيام اللي فاتت دي؟" نظرت له بأعين متوسلة للقليل من المشاعر علها تظهر عليه

"قولت كنت مشغول" اجابها ببرود وهو يُكمل طعامه 

"طب مهنش عليك مرة بس تسأل عليا؟ وبعدين مالك كده زي ما تكون زعلان مني او متضايق؟" حدثته بدلال بينما تشجعت لتقترب منه بينما رمقها بإنزعاج 

"بقولك ايه، أنا ورايا اجتماع مهم اوي، وهامشي دلوقتي عشان مش فاضي.. تعاليلي بليل، هبعتلك العنوان" جذب يده بعيداً عن يدها ثم جفف فمه بأحدى المحارم على المائدة ثم وضعها ونهض لتتهلل هي ملامحها 

"يعني هنسهر النهاردة سوا؟" ابتسمت بينما رفعت رأسها لتنظر له وهو يجمع أشياءه بعد أن نهض 

"آه.. سلام" اجابها ببرود ثم دلف المطعم وهو يبحث بعيناه عن ذلك النادل الذي آخذ طلبه منذ قليل وتوجه نحوه ليرى التوتر بدأ أن يرتسم على ملامح الرجل "ياريت متضايقش من اللي حصل، والأكل كان تمام على فكرة وطعمه حلو" أخرج من جيبه حفنة أوراق مالية قد تعادل قرب راتبه الشهري "حصل خير" ابتسم له بإقتضاب ثم توجه مغادراً لحضور الإجتماع بشركات الخولي!

 

❈-❈-❈

"صحصحوله كويس أوي، واحد زي ده ميتأمنلوش!! فاهمين ولا لأ؟!" أومأ عاصم وكذلك أروى بينما أنضم لهما كلاً من سيف وإياد 

"يصحصحوا لمين يا ماما، النكد على ايه النهاردة؟!" تسائل اياد بينما منع سيف نفسه من الضحك ونظر له بلوم 

"صباح الخير يا ولاد.. صباح الخير يا حبيبتي" قبّل هديل على جبهتها بينما جلس مكانه وذلك فعل إياد ثم هبط كلاً من شاهندة وابنتها أسما ليتبادل الجميع الصباح بينما حاول إياد بصعوبة ألا يشرد بأسما فهو يُدرك جيداً إن فعلها سيلاحظه الجميع وخاصةً والدته وأخته أروى وهو لا يريد أن يعلم أحد الآن عن مشاعره تجاهها. 

"ايه شغل بدري النهاردة ولا ايه؟!" صاحت شاهندة التي جلست لتتناول الطعام وبجانبها ابنتها التي انشغلت بتفقد شيئاً ما على هاتفها 

"آه يا طنط، عندنا إجتماع مع شهاب ووالده كرم الدمنهوري" اجابها إياد الذي أراد أي موضوع يجذب أنتباهه عن أسما بينما عقدت شاهندة حاجبيها عندما علمت جيداً من يتحدث عنه ابن اختها ثم نظرت لهديل التي تنهدت لها ورفعت كتفيها ثم اخفضتهما وكأنها لا تعلم ماهية الأمر

"مين أصلاً وافق إنهم يشتغلوا معانا؟!" نظرت لكلاً من هديل وسيف 

"سليم يا طنط هو اللي قرر يعني.." اجابت أروى بضيق "كالعادة.." أضافت كلمتها الأخيرة بحنق اتضح على ملامحها بينما هز إياد رأسه في إنكار لتصرف أخته الغير لائق

"ما هو يعني مش هيعاديه من الباب للطاق.. أكيد سليم شايف إن دي حاجة كويسة" 

"ليه يعني ما أنا مكنتش موافق! ليه بردو مصمم على موضوع عمنا ده، مالوش اي لازمة أصلاً" صاح عاصم في إنزعاج غلف ملامحه "ولا يعني مش شايف إني مدير تنفيذي وليا كلمتي"

"وسليم هو اللي في مكان رئيس الشركة و.."

"خلاص يا ولاد اهدوا حصل خير" صاحت شاهندة لتقاطع عراكهما لينظر كلاً منهما للآخر بحقد بينما نهض عاصم في عصبية 

"أروى هتيجي معايا ولا هتروحي مع إياد؟!"

"لا جاية معاك اهو.. باي يا جماعة" غادرا سوياً وهما يتمتمان بشيء بينما أوقفهما سيف والدهما ونهض خلفهما 

"خدوا بالكوا من بعض يا ولاد، وميصحش يا عاصم اللي أنت بتعمله ده.. أنت يا حبيبي أسلوبك وعصبيتك دي حتى لو معاك الحق بتضيعوا، وأنتي يا أروى يا حبيبتي هدي أخوكي شوية ومينفعش تردوا على أخوكوا الكبير كده"

"يعني يا بابا السنة دي  هي اللي هتفرق؟" صاح عاصم في غضب 

"معلش يا حبيبي مينفعش كنت تكلمه كده قدام خالتك وبنتها بردو.. وأنتي يا اروى يا بنتي بطلي ترمي كلام من تحت لتحت أسلوبك ده غلط يا حبيبتي، أنا بجد نفسي أشوفكوا في احسن حال، بلاش الأسلوب ده أرجوكم.." أقترب ليعانق أروى التي تنهدت في ضيق بالرغم من أنها تعشق والدها ولكنها لا تقبل تحكم سليم الزائد عن الحد في كل شيء. 

عانق عاصم كذلك بعد أن فرغ من أروى ثم همس بأذنه "حاول تكبر يا عاصم في أسلوبك وتفكيرك يا حبيبي وبص لقدام وبطل تبص تحت رجليك" 

"يالا روحوا على الشركة وأنا هاجي وراكوا، هاسلم بس على مامتكوا وهاحصلكوا على طول" ابتسم لكليهما بعذوبة ليبادله كلاً منهما الإبتسامة وأومأ كلاهما له ثم تركاه وغادرا للخارج.

أقترب من إياد ثم جلس بالقرب منه وبدأ بالهمس له لتتفحصهما هديل بعيناها وهي بداخلها تود أن تستمع لما يدور بينهما 

"معلش يا إياد على اللي بيعمله عاصم وأروى، أنت الكبير، عديها يا حبيبي" أخبره ثم وضع يده على كتفه في حنان أبوي

"خلاص يا بابا مفيش حاجة حصلت" هز رأسه بينما نظر لأسما التي نهضت في إنزعاج ثم ذهبت لتقف بجانب الدرج وصاحت 

"أدهم لو منزلتش حالاً أنا هاروح الجامعة من غيرك.. كفاية كده تأخير" 

"ركز معايا يا ابني" نظر سيف لأسما حيث انتبه إياد 

"أنا معاك اهو يا بابا فيه ايه بس؟" أعاد نظره لسيف ليبتسم له وسيف بداخله يعلم مسبقاً بإعجاب إياد بإبنة خالته أسما.

"ماشي ماشي.. هنقول إنك كنت معايا، بص عايزك تهدي الدنيا خالص لغاية ما الإجتماع ده يعدي على خير، وبعدين أنت كبير أخواتك، عايزك دايماً تساعدهم يقربوا من بعض وبلاش شغل الأحزاب ده.. اتفقنا؟!" 

"حاضر يا بابا، هو بس عاصم كل شوية يعترض على اللي بيعمله سليم و.."

"أنا فاهم" قاطعه والده بإبتسامة حنونة "بس بردو خليك أنت العاقل الكبير وحاول تفهمه إن سليم فاهم هو بيعمل ايه، خلاص؟!" 

"حاضر" أومأ له إياد في تفهم 

"يالا يا حبيبي عشان منتأخرش.. روح أنت وأنا جاي وراك، هقول بس لهديل حاجة وهحصلك على طول" 

"طيب.. يالا سلام"

"سلام يا حبيبي"

"خدني معاك يا إياد لحسن مش قادرة أسوق والسواق بتاعنا واخد اجازة" صاحت شاهندة عندما رآته ينهض من على المائدة ويستعد للمغادرة

"يا سلام.. ده أنا حظي من السما إن طنط شاهي هتنورني النهاردة في العربية" 

"يا واد يا بكاش.. يالا بينا.. قهوتي عليك النهاردة" أخبرته شاهندة ثم اقتربت منه لتشابك ذراعها بذراع إياد الذي قدمه لها وتوجها للخارج يتمازحان بينما هزت هديل رأسها في سخرية خلفهما ليتنهد سيف من أفعالها 

"ايه يا هدولة يا حبيبتي.. ما تهدي الدنيا كده يا جميل.. الولاد كبروا ومينفعش تسبيهم كده" أخبرها بعد أن توجه وأمسك بيدها

"يعني أنت عجباك عمايل إياد دي؟ ماشي في ضل سليم كده وناسي خالص إنه ليه حق زيه زيه.. يا سيف يا حبيبي ولادي ليهم حق زي سليم بالظبط" حدثته بنبرة منزعجة بينما نظرت لعيناه لتلين ملامح سيف بإبتسامة 

"إياد ولد كويس وذكي وهادي، إنما عاصم دايماً متسرع ومندفع، أنا بردو اللي هاعرفك يعني يا دودو؟! أكيد مش هيوافق سليم إلا لو كان القرار صح"

"لا يا سيف.. سليم بقا فاكر نفسه صاحب كل حاجة والآمر الناهي و.."

"ما انتي عارفة إن دي مش تربية سليم.. مينفعش تقولي كده يا هديل على ابن اخوكي" قاطعها بقليل من اللوم بنبرته "حبيبتي الولاد كبروا، دايماً قربيهم من بعض، وحتى لو سليم بيتدخل بس كلنا عارفين إنه شاطر وبيحب ولادنا واستحالة يرضالهم بحاجة وحشة.. اعتبريه ابنك واحضنيه زي ولادك، وبعدين أنا عارف إن لو فيه حد هيتحكم زيادة عن اللزوم أنتي مش هاتسبيه، بس لازم متسكتيش كده على خناق الولاد.. قربيهم من بعض ده احنا ملناش غيرهم، وبعدين يا عالم احنا هنعيش قد ايه علشان نشوفهم بيكبروا قدامنا"

"جرا ايه يا سيف مالك؟ ايه جو الوصايا العشرة ده؟" ضيقت ما بين حاجبيها ونظرت له تتفحصه بقلق

"ولا وصايا ولا حاجة.. خدي بس بالك منهم ومن نفسك.. وحاولي تقربي من إياد شوية.. وكمان زينة متنسيهاش.. أنا هاقوم اهو اكلمها هي وآسر.. سلام يا حبيبتي" قبّل جبينها ثم توجه للخارج وأمسك بهاتفه ليحدث كلاً من آسر وزينة ولا يدري لماذا تمنى وجودهما اليوم بجانبه دوناً عن سائر الأيام السابقة بينما توجهت هديل لتشرف على تحضير الطعام لوالدتها التي لم تعد تستطع مغادرة الفراش إلا بصعوبة.

 

❈-❈-❈

جلس الجميع حول طاولة الإجتماعات العملاقة، سليم وإياد وأروى وعاصم وشاهندة وانتظر الجميع سيف بينما غاب حمزة الذي قد سافر ليتفقد احدى المشروعات بواحدة من المحافظات وقد غلف الصمت المكان بينما آخذ شهاب يتفرسهم ببنيتاه وهو يحاول فهم شخصية كلاً من هؤلاء الجالسون أمامه 

"يا ترى كرم بيه منورناش ليه؟!" صاح سليم الذي نظر لشهاب يتفرسه بعيناه هو الآخر

"مشغول.. بس عموماً أنا معايا كل التوكيلات" اجابه بإقتضاب وبنبرة هادئة للغاية بينما حول عيناه لأروى 

"ويا ترى احنا مستنين ايه علشان نبدأ؟!" 

"مستنين مهندس سيف رئيس العمليات" اجابه سليم بتلك النظرة التي تجبره على مبادلته النظر وكأنما يزجره عن نظرته لأروى بينما جملته تلك قاطعت ما ود عاصم أن يقوله لترتسم ملامح الإنزعاج على وجهه لشعوره بتفوق سليم الدائم عليه

"طب ما أنا معايا الـ CEO والـ Executive Director، ايه لازمتها الباقين؟" تسائل بهدوء لاذع بينما لم يعجب الجميع تلك النبرة التي يتحدث بها شهاب وكأنه يخبرهم أنه ليس هناك داعٍ لحضورهم "آه.. عشان ورثة يعني.. لازم تتجمعوا مش كده؟! معلش نسيت" ابتسم ابتسامة جانبية ولكنها كانت تنم عن السخرية أكثر من مجرد ابتسامة بينما سحق سليم أسنانه ولم يعجبه أسلوب شهاب بالحديث وهمس إياد بأذنه شيئاً لم يتبينه شهاب

"لا اتفضل ابتدي، اي حد من اللي قاعد هنا اعتبره صاحب شركة و.." لم يُكمل سليم جملته ليقاطعه تلك الطرقات على الباب ليصيح إياد 

"ادخل" 

"الحقوا.. بشمهندس سيف عمل حادثة جامدة اوي تحت والعربية اتقلبت بيه واحنا كلمنا الإسعاف" صاحت واحدة من الموظفين ليقم الجميع بهرجلة يتسابقون على الخروج بين همسات من عدم التصديق وصياح أروى المتلهف بينما تريث سليم الذي نظر لشهاب نظرات لا تنم سوى عن عدم القبول والإنزعاج 

"بعتذرلك.. الإجتماع أتأجل وهتتبلغ بمعاده الجديد.. مع السلامة يا Mr شهاب" أخبره ثم لحق بأولاد عمته وعمته شاهندة وترك شهاب خلفه الذي شعر بقمة الإستهزاء لشخصه وتركه هكذا وحده بالغرفة دون أي إكتراث يذكر.

 

❈-❈-❈

في ألمانيا.. برلين بالتحديد، وقفت تلك الفتاة ذات الثلاثة وعشرون عاماً التي قررت فجأة أن تبتعد عن الجميع بيوم إجازتها ونظرت لنهر شبريه ببرلين ثم أخرجت دفترها الأسود تجتذبه بتلك الأصابع التي أطليت باللون الأسود من احدى جيوبها وآخذت تخط بقلمها به.. 

"ها أنا.. أجلس بين أشخاص لا أعرفهم.. أعانق وحدتي.. أحبها وأعشقها.. لا زلت لا أجد إجابة لذلك السؤال الذي لطالما جعلني أحيا في حيرة من أمري.. ذلك السؤال الذي قد آكل ثنايا عقلي لسنوات.. من أنا؟ أأنا تلك الشخصية الضعيفة؟ هل أنا تلك المسيطرة التي تكره القيود؟ هل أنا مسالمة أم أتلذذ بالعراك؟ متمردة أم أتقبل الآوامر وكأنني أنتظر من يوجهني؟

هل سئمت دنيتك يوماً مثلي وأنت تبحث عن إجابة لسؤالٍ بسيط، كلمتان ليس لهما ثالث! خمسة أحرف ملئتني خوفاً وحيرة بل وملئتني عناداً وتمرداً ووعياً.. من أنا؟

أأنا تلك الصغيرة التي تود أن تقطع تلك المسافات لأرتمي بعناق من أحبهم حتى يرشدونني، أم أنا تلك اليافعة اليقظة الواعية لكل قرارٍ وكل تصرف؟

لقد أكتظت تلك الأوراق بدفتري الذي سابقه العديد من الدفاتر التي لا يعلم عنها أحد.. ولا زال السؤال يتكرر بكل ورقة، ستجده بين طيات السطور، حبر قلمي يرسمه بتلك الأحرف الخمسة كل يوم.. من أنا؟ من أنا؟ من أنا؟!

ابتسامتي المشرقة، وملامحي العابسة.. تلك الحقوق التي لا أنفك أدافع عنها كمحامية ثبورة.. وحالة اللامبالاة التي تتخلنني عندما أغادر متحدثة بعقلي "وما شأني أنا!".. من أنا حقاً؟

ها أنا الفارس المغوار بساحة القتال! لا تسخر من سيفي الذي سيباغتك لتلقي حتفك في ثوانٍ! لا تتهكم بوحدتي بذلك البرد القارص فأنت لم تراني بعد وأنا ألتقط أنفاسي بصعوبة بين ضحكاتي مع أصدقائي وعائلتي.. لا تنظر لي هكذا حتى لا أتركك، فتلك النظرة بعيناك أيها الغريب قد تجعلني أغادرك دون أن أنهي قصة حياتي البائسة التي أمتلئت بالضحكات والأفراح، أنت تجعلني أشعر أنك لا تريدني أن أمكث معك أيها الدفتر الأسود.. فلتعطيني فرصة حتى أُكمل!

أوتعلم يا ذا السطور التي لا تُشبع حاجتي من أنا؟ أنا من لم يخلق بعد من يكسرني، من يُملي علي آوامر لا تنتهي، أنا ذات الكبرياء اللاذع الذي جعلني أخسر الكثير ولكنه يسري بدمائي، أنا من لا أكترث بوجودك أو عدمك، أنا أفعل ذلك بالبشر، أتظن أنني سأكترث لك؟ أجلس معي حتى أنتهي منك أولاً!!

ألم تعرف بعد من أنا؟ أنا التي سهرت ليالٍ طويلة أكتب بدموعي قبل قلمي تلك الحروف بك وأرسمها على سطورك بإتقان، ولكن أتعلم أنني أستطيع أن ألقيك هنا بنهر شبريه حتى أتخلص من تلك السطور الفارغة التي تنظر لي بها!! أنا قد أقتلع قلبي بيدي إذا آلمني أكثر من اللازم، كما أن حياتي لن تتوقف عليك إذا كنت مصراً أن ترمقني بتلك النظرات المفجعة!!

فألزم حركة أوراقك بين يدي ولا تدع تلك النسمات تقلب أوراقك فأنا لن أتركك قبل أن أنتهي منك!!

عزيزي الغريب، مرافقي الوحيد في رحلتي الكئيبة، أنت يا ذو النظرات القاتلة الفارغة من صوت مسموع يخفف عني، ألن تجيب سؤالي؟ ألن تخبرني من أنا؟

لقد رأيت تلك القوة الضارية بداخلي وخارجي، ولقد لمست ضعفي كلما أقتربت من الإعجاب بذلك الرجل يوم الثلاثاء الماضي، لقد رأيتني وأنا أمرح مع أصدقائي أمس بعطلة نهاية الأسبوع ولكن لما أنا الآن أعتذرت لهم وفضلت البقاء بجانبك هنا، ألا يُخبرك ذلك شيئاً عني، ألم تستطع معرفة من أنا؟

أنا لا أكترث أن يرى الناس تلك العبارات بقلمي وخطي، أكره الإختباء، كما أنني أريد التدثر بتلك الأوراق علّها تصرخ بي ولو مرة واحدة حتى تخبرني من أنا!

يكفي لقد أُرهقت اليوم منك ومني.. لتنتبه فنحن على موعد معاً غداً.. لربما سنعرف سوياً من أنا!!"

وصدت دفترها الأسود الذي ظنت أنه يشابه قلبها ثم وضعت القلم واياه باحدى جيبي معطفها الأسود الضخم ذو تلك الرقعات التي كست أسفلها ببضع قماشات رمادية اللون وجذبت من جيبها الآخر قداحتها وعلبة سجائرها ثم أشعلت واحدة منها ونفثت دخانها بأنوثة طاغية وهي تعيد العلبة والقداحة لجيبها ثم تركت تلك النسمات تتخلل شعرها الذي لطالما حافظت على تقصيره قبل كتفيها بقليل وتلوينه بالسواد القاتم وأطبقت جفنيها لتداري تلك الزرقاواتان وهي تتمنى بداخلها أن تنتهي من ذلك التضاد والتشرد النفسي بداخلها وهذان الجانبان اللذان يجذباها في آن واحد لليمين ولليسار لتسمع هاتفها يصدح بالرنين لترى أسم والدتها فعقدت حاجبيها وهي تظن أنها ستفتعل معها عراك جديد ولكنها لم تعد تخشى مواجهتها بعد الآن!

"آلو!" همست بنبرة حازمة

"أيوة يا زينة.. تعالي على أول طيارة.. سيف مات!"

 

 

--


الفصل الثاني

بعد مرور بضع أيام

 

"كلمتك كتير مردتش.. كنت فين كده امال؟" اجاب وليد هاتفه الذي صدح بالرنين وكان المتصل شهاب 

"لا ده حوار ابويا مكعبلني فيه مع ولاد عمي" أخبره ولم يرد أن يخبره بجميع التفاصيل

"ولاد عمك؟! وده من امتى الموضوع ده، فجأة كده طلع؟" تعجب وليد بشدة لما يسمعه

"آه... بس حوار وهيعدي.. قولي أخبار الدنيا تمام معاك والرجالة جهزوا ولا لأ؟!" 

"لا تمام.. متقلقش هي اول مرة لينا ولا ايه؟"

"لا عادي بطمن" اخبره ببرود

"لا كله زي الفل والدنيا ماشية، عملت ايه مع اللزجة اللي اسمها ميرال صحيح؟!" 

"بص بقا أنا قرفت من لزقتها وهي اللي جابته لنفسها، أنا هاجيبها عندي بليل"

"وفكرك هتبطل.. أنا بجد مش عارف بيستحملوك ازاي، تبهدل الواحدة من دول وبردو يفضلوا لازقين فيك" 

"يا عم يولعوا كلهم.. اهم حاجة طمني لما تخلص"

"حاضر يا شهاب بس أنا مش فاهمك قلقان ليه المرادي؟"

"لا قلق ولا حاجة، أنت عارف إني بحب كل حاجة تمشي تمام من غير شوشرة" 

"لا هتمشي تمام"

"يالا سلام وأشوفك بكرة"

وصد شهاب هاتفه ثم زفر في ضيق شديد من كل ما لاقاه اليوم وتزايدت عقدة حاجباه بينما عقد ذراعاه كذلك وهو يستند على سيارته بجانب احدى الطرق بعد أن غادر ذلك الإجتماع الذي لم يكتمل وآخذ يُفكر في كل ما رآه اليوم وتلك الشخصيات الجديدة التي ستدخل حياته قريباً.. 

سليم هذا يبدو من نظراته أنه صعب المراس ويعامله الجميع على أنه الأكبر بينهما والمتحكم الوحيد بكل شيء.. وإياد يبدو قريباً منه للغاية، أمّا عاصم فكأنه يحاول أن يلفت الإنتباه بأي طريقة منذ حتى أن صافحه وقد شعر بطريقته التي يحاول أن يفرضها على الجميع ولكن يبدو وأن لا أحد يكترث بما يفعله.. كما تبدو تلك الفتاة أروى مغرورة للغاية، ليتها تحدثت لكان عرف كيف يجذبها له..

نفخ ما برئتيه من هواء وهو يتألم بداخله فلم يكن يعتقد أبداً انه سيواجههم يوماً ما وعليه أن يتعامل معهم لمدة والتي يبدو أنها ستكون طويلة..

 

❈-❈-❈

وقف من بعيد خلف إحدى الأشجار بمنزل عائلة والده يتفقدها وهو لا يدري ما الذي حدث له منذ عودتها عند معرفتها بوفاة والدها، هو كان يعرف جيداً أنه لطالما عشقها وتربعت زينة على قلبه منذ أن كانا صغاراً، رؤيتها وهي تبتسم، مجالستها لوالده لساعات بل وأيام دون ملل، طريقة حديثها الجذاب وكأنها أذكى من على الأرض كلها بين البشر، عشق طفولتها ورآها أمامه تكبر كل يوم، لطالما شعر وكأنها تنتسب لمنزلهم وليس هنا وكأنها خُلقت من أجله..

تنهد شارداً بها ولم يلاحظ ما إن يراه أحد أم لا وود لو أقترب منها ليرى ما الذي تكتبه بذلك الدفتر، ود لو ذهب ليحدثها، تمنى أن يعرف ما ذلك الذي أعتراها، فهي منذ عودتها لاحظ كم تغيرت وأصبحت فتاة جديدة لا يعرفها وكأنها تبدلت تماماً عند سفرها تلك الخمس سنوات المنصرمة..

"طب ولو حد قفشك دلوقتي وأنت هيمان كده فيها يقول عليك ايه؟" 

"بدر!!" همس سليم لوالده بينما ابتسم له بإقتضاب 

"اه بدر من حظك الحلو.. تخيل لو كان حد من اخواتها ولا هديل.. مكنش منظرك هيبقا لذيذ خالص" أخبره بينما بدءا بالسير سوياً بحديقة منزل العائلة وتنهد سليم وهو يحاول أن يُخفي إحراجه من الموقف 

"حاسس إنها اتغيرت اوي، مبقتش زينة اللي نعرفها، ولا تفتكر ده عشان موت باباها؟!" تحدث سليم لوالده بعينان متسائلتان

"اتغيرت فعلاً.. بقت شخصية تانية" أومأ بدر في موافقة على كلمات سليم "بس ولو حتى اتغيرت، ليه متقربش منها وتروح تقعد معاها و.."

"لا لأ ملهاش لازمة قاطعه بنبرة حاسمة "هي من ساعة ما رجعت وتصرفاتها بقت غريبة شوية تصدني وشوية تتعامل كويس.. دي حتى مش عاملة خاطر لإني ابن خالها"

"طب وبعدين! هتفضل تتفرج من بعيد؟! تعالى بس تعالى.." أخبره بدر الدين ثم دفعه برفق نحوها

"يا بدر مش عايز اروحلها، استنى بس.. قولتلك لأ.. بابا!!" صاح سليم بعبارات النفي ولكن لم يتقبلها بدر الدين حتى وجد أنهما أقتربا منها للغاية حتى لاحظت هي إقترابهما ووصدت دفترها 

"شوفناكي قاعدة لوحدك قولنا نيجي ننورك شوية" أخبرها بدر لتبتسم له بإقتضاب 

"خالو.. أتفضل طبعاً" اجابته وكأن سليم غير موجود بجانبه وجلس كلاهما وتحولت ملامح سليم للغضب مما فعله والده 

"ايه اللي مصحيكي لغاية دلوقتي؟ منمتيش ليه؟" 

"أبداً يا خالو مش جايلي نوم خالص" أخبرته وتنهدت ثم شردت بالفراغ أمامها 

"ناوية تعملي ايه الكام يوم الجايين؟!"

"أبداً.. بفكر أسافر آخر الأسبوع عشان لازم أكمل الـ masters وعموماً ده آخر semester"

"بالتوفيق يا حبيبتي.." ابتسم لها ولكنه لاحظ شرودها ليهمس لسليم "ما تقول حاجة يا رجل الكرسي أنت" رمقه ابنه في حنق شديد 

"وناوية يا زينة تكملي شغل في ألمانيا بردو؟" ظل ناظراً لوالده بلوم وتوعد ثم همس له دون أن تسمعهما زينة "وربنا ما هعدي حركاتك دي" ابتسم له بدر الدين ثم ترطه وتوجه ليجلس بالقرب من زينة

"لسه محددتش" اجابته بإقتضاب ليندم سليم على سؤاله ونظر لوالده وعيناه تصرخ به "أرأيت؟!" 

"بس وحشتيني اوي يا زينة.. لازم تيجي تقعدي معايا يومين قبل ما تسافري ونرجع لأيام زمان"

"وأنت اوي" همست ثم تفقدته في اشتياق واقتربت منه لتحتضنه بكلتا ذراعيها واراحت رأسها على صدره "هاجي اقعد معاك حاضر" بادلها العناق وربت على ظهرها في حنان لتوصد هي عيناها في راحة لوجوده بالقرب منها

"على قد ما نفسي الحضن ده يطول بس خلاص مش قادر" تثائب وتصنع النعاس "أنا هاقوم بقا يا ولاد وكمان لازم نصحى بدري عشان هنرجع بيتنا.. تصبحوا على خير" افسحت له زينة بينما نظر له سليم كمن سيقتله لا محالة 

"وأنت من أهله يا خالو" ابتسمت زينة له ليتركهما وسليم بداخله يود أن يذهب ليتشاجر معه 

"وأنت من أهله" أخبره هو الآخر في حنق لتنظر له زينة فبادلها النظرات "عاملة ايه دلوقتي؟!" سألها لتهز كتفيها وقلبت شفتاها 

"ايه دلوقتي يعني.. ما أنا كويسة اهو" اجابته بنبرة جافة وكأن لم يمر على موت والدها سوى أيام تعد على أصابع اليد الواحدة ليندم سليم على سؤاله لها وصمم أنه لن يحدثها إلا إذا بدأت هي بالكلام وتظاهر بالإنشغال بهاتفه.

نظرت له تتفقده فهي لا تدري منذ أن آتت والعديد من الأشياء قد تغيرت، لم تكن تعرف أنها مكثت وقت طويل هكذا، كانت خمس سنوات ليس إلا ولكن الجميع تغير حتى ملامحهم قد تغيرت..

بداخلها أخذت في إطلاق الأحكام، تصنف هذا وذاك، أما سليم الذي لطالما عرفته منذ أن كانت طفلة صغيرة قد تغير كثيراً، ملامحه أكتسبت وسامة شديدة لم تظن أنه سيبدو هكذا حقاً، هو ليس مجرد وسيم وحسب بل تلك الرجولية الشديدة بملامحه أكسبته رونقاً خاصاً، وطريقته التي لم تكتشفها بأكملها بعد ولكنه يبدو تغير كثيراً، لم تعد التعرف عليه حتى..

ضحكت بداخلها والأفكار تنهال على عقلها، هي لا تعرف نفسها وتبدأ بإطلاق الأحكام على غيرها وتصنف الجميع، لو فقط يرى كل من حولها ما يدور بداخلها لأشفق الجميع عليها. 

"خير؟" تحدث لها سليم بعد أن شعر بالغرابة من كثرة تطلعها إليه 

"فيه ايه؟" اجابته سائلة

"قاعدة بتبصيلي اوي بقالك فترة، فيه حاجة؟!" اندهشت من مدى جرأته بل ويبدو أنها قد حدقت به أكثر من اللازم ولكن لا لن يُفرض عليها بهذا السؤال التحكم في الموقف

"بقولك ايه.. تخرج تسهر معايا؟!" لا تدري حقاً من أين واتتها الفكرة ولكنها لا تكترث على كل حال

"أسهر!! تقصدي ايـ.." تمتم سليم في دهشة بينما نهضت هي وقاطعته

"استنى عشر دقايق ورجعالك" لم تعطيه الفرصة ثم غادرته 

"سهر ايه وباباها مكملش اسبوع ميت!! مجنونة دي ولا ايه؟!" تمتم متعجباً مما قالته وكذلك مغادرتها له هكذا كما تعجب لنفسه كثيراً فهو ليس من يُفرض عليه شيئاً بتلك الطريقة ووقع في حيرة من أمره وهو يُفكر لماذا لم ينهاها ولماذا لم يرفض ما قالته.



❈-❈-❈

 

 



"صاحية يا مامي" تحدثت أروى التي دلفت غرفة هديل للتو لتتفقد والدتها

"آه يا أروى تعالي" همست هديل بنبرة مرهقة 

"عاملة ايه دلوقتي يا حبيبتي؟" جلست أمام والدتها على السرير لتمسك بكلتا يديها 

"اديكي شايفة، بين يوم وليلة سيف فجأة راح وأنا.." ولأول مرة لم تجد هديل الكلمات التي عليها التحدث بها وأنهمرت احدى دموعها لتزيحها أروى سريعاً 

"خلاص يا مامي علشان خاطري كفاية عياط" أخبرتها ابنتها بلهفة لتومأ لها هديل وصمتت لبرهة ثم تحدثت لها

"أروى أنا مش قادرة اليومين دول على أي حاجة، معلش يا حبيبتي بس أنتي عارفة أخواتك عاملين ازاي، إياد بيجري ورا سليم وبيوافقه على اي حاجة، وعاصم عبيط ومش عارف ياخد حقه، وآسر اكيد هيسبنا ويرجع لزياد تاني أنتي فاهمة هو لعبي زي خاله بالظبط، وأنتي عارفة زينة عاملة ازاي بجنانها ده.. لازم الفترة الجاية تاخدي بالك من كل حاجة زيي بالظبط"

"أكيد طبعاً يا مامي متقلقيش يا حبيبتي"

"أنتي هترجعي تنزلي الشغل امتى؟!" 

"من بكرة"

"طب وموضوع ابن عمك عملتوا فيه ايه؟!" 

"مفيش، المفروض نحدد معاد معاه تاني قريب، أصلاً الإجتماع مكملش عشان بابا لما.."

"خلاص فهمت" قاطعتها هديل وهي لا تريد تذكر الموقف "وسليم عاملة معاه ايه؟!" 

"مفيش.. كالعادة يعني أنتي عارفة هو قد ايه بيعاملني بدبلوماسية، مقدرش أغلطه ومقدرش أقول إن فيه حاجة بتتطور"

"يعني أنتي يا أروى بجمالك ده كله مش عارفة تخليه يتلحلح معاكي؟ حاولي تقربي منه وتحببيه فيكي بدل ما واحدة غريبة تيجي تشيل الليلة كلها!" أخبرتها هديل بضيق واحتدت نبرتها 

"ما أنا بحاول وهو عامل تقيل، بالذات من ساعة ما موضوع بابا ما حصل بقيت بشوفه صدفة، بس متقلقيش واديني وقت بس"

"ماشي أمّا نشوف.. صحيح هو شهاب كلم أي حد فيكو؟! أقصد يعني لما جه يعزي هو وعمك؟"

"لا دول مكملوش عشر دقايق ومشيوا" اجابتها أروى لتومأ لها هديل "صحيح يا مامي، أنا كنت يعني عايزة أكلمك في موضوع.. دلوقتي بابا خلاص الله يرحمه ومكانه بقا فاضي في الشركة، وأنا مش عايزة بصراحة أدهم ابن طنط شاهي يدخل في الحوار هو كمان، هو أنا عارفة إنه لسه صُغير بس كلها سنتين ويتخرج ومش بعيد هو يكون عايز يمسك مكانه.. أنا من رأيي بما إن زينة خلصت دراستها تمسك مكان بابا سيف" تريثت أروى لترى إعجاب والدتها بحديثها 

"معاكي حق فعلاً.. لازم زينة اللي تمسك مكانه!"سكتت لبرهة لتركز بالفراغ وعقدت حاجبيها ثم تابعت ونظرت لإبنتها في جدية "بصي أنتي متكلميهاش في أي حاجة خالص، وخاللي الموضوع يجي من ناحيتي عشان أنتي عارفة دماغها الجزمة"

"ما أنا قولت لحضرتك عشان كده"

"خلاص اتفقنا، أنا هاكلمها في الموضوع بكرة الصبح.. يالا يا حبيبتي قومي نامي عشان شغلك وعدي بس على تيتا اطمني عليها لحسن مش قادرة أقوم خالص"

"حاضر يا حبيبتي.. تصبحي على خير" 

"وأنتي من أهله" 

توجهت أروى للخارج بينما زفرت هديل بحرقة وأخذت تتحدث لنفسها "ياااه لو كل أخواتك كده زيك كانوا ريحوني من زمان.. أنا بقا خلاص تعبت.. لغاية امتى هيفضل كل واحد فيهم كده مش حاسس باللي بيضيع من ايديه، امتى يفوقوا بقا ويفهموا؟!" أخذت تفكر بكل ذلك العبء الذي سيقع على عاتقها وحدها وخاصةً بعد مفارقة سيف ورغماً عنها تهاوت دموعها لتذكرها أوقاتهما سوياً.

 

❈-❈-❈

تفقدها بعينتان اتسعتا دهشة وامتلئتا غرابة من تحولها المفاجئ من الصمت تلك الأيام الماضية وهي تقود السيارة بعد تصميمها على ذلك وارتدائها لذلك الرداء القصير القرمزي اللامع وبعثرتها لشعرها بتلك الطريقة في موجات متمردة، لا يصدق أن تلك الفتاة الجالسة بجانبه هي ابنة عمته الصغيرة التي يعشقها..

"قولي بقا فين أحسن Nightclub قريب؟"

"ايه؟! Nightclub" تمتم بدهشة لما تسأل عنه غير مُصدق ما سمعه للتو

"خلاص خلاص أنا هتصرف" اجتذبت هاتفها من احدى اماكن التخزين الجانبية بباب السيارة ثم عبثت على هاتفها لتثبت شاشته بعد دقائق على احدى الخرائط التي تبين الطريق لمكان ما "وأنت بقا مبتسهرش في Nightclubs؟ بتعملوا ايه يعني في اجازتكوا؟!" 

تعجب سليم من كل ما يحدث ولكنه توصل بداخله أن ما تفعله ربما يكون إنكاراً لحالة الحُزن المحيطة بجو المنزل لذلك يراها تتصرف بتلك الطريقة الغريبة.

"زينة لفي وارجعي" 

"ليه يعني؟" نظرت له ثم أعادت تسليط عيناها على الطريق

"قولت لفي وارجعي.. مفيش Nightclubs الساعادي، الساعة حداشر ونص"

"بقولك إيه أنت شكلك كده كبرت وبقيت ممل، ولعلمك بدل العربية ممكن أطلب uber وخلاص.. لو عايز ترجع أنت مفيش مشكلة، لكن هتنكد بقا ملهاش لازمة" سحق أسنانه من ردها الذي أستفزه للغاية ثم نظر لها بعد أن صفت السيارة على جانب الطريق ويبدو أنها بدأت في تجميع أشياءها وتستعد لمغادرته 

"ساعة واحدة وهنمشي!! مش عايز نقاش في الموضوع ده! سمعتيني؟!" رق قلبه قليلاً فهو لا يريد أن يراها في قوقعة الحزن التي وقعت بها من قبل فأياً كان ما ستفعله سيكن أهون من أن تدخل في تلك الحالة التي كانت عليها منذ سنوات.

"ما تيجي تاخدني قلمين احسن!! هنروح ووقت ما نمشي نبقا نمشي"

"انجزي يا زينة وبطلي تضيع في الوقت" زفرت في تآفف لكلماته ثم شرعت بالقيادة مجدداً حيث وجهتها التي حددتها من قليل.

"زينة كفاية ويالا نمشي" تحدث بين أسنانه الملتحمة وهو ممسك بذراعها حتى تغادر حلبة الرقص ولكنها نظرت له وابتسمت 

"فيه ايه يا سليم.. وبعدين أنت مبترقصش معايا ليه" واجهته لتقف أمامه وأخذت تتمايل بجسدها واستندت بساعدها على صدره لتشجعه على الرقص هو الآخر بينما نظر لها في نفاذ صبر 

"فيه إن الساعة بقت واحدة والرجالة بتتفرج عليكي بالزفت القصير اللي أنتي لابساه ده!! اتفضلي يالا قدامي" حدثها بلهجة منزعجة

"طب هادخل الحمام وهاجي وراك" أخبرته بإبتسامة مقتضبة وتوجهت على الفور لتفلت يده التي أمسكها بها قبل أن يعترض واختفت وسط الأشخاص المتواجدين بالمكان. 

صدقها وتوجه للخارج حتى ينتظرها بالسيارة وبداخله يشعر بالصدمة الشديدة لكل ما تفعله وكأنما تبدلت تلك الفتاة الرزينة لتحل محلها أخرى يفوح التمرد من كل تصرفاتها. 

تفقد ساعته ليجد أنه أنتظر ما يقارب من عشرون دقيقة ليتعجب لتأخرها فأخذ هاتفه وأتصل برقمها ليرى ما الذي يؤخرها كل ذلك الوقت.

"أنتي فين؟! كل ده مخلصتيش؟!"

"معلش.. أصل الـ Toilet زحمة.. اديني بس عشر دقايق" أنهت هي المكالمة بسرعة ليعقد حاجباه وتمتم في خفوت 

"يا ريتني ما كنت وافقتها على اللي بتعمله ده!" 

مرت عشرون دقيقة أخرى ليقرر أنه لن ينتظر أكثر فلقد تأخر الوقت وقاربت الساعة على الثانية صباحاً ويكفي فقط ما قد تفعله والدتها إذا علمت ما تفعله الآن. 

توجه للداخل بعد أن وصد السيارة وأخذ يبحث عنها بعيناه وفجأة توسعتا عندما وجدها تحتسي مشروباً كحولياً حتى آخره ويبدو أنها تطالب بالمزيد ولم تكترث لذلك الرجل الذي أقترب منها ليحدثها ويبتسم لها بخبث وهو يشعل احدى سجائرها التى امسكت بها بين إصبعيها.

"اتفضلي قدامي حالاً" صاح بها بعد أن أخذ خطوات سريعة نحوها وهو يلهث في غضب شديد مما تفعله 

"سليم! أنت جيت؟!" ضحكت بخفوت وهي تنظر له بينما أشارت لعامل البار في وضع المزيد لها بينما تراجع الرجل من تلك النظرة المخيفة التي رمقها به سليم

"قومي معايا" صرخ بها بينما أخرج من جيبه حفنة أموال ووضعها أمام العامل ثم اجتذبها من ذراعها وتوجه بها للخارج 

"استنى بس يا سليم شوية، أنا مش عايزة اروح البيت الكئيب ده بالناس اللي فيه.. يووه امشي براحة طيب" تحدثت له وهي تحاول بصعوبة عدم السقوط فهي لم تعد ترى أمامها بوضوح وأخذت تتعثر في خطواتها.

"أنا غلطان عشان أوافق على الهبل اللي بتعمليه ده" صاح بلهاث بينما دفعها بالكرسي بجانب السائق وتوجه للجانب الآخر وأدار المحرك بينما تلمست هي كتفه 

"أنت مش غلطان.. لا خااالص! أنت بسطني اوي.." ضحكت بطريقة تعجب لها وتفقدها ملياً ليعلم أنها ثملة "شيلني يا سليم، ومتروحنيش البيت، أنا مش عايزة أشوف ماما، هتفضل تزعق تزعق تزعق لغاية ما تجيبلي صدااع.. وديني أي حتة تانية" سحق أسنانه بينما تفقدها وهي تهز رأسها يمنى ويسرى في ثمالة شديدة ثم أعاد تركيزه على الطريق ونوعاً ما كلماتها نبهته أنه لا يستطيع أن يعود بها هكذا لمنزل العائلة أمام الجميع! 

"تعرف.. أنت شعرك لما كبرت بقا حلو أوي زي شعر خالو" نظرت له بزرقاوتيها بعد أن أقتربت منه وهي تتشبث بذراعه ليعقد حاجباه ونظر لها وللحظة شرد بعينيها وتناسى تماماً أنه كان يقود ولانت ملامحه ولم يفيقه سوى احدى أبواق السيارات بالطريق وصياح رجل مار بالشارع 

"جتكوا القرف أشكال زبالة.. ربنا يتوب علينا من أشكالكوا" 

سلط نظره مجدداً على الطريق بينما أبعد المقود الذي تفلت من بين يداه ودفع السيارة حتى كادت أن تلامس الرصيف!

بعد برهة شعر بها تتوسد ذراعه وسمع أنفاسها وهي تتثاءب ليزداد تشبثها بذراعه أكثر وهمست له في نعاس 

"أنا عايزة أنام، الظاهر صدعت عشان صاحية بدري" تنهدت ثم شرعت في النوم دون إدراك على ذراعه.

"ايه اللي أنتي بتعمليه ده بس؟ اتغيرتي اوي يا زينة!! يوم ما تقربي مني تبقي في حالتك دي؟ أنا مبقتش فاهم مالك؟ ايه اللي عمل فيكي كده وغيرك اوي كده؟" تحدث لنفسه وأخذ يُفكر بكل ما لاحظه عليها منذ عودتها وهو يتفقدها بين الحين والآخر حتى وصل منزله وبمنتهى الحرص الشديد اراح جسدها على الكرسي خلفها وغادر السيارة متوجهاً نحو الباب الآخر وحاول يفيقها ولكنها لم تستجب!

تنهد ثم نظر لملامحها التي يعشقها وأخذ يتفقدها في وله تام ولم يكترث أن الوقت يمر حولهما ولم يهتم لوجودهما هكذا أمام بوابة المنزل وحدهما حتى شعر بالآلم بداخله وتمنى لو صارحها بكل ما يحمله لها منذ سنوات! 

اقترب ليحملها في حرص حتى لا يوقظها وتوجه نحو البوابة التي فتحها بصعوبة لحمله اياها ثم توجه ليصعد بها الدرج حيث تلك الغرفة التي اعتادت أن تمكث بها كلما مكثت معهم وخفقات قلبه لا يستطيع السيطرة على إيقاعها الذي تسارع بعنف لقربه منها هكذا.

كاد أن ينجح في تركها على السرير ولكنها استيقظت وتفقدته بزرقاوتيها الثملتان وشعر هو بإستيقاظها ليبادلها النظرات ولكن ما أدهشه هو جذبتها له من مقدمة قميصه ليجد أن قربهما من بعضهما البعض قد تعدى المسموح به 

"سليم" همست بإسمه بنعاس بأنوثة جعلته يلعن نفسه بداخله!! كم تمنى أن تكن زوجته الآن حتى يعتليها ويُقبلها حتى يريها ذلك الشغف الذي يبعثره داخلياً "احنا فين؟!" همست مجدداً ليصر أسنانه في محاولة للسيطرة على تلك المشاعر بداخله

"احنا في بيت بابا متخافيش" اجابها بين أسنانه الملتحمة

"طب متقولش لماما حاجة.." تفقدها وهي تتحدث كالطفلة الخائفة واختفت تلك الأنثى التي بعثرت رجولته منذ ثوانٍ ليتنهد وهو لا يدري كيف يستطيع الصمود أمامها

"متخافيش مش هاقولها" همس أمام وجهها ليشعر بأنففسها المحملة برائحة الكحول بينما شعرت هي بأنفاسه الساخنة على وجهها 

"تعالى يا سليم نام جنبي.. أنا بقالي كتير اوي لوحدي من ساعة ما سافرت وأنا كل يوم بنام لوحدي" عقد حاجباه لغرابة ما يستمع إليه منها ولم يُصدق تلك الجرأة التي تحدثه بها ولكنه أقنع نفسه أنه تأثير الخمر ليس إلا "يا سليم بقا!!" جذبته أكثر لها ليجد شفتاه تلتصق بشفتاها وتوسعت عيناه مما حدث فهو لم يكن يتوقع أنها ستفعل ذلك!

تسارعت حفقات قلبه في هوس من تلامس شفاههما هكذا ودون أن يدرك ما فعله وجد نفسه يقبلها على مهلٍ شديد وتريث وانهالت جفونه رغماً عنه لإرادته الشديدة بأن يتمسك بتلك اللحظة التي لطالما تمناها لسنوات!

لم يعد يدرك ما يفعله عندما شعر بيداها حول عنقه وكأنما تشجعه على المزيد وبدأت أنفاسه في التعالي لتواكب تلك المشاعر المهتاجة كالبركان الثائر في دماءه ولكنه لاحظ أنه كاد أن يعتليها بالكامل ليفق مما يفعله وابتعد عنها وهو يتفقدها بلهاث ليجدها موصدة عيناها في نشوة الثمالة خاصتها فتوجه للخارج مسرعاً ووصد الباب خلفه!

فرك وجهه ثم خلل شعره الفحمي في عدم تصديق لما أوشك على فعله لتتضارب بداخله الأسئلة العديدة نحوها ونحو ما أصبحت عليه وتخلله القلق مما أصبحت عليه تلك الفتاة التي لوعه عشقها لسنوات.

زفر ما برئتيه من هواء ثم عقد ذراعيه واراح رأسه للخلف لينظر للسماء التي أوشك الصباح أن ينبثق بها وأخذ يُفكر كيف سيختلق سبباً حتى لا تعلم هديل وبقية من بالمنزل سبب غيابها الحقيقي!

أخرج هاتفه من جيب بنطاله وبالرغم من أنه متأكد أن والده نائم الآن ولكن هو الوحيد الذي ربما يساعده في تلك الورطة التي أصبحا بها.

"سليم.. فيه ايه؟ أنت مش في البيت؟" اجاب بدر الدين هاتفه بنبرة نعسة

"بابا.. معلش ركز معايا كده شوية ومتتكلمش خالص جنب ماما.. أنت تمام كده صحيت؟!" تنهد سليم الذي حاول التأكد من كامل وعي أبيه

"آه.. أنا قومت اهو وواقف برا، فيه ايه طمني!" صاح بقلق وبدأت نبرته الطبيعية في العودة 

"بص.. أنا مش عارف أقولها ازاي بس زينة، روحنا.. روحنا نسهر برا و.. وشربت من ورايا وسكرت من غير ما أعرف وكان الحل إني اجيبها البيت هنا"

"سكرت!!" تمتم بدهشة ليعقد حاجباه 

"بص.. معلش لما يصحوا قولهم إننا روحنا النادي بدري ولا أي حاجة، عمتي لو عرفت هتطربق الدنيا" 

"طيب متقلقش أنا هتصرف!! خليها نايمة ومتصحيهاش لغاية ما أجيلكوا، أنا هاسيب نورسين وسيدرا هنا وهاجي أتصرف معاها.. وأنت حسابي معاك بعدين! ازاي يعني تسكر من وراك؟"

"يا بابا أنا.. لما تيجي طيب هنتكلم!.."

"ماشي يا سليم.. اتفضل روح ناملك ساعتين، سلام!"

"سلام!"

أنهى سليم مكالمته مع والده وبداخله هو لا يريد أن يعرضها للقسوة من أبيه ولكن كان ذلك هو الحل الوحيد أمامه فلن يستطيع أحد سواه التحكم في الأمر.

 

❈-❈-❈

 

 



"بص.. أنت تيجي دلوقتي حالاً وتخلصني من ميرال دي لحسن أنا خلاص اتخنقت، لازقالي وعمالة تسأل عليك وبتقول إنك مبتردش عليها من يوم ما كانت عندك،" صاح وليد بهاتفه بحنق بالغ

"طيب طيب اهدى.. شكلها كده متعلمتش الأدب من اللي عملته فيها المرة اللي فاتت، أنا بقا المرادي هخلصك منها خالص!" حدثه شهاب بنبرة هادئة للغاية لم تتلائم مع انفعال وليد الشديد 

"أنا فعلاً مش فاهم، تمسك الوحدة من دول تفضل تضرب وتموت فيها وبردو يجروا وراك! ابقى اقضي عليهم يا ريت وموتهم وريحني منهم، مش هافضل أنا في دور صاحبك الحنين ده كتير، أنا زهقت بجد"

"ما قولنا خلاص جي.. أنت فين؟"

"في الـ Nightclub اللي في الـ Four Seasons

"طيب لما اجي هابقا اكلمها وتطلعلي هي"

"ايه ده أنت مش هاتقعد شوية؟!"

"مش قولت أخلصك منها؟! أنا هاتصرف بقا.. روح أنت كمل سهرتك وأنا كلها نص ساعة بالكتير واجي"

"ماشي لما نشوف!" 

أنهى شهاب مكالمته ثم ابتسم في زهو شديد بأن تلك الفتاة ابنة رجل الأعمال المشهور بكل غرورها وكبرياءها لا زالت تلهث خلف ظلاله لتختفي ابتسامته ولمعت عيناه البنيتان وهو يعاود تذكر ما فعله بها تلك الليلة التي آتت له بها..

 

❈-❈-❈

الفصل الثالث

 

"ايه ده يا شهاب.. بيتك حلو اوي، وستايله يجنن، بصراحة من شخصيتك الجامدة مكنتش أتوقع إن بيتك يبقا حلو كده، أنا اتخيلته أسود في أسود وبيت تقليدي بس بجد ذوقك تحفة" تتبع شهاب ميرال التي ظلت تتجول بفيلته في احدى الأحياء الراقية للغاية التي لا تليق سوى بهؤلاء ذو الثراء الفاحش وهو واضع يداه بجيبي بنطاله وظل يتابعها حتى وصل غرفته التي تفقدتها بأعينها لتلتفت له في تعجب

"بس ستايل الأوضة غير باقي الـ Villa خالص.. بس على فكرة بحب اللون الكحلي اوي والتفاصيل الـ silver اللي فيها شيك بجد" ابتسمت له ثم أقتربت منه "كان نفسي بجد يا شهاب أقرب منك ويكون ليا مكان في حياتك، متعرفش أنا سعيدة اوي ازاي إني قربت منك بالشكل ده" أومأ لها بتريث شديد ولكنها شعرت بتغيره معها

"مالك فيه ايه؟ أنت مضايق مني؟!" تسائلت مضيقة ما بين حاجبيها وهي تحاول أن تعرف ما الذي اعتراه "حساك كمان من الصبح فيك حاجة متغيرة من ناحيتي، أنت زعلان مني؟"

"اللي عملتيه النهاردة الصبح مع الـ Waiter في النادي معجبنيش" اجابها بنبرة هادئة متأنية وهو بداخله لا يريد الإستعجال خاصةً مع شخصية مثلها

"ليه يعني؟ هو ايه اللي.." تريثت قليلاً بعد أن لاحظت ملامح الإنزعاج بدأت ترتسم على وجهه "طيب معلش متزعلش مني.. I'm sorry بس فعلاً مقصدتش حاجة أنا اضايقت عشانك مش أكتر" أخبرته بإبتسامة بينما هو عقد حاجباه وتصنع الغضب بينما بداخله يريد أن يصل لتلك المرحلة التي سيفرض بها سيطرته على الأمر وتحكمه الكامل بزمام الأمور أمامها

"خلاص بجد يا شهاب أنا آسفة.." أخبرته بنبرة نادمة لتلاحظ إطباقه لأسنانه بعنف وكأنما آسفها واعتذارها لا يكفياه "طب قولي اصالحك ازاي، أنا مستعدة اعملك اي حاجة عشان متفضلش متضايق مني كده" همست له في دلال ليبدأ هو في التحديق بعيناها

"مظنش تقدري تعملي اي حاجة" حدثها بهدوء وقصد أن يستفزها ويتحداها

"طب جرب كده وصدقني أنا تحت امرك في كل اللي أنت عايزه" أقتربت منه بجرأة شديدة لتحاوط عنقه بذراعيها وأقترب ثدييها ليرتطما بصدره حتى تلاصقا جسديهما وقبلته بجانب شفتاه ثم ابتعدت عنه ببطء شديد حتى تلامس جانب واجهها بواجه وشفتاه ونظرت له بأعين تنهال منها الجرأة الشديدة ليبتسم ابتسامة جانبية وهو يرى أنفاسها المتشوقة للمزيد منه تشجعه لما يريد فعله ودون أية مقدمات حاوط ظهرها بذراعه حتى تلمست يداه شعرها وقبض عليه فجأة يجتذبه بقوة

"هاجرب اهو حالاً!"

ضحك مقهقهاً بعد أن تذكر تلك الليلة التي جمعتهما منذ أيام وتعجب لكل ما تحملته من عنف وإذلال وإهانة لشخصيتها المتعجرفة التي تتسم بالكبرياء فقط لأنها سليلة تلك العائلة العريقة المشهورة بالثراء الفاحش، ولا يُصدق أنها لا زالت تتبعه حتى بعد ما أختبرته معه بل وتحاول الوصول إليه مجدداً!

أمسك بمفاتيح سيارته ثم توجه مغادراً إليها لأن تلك المرة سيجعلها تنساه بإختيارها وستفكر آلف مرة قبل أن تحاول أن تراه مجدداً.

وصل أمام الفندق الشهيربعد أن خط ذلك السيناريو الذي سيخرجها به من طريقه للأبد مثلما فعل مع غيرها من قبل ثم أخرج هاتفه وهاتفها لتجيبه بعد ثوان

"شهاب.. ازيك عامل ايه؟ وحشتني اوي.."

"معاكي عربيتك؟!" سألها وتجاهل لهفتها التي بدت على نبرتها السائلة

"آه معايا بس أنت فيـ.."

"اطلعي برا وتعالي بعربيتك ورايا، أنا مستنيكي"

"بجد؟!" صاحت بلهفة سعيدة وهي تلملم أشياءها بحقيبتها استعداداً للمغادرة "ثواني وأكون عندك" تنفس وليد الصعداء وهو يراها تستعد للذهاب

"ايه ماشية؟!" تسائل وهو بداخله يتلذذ بذلك الهدوء الذي سينعم به بعد قليل

"اه.. شهاب مستنيني تحت" أخبرته دون أن تنظر له ليرفع حاجبيه ثم أخفضهما وضحك بتهكم

"يالا Enjoy" أخبرها بينما بداخله متهكماً "ده أنتي شكلك ناويلك على نية سودا ما دام جالك بنفسه" تحدث داخله وتلك الإبتسامة الساخرة على ما سيحدث لها لازالت تعتلي شفتاه

"اوك.. باي يا وليد، هبقا أكلمك أكيد" ودعته وتوجهت مسرعة للخارج ليتمتم هو بخفوت بعد أن غادرته

"ابقي قابليني لو ده حصل!"

غادر كلاً من شهاب وميرال خلفه بسيارتها وبداخلها امتلئت حماساً بينما هو امتلئ لسعادة لملاحظته ملامحها المتهللة وهو من أعد لها تلك الليلة التي ستخرجها من حياته وستتركها هي مع ذلك الدرس القاسي الذي سيجعلها تفكر آلف مرة قبل أن تأخذ القرار بالإتصال به!

صف السيارة بمرأب فيلته ولم يكترث لترك مساحة لمرور سيارتها ودلف تاركاً الباب خلفه مفتوحاً لها ثم تفقد هاتفه بلمحة سريعة ليتأكد أن وضع تلك الكاميرات على ما يرام وقد وضحت تلك الأماكن التي قد قرر مسبقاً أنه سيكون بها معها الليلة.

دلفت هي الأخرى خلفه ليضع الهاتف بجيبه وجلس على الأريكة وعيناه البنيتان الثاقبتان تتابعها في صمت أمّا ملامحه فكانت فارغة تماماً كالعادة، فمن الصعب أن يتعرف من أمامه على شعوره سواء كان غاضباً، سعيداً، أم يخطط لشيء ما فكل مشاعره قد تعلم كيف يخفيها بحرفية لا نهائية عن كل من أمامه.

توجهت لتجلس بالقرب منه ولكنه أومأ لها بالإنكار ثم حدثها بهدوء آمراً

"اقعدي قدامي"

"وحشتني اوي" كادت أن تجلس على ساقاه ولكنه دفعها بخفة لتجلس أمامه على ركبتيها ولم يلاحظ هو رفضها لذلك

"آه ما أنا عرفت.. وليد بيوصلي كل حاجة" اجاب لهفتها التي تدفقت من عيناها بمنتهى الجمود "قوليلي بقا كنتي عايزة ايه؟" سألها ثم وضع كلتا يداه على فخذيه لتبتسم هي في تعجب من سؤاله

"وحشتني اوي، بعد آخر ليلة قضناها سوا وأنا.. أنا كان نفسي أشوفك تاني، متتصورش تفاصيل الليلة كلها بكل ما فيها حبيتها ازاي، وأوعى تفكر إن أنا من البنات اللي بيرفضوا الحاجات دي" أخفضت بصرها ليلوي هو شفتاه بطريقة اتسمت بالهيمنة الطاغية ورفع احدى حاجباه في استمتاع لكلماتها

"يعني اتبسطي! كويس" همس بصوت يكاد يسمع ثم زفر ونهض مبتعداً عنها ليحدثها متسائلاً بنبرة صوت املئت أرجاء المكان ولهجة مُسيطرة على الموقف بل وعليها هي نفسها "عايزة تعيدي الليلة دي تاني؟" انتظر جوابها لسؤاله الذي علم مسبقاً اجابته ولكنه يريد أن يستمع لإعترافها وإذعانها وقبولها برضوخ شديد لطريقته

"ايوة.." اجابته لينتظر هو متريثاً موجهاً ظهره لها لتتعجب من تلك الثوان التي مرت بصمت تام "أكيد عايزة أعيد الليلة دي معاك" أخبرته ثم شعر بأنها تنهض خلفه ليلتفت واضعاً يداه بجيبيه

"مظنش سمحتلك تقومي" تحدث بهدوء شديد ثم حمحم متفقداً اياها بنظرة امتلئت بإحتقار حاد لها "لو عايزاني تعالي كده ورايا زي ما أنتي.." تيبس جسدها لثوانٍ من إدراكها ما يعنيه ثم التفتت على ركبتيها ثم بدأت في الحبو بينما التفت هو ليتوجه لأحدى الأبواب الزجاجية التي تفصل الردهة الأمامية عن غرفة الإستقبال الشاسعة ثم التفت مجدداً لينظر لها وهي تحبو بتلك الطريقة ليبتسم على ما يراه وتوقف أمامها ليجبرها على التوقف أمام حذاءه ثم نظر بحدقتاه للأسفل وبدأ بالتشفي مقدماً بعد كل ما تخيله من الإهانة الشديدة التي ستختبرها الليلة على يداه وبدأ يتنفس بعمق وراحة متلذذاً بذلك التسلط القاسٍ الذي بدأ بالشعور به وهي أسفل قدماه بذلك المنظر.

"قومي وارفعي ايديكي لفوق!" آمرها لتفعل ليشاهدها هو في استمتاع شديد وأخرج يداه من جيباه استعداداً لممارسة وتنفيذ كل ما قد خططه لها منذ قليل.

 

❈-❈-❈

في صباح اليوم التالي..

دلف بدر منزله وقد قاربت التاسعة صباحاً وما إن وصد الباب حتى انتبه سليم الذي كان يجلس بالردهة على احدى الكراسي ونهض ما أن رآه ليرمقه بدر عاقداً حاجباه

"ايه يا بابا.. قولتلهم ايه؟!" صاح سائلاً في لهفة متوجهاً نحوه

"متقلقش وراك راجل.. شكلك منمتش من امبارح" حدثه بنبرة تحمل التهكم

"لا منمتش.. يعني كله تمام؟!"

"آه تمام، روح اعملي أنا وزينة قهوة وساندويتشات واحنا هنيجي ناخدها"

"اعملكوا قهوة وسندويتشات؟!!" تمتم في غير تصديق مكرراً كلمات والده التي تعجب لها "جرا ايه يا بدر!! أنت شايفني الفلبينية اللي هنا؟"

"آه فليبينية ما دام سكرت منك امبارح.. لما أنت مش عارف تسيطر نشوف غيرك بقا!" أخبره متهكماً

"بابا أرجوك بلاش الأسلوب ده" حدثه بجدية وضيق واضحان "أنت عارفني كويس، أنا كنت ممكن أجبرها إنها متخرجش امبارح بس أنت فاهم أنا ليه وافقتها، مظنش إنك لو صحيت وشوفتها نايمة في سريرها وعينيها منفخة من العياط ولا جالها نوبة صرع تاني زي أيام زمان كنت هتتبسط! أنا مرضتش أشوفها كده وأتأكد إن حتى لو كانت عمتي بنفسها وقفت قصادي عشان تمنعني اعملها اللي هي عايزاه أنا مكنتش هوافق وهاخرج معاها بدون موافقتها" أخبره بجمود وعقد حاجباه مقطباً أسنانه ليزفر والده وأومأ له في تفهم

"فاهم يا سليم.. أنا كنت بهزر معاك على فكرة" حاول بدر الدين استيعاب الموقف وتبدلت نبرته الحادة للين

"ماشي" اخبره سليم بإقتضاب ولكن ملامحه لازالت منزعجة

"ما خلصنا بقا يا عم!! بذمتك مش نفسك زوزا حبيبة قلبك تاكل من ايديك؟" همس بدر الدين له في مزاح ثم رفع حاجباه في مكر عندما تلاقت أعينهما لتلين شفتا سليم في ابتسامة مقتضبة "معلش.. لازم بردو تدرب للمستقبل متفتكرش أنك عشان ابن رجل أعمال مش هتطبخ وتصحي وتنضف وتساعدها، يعني الدلع والحاجات دي بنساهم فيها بردو، ومعلش خليها عليك واعتبرني في مقام والدك واعملي أنا كمان حاجة أكلها"

"لا يا عم أنا هبقا اجيبلها فليبينية.. ويالا روح صحيها على ما أعملكوا حاجة تفطروا بيها"

"متحرمش من طيبة قلبك عليا" توسعت ابتسامته ليومأ سليم وبادله الإبتسامة ثم تركه وتوجه للمطبخ بينما توجه بدر الدين للأعلى حيث الغرفة التي اعتادت زينة أن تمكث بها كلما آتت لتمكث معهم!

دلف الغرفة بهدوء وأزاح الستائر حتى تسلل ضوء النهار للغرفة وأنارها وتوجه ليجلس بالقرب منها على السرير ليلمح ثيابها منذ الليلة الماضية ثم لاحظ حقيبتها التي تواجدت بها سجائرها ليقطب جبينه في عدم تصديق لما وصلت له حالتها ومد يده ليأخذ السجائر وكذلك قداحتها ووضعهما بجيبه ثم بدأ في ايقاظها.

"زينة.. مش نصحى كده ونفوق" صاح بنبرة تُسمع جيداً "زينة يا حبيبتي يالا اصحي" ربت على كتفها بقوة متوسطة حتى تشعر به فهو على ما يتذكر جيداً أن آلام ما بعد احتساء الخمر لعينة للغاية وربما لن تستطع تحملها!

"خالو" همست بنعاس بينما ضيقت ما بين حاجبيها ثم وضعت يدها على رأسها لذلك الآلم البئيس الذي أندلع برأسها ولم تستطع أن تفتح عيناها "حاضر" همست مجدداً ليبتسم هو نصف ابتسامة

"قومي خدي shower ويالا عشان نفطر، هستناكي تحت في الجنينة" أخبرها لتومأ هي له وغلف الآلم ملامحها "فوّقي كده ومتناميش تاني عشان عايزك"

"حاضر.. هقوم بس وهاجي" أخبرته بعد أن حمحمت وهي تشعر بجفاف حلقها

"ماشي.. جنبك مياة اهى اشربي كتير منها ومسكن كمان خديه عشان الصداع اللي عندك ده" حدثها لتفتح عيناها في دهشة فهي لا تعرف كيف علم خالها بذلك "خدى بس الدوا والـ Shower وهنتكلم.. متتأخريش" ابتسم لها بإقتضاب ثم تركها وتوجه للخارج لتزفر في وهن لذلك الوجع الذي تشعر به ونهضت بصعوبة لتفعل ما أخبرها به بدر الدين.

توجهت لخارج الغرفة بعدما اضطرت أن ترتدي ملابسها القديمة الملونة الغريبة التي لطالما تعجب لها الجميع، فهي منذ أن غادرت للدراسة بالخارج وهي لا ترتدي إلا اللون الأسود وأما ما ارتدته ليلة أمس كان مجرد كسر لذلك الروتين الذي شعرت به يتحكم في حياتها ويُفرض عليها عادة جديدة.

"صباح الخير.." تحدث سليم لها بنبرة عميقة وقد بدت مُرهقَة قليلاً.

"صباح النور" أخبرته ثم شعرت بالتردد بداخلها حتى لاحظت أنه كاد أن يغادرها "سليم" نادته ثم حمحمت "امبارح أنا، أنا مش بعمل كده على طول وأول مرة أشرب أصلاً ومكنتش أقصد، مممـ.. شكراً إنك جيبتني هنا" حاولت الإبتسام ولكن اهتزت شفتيها في توتر بدلاً من أن تبدو ممتنة له ليومأ هو لها

"حلو اللي أنتي لابساه ده، فكرني بزينة بتاعت زمان" لانت شفتاه بإبتسامة لتعقد هي حاجبيها وهي بداخلها تتمنى ألا تتذكر كل ما مر عليها وشعرت بالخوف ما إن عادت لتلك الفتاة التي عاهدت نفسها على قتلها بداخلها للأبد "بابا مستنيكي برا" أخبرها ثم تركها وهو لم يعد يدرك كيف يتعامل مع شخصيتها الجديدة التي تحولت لها وبداخله ذلك الصراخ الذي يدفع الدماء بعروقة في غزارة ويتركه مشتتاً بين معرفة ما حدث لها لتتغير هكذا وبين معرفة كيف عليه التعامل معها!

بالرغم كل ما بدر منها الليلة الماضية لا زال يؤمن بتلك الفتاة الرقيقة الرزينة التي أحبها قلبه، لا زال متأكداً أن تلك التي عشقها قلبه بداخلها في مكان ما، فقط يريدها أن تتحدث، أن تخبره ما بها، أن يعلم أي شيئاً عنها ولكنها منذ عودتها لا يشعر منها سوى بالنفور والجمود.

توجهت للخارج حيث انتظرها بدر الدين الذي ما أن لاحظها حتى ابتسم لها وحاولت هي مبادلته الإبتسامة ولكنها بدت كمن تصارع حُزناً دفيناً بداخلها قد فهمه هو جيداً فلقد عانى من قبل هو الآخر.

"صباح الخير يا خالو" بدأت هي بالحديث لومأ لها أن تجلس بجانبه على تلك الأريكة ففعلت

"ايه الصداع أحسن شوية؟!" لم ينظر لها حتى لا تتحرج من سؤاله لتومأ له بإقتضاب

"آه أحسن" همست مجيبة لتراه بدأ في تناول الطعام

"يالا أفطري وأشربي قهوتك.. بس ايه واضح إن سليم متوصي بينا اوي في الفطار النهاردة.." تعجبت لكلماته وهي تحاول أن ترمقه بنظرة جانبية بينما شرعت في تناول طعامها هي الأخرى وصمتا لدقائق ليحمحم بدر الدين الذي بدأ في الحديث هذه المرة

"أنتي عارفة لو كانت هديل عرفت اللي حصل امبارح ده مكنتش هتسكت، مش كده؟!" حدثها بنبرة هادئة

"عارفة يا خالو" اجابته بإقتضاب بينما تنهدت في آلم وتركت الطعام ثم أمسكت بكوب قهوتها وشردت أمامها ليتفحصها بسوداوتيه الثاقبتين ثم ابتسم نصف ابتسامة وأخرج السجائر التي وجدها بحقيبتها ليخرج واحدة له ثم قدم لها العبوة لتتوسع زرقاوتاها وهي ترمقه في دهشة وتعجب

"خدي خدي متتكسفيش" هز رأسه لها مشجعاً لتمتد أناملها في ارتباك جلي وهي تتناول احاها على استحياء "زمان الصداع مفرتك دماغك أنا عارف" صاح بعد أن أشعل سيجارته ثم أقترب بالقداحة منها حتى يُشعل لها خاصتها لتتردد هي ولكنها تنهدت بالنهاية وترتكته يشعل سيجارتها لتجده يضع القداحة على المنضدة أمامهما ثم أمسك بكوب قهوته هو الآخر ليرتشف بعضاً منها بينما دخن بتأني على عكسها هي التي بدت وكأنها تلتهم السيجارة وتتناول قهوتها بسرعة وكأنها دوائها الوحيد.

"تعرفي بقالي يجي عشرين سنة مولعتش سيجارة" أخبرها في هدوء مبتسماً لتلك الأيام التي تذكرها وما إن قارب على الوصول لمنتصف سيجارته حتى ألقاها أسفل قدمه ودهسها والتفت نحوها متفحصاً اياها "أتغيرتي اوي، زينة بنتي اللي ربتها راحت فين؟!" همس سائلاً وكأنما يعاتبها لتلتفت له بعد أن تريثت لمدة وهي تحاول أن تستجمع شجعتها وبنفس الوقت تبحث بداخلها عن الإجابة المناسبة

"موت بابا مش سهل عليا يا خالو، أنا كمان قربت أخلص دراستي ولما أواجه ماما بأني عايزة أكمل حياة في ألمانيا مظنش هتوافق بسهولة، مش عارفة هاعمل ايه الفترة الجاية وحاسة إني لوحدي، مش عارفة كمان اليومين الجايين دول هيعدوا عليا ازاي لغاية ما أسافر تاني.. مش طايقة القاعدة في بيتنا وعايزة أسافر في أقرب وقت" همست في ضعف أدركه بدر الدين جيداً

"عارف، عارف وفاهم إن سيف بالنسبالك كان ايه، بس مش عيب تقولي الكلام ده وأنا موجود، ولا نسيتي إنك بنتي زي سيدرا وسليم؟" نظر لها بلوم لتهز رأسها في إنكار

"أكيد منستش يا خالو بس.." لم يتركها لتكمل جملتها بينما اجتذبها لعناق أبوي وربت على ظهرها في حنان

"اللي أنتي عايزاه هاعملهولك ومحدش هيقدر يفرض عليكي حاجة طول ما أنتي عايشة، بس أرجعي زينة اللي أعرفها، زينة صاحبتي وبنتي اللي ضحكتها عندي بالدنيا.. خليكي واثقة إن هاكون دايماً معاكي وفي ضهرك بس حاولي ترجعي تاني بنتنا اللي نعرفها ومتخافيش من حاجة أبداً" أخبرها في رفق لتدمع عيناها وجاهدت بشدة ألا تبكي وتنتحب ولكن احدى دمعاتها باغتتها وشعر بها بدر الدين ليبتعد عنها ونظر لها في ود وهو يجفف تلك الدمعة المباغتة

"متعيطيش ومتخافيش، كل حاجة هتكون تمام.. اتفقنا؟!" نظر لها بنظرة مؤكدة لتومأ له بالموافقة ثم همست له

"اتفقنا"

"طيب يالا قومي اغسلي الوش الحلو ده والعيون الجميلة دي واستغلي الواد سليم ده اجازة النهاردة، خليه يواديكي النادي، الدنيا اتغيرت كتير عن زمان وهيعجبك" ابتسم لها لتبادله الإبتسامة

"حاضر"

نهضت ثم غادرته للأعلى بينما شاهد سليم كل ما حدث بينهما من على مقربة وما أن غادرت هي آتى ليجلس بجانب والده الذي تفقده بعيناه

"مالها يا بابا؟! فيها ايه؟" تسائل سليم بنبرة امتلئت بالحيرة والآسى لحالها

"زينة محتاجة اللي يوقف جنبها الفترة دي وخايفة تواجه هديل واخواتها وكل اللي حواليها، حاول تكون جنبها واحضنها يا سليم، زينة محتاجة حضن وحد يفهمها ويُصبر عليها ويطلعها من اللي هي فيه، وأهم حاجة يقبلها زي ما هي، مش عايزة اللي يهاجمها ويزعقلها، عايزة اللي يقومها ويحسسها إنها طبيعية ميحسسهاش إنها غريبة ويتقبل منها كل اللي بتعمله!" شرد بدر الدين بالفراغ متذكراً ما كان عليه يوماً ما وكم آلمه أن تلك الفتاة التي يعتبرها بمثابة أبناءه تمر بمعاناة مثلما عانى هو يوماً ما

"هي قالتلك حاجة؟" تعجب وهو يتفقد والده بتلك العينتان اللاتي شابهت خاصته

"لا بس أنا فاهم كويس اللي بتمر بيه" تنهد في آلم ولكنه أبعد ذلك التفكير عنه تماماً "أنا قولتلها تروحوا النادي شوية تغيروا جو، خليك معاها وحاول تطلعها من اللي هي فيه"

"حاضر يا بابا"

"ما تبطل بقا بابا دي، متحسسنيش بالدراما كده" التفت له وهو يتفقده وقد عاد المرح لنبرته "ولا فاكرني عجزت ياض" مد ذراعه ليحيط به عنق سليم وجذبه بعتف مازحاً

"يا عم بدر خلاص بقا، أنا اللي عجزت، مبسوط كده؟!"

"اه يا أخويا مبسوط.. يالا قوم غير وروح معاها، حاول تفرفشها شوية، ايه متعلمتش مني حاجة؟!"

"عليا أنا يا بدر، أنت فرفوش بس مع نور"

"يا واد أتلم، بردو بتقول نور؟!" عقد حاجباه في حنق بينما أزاد من حدة احاطة عنقه

"اه بقا إذا كان عاجبك دي مزتي الحلوة وهافضل أغيظك وأدلع فيها"

"بقا كده!!" جذبه أكثر بعنف ليصيح هو من مزاح بدر الدين "يالا يا كلب غور من وشي بدل ما ألعب في وشك البخت!! قال مزتك قال.. جتك ستين وكسة" تركه دافعاً اياه ليضحك سليم

"خليك كده هتموت مني وانا سيدو ونوري بيموتوا فيا وأنت لأ" صاح له ليستفزه ليتناول بدر الدين احدى زجاجات المياة ودفعه بها

"امشي يا ابن الكلب من وشي لحسن لو قومتلك ومسكتك مش هاتمسكك عافية" صاح له بحنق ليتفادى سليم الزجاجة البلاستيكية ببراعة وتوجه مغادراً اياه للأعلى.

 

❈-❈-❈

 

أطلق زفيراً بعمق كمن يفرغ ثِقلاً حمله للكثير من الوقت وهو ينسلت من داخلها ثم تركها لتقع أرضاً فهو لم يعد يكترث بما قد يحدث لها بعد أن سجل وصور كل ما أراده.

"امشي اطلعي برا" آمرها بعد أن استعاد انتظام أنفاسه وتخلص من ذلك اللهاث بينما هي لازالت أنفاسها اللاهثة الغير منتظمة تدفع ثدييها للصعود والهبوط في عنف

"شهاب بيه أنا مش قادرة اتحرك أرجوك خليني أبات عندك الليلادي" توسلت له منادية اياه بهذا اللقب الذي فرضها منذ ساعتان أن تناديه به دائماً

"وأنا ايه اللي يخليني ابيت عندي واحدة مقرفة زيك، قومي بصي لنفسك في المراية، ده منظر بردو، ده أنا اخاف لا القرف ده يتعبلي عيني" حدثها بسخرية بينما أخذ احدى الشراشف ليحاوط ما بعد خصره بها ونظر لجسدها الذي لم يتواجد به قيد أنملة إلا وارتسمت عليه علامات حزامه وقسوته المبالغ بها أمّا هي فوجدت نفسها تبكي من كثرة تلك الإهانة التي تلقتها منه، فالمرة السابقة كان عنيفاً معها فقط، أمّا الليلة فكأنه لم يرد سوى إهانتها بطريقة مبالغ بها وهي لا تدري ما سبب ذلك.

"أرجوك يا شهاب بيه مش هازعجك.. هاستنى بس للصبح، أبوس رجلك أنا مش قادرة أتحرك" تهاوت دموعها وهي تقترت من قدماه لتقبلهما مثلما آمرها أن تفعل كلما جلست أسفل قدماه

"بت أنتي.. أنا مش طايق أبص لوشك المقرف ده.. هاتقومي تمشي بالذوق ومش هاتوريني وشك ده تاني ولا تحبي ميرال هانم بنت زكي بيه عثمان تتفضح وسط الناس وهي بتتذلل تحت رجلين راجل؟!" نظرت له في غير تصديق لتتهاوى دموعها بلا إنقطاع ليبتسم هو في شر خالص وهو ينتشل قدماه من بين يديها وشفتيها اللاتي قبلتاه في توسل

"بس سيبك أنتي، اللي حصل ده لو نزل هايصيتك بردو، وأنتي بصراحة ده مقامك.. وكله متصور بكاميرات عالية الدقة.. تخيلي بقا بنت الحسب والنسب لو اتنشرلها فيديوهين شوفي ابوها بقا سمعته هتبقا ايه.. فيديو جنسي لإبنة رجل الأعمال وعضو مجلس الشعب زكي عثمان!! شاهد قبل الحذف" قهقه بضحكاته مستهزءاً بها ثم تركها ليتمدد على السرير واضعاً كفاه خلف رأسه

"ياااه.. ده أنتوا هتتجرسوا، ده مش بعيد تتبهدلوا وتخسروا اللي وراكوا واللي قدامكو بحتة فيديو زي ده، ويا سلام بقا لما اوقعلك ابوكي في السوق، ويبيع اللي وراه واللي قدامه، مش بعيد متلاقوش شقة في حي شعبي حتى تلمكوا" تحدث متنهداً بأريحية وهو يرسم ذلك السيناريو أمامه وهي تبكي في صدمة قاسية

"يالا برا بلاش قرف" صاح بها بجدية آمراً لتتهاوى دموعها وأجهشت بالبكاء وبالكاد استطاعت أن تنهض وهي تتحاول على قدميها ويديها بعد أن كبلهم بعنف طوال الساعتان الماضيتان

"أرجوك ابوس ايديك بلاش تعمل فينا كده.. أنا هامشي.. هامشي ومش هاكلمك ولا هاجي جنبك تاني بس.. بس حتى أنا معنديش هدوم أخرج بيها، كلها اتقطعت" همست بين بكائها المرير

"روحي خديلك قميص من غسيلي الوسخ ويالا مش طايق أبص في وشك.. غوري من وشي بقا متقرفنيش واياكي بس تحاولي حتى تعرفيني تاني وإلا هفضحك أنتي وأبوكي" تحدث دون إكتراث لتومأ في وهن وتوجهت هي للخارج تتحامل على آلامها وجروحها التي كست جسدها بأكمله وجرح روحها بداخلها بينما تابعها هو عبر كاميرات المراقبة المتصلة بهاتفه حتى غادرت منزله وهي تبكي في حرقة..

تململ في سريره مقهقهاً بعد أن تذكر تفاصيل الليلة الماضية وشعر بالنشاط يتغلغله لينهض مقرراً أن يتنعم بصباح جديد فقد مر وقتاً طويلاً لم يتمرن به وغادر سريره حتى يستحم ويستعد للتوجه للنادي الرياضي.

 

❈-❈-❈

 

 



"لا أرجوكي ده أنا ما صدقت، أنا اجازة النهاردة، وأنتي معندكيش Extras.. بلاش سخافة بقا ويالا نخرج" تحدث أدهم ولكن نبرته آتت متوسلة

"ما أحنا قاعدين سوا أهو يا حبيبي.." همست له سيدرا حتى لا يستمع إليهما أحد

"لا مش قاعدين براحتنا، كل شوية ماما تيجي وطنط نور تيجي، وكمان طنط هديل مخلية الجو كئيب اوي في البيت، عشان خاطري يا سيدو نخرج النهاردة" انهالت تلك النظرات المتوسلة من عيناه وبالطبع لن تستطيع سيدرا أن تصمد أمامها

"ماشي Okay.. عشان خاطرك.. بس منتأخرش عشان محدش يلاحظ حاجة.. أنا ما صدقت فلت من سليم من يومين لما رد عليك وفضل يسألني أسئلة غريبة"

"يا حبيبتي كان بيسلم عليا عادي.. يالا اطلعي غيري وقولي لطنط نور وأنا هاقول لماما.. ومتتأخريش عليا"

"ماشي"

"شاهي يا مُزة" صاح أدهم دالفاً غرفة والدته التي تصنعت المفاجأة

"جرا ايه يا أدهم خضتني"

"أنا خارج شوية مع سيدرا بدل الجو الكئيب اللي في البيت ده"

"يا حبيبي عيب تقول كده.. وبعدين ما تقعد تذاكر زي أسما" عقدت ذراعيها وهي تتفحصه في استغراب

"ما خلاص بقا يا ماما والنهاردة أنا معنديش حاجة في الكلية، وحياة أغلى حاجة عندك ما تقفشي.. أنتي عارفة إن كده كده هندسة طلعان عينيهم وأنا والله بذاكر ولو مش بذاكر مكنتش جبت التقديرات دي"

"طيب ماشي اتفضل، ومتتأخرش.. سامع؟!" تصنعت الحزم بينما سيطرت على ضحكتها بصعوبة

"إلهي ما يحرمني منك يارب يا حلو يا جميل أنت" صاح بينما توجه للخارج ليلتقي نورسين بطريقه "طنط!!" حمحم لتعجبه من وجودها وملامح وجهها لا تبشر بالخير "عاملة ايه؟!" تسائل وهو يحك رأسه في توتر فربما هي لم توافق على ذهاب سيدرا معه

"تمام يا حبيبي.. ماما جوا؟!" ابتسمت له بإقتضاب ورسمية شديدة

"آآآه.. هو بجد حضرتك كويسة؟!" اجابها في تردد ثم سألها محاولاً أن يتبين حالتها فقد تكون تشاجرت مع سيدرا

"آه يا أدهم فيه ايه كويسة اهو.. عديني ادخل لشاهي" نظرت له في تعجب بينما افسح لها الطريق

"اه طبعاً اتفضلي يا طنط" أخبرها محاولاً أن يرسم ابتسامة على شفتاه "يووه بقا لو موافقتش!! أنا مش ناقص عكننة" تمتم بخفوت بعد أن تأكد من إغلاقه للباب خلف نورسين وتوجه للبحث عن سيدرا.

"العيال.. الهبلة.. مش ممكن.." صاحت شاهندة بين ضحكاتها التي شاركتها نورسين بها

"بس دخل عليهم اننا متعصبين" ضحكت نورسين مجدداً لتصاحبها ضحكات شاهندة

"مش ممكن، حب الطفولة اللي بينهم ده" تحدثت شاهندة بعد أن أهدأت من ضحكاتها

"نفسي على طول أشوفهم سوا.. بجد الحب ده مبيتعوضش.. بس لازم يركزوا في دراستهم الأول وبعدين نعملهم اللي همّ عاوزينه"

"بردو حمزة قاللي كده مع إني نفسي أفرح بيهم اوي بسرعة بس بردو الدراسة مهمة، أنتي معاكي حق"

"هو حمزة يعرف؟!" توسعت زرقاوتاها في دهشة

"ده ملاحظ كل حاجة وعامل عبيط.. بس على مين قفشته.." غمزت لها ثم قطبت جبينها لتتابع "وبدر عرف؟!"

"لا طبعاً أنتي عارفة بيغير عليها ازاي.. ده ممكن ياكل أدهم صاحي"

"يادي النيلة.. مفيش فايدة في غيرته دي.. ما يركز معاكي ويسيب البت للواد"

"مركز ياختي متقلقيش"

"ماشي أمّا نشوف.. يخلصوا بس السنادي وأنا وأنتي نقنعه كده بالهداوة"

"خلاص اتفقنا"

 

❈-❈-❈



ظل ينظر لها في غرابة شديدة بين الفينة والأخرى وهي ترتدي قميص والده الأسود المصنوع من الصوف الثقيل الذي احاطته بأحدى الأحزمة الرفيعة حول خصرها وهو يتعجب لإنتقائها الغريب لملابسها، فهي ليلة أمس ذهبت بتلك الملابس السوداء الواسعة غريبة الشكل لتعود برداء قصير أنثوي للغاية لامع لا يليق إلا بأحدى عارضات الأزياء، والآن هي ترتدي قميص والده الذي يغطي جسدها بأكمله وأسفله ذلك البنطال الأسود كذلك الواسع..

لم يعد يتعرف عليها من هي حقاً، أهي تلك الفتاة الرزينة التي اتسمت بإرتداء الألوان الصاخبة قبل سفرها، أم هي من تتشح بالسواد دائماً، أم هذا لموت والدها، ولكن ما الذي ارتدته ذلك ليلة أمس؟ وما ذلك الحلق الذي تضعه بأنفها منذ أن عادت؟ ولماذا هي مصممة على طلي جفنيها بالسواد وكذلك أظافرها؟ حقاً لا يجد تفسيراً لكل ذلك!!

"شكراً يا سليم" حدثته ليلتفت لها بينما سارا في اتجاههما لمرأب السيارات الخاصة بمنزل والده

"العفو بس على ايه؟!" تعجب لتصرفها وامتنانها له فهي منذ أن عادت من سفرها وهي تقابله دائماً بالجمود

"يعني امبارح والنهاردة الصبح.. مكنتش بصراحة متوقعة تعمل معايا كده وكمان كلمت خالو"

"وايه يعني اللي يخليكي متتوقعيش أعمل معاكي كده؟!" ابتسم لها متسائلاً بعد أن توقف ليرغمها هي الأخرى على التوقف بينما تاهت الكلمات منها وهي من تظن أن الجميع يحاول فرض الأشياء عليها

"مش توقع.. هو يعني.. تقدر تقول إني مش مستنية مساعدة من حد ولا جمايل، عموماً حبيت أشكرك" آتت كلماتها متحفزة أكثر منها ممتنة ليندهش رافعاً حاجباه ولكنه ما أن رآها تشرع بالسير مجدداً أوقفها بنبرته الرجولية وابتسامته التي يبدو أنها قد تسحر جميع الفتيات من حوله سواها هي.

"بصي يا زينة، أنتي بنت عمتي الصغيرة ومتربيين مع بعض وليكي معزّة كبيرة عندي، مظنش أنا الراجل اللي هشوفك محتاجة حاجة ومش هاقف جنبك، ومش جميل ولا مساعدة بس عشان أنا كمان متوقع منك إنك لو لقيتيني في موقف زي ده مش هتتخلي إنك تساعديني.. وأظن إن اللي بيني وبينك أكبر من كده بعد السنين دي كلها، ولا إيه؟!" تفحص زرقاوتاها اللاتي تاهت من كلماته التي لم تستطع تفسيرها بسهولة لتجد نفسها تحاول أن تبتسم بإقتضاب وأومأت بينما اتجهت نحو المرأب وبداخلها تتخبط من تلك الكلمات التي لا زالت لا تدرك ما معناها.

"حاسبي السلم" احاط خصرها بعد أن صاح محذراً وكل ذلك حدث بسرعة شديدة وهي كانت شاردة تماماً بكلماته ليستقر جسدها الصغير بين ذراعه وأقتربت للغاية من صدره لترفع عيناها الزرقاوتان تتطلعه ولأول مرة تشعر بداخلها بإنجذاب لتلك العينتان اللاتي لطالما ظنتهما سودواتان ولكنها أدركت الآن أنهما عسليتان في ضوء النهار.

"خدي بالك.. كنتي هتقعي" همس أمام وجهها الذي تمنى دائماً أن يراه بالقرب منه هكذا طوال تلك السنوات الماضية ليقعا ببؤرة صمتهما تلك ولم يستطع أياً منهما التحرك لينظرا لبعضهما البعض في تريث شديد.

نظر لشفتاها تلك التي تبعثره داخلياً وتجعله يود أن يتملكهما بين شفتاه ليلثمهما ببطء ويتذوقهما حتى يرتوي منهما بعد تلك السنوات التي أنتظر بها أن يراها مرة ثانية وانتعشت بذاكرته ما حدث ليلة أمس ليحذره عقله من فعلها مرة ثانيةً وخاصةً أن أي أحد الآن قد يراهما من الحراس أو والده وهو لا يريد أن تبدو زينة هكذا بأعين الجميع.

"يالا؟!" كاد أن يقتل نفسه وهو يترك خصرها ويده تريد أن تتمسك بها أكثر ولكنه زجر نفسه بصعوبة وسيطر بشدة على أفعاله بالرغم من أن مشاعره تجاهها تصرخ بداخله ألا يبتعد عنها.

أومأت له لتفر نحو السيارة وهي لا تدري لماذا أستسلمت بين يداه بتلك السهولة الشديدة بل وظلت تبادله النظرات وسكنت تماماً بين يداه وزجرت نفسها على ضعفها الشديد أمام رجل حتى ولو كان ابن خالها فهي لا تسمح أبداً أن يقترب منها رجل بهذا الشكل.

دلفا السيارة وكل واحد منهما قد سيطرت عليه تلك اللحظة التي مرت ولكن سليم لا يريد أن يتصف الموقف بالغرابة ولا يعجبه الصمت هذا الذي غلف الجو حولهما فامتدت أنامله لأحدى الأزرار بالتابلوه الأمامي للسيارة ليصدح صوت أحد المغنيين بالتغني بأغنية عن الآلم والجرح بسبب إنفصاله عن محبوبته.

"ايه النكد ده" تمتم بخفوت ولكنها سمعته

"نكد ايه؟!" همست متسائلة

"مسمعتيش الأغنية؟"

"لا مخدتش بالي" اجابته بتلقائية ليومأ لها في تفهم بينما ضغط احدى الأزرار لتغير الأغنية

"بصراحة مبحبش النكد، أنا فرفوش بطبعي" رمقها بعينتاه بنظرة جانبية لتبتسم لكلمته

"فرفوش يعني بتحب تعمل ايه؟!" تسائلت في تعجب

"مبحبش قاعدة البيت، يعني بس لولا اليومين دول هتلاقيني دايماً أنا وإياد يا خارجين رايحين سينما يا في النادي يا مسافرين، وقت ما بنكون فاضين نروح نسهر مع أصحابنا، ممكن أخد نوري وسيدرا أخرجهم، بنتجمع ساعات كمان مع طنط شاهي وأسما وأدهم وبنخرج كلنا او بنسافر، حتى لو تعبان بس مبحبش الخنقة والكتمة" تحدث مجيباً بتلقائية لتهز رأسها في تفهم

"حلو"

"وأنتي بقا بتعملي ايه بعد ما بتخلصي محاضراتك كل يوم؟!" سألها ليتجاذب أطراف الحديث معها

"يعني.. بخرج مع أصحابي، ساعات بقعد أذاكر، بحب أروح أقف على الكورنيش، بس عموماً الدنيا في ألمانيا غير هنا خالص"

"خلصي أنتي بس وتعالي وهتلاقي الدنيا هنا حلوة، اللمة بتاعتنا حلوة أوي يا زينة وهتحبيها" أخبرها لتتجهم ملامحها من مجرد فكرة عودتها الدائمة لتصمت تماماً بينما لاحظ هو تغير ملامحها "قوليلي بقا لسه بتلعبي تنس زي زمان ولا بطلتي؟" غير الموضوع تماماً عندما شعر بتغيرها

"ايه؟ تنس!! قليل اوي، مبقاش عندي وقت زي زمان" نجح هو في إخراجها من تفكيرها وعادت ملامحها لتكون طبيعية

"طب تعالي بقا، فرصة إننا جينا هنا النهاردة" صاح وهو يصف السيارة

"فرصة؟! فرصة ايه؟!" صاحت في تعجب وهي تخرج من السيارة بينما تابعته بعينيها

"ده احنا هنلعب سوا النهاردة.." ابتسم لها وهو يتوجه نحوها

"لا أنا مش عاملة حسابي ولا جايبة هدوم معايا، مش هنلعب لأ"

"تعالي بس أمّا أفهمك، لابسة كوتشي أهو، ومظنش المضرب هيقول لا متلعبيش بيا عشان مش لابسة لبس اللعب" تحدث بنبرة تشبه البكاء ولكن مازحة لتضحك هي بخفوت

"استنى بس يا سليم، مش هاينفع بجد"

"تعالي تعالي.. غيري جو، لو متبسطيش بعد أول عشر دقايق متكمليش!" أخبرها ثم جذب يدها بين يداه وهو يرغمها على التوجه نحو منطقة ملاعب كرة المضرب لتصيح هي بعبارات الرفض بينما لم يكترث هو وظل يقنعها بطريقهما.

 

❈-❈-❈

 

 



"أدهم متقربش اوي كده أفرض حد شافنا" صاحت سيدرا في خجل وهي تدفعه بعيداً عنها

"هو هنا وفي البيت وفي الجامعة.. أنا زهقت بقا، أرجوكي بطلي تبعديني عنك، أنا بحبك والله.. ولا أنتي مش واثقة فيا؟!" تفقدها أدهم بعينتاه اللاتي تفحصا زرقاوتاها

"ماشي بس هنا كل الناس تعرفنا ومينفعش كده" حاولت الإبتعاد عنه ليجذب يداها

"ماشي.. بس بكرة نتجوز ومش هتقدري تبعدي عني أبداً"

"يااه لسه بدري يا أدهم اوي، أنا أصلاً مش عارفة هيقبلوا الموضوع ازاي واحنا لسه مخلصناش جامعة ولسه صغيرين" نظرت له في قلة حيلة وعينتاها ينهال منهما العشق له ولكنها أيضاً بدت لا تدري ما عليها فعله

"هانت.. كلها سنتين ونخلص" نظر لها هو الآخر بود شديد ليحتوي كفها بين يداه "على قد ما أنا مش قادر أصبر لكن كل حاجة عشان خاطر سيدو حبيبتي ممكن استحملها" ابتسم لها لتبتسم هي الأخرى ليجد أدهم فجأة يداً تنهال على كتفه بعنف بينما تركت سيدرا يده في خوف واتسعت مقلتيها

"مش تقولوا إن أنتو هنا؟!" صاح سليم الذي لاحظهما من بعد بينما ارتبكا الاثنان أمام عيناه ليحمحم أدهم وابتعدت سيدرا عنه وهي ترتعد لمجرد الفكرة بأن سليم قد رآهما معاً "يالا يالا عشان تلعبوا معانا" تحدث لهما بتلقائية بينما سيدرا وأدهم يحاولا أن يتصرفا بطريقة طبيعية

"ننلعب؟! نلعب ايه؟!" تسائل أدهم بينما حك رأسه من الخلف

"هنلعب تنس أنا وزينة وأنت وسيدرا، يالا انجزوا ومتضيعوش اليوم" توجه بتلك الهالة التي تحيطه وتجبر الجميع على الإنصياع له ليس خوفاً ولكن حباً به لأنه يُمثل للجميع الأخ الأكبر الذي يعتمدون عليه ويتوجب عليه اتباعه أمّا عن زينة فهي لا تدري ما الذي يفعله بها ويجعلها تتبعه بتلك الطريقة دون مجهود يُذكر.

 

❈-❈-❈

 

وصد إياد ما حاسوبه ليشرد مجدداً بأسما التي باتت تستحوذ على عقله كثيراً تلك الأيام ليتنهد في حيرة شديدة تجاه نفسه، لطالما كان هادئاً ويكفيه فقط رؤيتها أمامه بنزلهما ولكن ما يحدث له تلك الأيام قد تعدى الحدود التي رسمها دائماً للتعامل معها ولم يعد يكفيه رؤيتها وحسب!

"ايوة يا آسر" اجاب هاتفه الذي صدح بالرنين ليقاطع شروده بعشقه لأسما

"بقولك ايه أنا قاعد هنفجر ولسه قدامي كتير على ما أرجع أمريكا تاني وأنت بقا عارف ماما متتواصاش، هري هري هري عن خالك وبيعمل ايه وبيتصرف ازاي لما كلت دماغي"

"أنت هتقولي" حدثه إياد بتهكم فكلاهما يعلمان جيداً كم أن هديل تهتم بتفاصيل العمل وخاصةً أن آسر يعمل بفرع الشركة الخارجي بالولايات المتحدة الأمريكية مع زياد

"بص، شوفلنا أي مصيبة نروحها كده بدل ما أولع في نفسي، كفاية كمان خروجاتك ناشفة ومفيهاش حتة طرية تطري علينا"

"يا ابني ارحمني بقا وأتلم!! مش ناوي تعقل وتكبر وتسيبك من حوارات البنات دي؟!" زجره إياد بحدة

"أنا مش فاهمك صراحة عايش كده ازاي، دول البنات دول الحاجة اللي بتخليني أتنفس يا ابني! ده أنت ممل اوي.. فين دلوقتي خالك زيزو كان زمانه مشهيصني بنات ورقص ودلع مش الجفاف اللي عايش فيه هنا"

"جفاف!" صاح متهكماً "اقفل يا اخويا على ما تاخد محلول واظبط أقولك هنروح فين وهكلمك تاني" أخبره بسخرية

"ماشي مستنيك، متتأخرش عليا وحياة أولادك يا بابا!" أخبره هو الآخر في سخرية ليوصد إياد هاتفه ثم تحدث لسليم الذي أجاب بعد فترة

"ايه فينك، أنت مش هتيجي خالص النهاردة ولا ايه؟!"

"لا، أنا مع سيدرا وأدهم وزينة في النادي، ما تيجي أنت كمان تقعد معانا" تحدث له سليم بالهاتف وهو يوضع مضرب الكرة بمكانه المخصص له

"ده أنت أنقذتني.. هاجيب آسر وآجي عشان عايز يخرج، يالا مسافة السكة وجايلك"

"تمام مستنيك"

أنهى إياد مكالمته وشرع في تجميع أشياءه من على مكتبه لتدلف أروى بنفس اللحظة وهي تتفقده في تعجب

"ايه ده أنت ماشي؟!"

"آه خارجين أنا وآسر" اجابها بتلقائية دون أن ينظر لها

"طب متعرفش سليم هيجي ولا لأ؟!" هنا نظر لها متفقداً اياها "فيه حاجات واقفة على امضته" اجابته بنبرتها الواثقة دائماً

"ما بكرة يجي يعني هيروح فين، وآه لو حاجة مستعجلة اوي أنا رايحله النادي أنا وآسر ممكن تبـ.."

"لا هاجي أنا معاك عشان كمان عايزة اخد رأيه كده في كام موضوع بخصوص اجتماعات الأسبوع ده" تحدثت بثقة مجدداً وهي تقاطعه عندما أدركت أنه سيقترح عليها أن ترسل معه الأوراق بينما تعجب أخيها من طريقتها "استناني تحت وأنا هاجيلك.." أخبرته ثم توجهت لمكتبها هي الأخرى بينما اندهش إياد الذي يعلم أن أروى أخته لا تترك العمل هكذا بتلك السهولة ولكنه لم يكترث كثيراً وتوجه للخارج ليستعدا للمغادرة.

 

❈-❈-❈

 

 



أمسكت زينة بالأوراق بين يداها وهي تتفقد أعين سليم بإبتسامة ماكرة وكذلك تفقدت اوجه الجميع وبالرغم من أنها لم تجلس هكذا مع أحد منذ زمن ولكنها شعرت بالسعادة

"ما تخلصينا بقا وتخليه يسحب أمّا نشوف مين اللي هيكسب" صاحت أروى في تآفف

"يا بنتي استني بس، شكلها كده هتلبسه الشايب" صاح إياد الذي ظل ينظر لهما في حماس

"شايب ده أنا مش فاهم بتلعبوها ازاي أصلاً" تحدث آسر هاززاً كتفاه في عدم معرفة

"يا عم اسكت أنت يا ابن خالك.. ده احنا ياما لعبناها مع بعض زمان وأنت قاعد مسحول قدام التابلت بتاعك"

"يالا بقا يا سليم ما تسحب منها الورقة وتخلص الدور بجد كده هنقعد للصبح" تحدثت سيدرا في توسل بينما نظر لها أدهم في وله تام وكأنه لا يلاحظ من حوله ليلاحظ إياد الذي نظر لسليم ليومأ هو له في تفهم وابتسم له في إدراك لما يعنيه.

"زينة اخلصي بقا وسيبيه يسحب منـ.." تحدثت أروى بإنزعاج لتنظر لها زينة بملامح منزعجة وهنا جذب سليم احدى الأوراق منها على غفلة لتعيد النظر للورقة المتبقية في يدها وتحولت تعبيراتها للحزن الممزوج بالغضب

"هارد لك يا زوزا!" أخبرها بإنتصار لتنفعل هي أكثر

"لا أنت بتخم، ولولا إن أروى كلمتني كنت كسبت" صاحت بإنزعاج لتلقي الورقة من بين يدها وعقدت ذراعيها في طفولة وشردت بحقد في الفراغ لخسارتها لتتعالى ضحكات الجميع.

"أنا كنت قصداها عشان سليم يكسب" أخبرتها أروى وكأنما تتشفى بما فعلته

"يالا بقا اسحبي ورقة عشان أحكم عليكي بحاجة" ابتسم سليم ناظراً لها بعد أن جمع أوراق اللعب ومدها أمامها لتجذب اياها

"لا مش ساحبة ولا زفت، ومش هاتحكم بحاجة" أخبرته بإنزعاج شديد

"ايوة هنجيب ورا بقا.. هتسحبي ولا أقوملك؟!" نظر لها بمكر

"يا سلام هتهددني يعني؟!" نظرت له في تحفز وتوسعت زرقاوتاها

"ما بلاش أنا" ابتسم بخبث شديد ورفع احدى حاجباه

"أوبااا اديله شكلنا كده داخلين على خناقة مسخرة" صاح أدهم بينما ضحك الجميع على ما يشاهدوه بين سليم وزينة وتعالت صوت ضحكاتهم جميعاً ليلتفت جميع الجالسين نحوهم وحتى ذلك الذي فرغ من تمرين الملاكمة للتو ليتعجب مما يراه من على بُعد.

"طب وريني كده تقدر تعمل ايه!"

"انتي اللي اخترتي!!" نهض ليتوجه نحوها بينما فرت هي قبل أن يقترب من كرسيها وأخذت تجري مبتعدة عنه ليتبعها هو بتلقائية وضحك كلاً من إياد وآسر وصاحت سيدرا في غير تصديق

"مش ممكن سليم هيفضل طول عمره بيبي في الحاجات دي"

"لا أنا أقوم الحقهم بدل ما هم بيجروا ورا بعض كده زي الأطفال" تحدث إياد الذي نهض مهرولاً خلفهما

"لو مسكتك مش هاتمسكك عافية بقا، احسنلك تنفدي بجلدك من قدامي" صاح سليم الذي جرى خلفها بينما هي اخذت احدى المنعطفات وهي تُفكر بالتخفي بأحدى الحمامات المخصصة للفتيات فهو لن يستطيع اللحاق بها عندها وكاد أن يُمسك بها ولكنها انعطفت يساراً لتتصادم بجسد رياضي شعرت بصلابته وكادت أن تفقد توازنها لتشعر بيد سليم تحيط خصرها وتأكدت أنه هو عندما صاح بنبرة منتصرة

"مسكتك!!"

"أنا آسفة مقصدش" صاحت في إعتذار لذلك الذي ارتطمت به لترفع رأسها في حرج لتجد زوجاً من العيون البنية التي تحدق بعينتاها الزرقاوتان اللاتي تفحصتاه في استغراب بينما لم يبتعد هو ولم يفسح الطريق أمامها ولا زالت تشعر بالخجل هكذا وسليم يحيطها من خصرها وجسدها لا زال ملتصقاً بمن أمامها ثم شهقت في مفاجأة من جذبة سليم الذي أبعدتها عن ذلك الرجل ووجدته يدفع جسدها للتقهقر للخلف حتى استقرت خلف سليم وأصبح هو من يقف أمام الرجل ليواجهه لتضيق ما بين حاجبيها من تصرفه لتجده يقدم يده ليصافح الرجل الذي اصطدمت به ولم تتعرف عليه بعد وحدثه بنبرة غريبة تعجبت لها ولم تسمعها زينة منه من قبل

"ازيك يا شهاب!!"

 

❈-❈-❈

الفصل الرابع

 

"ازيك يا شهاب!" تفقده سليم بتلك النظرة العميقة التي يدرك شهاب جيداً أنها لا تُعبر عن ولعه به بل النقيض تماماً؛ تلك النظرة التي سُلطت نحو بنيتاه لم تعبر سوى عن الإنزعاج الخالص.

"تمام" اجابه بمنتهى الحصافة فهو له منتهى الحق بأن يجيبه بأسمه مثلما ناداه الأول، ولكن ترك ذلك جانباً حتى يتبين تلك الشخصية التي يبدو وأنه سيتعامل معها كثيراً الأيام المقبلة القادمة وصافح يد سليم التي قدمها له ليظهر إياد من خلفه الذي عقد حاجباه متعجباً من وجود شهاب.

"ازيك عامل ايه؟!" ابتسم إياد بإبتسامته المعهودة التي تدل على هدوئه وصافحه ليفعل شهاب أيضاً

"تمام.. بخير" اجاب مجدداً بإقتضاب ثم تلاقت بنيتاه الثاقبتان بتلك الزرقاوتان المستفسرة عنه، فذلك التساؤل الذي أنهال منهما قد راقه لبرهة.

عم الصمت الغريب المكان بملامح شهاب الجامدة، وملامح زينة المتسائلة، أمّا عن سليم وإياد فكلاهما لم يحبذا ظهور شهاب المفاجئ هذا أبداً ولكن بالرغم من ذلك سليلا تلك العائلة التي تشتهر بحسن السمعة واللباقة لن يكونا فظان أبداً وخاصةً إياد الذي استقبل عزاء والده من ابن عمه شهاب منذ أيام فوجب عليه أن يعامله بأسلوب لائق، على الأقل إلي الآن.

"اتفضل اقعد معانا" ابتسم له إياد بإبتسامته الرجولية الهادئة التي تدل على النُبل الشديد ليومأ له شهاب وتوجه جميعهم نحو البقية ليجلسوا معهم وقد اشتدت ملامح أروى التي شاهدت شهاب من على بُعد يتوجه نحوهم فهي الوحيدة من بين الجالسين من التقت به من قبل.

"مين ده يا سليم؟!" همست زينة في خفوت حتى لا تظهر بمظهر الجاهلة أمامه فهي قد رآت كيف تعامل معه أخيها البكر بل ودعاه للجلوس بينهم أيضاً.

"شهاب الدمنهوري" أطبق أسنانه وهو يحاول أن يتحكم بملامحه التي تتحول للإنزعاج تلقائياً كلما رآه بينما ابتلعت زينة وأطرقت بنظرها في الأرض في شرود لتفكر أن هذا الأسم مثل أسمها هي وقد "ابن عمك" همس سليم مقاطعاً تفكيرها حتى ينهي تلك الحيرة الواضحة على تقاسيم وجهها وما إن توجهت هي للجلوس بنفس شرودها حتى جلس سليم بجانبها وعم الصمت الأجواء.

"أهلاً ازيك يا شهاب عامل ايه؟!" هنا صاحت أروى وهى تنظر له بعد أن جلست بإستقامة وغرور لتعكس أحدى ساقيها على الأخرى وعقدت ذراعيها

"تمام.." نظر لها يتفقدها وابتسم بداخله كثيراً فهي بدت كتلك الفتيات اللواتي يُعذبن بغرفة نومه حتى يفقدا القدرة على التنفس بينما تجول بنظراته المتفحصة بينهما بين طيات هذا السكوت "متعرفناش يعني؟!" تفقد كلاً من أدهم وسيدرا وكذلك آسر ثم بالنهاية سلط نظره نحو زينة التي تعجب لطريقة جلوسها وشرودها بل وهدوءها الذي ظهر زائداً عن الحد.

"زينة.. بنت عمتي هديل.. الصغيرة" جاوب عنها سليم لتنظر له بزرقاوتين اتقتدا انفعالاً بنيران غضبها فهي لا تترك لأحد الفرصة أن يسيطر عليها أمام الناس وهي تذكر نفسها بأن لها لسان تستطيع التحدث به.

"غريبة يعني مشوفتهاش في الإجتماع" لانت شفتاه بإبتسامة غريبة لا تُفصح سوى عن السخرية التي لم يعلم سليم ما سببها لينظر هو له بإبتسامة أكبر

"لسه بتدرس و.."

"ازيك عامل ايه؟!" نهضت متحدثة لتقاطع حديث سليم بينما مدت يدها لتصافح شهاب بإبتسامة تعجب لها الجميع ليشعر سليم وكأنما سُكب عليه بحراً متجمداً، وشعرت زينة هنا بأنها قد أخذت الدفة وهي من يتحكم بلسانها وليس سواها، أمّا عن تلك البنيتين المتفحصتين اللتين اشتعلتا بالحماس فجأة فقد أدركت بمنتهى السهولة أن زينة مختلفة عن الجميع، يبدو أن تلك الفتاة هي من تستطيع التحكم بسليم دون أن يرفض هو ذلك بعد تلك الشخصية المهيمنة التي التقى بها في ذلك الإجتماع منذ أيام!

"تمام" ابتسم لها ولكن ليس بإقتضاب كثيراً مثلما يفعل مع الجميع ولكنه فعلها عن قصد ليس لأجل تلك الفتاة التي تصافحه وتلامس يده ولا ليس عن قصد أن تفتتن به بل من أجل أن يقرأ ذلك التعبير على ملامح سليم!! نعم لقد كان محقاً، تلك النظرة القاتمة التي اندلعت بعينيه وذلك الإنزعاج الذي تملك من ملامحه ما إن لامس يد زينة وابتسم لها لابد وأن خلفها شيئاً ما.

"أدهم.. ابن عمة سليم، أو ابن خالة إياد.. اللي تشوفه بقا" ابتسم كالعادة تلك الإبتسامة التي تضفي على ملامحه الوسامة والطيبة بآن واحد بعد أن نهض وصافحه ليومأ له شهاب ثم تبعته سيدرا بينما عادت زينة لمقعدها بالقرب من سليم

"سيدرا.. أخت سليم الصغير وآخر العنقود في العيلة دي" ابتسمت له ابتسامتها البارقة التي تضفي بريقاً لزرقاوتيها بينما أقترب آسر منه ليصافحه هو الآخر

"آسر.. ابن عمك.. فينك يا راجل مش كنت تيجي من زمان، كده بردو ولاد عم ومنعرفش بعض" حدثه بحميمية مبالغ بها لترفع أروى احدى حاجبيها في حنق من تصرف أخيها الصغير فهو بالطبع لم يستمع لتلك الوصايا المُحذرة من والدتهما بينما انزعجت ملامح سليم هو الآخر من انتهاء المطاف بآسر بالجلوس بجانبه.

"هنعرف بعض كويس متقلقش" اجابه ولكن كانت خلف حفنة الكلمات تلك شيء لا يبشر بالخير ليرمق إياد سليم بنظرة خاطفة لاحظها سليم الذي زفر بعدها

"لا خلاص بقا، ده أنا كلها كام يوم وراجع أمريكا تاني.. قولي بقا بتشتغل في ايه؟!" تجاذبا أطراف الحديث ولكن لم تتركا هاتان البنيتان القاتمتان تحركات الجميع دون أن يحفظها عن ظهر قلب حتى يتذكرها جيداً عندما يُفكر بهذا الجمع مرة أخرى.

"أنتو ازاي متعرفونيش إن ده ابن عمي؟!" همست زينة لكلاً من إياد وسليم

"مجتش فرصة واديكي عرفتيه اهو" تحدث سليم بإقتضاب وعدم أريحية

"يعني ايه مجتش فرصة وأنت وأروى وسليم شكلكوا تعرفوه" نظرت لإياد نظرات مشتعلة غضباً

"عشان يا زينة شوفناه في إجتماع قبل كده وكانت مرة واحدة بس يوم حادثة بابا.. وبعدين انتي مكنتيش موجودة و..."

"سولي سولي سولي.. عشان خاطري تخلي بابي يوافق، محدش هيقدر عليه غيرك.. نفسي أسافر اوي معاهم" قاطعتهما سيدرا التي هرولت بعد أن نهضت من كرسيها لتقف أمام سليم الذي تعجب لها بينما أخذت أعين الجميع تتابعها بعد ذلك الصخب التي خلفته.

"سفر ايه يا بنتي فيه ايه؟!" تفقدها سليم في استغراب

"الدفعة عندي رايحين فرنسا وأسبانيا وإيطاليا لمدة شهر الأجازة الجاية كل بلد عشر ايام.. أنا عارفة بابي مش هيرضى بس أنت اللي هتقدر تقنعه" توسلت له بطفوليتها الشديدة واقتربت منه لتجعله ينظر لشاشة هاتفها

"ازاي يعني هتسافري لوحدك.. استني أشوف الدنيا ايه عندي اول شهر من اجازتك، لو فاضي هسافر معاكي وبدر كده كده هيوافق ما دام أنا معاكي" تعجب كثيراً شهاب من مناداته والده بإسمه هكذا دون لقب

"يعني ايه لو فاضي.. طب أفرض أنت مشغول؟ مش هسافر تقصد؟" قلبت شفتاها كالأطفال ليتدخل هنا أدهم

"أنا هابقا فاضي واجازة.. ممكن أسافر معاها!" تحدث أدهم بتلقائية شديدة وحماس ليوجه سليم نظره نحوه وعينتاه تغلفتا بالسواد القاتم بعد أن أظلمت السماء حولهما

"لا بجد.. ونفسك في ايه كمان يا حبيبي؟!" استند بوجنه على يداه وهو يتفقد أدهم في حرص شديد ليبتلع أدهم من تلك النظرة بينما ضحك إياد بخفوت

"ده كان مجرد أقتراح يعني.. مش لازم أسافر على فكرة خالص" حك رأسه بينما ابتعد بعينيه عن تلك النظرة المخيفة التي وجهها له سليم

"طيب ما دام خلصتوا جو الفسح ده والخروج.. وبما إن شهاب هنا.. ممكن نتفق على الـ meeting اللي المفروض كان يخلص من وقت كبير" تدخلت أروى بعد أن هزت رأسها على تلك الطفولية بإنزعاج بَيّن وزفرت في ضيق، فلا يعني عدم وجود عاصم معهم أنها ستتناسى العمل هكذا لينظر لها سليم بجدية امتزجت بالغضب

"أظن يا أروى احنا في النادي وخارجين مش في الشركة.. ممكن تبعتي للـ Assistant بتاعتك وهي تبعت وتظبط المواعيد" زجرها برسمية شديدة لتزفر هي في حقد لذلك الجفاف الذي يعاملها به وشردت بنظرها بعيداً عنه ليصدح هاتف زينة بالرنين وقد لفت هذا انتباه بعض منهم بينما عادت سيدرا لتتوسل سليم، ونهضت زينة بملامح متجهمة لتجيب هاتفها بينما عاد آسر ليحدث شهاب

"سيبك منهم.. دول دايماً كده في الشغل ناقر ونقير" أومأ له شهاب في تفهم "أنت بقا لازم تيجي تقعد يومين معايا أنا وزياد، بس ايه حتة عسلية غير الناس اللي هنا خالص" عقد شهاب حاجباه في عدم تفهم ليتابع آسر الحديث "ده خالي.. خالي بس صغنون كده مش زي خالي بدر.. بس راجل دماغه ألماظات، سهر ونسوان ومليطة وحاجة تفتح النفس.. مش قاعدة العواجيز اللي احنا قاعدينها دي"

"يعني بجد وافقت وهتيجي معايا؟!" صاحت سيدرا في فرحة شديدة ليومأ لها سليم بإقتضاب لتقترب هي منه وأخذت تقبل وجنه وتحتضنه كالطفلة الصغيرة لتلفت نظر الجميع نحوها مجدداً "أنت أحلى حاجة في حياتي والله أنا بحبك أوي ومش هنسهالك أبداً وهافضل أذاكر من هنا لغاية آخر السنة عشان خاطرك"

"خلاص بقا يا سيدرا حاسبي كده"

"لا بقا مش هحاسب.. سولي حبيبي وبتدلع عليه" لانت شفتاه في ابتسامة ليربت على رأسها

"أمّا نشوف آخرة الدلع ده ايه" نظر لها مضيقاً عيناه لتأتي زينة مهرولة بملامح غاضبة ثم آخذت حقيبتها دون أن تنظر لأحد

"أنا مروحة عند خالو بدر.. سلام!" تحدثت بنبرة منزعجة ليتعجب الجميع وصدح هاتف أروى التي تابعتها بعينيها وزينة تتوجه للخارج بينما دفع سليم سيدرا برفق لتفسح له المجال وتوجه خلفها دون أن يكترث للجميع لتعقد أروى حاجبيها في استغراب لما تراه أمامها أمّا تلك البنيتان المعتمتان كانتا ترصدا كل ما يحدث أمامهما في تريث وصمت هادئان.

 

❈-❈-❈

 

 



"معرفش يا مامي هي أخدت في وشها ومشيت وسليم جري وراها" تحدثت أروى بهمس حتى لا يستمع لها أحد

"وسليم ماله ومالها؟! وبعدين مجرتيش أنتي وراها ليه هي مش أختك؟!" سألتها هديل بنبرة امتلئت بالحدة والزجر الشديد

"ما هو لما كلمتيني رديت عليكي وملحقتهمش" قلبت أروى شفتيها بإمتعاض

"وأنا اللي فاكراكي عارفة تتعاملي وعمالة تسكتيني بكلمتين كل يوم والتاني! دلوقتي لو سليم عرف مش بعيد الموضوع يوصل لبدر ويرفض أنها تشتغل في الشركة، أنا فهماه كويس عايز دايماً هو وابنه يتحكموا في كل حاجة!"

"اهدي بس يا مامي محدش هايقدر يعمل حاجة"

"أمّا نشوف.. أتفضلي أنتي وأخواتك تعالوا عشان نشوف حل في الموضوع ده، أنا مستنياكوا أنا وعاصم"

"صحيح يا مامي واحنا قاعدين في النادي كلنا قابلنا شهاب ابن عمي صدفة" تحدثت لها أروى بإهتمام لتجذب انتباهها أكثر وحتى لا تعرف هذا من أحد قبلها

"نعم!! وده ايه اللي جابه ده عندكوا؟"

"مش عارفة، بس هو شكله كده لسه مخلص تمرين ولا حاجة.. وآسر بيكلمه ولا كأنه كان بايت معاه امبارح، مش فاهمة ازاي يتصرف كده معاه ولا كأنه صاحبه"

"يعني ايه الهبل اللي بيحصل ده.. اتفضلي هاتيه انتي وإياد وتعالوا يالا وأنا ليا حساب معاه"

"حاضر يا مامي.. مسافة السكة"

أنهت هديل المكالمة بغضب شديد وملامحها سيطر عليها الإنفعال وتحولت للقسوة وصممت تلك المرة أنها لن تدع زينة أن تفعل ما يحلو لها مثلما تفعل كل مرة، ستطيعها رغماً عنها شاءت أم آبت.. لن تترك لتلك الطفلة مطلق التحكم في الأمور مثل الماضي، إذا كان سيف هو من يوافقها على تلك القرارات الطائشة بحياتها فها هو قد رحل، ومسئولية أبناءها جميعاً تقع على عاتقها، لن تترك لأي منهم الفرصة لإفساد الأمر بعد تلك السنوات التي عملت بجدية على بناء كل ذلك، إن كان أحدهم لا يدري ما الأفضل له فستعمل بمنتهى الجدية على أن تجعله أو تجعلها تدرك ذلك!

 

❈-❈-❈

وصدت باب السيارة خلفها ليرتطم في عنف شديد تعجب له سليم كثيراً وهو من حاول منذ أن غادرا النادي الرياضي أن يعرف ما الذي حدث بسبب تلك المكالمة التي أزعجتها وغيرت حالتها لتغضب بهذا الشكل.

دلف المنزل خلفها بعد أن صف السيارة بالمرأب ووصد الباب خلفه بهدوء متنهداً في حيرة من آمره فهو بالكاد يكبح جماح غضبه كي لا يؤذيها أو يؤثر على أعصابها بأي طريقة كانت.

"خالو فين" هبطت الدرج مهرولة وهي تستفسر من سليم وزقاوتيها يشتعلا غضباً

"معرفش.. أنا لسه جاي زيي زيك" اجابها بتلقائية شديدة لتومأ هي له بإنفعال وكادت أن تلتفت وتتركه لتتوجه ثانية للأعلى في سرعة ولكنه أوقفها جاذباً ذراعها ليوقفها "استني بس هو ايـ.."

"أنت ازاي تمسكني بالأسلوب ده؟!" صرخت به لتقاطعه ليحلقا حاجباه في دهشة "ما تحترم نفسك!" صرخت به ثانيةً لتجذب ذراعها منه بسرعة خاطفة ثم تركته خلفها لتتوجه للأعلى لتتركه في صدمة من أمره ليخرج هاتفه بحنق بالغ وهاتف والده

"بابا.. أنت فين؟!" تحدث بنبرة منفعلة

"استر يا ستار ببابا بتاعتك دي.. فيه ايه؟!" اجاب بنبرة ساخطة

"لو سمحت تعالى.. أنا زينة بجد لو قربت منها الساعادي هتيجي تلاقيها والعة في البيت"

"جرا ايه يا عم الأسد.. مش عارف تسيطر ولا ايه"

"بابا بجد مش وقت هزار.. زينة كانت كويسة فجأة جالها مكالمة معرفش من مين وقالت انها ماشية ولحقتها على باب النادي ورجعت تدور عليك"

"خير خير.. بس لو طلع الموضوع تافه مش هاسكتلك.. هي كمان معايا اهى waiting، اقفل كده ولم نفسك على ما اجيلك.. اوعى تهرب منك يا اهطل"

"سلام يا بابا" أنهى سليم مكالمته بمنتهى الغضب مع والده وهو ليس بمزاج يسمح لمزاح بدر الدين معه

"الزوزا حبيبة قلب خالو.. عاملة ايه يا حبيبتي؟!" اجابها بنبرة لطيفة لتتريث هي للحظة وهي تحاول منع نفسها من البُكاء

"خالو.. ماما مصممة مكملش الماجيستير وأفضل هنا واشتغل في الشركة" صاحت بلهفة امتزجت غضباً "أرجوك أنا مش هاقدر أستحمل أعيش هنا معاها، أنا مش عارفة أعمل ايه، أنا عندي ماجيستير وامتحانات و..."

"اهدي كده لغاية ما أجيلك" قاطعها مسرعاً ما إن شعر بنحيبها "متخفيش كل حاجة هتتحل، أنا جايلك اهو مسافة السكة بس.. متكلميهاش خالص ولو كلمتك مترديش عليها وأنا هاجي وهاتصرف، اتفقنا؟" تحدث بجدية امتزجت بالحنان لتومأ هي في تلقائية

"حاضر يا خالو"

"متعيطيش واهدي وأنا ساعة بالكتير وهابقا عندك، يالا سلام يا حبيبتي"

"باي"

"فيه ايه يا بدر؟!" تحدثت نورسين بقلق عندما لاحظت تغير ملامحه

"هديل مش عايزها تجيبها لبر ومنكدة على البنت بتحكماتها النيلة، وابنك اتجنن الظاهر وحاجة تقرف مش عارف اقعد معاكي ساعة زمن واحدة وبفكر اسيب البيت واطفش وحاجة غم يعني" تنهد في سأم ونظر لها كالطفل التائه الذي لا يدري ما عليه فعله بينما ضحكت هي في خفوت

"معلش.. ملوك الكون بتبقا مسئولياتهم كتيرة شوية، وبعدين أنا استنى يعني ونقعد مع بعض تاني وتالت.. بكرة زينة تسافر وسليم يرجع الشغل وسيدرا تتشغل في الامتحانات، نبقا نسافر كمان لو حابب.. الفترة دي تعدي وكله هيبقا تمام!" ابتسمت له بينما لامست يده في تأكيد

"شكل كده زينة مش هتسافر، وشكلها كده مفيهاش عشا رومانسي ولا بتاع!! مكتوب عليا أنا كده أشيل الليلة وأنا بردو مش وش رومانسية"

"لا يا حبيبي متقولش كده وبعدين ما احنا ياما اتعشينا برا يعني وسافرنا وروحنا وجينا" حدثته بنبرة متوسلة وضعت يدها الأخرى بيداه

"حاسس إني كبرت أوي يا نوري" زفر ثم شرد بعيداً بسوداوتيه

"لا كبرت ولا حاجة وزي القمر اهو.. وواخدني تعشيني والدنيا زي الفل، بلاش الأفكار السودا دي"

"يا سلام ياختي اضحكي عليا بكلمتين.."

"والله ما بضحك.. الولاد بس هم اللي كبروا إنما احنا زي ما احنا"

"اقنعيني اقنعيني" أخبرها بتهكم بينما امتدت يده لجيب سترته ليخرج بعض النقود ولاحظت هي أنهما على وشك المغادرة لتلملم أشياءها ونهض لتتبعه

"روق بقا يا بدورتي وحياة نوري عندك" امتدت أناملها لتعبث بذقنه

"لا ما دام بدورتي ووحياة نوري عندي يبقا فيه قلة أدب النهاردة"

"خلاص وعد.. ننتصر في المعركة اللي مستنيانا دي وبعدين.."

"وبعدين ندخل على معركتنا سوا يا قمر أنت" نظر لها بخبث مقاطعاً اياها وهو يمرر أنامله على وجهها لتصدح ضحكتها

"احكيلي بقا وفهمني ايه اللي حصل لزينة وسليم ومالها هديل وايه اخد ملك الكون مني كده"

"هاقولك.."

 

❈-❈-❈

 

 



"احترم نفسي!!" تمتم متحدثا لنفسه ثم أطلق ضحكة بسخرية وتهكم كلما تذكر ما فعلته زينة معه منذ قليل وظل شارداً بحديقة المنزل واقفاً بشموخ ينظر بالفراغ وهو يحاول أن يجد حداً لطريقتها معه فهو لن يتقبل أن تتعامل معه هكذا!

أخرج يداه من جيبي بنطاله واحدة امسكت بهاتفه والأخرى بدأت في تفقد تلك الرسالة التي تلقاها للتو من واحدة من مساعديه ليكون بالحروف كلمة "Confirmed" ثم ضغط لإرسالها زافراً بحنق شديد..

"أنا مش فاهم أروى دي مبتبطلش فرك.. بردو مستعجلة ومصممة اوي على معاد الـ meeting الزفت ده ما يولع شهاب ولا يتنيل، ده أنتي أبوكي لسه ميت مكملش اسبوعين!"

تمتم بخفوت ثم وضع هاتفه مجدداً بجيبه وظل يتجول ليتذكر كل ما مر عليه اليوم مع زينة ليبتسم بإقتضاب عندما تذكرها ولوهلة ظن أنها عادت لما كانت عليه من قبل، تذكر وهي تصيح معه بملعب كرة المضرب وهي تجري بخفة وتبتسم له عندما ربحا سوياً وعندما خسرت أمامه الليلة لتتوسع ابتسامته لتذكره ملامحها العابسة التي أزادتها طفولة وبراءة بنظره ولكنه عقد حاجباه فجأة عندما تذكر رؤيته لشهاب وما حدث معه هو وزينة وكيف ارتطمت به!

"تعتذرله هو وأنا احترم نفسي.. حلو أوي الكلام ده" عبث بسبابته أسفل شفته وظل يتذكر كل ما حدث مجدداً منذ عودة زينة إلي ما حدث منذ قليل ثم أخرج هاتفه مرة ثانية ليخبر إياد بأن يترك الجميع شهاب ويعودوا لمنزل العائلة.

في نفس الأحيان كانت زينة بالغرفة المخصصة لها بمنزل بدر الدين وكادت أن تجن كلما تذكرت كلمات والدتها القاسية لها، لا زالت تعاملها بنفس الطريقة الفظة، لا زالت تفرض عليها كل شيء بحياتها، ويبدوا أنها لن تستطيع التخلص من تحكماتها بحياتها وبخصوصيتها وكأنها لن تستطيع أن تأخذ أي قرار يخصها أبداً.

لوهلة آتى على عقلها تلك الذكرى غير السعيدة بالمرة عندما صممت هديل على واحدة من تلك الإختيارات التي تتخذها الفتيات بعمرها حينها.

تتذكر أنها كادت أن تجن من تلك التحكمات اللانهائية التي لا تتوانى هديل والدتها عن اقرارها وكأنها ناموساً متبعاً لا يستطيع أحد خرقه ولولا وجود سيف وخالها بدر الدين بجانبها لكانت وصلت معهما الآمور لطريق مظلم ليس له معالم واضحة.

"أنا قولت كلمتي وخلاص خلصنا.. أنتي هتدخلي علمي بمزاجك أو غصب عنك، شغل بقا هبقا لعيبة تنس وعزف الموسيقى والمزيكا ده تنسيه خالص وتركزي في اللي جاي عشان تكوني انسانة عدلة وليكي مستقبل" صرخت هديل بإنفعال شديد بإبنتها 

"يا ماما وفيها ايه لما أدخل أدبي، أنا بحب مواده أكتر وأنا أشطر فيها و..."

"كلمتي هتتنفذ سامعة ولا لأ؟!" قاطعت نبرتها المهتزة التي شارفت على البُكاء دون إكتراث لمعرفة ما تريده وتفضله إبنتها "الهبل بتاعك ده إنسيه.. لو كنت بطاوعك زمان فده عشان كنتي صغيرة وسيبتك براحتك.. إنما لغاية كده وكفاية، وإذا كنتي حتة عيلة متعرفيش مصلحتك فين فأنا أدرى بيها كويس اوي ولو كمان أنتي مش شايفة مصلحتك فأنا شايفاها أحسن منك، تتعدلي كده وتدخلي هندسة عشان يكون ليكي مستقبل، إنما جو الأحلام الوردية اللي أنتي عايشاه ده مش هحققهولك" 

"ماما أرجوكي أنا بكره الـ Math اوي وبياخد مني وقت كبير عشان اجيب فيه درجات كويسة، أرجوكي بلاش موضوع علمي ده، وأنا مبحبش هندسة دي أبداً" تساقطت دموعها في وهن وهي ترى ملامح والدتها الغاضبة وعينتاها اللاتي ينهال منهما نيران العناد والغضب لتدرك أنها مصممة تلك المرة على رأيها.

"ايه يا هديل فيه ايه صوتك جايب آخر الدنيا" هنا دلف سيف لينظر لكلتاهما في طيبة وتعجب لما يحدث 

"فيه إن بنتك رايحة تختار في المدرسة علمي ولا أدبي، منشفه راسها وعايزة أدبي.. بس شغل الهبل والفشل بتاعها ده مش هاسيبها تتمادى فيه ولو مش عارفة مصلحتها فين فأنا عارفاها كويس.. تقعد مع بنتك تعقلها وتفهمها الصح من الغلط فين، ولو ملمتش نفسها ففهمها إني مش هاسيبها تنفذ اللي في دماغها أبداً" نظرت لها بتحذير ثم التفتت لترمق سيف في غضب وأنفاسها المتهدجة تدفع قفصها الصدري للصعود والهبوط لتتوجه خارج الغرفة وهي تتمتم

"قال عايزة أدبي قال! هتفضل طول عمرها فاشلة وغبية" نطقت بتلك الأحرف مما دفع زينة للإبتئاس وانهمار المزيد من دموعها ثم وصدت باب الغرفة خلفها بشدة ليدوي صوته ليرتجفا كتفي زينة لبرهة على أثر الصوت.

"مالك بس يا حبيبتي.. سيبك من كل اللي هديل قالته وفهميني براحة وواحدة وواحدة ايه اللي حصل؟" تحدث سيف مستفسراً بطيبته الشديدة بعد أن احتضنها في حنان وأخذ يُربت على كتفها.

"بابا أنا مش عايزة أدخل علمي، أرجوك أنا مبحبوش.. ماما مصممة.. أنا مش عارفة أعمل ايه" تكلمت تلك الفتاة بالخامسة عشر بين بكائها "أنا أستحالة أقدر على مواده، وحضرتك عارف إني بحب التشيلو وعايزة أدخل معهد موسيقي، أنا مش هاقدر أ.." تحدثت بهيستيرية بين نحيبها وهي تبكي ليقاطعها سيف 

"أهدي بس يا حبيبتي، أنا عارف إنه ن حقك تختاري اللي نفسك فيه، ومن حقك تعملي اللي أنتي عايزاه، بس بردو مامتك أكيد نفسها تشوفك أحسن واحدة في الدنيا، وبعدين أنا معاكي أهو وجنبك، هتعملي اللي أنتي عايزاه وهاجبلك أحلى تشيلو في الدنيا، وكمان أنا اللي هذاكرلك بنفسي، ومش هيجرى أي حاجة لما تكوني مهندسة وأشهر عازفة تشيلو كمان.. أنا معاكي في الاتنين، خلصي بس هندسة واعملي اللي أنتي عايزاه، وبعدين يعني مش حابة تكوني مهندسة شاطرة زي بابا؟ ده أنتي هتكوني الوحيدة في اخواتك اللي زيي يا زنزون.." حدق بزرقاوتيها بعد أن كفت عن البكاء وهي تنظر له في حزن وحيرة 

"يا بابا أكيد طبعاً يا بابا أنا بحب حضرتك ونفسي أكون زيك بس أنا خايفة لأني مبحبش هندسة وخايفة من الـ Math جداً وأنا حابة الموسيقى أكتر" همست بآسى ليعانقها مرة أخرى 

"هفضل جنبك خطوة بخطوة وهنذاكر سوا لغاية ما تتخرجي كمان، وفي الأجازة تشيلو وبس ومحدش هيمنعك منه، والموسيقى تدريسها كلها بس تخلصي هندسة الأول وليكي عليا إذا وافقتي تدخلي هندسة هعملك اي حاجة تطلبيها في الدنيا.. اتفقنا؟!"

"اتفقنا خلاص!" همست في وهن بعد أن تريثت كثيراً لتأخذ ذلك القرار وشعرت بالقنوط والجزع بداخلها لتدرك أنها لن ستستطيع أخذ قرار مع والدتها أبداً.

قاطع تلك الذكرى المريرة تلك الطرقات على الباب فجففت زينة دموعها وهي تحاول أن تبدو بخير وتوجهت نحو الباب لترى من هو الطارق فهي تظن أن بدر الدين قد حضر.

"سليم؟!" همست سائلة في تعجب فهي كانت تنتظر بدر الدين وليس هو وشعرت به يتفقدها بطريقة غريبة 

"أنتي كويسة؟!" تناسى تماماً أنه له الحق بمواجهتها وتعاملها معه وما أخبرته به منذ قليل

"ايوة" اجبته بحنق

"بس شكلك كنتي بتعيطي.. مالك يا زينة فيه ايه؟!" همس متسائلاً بنبرة حانية وتوسلت عيناه لمعرفة ما يزعجها لهذا الحد ولم يعد يطيق رؤيتها أمامه بتلك الحالة

"مالي اهو ما أنا كويسة، فيه ايه بقا؟ كل شوية هتفضلوا تقولولي مالك مالك مالك لما زهقتوني، ابعدوا عني بقا كلكم، هو ايه محدش عاجبه حاجة، محدش عاجبه كل اللي بعمله، ليه بتفرضوا عليا كل حاجة، أنا عملتلكوا كلكوا ايه بقا أنا زهقت وتعبـ.." قاطعها بغتة بإحتضانه اياها بعد أن جذبها لصدره لتتعجب هي وتوقفت عن الحديث واندهشت عندما شعرت بإنعكاس خفقات قلبه التي تدوي بصدره في عنف على جسدها بينما هو احتضنها بقوة بين ذراعيه وهو يتمنى أن تشعر بالقليل من الراحة فهو لم يعد يتحمل رؤية تألمها أمامه، يود لو يقترب منها أكثر ويزيح كل ذلك الآلم الذي يراه بزرقاوتيها كلما تلاقت أعينهما.

وصد عيناه بقوة وكأنما يأسر تلك اللحظة التي يعلم أنه سيتذكرها دائماً وترك نفسه تتلذذ بذلك الإقتراب منها ومن وجود زينة بين ذراعيه وربت على ظهرها في رفق ليهمس

"اهدي يا زينة.. كل حاجة هتكون كويسة أوعدك.. بس أرجوكي بلاش تعيطي وتضايقي.. أياً كان اللي أنتي عايزاه أنا هاعملهولك" لم يستطع الإبتعاد عنها وود لو بقيت بالقرب منه دائماً ليزيد من قوة اجتذابه لها بين ذراعيه وتعالت أنفاسها لا تدري لماذا ولكنها أول مرة تكون بذلك القرب الشديد منه، أول مرة تشتم رائحة عطره، بل هي أول مرة تدع أحد يقترب منها لهذا الحد بل وشعرت بجفاف حلقها وتضارب مشاعرها بداخلها وكأنما توقف عقلها عن التفكير وكذلك انعقد لسانها عن الحديث.

"سليم.." همست بعدما شعرت بطول المدة التي عانقها بها كما شعرت بالغرابة كذلك تجاهه وتجاه نفسها وقد سمعها هو ففرق عناقهما ولكن ليس تماماً ليبتعد قليلاً حتى يستطيع النظر لوجهها وأمسك بكلتا كتفيها في رفق وتفحصها بعينيه المنتظرتين لما ستقوله 

"زينة.. زينة انتي في اوضتك؟!" صاح بدر الدين الذي قد رآى ذلك العناق الذي تعجب له ولكنه شاهده على مقربة في استمتاع لتلك النظرات المتبادلة بينهما وذلك الخجل البادي على وجه زينة وترك الفرصة لسليم ليعانقها وبعد أن شعر أنه قد طال أكثر من اللازم ابتعد قليلاً حتى ينبههم من تلك الغفلة التي وقعا بها.

"أأيوة يا خالو أنا.. هنا" صاحت مجيبة بإرتباك ليلاحظ سليم تلك الخصلة التي تعلقت بقميصه فمد أنامله ليضعها خلف أذنها وتفقد زرقاوتيها لتحمحم هي في توتر وابتعدت عنه وتحاشت النظر له تماماً.

"ايه ده سليم.. أنت هنا؟!" تحدث بدر الدين الذي دلف الغرفة لتوه وأمعن النظر لعينا سليم الذي أومأ له "طب استناني تحت، محتاج أتكلم مع زينة شوية، وكمان سيدرا كانت تحت وبتسأل عليك" أخبره ليتنهد سليم وهو الذي يريد معرفة ما وراء غضب زينة وبكائها ولكنه توجه للخارج ليوقفه بدر الدين جاذباً ذراعه وهمس له "ده أنا هاعمل من فخادك بطاطس محمرة" نظر له سليم بتعجب وتساؤل وهو يحاول ألا تتحول ابتسامته لضحكة "امشي يا اخويا امشي على ما اخلص معاها" همس مجدداً ثم ترك ذراعه ليتوجه للخارج ووصد الباب خلفه.



 

--

 

"فهمني بقا أنت طفل صغير ولا عبيط عشان اللي عملته مع شهاب ده؟" صاحت هديل بإنفعال شديد بمجرد أن عاد كلاً من ابنيها إياد وآسر وابنتها أروى 

"يا ساتر! شكل كده أروى اديتها الإخبارية" همس إياد لآسر الذي عقد حاجباه في تعجب ثم تحدث بتلقائية

"ما هو مفروض ابن عمي يعني وأول مرة أشوفه.. عايزاني أتعامل معاه ازاي يا ماما؟ وكمان على ما أظن هيكون فيه ما بيننا وبينه شغل.. كان لازم أكون كويس معاه"

"كويس معاه حاجة وإنك ترغي معاه وتصاحبه حاجة تانية" هنا تدخل عاصم التي نظرت له هديل لتزجره على تدخله وما إن شعر أدهم بتوتر الأجواء حوله حتى صعد للأعلى

"جرا ايه يا عاصم يعني هو أنا كنت عملت ايه لعصبيتكم دي.. عموماً استحملوني كلها يومين وراجع لخالي زياد.. أنا غلطان إني طولت في القاعدة أصلـ.."

"اخرس يا ولد أنت وهو.. هتتخانقوا قدامي ولا ايه؟!" قاطعتهما هديل بإنزعاج ثم توجهت لإياد بنظراتها الحادة الغاضبة "وأنت، فين أختك يا أخوها يا راجل يا كبير؟"

"راحت عند خالو بدر"

"لا بجد.. وهو مكانها هنا ولا عند بدر؟ ازاي متجبش أختك معاك؟"

"فيها ايه يعني يا ماما ما هي من زمان وهي بتبات عنده ايه الجديد؟!"

"الجديد إني أنا اللي بقيت مسئولة عنكم.. دلع سيف ده بقا تنسوه خالص" تعالى صدرها وهبط وهي تلتقط أنفاسها الغاضبة "أروى كلميلي اختك حالاً" أخبرت أروى لتومأ لها وفعلت على الفور 

"وأنت يا اهبل ياللي فاكر الحياة هزار وضحك وفسح.. شهاب ده ابن كرم، أخو كريم.. الناس دي عمرها ما هتكون كويسة في يوم من الأيام، كانوا مقاطعين ابوك، ايه اللي رماهم فجأة كده علينا إلا لو كانوا عايزين مننا حاجة.. خليك ناصح ولو لمرة في حياتك" تآفف آسر من حديثها ولكنها تابعت موجهه نظرها لإياد 

"وأنت ازاي أصلاً تسيب اخواتك يقعدوا معاه كده؟ ازاي تقبل واحد زي ده يقعد وسطكم؟ أنت كبير أنت وواعي؟ أنتوا خلاص هتشلوني.. بس لو متعدلتوش أقسم بالله لا هيكون ليا تصرف تاني معاكم"

"طيب يا ماما خلاص خلاص.. مش هانقعد معاه" تحدث إياد بمنتهى الهدوء فقط لينتهي من ذلك الجدال 

"أنا طالع أنام، تصبحوا على خير" تحدث آسر الذي توجه مسرعاً للأعلى وتبعه إياد 

"وأنا كمان عندنا اجتماعات بكرة بدري" 

"عاجبك اللي بيعملوه ده" صاحت هديل في حنق بالغ 

"معلش يا ماما.." تحدث عاصم في محاولة لتهدئتها

"كلمتي أختك؟!" 

"مش بترد خالص يا مامي" تصنعت أروى الملل لتومأ هديل بعصبية ثم توجهت مغادرة حيث غرفتها 

"أنا هاشوف هتتعدلوا ولا لأ، شكلكوا نسيتوا مين هديل.. أنا هاوريكوا"

دلفت الغرفة ثم وصدت الباب خلفها في غضب وتوجهت ممسكة بهاتفها لتحدث بدر الدين فهي لن تقبل أبداً أن يتم استدراج ابنتها وإكماله هو وابنه بالتحكم بكل شيء، فأبناءها هي الأخرى حقهم مثل حق سليم ولن تتهاون بخصوص هذا الأمر.

"بدر اديني زينة" لم تلقي التحية عليه حتى وتحدثت بإنفعال

"طب قولي ازيك طيب.. زينة نايمة عموماً" حدثها بهدوء شديد بينما همس لزينة "اهى بتتكلم اهى.. متقلقيش.. نامي دلوقتي والصبح هتلاقي كل حاجة تمام" توجه بالهاتف لخارج غرفة زينة ليتابع الحديث مع هديل ووصد الباب خلفه بعد أن ابتسم لها ليأتيه صياح هديل بالطرف الآخر

"يعني ايه يعني؟ ما تصحيها ولا تبعتلها الموبايل.. أنا قالبة الدنيا عليها والهانم نايمة؟!" 

"اهدي بس فيه ايه لكل ده؟ حوار إنك عايزاها تشتغل في الشركة مش كده؟!" أخبرها بنبرة واثقة لتكد هديل تنفجر من الغضب

"اه طبعاً.. لحقت تقولك.. ما أنت دلوقتي عاملي فيها حلال المشاكل! أكيد بعد ما سيف مات مـ.." 

"هديل!" صاح بها بنبرة حازمة مقاطعاً اياها "اتكلمي بأسلوب كويس واهدي.. مفيش أصلاً مشاكل ومش فاهم أنتي بتتكلمي بعصبية ليه، البنت بكرة الصبح هتروح الشركة وهتاخد مكان سيف وكل حاجة تمام.. بس ماجيسترها هتكمله في ألمانيا"

"يا سلام!! وأنت بقا هتقولي بنتي هتعمل ايه ومش هتعمل ايه؟" 

"هديل زينة أصغر ولادك وكانت متعلقة بسيف، ولغاية دلوقتي الصدمة عليها مش سهلة.. اهدي كده وحاولي ولو لمرة واحدة تبطلي قسوة عليها.. الماجيستير خلاص ناقصله تلت أربع شهور بالكتير، وأنا اقنعتها انها هتروح مرة في النص ومرة في الآخر.. عادي يعني كأنها واخدالها اجازة اسبوعين.. واقنعتها أنها تشتغل في الشركة، بالهدوء والضحك والحب مش القسوة يا هديل!!"

"لو سمحت يا بدر مش هاتعلمني أنا هاربي ولادي ازاي!" صرخت في غضب ليتعجب بدر الدين ولكنه تابع بهدوء وبنبرة محذرة

"تمام.. أنتي حرة مع ولادك.. بس يكون في علمك يا هديل، زينة لو جرالها حاجة زي زمان هتلاقيني أنا اللي واقف قدامك.. وأظنك تعرفي بدر الدين كويس! ولآخر مرة اقعدي وفكري مع نفسك كده، البنت هتنزل الشركة بكرة بمنتهى الهدوء.. لو عملتي معاها مشكلة بسبب الموضوع ده لا في مصلحتك ولا مصلحتها!! تصبحي على خير" أنهى المكالمة ليزفر في ضيق ولكن لاحظه سليم الذي لاحظ كذلك الإنزعاج البادي على وجه والده فتوجه نحوه

"ايه يا بابا خير فيه ايه؟" تسائل وملامحه يعتريها الإستفسار

"أبداً.. كنت بكلم هديل.. أنت عارفها يعني"

"هو ده السبب إن زينة كانت مضايقة؟"

"آه يا أبو قلب حنين.. عايزاها تنزل الشغل من بكرة، ومكنتش عايزاها تكمل الماجيستير بس أنا لميت الدور"

"بكرة؟!!" تحدث بنبرة متسائلة "بس بكرة فيه اجتماع مع شهاب ده، ازاي زينة هتقدر تصد معاه؟! لا لا بكرة مش هاخليها تقابله" شرد سليم بعينيه بعيداً

"وده ليه يعني؟ وهو ماله شهاب زيه زي غيره، مش أنت بردو اللي قولت جايين يتكلموا في شغل وأهلاً وسهلاً؟!" ارتسمت شفتا بدر بإبتسامة ليتفقده سليم عاقداً حاجباه

"آه قولت ولسه عند كلمتي، بس شهاب فيه حاجة مش مريحاني وهاعرفها دلوقتي أو حتى بعدين"

"سيبك من شهاب دلوقتي وقولي.. يعني ايه يا عيل يا ابن الكلب اسيبك ساعة زمن اجي الاقيك بتفعص فيها، مش قادر تستنى لغاية ما تتنيلوا وتبقوا في بيتكو؟" وقف بدر أمامه وملامحه تدل على المزاح ليبتسم سليم في خجل ولكنه استعاد ملامحه الجادة 

"صراحة صعبت عليا وهي بتعيط"

"يا حنين!! وده بقا يخليك تحضنها.. يا واد اتلم واتقل كده بدل ما كرامتك تتبعتر قدامها، خليك جامد صدقني الموضوع ده بيحبوه" مازحه بملامسة وجنه بكفه لينظر له سليم في تعجب

"وأنت كنت كده مع نوري وماما؟!" 

"تاني نوري!!" نظر له بحنق ولكنه تابع "أنت بس لو كنت ربعي حتى كانت كل حاجة اختلفت معاك.. بس يالا، أنت كده أحسن عموماً" استشعر سليم نبرته التي بدت غريبة وأوشك أن يسأله ماذا يقصد ولكن بدر الدين بدأ بالحديث "الوقت أتأخر.. أطلع نام، تصبح على خير" 

"وأنت من أهله" تركه بدر الدين بعد أن سيطر على ملامحه بأعجوبة فهو لم يتطرق أبداً للحديث لما كان عليه من قبل مع سليم وبالرغم من إرادته الشديدة في أن يبوح له بالعديد من تلك الخفايا ولكنه لطالما أختار أن يبقي حقيقته القديمة طي الكتمان.

 

❈-❈-❈

 

 



"عاجبك أختك وعمايلها؟!" تسائلت هديل لأروى التي دلفت للتو غرفة والدتها وهي تراها كالبركان الثائر

"معلش يا مامي بس أنتي عارفة زينة عاملة ازاي وبتفكر ازاي.. هو حضرتك كلمتيها؟!" سألتها بخبث بينما لم تلاحظ ذلك هديل

"كلمتها وبدر الدين رد عليا وبيقول إنه أقنعها تشتغل.. بس بردو حاسة إن ورا الموضوع إنّ، أكيد هو وسليم هيفضلوا وراها لغاية ما هي ترفض تشتغل" شردت هديل وهي تفكر بما قد يفعله بدر الدين وابنه

"خير يا مامي متقلقيش.. أنا بردو هاكون معاهم في الشركة"

"في الشركة، إنما المواقع والمأموريات؟! وكمان خدي هنا، ازاي أصلاً تسيبيها تمشي مع سليم وتروح تبات عند بدر"

"حضرتك كلمتيني وساعتها هي قامت جريت بسرعة وأنا ملحقتش أعمل حاجة، وعموماً يعني هي متعودة تقعد عنده، كده كده الفترة الجاية مش هتلاقي وقت تنام أساساً من كتر الشغل، وبعدين يا مامي أنتي عارفة زينة غريبة أوي وبالذات من ساعة ما رجعت وأنا بحاول أفهمها.. فمتقلقيش كل حاجة هتتحسن مع الوقت" حاولت أن تطمئن والدتها بينما ابتسمت هديل في سخرية

"آه زي ما عملتي كده مع سليم.. اديكي اهو بقالك كام سنة جنبه مش عارفة تاخدي منه لا حق ولا باطل" أخبرتها في تهكم 

"مامي سليم من النوع اللي بيركز اوي في الشغل ومعاملته رسمية جداً، وحضرتك فاهماه كل وقته متوزع ما بين باباه وخروجات القرايب وعمري ما بلاقيه لوحده أبداً.. بس صدقيني هانت اوي.. أنا كده بفكر في حاجة لو فعلاً صح يبقا سليم مش هياخد في ايدي غلوة"

"ثبتيني بكلمتين زي ما بتعملي كل مرة" أخبرتها هديل في انزعاج

"صدقيني مش بثبتك ولا حاجة.. خليكي واثقة فيا بس" حاولت لمس يد والدتها 

"ماشي يا اروى.. لما أشوف.. يالا اطلعي نامي عشان شغلك واياكي عينك تغيب لحظة عن زينة بكرة"

"حاضر يا مامي تصبحي على خير" 

لم تعقب هديل على حديثها وتركتها تغادر الغرفة لتغرق هي بتفكير عميق فهي لن تسمح لأياً كان أن يهد كل ما بنته طوال تلك السنوات وحدها!

 

❈-❈-❈

تجول شهاب بمنزله بأكمله بخطوات واسعة وهو يستعيد كل كلمة وكل تصرف طرأ من هؤلاء الذين جالسوه بالنادي الرياضي وأخذ يحكم على كل منهم!! 

بالطبع ذلك الفتى المغرور الذي يسيطر على الجميع ويتحكم بكل شيء لن يستطيع أن يخدعه بسهولة، لربما يستطيع خداعه ماديا أو عملياً إنما أن يخدعه أو يصل لأي معلومة عن عمه كريم عن طريق مصادقته أو حتى أن يتحدث معه، كما أنه يبدو لا يحتاج لمصادقة أحد فالجميع ملتف حوله وكأنه الملاذ الوحيد لهما.

أخته الصغيرة تلك تبدو من تلك الفتيات المرفهات اللاتي لا تتبع في الحياة سوى ملذاتها وإنفاق المال ببذخ، سفر وتسوق وتنزه وحضور هذا وذاك، لربما حتى هي لا تعرف حقاً ماذا حدث لكريم، وبما إنها أصغرهم فربما هي لم تره من قبل!! بالرغم من أنها صيد سهل للغاية عليه ولكنها لن تتواني في إخبار الجميع بأي شيء قد يحدث بينهما، لذا ليست هي المناسبة لتلك المهمة!

أروى، تلك التي تزيف الكبرياء والتحكم ولكنها لا تستطيع حقاً التحكم بشيء، لن يُنكر بداخله أنها تستفزه للغاية كلما رآها أمامه وتشجع تلك الرغبة بداخله على إيلامها ولكن تبدو ذكية، تبدو  بذلك الصمت الذي تتبعه وجلستها الهادئة الواثقة وكأنها تلاحظ الجميع حولها وحتى عندما واتتها الفرصة للتحدث تحدثت بخصوص العمل، لذا تريد أن يعرف الجميع كم هي عملية.. هي مناسبة لمعرفة العديد من الأشياء بل وحياتهم بأكملها، ولكن لن يكن الأمر سهلاً وعليه أن يكون متنبهاً كثيراً لطريقة معاملته معها!!

إياد لا يزال كما هو، مجرد تابع لسليم، أدهم هذا يبدو كالطفل الصغير الذي لا يفقه شيئاً وإذا نظر له أحد بغضب قد يخاف ويرتعش بأحدى الجوانب، وآسر هذا يبدو ساذجاً للغاية حتى أكثر من أخيه عاصم، لولا سفره المزعوم لأمريكا لكان علم منه كل شيء بسهولة ويسر.. لن يستطيع أن يحقق هذا معه خلال فترة قصيرة خاصةً وأن والده صمم أن يكون الأمر مجرد عمل ليس إلا.

أطبق أسنانه في انفعال شديد فهو لا يدري كيف سيفعلها، لم يكن يوماً بتلك الحالة التي تجبره على كل ذلك التفكير ولطالما كان واثقاً من كل خطوة يخطوها، ولكن هؤلاء الأشخاص وتلك الشخصيات التي بدت مرفهة وهم أكثر من يكره التعامل معهم لا يدري كيف سيعرف منهم شيء وكذلك لقد بحث كثيراً بطرق غير مشروعة ولكنه باء بالفشل..

تلاحقت أنفاسه الغاضبة وأسنانه تكاد تتهشم من كثرة إطباقه لها ولكنه تذكر تلك الزرقاوتان وهذا الوجه الملائكي، تذكر تل الإبتسامة والمصافحة الودوة.. ولكنه تذكر كذلك تلك الهمسات منها لسليم، تلك الملامح التي اعترت وجهه عندما أقتربت منه لتصافحه وذلك الإنزعاج البادي عليه.. ولكن تلك الفتاة غريبة.. فجأة دون مقدمات غادرت وتلاشت تلك الإبتسامة الودودة!! هذه الفتاة غريبة حقاً!

سأم من التفكير بل وأرهقه كذلك، يعلم بقرارة نفسه أنه يكرههم جميعاً منذ أن قابلهم أول مرة، لا يطيق النظر لوجوههم، يشعر بالغيظ كلما تفحص وجه أحدهم كاد أن ينفجر كالبركان الثائر!

ود لو يهشم شيئاً ما بيداه، أن يخرج ذلك الكبت بداخله حتى يشعر بالراحة، يشعر بالإختناق الشديد وود لو تنفس ووجد الهواء.. لقد تأخر الوقت، ولا يريد الذهاب لمنزل والده.. هو يدرك بقرارة نفسه أن تلك الرياضات المتنوعة التي يمارسها لن تفيده، هو يعلم ما يريده جيداً!

"ما قولتلك ابعدي عني ولا تحبي تطلعي قدام الناس بفضيحة" تفلتت آخر ذرة نفاذ صبر لديه وتلك الفتاة تحاول أن تفتنه وتجذبه إليها ولكنه ليس ذلك الشاب الذي يفضل العاهرات، حتى ولو بدت أحداهما بنفس جمال تلك الفتاة

"وأنا قولتلك يا شهاب بيه إني مش بتاعت فضايح" ابتسمت له ولكن ابتسامتها لم تكن مقززة مثل تلك الأخريات كما أن ذلك اللقب الذي نطقت هي به أثار حفيظته "أنا بمشي اتدارى بعيد عشان خاطر الفضايح.. وأنا صدقني مش هاعملك مشاكل خالص لأني فاهمة كويس حد زيك ممكن يجيبني أنا وأهلي وكل اللي أعرفهم ويودينا في ستين داهية، بمنتهى البساطة كل اللي عايزاه الفلوس واقضي معاك وقت كويس وبعدها ممكن تنساني تماماً وهتبخر في الهوا ولا كأنك شوفتني أبداً" وكأنها تتفق على صفقة ما بأسلوبها وطريقتها العملية لللغاية وتريث هو ولم يتحدث وظل ينظر لها يتفحصها

"أنا يمكن أكون شمال اه بس بشياكة وعموماً دي أرقامي وكتبتلك عنواني واسمي الحقيقي سلمى الشاعر" مدت له بأناملها تلك البطاقة التي بدت احترافية للغاية ثم ازاحتها بأحدى أظافرها التي طُليت بلون وردي شفاف حقاً لا يلائم عاهرة مثلها "تقدر تسأل عني كويس وهتعرف أنا ليه بالذات عرضت عليك العرض ده" ابتسمت له مجدداً ثم تركته وغادرت.

انتعشت بعقله أول مرة ألتقى بسلمى، لقد بحث عنها وعلم لماذا تحتاج الأموال بتلك الطريقة، لقد كانت عاهرة بمواصفات خاصة، وكانت هي الوحيدة دوناً عن بقية النساء التي تتحمل عنفه، وجد جزءاً من نفسه مع تلك الفتاة، هي ليست مثل الأخريات سليلات العائلات العريقة فاحشة الثراء، وكانت حقاً لا تريد سوى السرية والأموال أياً كان ما يفعله معها فهي تتحمل وتأتي له ثم تذهب وكأنها كنسمة هواء تخفف عنه تلك النيران التي تشعل الدماء بعروقه وظلت دائماً رهن إشارته لسنوات.

"تعاليلي" تحدث بهاتفه آمراً اياها بالمجيء ثم أنهى المكالمة دون وداعاً مثلما بدأ دون مقدمات ووضع هاتفه بجيبه وانتظرها محاولاً تنظيم أنفاسه المتلاحقة غضباً من تلك الساعتان اللتان رأى بهما وجوه من يبغضهم أكثر من أي شيء.

 

❈-❈-❈

 

 



"أتعلم أيها الدفتر أنك أصبحت الأقرب لي بين الجميع؟ أتعلم أنني حاولت التماسك منذ أن أتيت ولكنني بكيت اليوم؟ أترى محاولات هروبي الشتى كي لا أواجهها؟ أأدركت الآن كم تكرهني؟ ألاحظت محاولات إجبارها لي مجدداً؟ ألاحظت من يقنعني ويثنيني بحبه الأبوي بأن يحتويني كإبنته بدلاً منها هي؟

هي لن تكف عن تحكمها الزائد بي، لن تكف عن محاولات تهشيمي المتوالية.. أتكرهني؟ لماذا تفعل؟ ألست ابنتها بعد كل شيء؟ لماذا لم تحدثني ولو لمرة واحدة عن طموحي مثلاً؟ لماذا لا تحاول معرفة ما الذي أريده؟ أتتلذذ برؤيتي أعاني؟ أنا حقاً لا أعرف إلى متى سأظل أواجه شقاء مجابهتها ورفض اختيارتها لي!

أتعلم أنني لا زلت أتذكر والدي، بحبه وحنانه ودعمي.. أتتذكر أنه عندما أهداني التشيلو هشمته والدتي بعدها بأسبوعين ظناً منها أنه سيشغلني عن دراستي التي أختارتها لي هي!! يا للسخرية حقاً..

أحدثك حتى أحاول تبين ما الذي تفعله والدتي معي، أحدثك حتى أعرف من هي وأنا التي لا تعرف نفسها، لا زلت أبحث عني في وجوه الجميع، في معاملاتي، في كلماتي بين طيات سطورك أيها الغبي الذي لم ولن يساعدني أبداً حتى أعرف من أنا، حتى مشاعري، أحاول أن أتبين من هي خلالها ولكن..

توقفت عن خط تلك الكلمات التي لا تساعدها ولا تخرجها من تلك الدوامة، هي فقط تحاول أن تهتدي خلال تلك الكلمات لأي شيء قد تشعر به ولربما يؤثر على تفكيرها لتستطع تبين نفسها ولكنها ولأول مرة غرقت بتفكير عميق.

ابتسمت لا تدري بسخرية أم بإعجاب أم بكراهية عندما تذكرت اختلاط مشاعرها أمام سليم اليوم، هي تعرفه منذ الأبد حقاً ولكن عناقه اليوم لها وخفقات قلبه التي تكاد تقسم أنها أوشكت على تهشيم صدره لازالت تشعر بإنعكاسها على صدرها، أول مرة يحدث بينهما شيء مثل هذا، لا تدري منذ أن عادت وهي تشعر بتغير شيئاً بعلاقتهما!! أحقاً لديها مشاعر تجاهه؟! 

ضحكت بخفوت ساخرة وهي تزجر نفسها، بالطبع لا، هي لا تشعر بشيء، لربما قد يجذبها مظهره وتقدمه في العمر، لربما هو شخصية غريبة بضحكاته وطريقته التي تبدو جديدة عليها تماماً ولكنها لن تشعر أبداً بإنجذاب نحوه.

هو سليم، ابن خالها بدر الدين، هو بالطبع سيحكم عليها مثل الجميع، بالطبع لن يكف عن إصدار الأحكام تجاه شخصيتها الجديدة، هو لا ينفك عن قول زينة القديمة!! ما بها تلك الضعيفة المكتئبة مهزوزة الشخصية التي لا تستطيع أن تتخذ قراراً، أحقاً يبحث عنها؟! يا له من ساذج.. لقد ماتت تلك الفتاة منذ سنوات ودفنتها بين طيات مقبرة نفسها ولن تعود للحياة أبداً.

وحتى لو بدا سليم شخصاً جيداً، وحتى لو شابه أباه بدر الدين الذي يمثل لها الأمل الوحيد بين كل من حولها، هو سيظل مثل الجميع الذين يرونها كالمجنونة، سيظل الجميع على معاملتها وكأنها نكرة، فهو حتى بالرغم من قضاءه الوقت معها لم يخبرها بوجود أقارب لها من أبيها، لم يخبرها عن ابن عمها!!

ارتطمت أفكارها ببعضها البعض بينما وصدت دفترها وتذكرت تلك البنيتان العميقتان بنظرتهما الغريبة لها وهدوء ذلك الشاب الشديد الذي تعجبت له فهي لم تقابل مثله من قبل.

تشتت عقلها بكل شيء، بجميع من حولها، بعملها المزعوم الذي عليها أن تذهب له في الصباح، حاولت أن تقف بين تلك الأفكار حتى تعمل على عدم اختلاطها ببعضها البعض وعدم تعرض أياً منها للأخرى ومثلت داخل عقلها ذلك الحكم العدل الذي تحاول أن تكون عليه أمام نفسها ولكنها باءت بالفشل لتستسلم للنوم متأثرة بذلك الصداع المرير الذي شعرت به يُفجر رأسها! 

--



الفصل الخامس



اتكئت على ساعدها برأسها على السرير وانتظرته حتى دلف الغرفة لترى ثاقبتاه يتفحصا جسدها بنظرة ماكرة للغاية لتبتسم له هي تلك الإبتسامة الخجولة 

"نيمت الولاد خلاص؟!" همست له سائلة ولا زالت تحتفظ بإبتسامتها

"ياااه" اتكأ بجانبها على ساعده أيضاً وحدق بملامحها ثم قبل جبينها "عارفة بقالك قد ايه مقولتليش الكلمة دي؟! من زمان اوي بقا.. رجعتيني للذي مضى" ازاح خصلاتها خلف اذنها وتلمس وجهها بأنامله 

"كان فيه ايه بقا؟!" تسائلت نورسين وتفقدت ملامحه عندما تنهد في آسى

"هديل مصممة تخلي زينة تشتغل في الشركة، حرام اللي بتعمله في البنت ده، مش طبيعي ابداً" هز رأسه زافراً "مش فاهم هتفضل تعمل فيها كده لغاية امتى"

"طب وأنت عملت معاهم ايه؟!" 

"أبداً يا ستي" توسد السرير بظهره ثم جذبها لتتوسد هي بدورها صدره وحاوط ظهرها بذراعه وتلمس كتفها ببطئ بأنامله "اقنعت البنت تشتغل لغاية ما تاخد خبرة وإن محدش هيحاسبها على أخطاءها حتى لو غلطت، وفهمتها انها ممكن تسافر مرتين تخلص فيهم الماجيستير، والهانم التانية أقنعتها انها هتنزل الشغل ومفهمتهاش طبعاً إنها فترة مؤقتة.. يمكن سنتين تلاتة الدنيا تتغير وهديل تتهد شوية وتكبر وتعقل بقا" 

"معلش يا حبيبي أنت عارف هديل وتفكيرها ودماغها.. وبكرة زينة تكبر وتعرف تتصرف"

"بصي يا نورسين، فيه أمهات مهما كبرت مبتتغيرش.. وعندك أكبر مثلين، أمي ووفاء.. مفيش واحدة فيهم اتغيرت بالعكس، كل واحد صفاته لما بيكبر بتكبر معاه وبتطغى على شخصيته.. أنا خايف أوي على زينة معرفش هتقف قدامها ازاي وهي أصلاً اللي فيها مكفيها" تحدث بنبرة حزينة لتسرع نورسين بطمئنته وهي ترى القلق قد غلف ملامحه الشاردة لسقف الغرفة 

"عندك حق بس متقلقش على زينة.. طول ما جنبها سليم ولما تعرف إنه بيحبها اوي هتكون كويسة وهيقدر يغيرلها حياتها كلها"

"اهو ده بقا حوار تاني.. ابنك يا هانم زينة مش حاسه بيه.. لا منه تقيل ولا منه حتى عارف يسيطر ولا هي اللي غبية.. أنا مش فاهم أصلاً هتبدأ تحس بيه امتى، وخايف أكتر عليه لو كسرت قلبه ومقبلتش مشاعره دي، ممكن يروح فيها"

"لا بقا.. أنت غلطان يا بدورتي.. اسمعني كده وركز معايا.. زينة لسه صغيرة وضغط مامتها عليها مخليها مش مستحملة حاجة وأنت عارف هديل كويس، فهي مش غبية، هي بس متوترة وفيه شوشرة كتيرة في دماغها، أمّا بقا سولي حبيبي فـ.."

"حبك برص يا نورسين يا حبيبتي" قاطعها بنبرة جادة متحدثاً بين أسنانه المُطبقة 

"اسكت بقا ومتقاطعنيش وسيبني أكمل وبطل غيرتك دي" نهضت جالسة على ركبتيها ونظرت له بإنزعاج وتوسعت زرقاوتيها في غضب وتابعت رغماً عن غيرته التي لا يكف عنها

"سليم حنين، وخايف عليها اوي، زينة محتاجة ده، محتاجة حد يطبطب عليها، بس لما تاخد بالها كويس من حبه ليها هتبقا روحها فيه ومش هتقدر تبعد عنه ثانية.. تعرف لو كان سليم شديد زيك زمان؟! كان هيزود الحِمل عليها وهيخليها تتوتر زيادة.. يعني مثلاً تخيل لو زمان أيام ما أنت كنت بتشخط وتنطر ومكتئب كده وبتضحك بالقطارة وشايل هموم الدنيا فوق راسك، لو كنت أنا بقا شخصيتي شديدة وبتعصب عليك وبتنرفز وبسيطر زي ما بتقول، كانت ولعت ما بينا نار، الشخصية اللي بتبقا بتعاني دي بتبقا محتاجة حد حنين، بتحتاج اللي يطبطب عليها وتقبله زي ما هو"

"يا واد يا حنين أنت يا جامد" جذبها من خصرها بذراعه لتشهق هي وهي تسقط على صدره ليرتطما ثدييها به ونظرت له مضيقة ما بين حاجبيها 

"شوف أنا بتكلم بجد وأنت بتهزر!! أنا غلطانة إني بتكلم معاك وبنحاول نشوف حل لسليم وزينة.. تصبح على خير بقا" حاولت التفلت منه ولكنه قربها له أكثر

"سيبك بقا من سليم وزينة ومتعمليليش فيها مصلح إجتماعي.. أنتي وعدتيني إن فيه قلة أدب، هتسبيني وتنامي هاخدك نسافر غصباً عن عين الكل وأقضيها قلة أدب بقا!" ابتسم لها بمكر بينما هي دفعته بيديها ولكنها لم تستطع

"لو كنت أخدت كلامي جد مكنتش هنام واسيبك.. وسع بقا كده.. آف! يا ساتر.. حاسب بقا يا بدر"

"وحياة تكشيرتك الحلوة دي ما سايبك الليلادي.." قابل تآففها ومحاولات إفلاتها منه بنبرته الماكرة وابتسامته التي تعشقها وما ان نظرت له بملامح عابسة حتى دفعها من فوقه وهو لا يزال محاوطاً خصرها واعتلاها في ثوان "مش هتبطلي كروتك ليا دي بقا ولا خلاص مبقاش ليا لازمة يعني عشان شعري ابيض وعجزت؟!"

"يووه بقا يا بدر!! لا معجزتش ولا حاجة وشعرك الأبيض ده بحبه، أنت مفيش فايدة في هزارك السخيف ده، ابقا بتكلم بجد فجأة تقلب الموضوع كله لقلة أدب"

"ده يا روح قلبي مش هزار ولا بقلب الموضوع، دي احتياجات مهمة لراجل زيي، وبعدين لما يبقا القمر ده في حضني عايزاني ازاي منساش كل حاجة في الدنيا وأفكر في قلة الأدب؟! بذمتك مين يقدر يقاوم حلاوتك وجمالك ده؟!" همس لها بنبرة ماكرة حتى رآى ابتسامتها ليبتسم هو الآخر "ايوة كده اضحكي.. يلعن أبو العيال على اللي عايزهم.. ركزي بقا كده معايا وانسي أي حاجة تانية خالص"

"كده بردو.. يهون عليك سليم وزينة"

"أبو سليم مليون مرة كمان.. وكل حاجة تهون قدام العيون الحلوة دي"

"يالا يا بكاش.. عشان بس ليك مزاج لقلة الأدب دلوقتي.. إنما أنت روحك فيه ولـ.." ولم تستطيع إكمال جملتها عندما قاطعها بإلتهام شفتيها اللتان لازالتا ورديتان ومذاقهما الذي عشقة منذ أول مرة تذوقها بهما لا يزال أفضل ما تذوقه بحياته.

"بحبك يا نوري" همس بعد أن ترك شفتيها ليلتقطا أنفاسهما

"وأنا بموت فيك" همست له ثم حاوطت عنقه وهي تجذبه نحوها لتقبله هي وتتنفس أنفاسه الدافئة التي تعشقها.

 

❈-❈-❈

أخذ خطوات سريعة واسعة عندما استمع لصوت سيارتها بمرأبه وأنتظرها بردهة منزله خلف الباب الذي أوشكت على الدخول منه. بقرارة نفسه لا يصدق أنها هي المرأة الوحيدة من جنس الإناث الذي يسمح لنفسه بتذكرها ومعاشرتها دون تلك السادية بداخله.

يعاشرها بعنف، نعم هو يفعل، وهي تتحمل ولم تشكو من قبل، تصمد أمام جنونه وهوسه الشديد بأن يُفرغ كبته الذي لطالما يوسوس له ولا يتركه سوى غاضباً لتأتي هي وتجعل ذلك الغضب الذي يسببه سخطه وغيظه وحقده بين ساقيها، تحتوي تلك الإنفجارات الثائرة المدوية بمزيداً من الضيق الذي يسيطر على عقله عندما يرى تلك الإجتماعات والصداقات والحب والود بين شتى أطياف البشر! سلمى كانت ملاذه الوحيد لتلك العقدة بداخله، سلمى هي التي تترك له بعض السلام كلما تركته وذهبت في هدوء دون لوم أو أسألة والأهم من كل ذلك دون مطالبة بإلتزام!

لم يعد يطيق تلك الثوان التي تفصله عن لقاءه بها، تلك الثوان التي سيتبدد خلالها كل ما عاناه من مقابلة هؤلاء الأطفال الأغنياء المزعجين الملتفين حول بعضهم البعض وكأنهم حصن شُيد بقوة عمل ألف عبداً منذ عصور ولم يؤثر به الزمان.

نعم ستأتي الآن!! بخطواتها الفاتنة المغرية وكأنها احدى الممثلات الشهيرات اللاتي تتبخترن على ذلك البساط الأحمر أمام عدسات المصورين قبيل تلقيهن جائزة ما، سيهتز شعرها المموج الأسود في تناغم ليزعج تلك المؤخرة المثيرة أسفل رداءها الذي تتفنن في اقتناءه كل مرة لتبدو بالنهاية كأجمل من خلق الله بين النساء. ستأتي ليتناسى هو حُسنها وجمالها ليذيقها قسوته التي حملها منذ وقت بعيد لم يعاشرها به!

أتظن تلك الفتيات سليلات النسب ذائع الصيت أنهن يملكن مقدار أنملة من حُسنها وبهائها الذي يسلب العقل؟ أتظن تلك الفتيات اللاتي ينلن نصيب الليث من ساديته أنهن يتحملن ما تتحمله هي بالرغم عدم مساوتها لهن فيما تتحمله هي؟!

هو نعم يعذبهن، يجلد هذه ويقيد تلك ويهين واحدة ويذل أخرى بل ويهدد بعضهن ويعرضهن لأسوأ معاملة ولكن بالرغم من ساديته البشعة ولكن لا يرضيه ولا يشعره بالراحة سوى ذلك العنف الذي يخرجه مع سلمى وحدها.

أتعلم أيها المختل ذو الإنفصام الشديد بين سلمى وبين تلك الثريات أنك لم تنظر لها ولو لمرة واحدة عند معاشرتك اياها؟ أتعلم أنك دائماً ما توصد عيناك وأنت بداخلها كالثور الهائج في مهرجان سان فيرمان وأنت تتخلص من معاناتك؟ حسناً أنت لا تكترث لوجوه النساء على كل حال!!

فتح الباب بعد أن شعر بتوقفها أمامه عندما توقفت طرقات حذاءها الأنثوي الذي أحدث صوته بداخله نشوة من نوع غريب ولم ينظر حتى لوجهها الذي يسلب عقل جميع الرجال بجماله الباهي ثم جذبها من شعرها بقبضته القوية وبدأ في سبقها بخطواته للداخل موصداً باب منزله خلفه ولم تستطع ملاحقته ليختل توازنها وسقطت أرضاً وتبعته بصعوبة حبواً حتى غرفته.

جذب شعرها للأعلى ليجبرها على النهوض على قدميها وبدأ في خلع ملابسه وتحاشى النظر لها تماماً ثم أشار لها بإماءة آمرة أن تخلع ما عليها وهي فهمته جيداً فتلك ليست أول مرة لها معه.. هي بارعة في عملها وقد حفظت شهاب الدمنهوري جيداً منذ سنوات.

اتجه ليقف خلفها وهي تقف وتنتظره وبالرغم من أنها ليست أول مرة لهما معاً إلا أنها ابتلعت لعابها في توتر فسيبقى شهاب الدمنهوري لغزاً لها لم تستطع حله يوماً ما ولا تستطع تبين إلي أين سيصل عنفه معها!

دفعها بصلابة لتتوسد السرير بوجهها وثدييها وناحية جسدها الأمامي بأكمله وهو لا يزال لا ينظر لتفاصيل جسدها الذي قد يكتب به فطاحل الشعراء أعظم غزل عرفه التاريخ وسمعت هي أنفاسه الغاضبة في الصمت المحيط بهما لتتوتر أكثر ولم يقاطعها سوى صوت تمزيق غلاف ذلك الواقي الذكري الذي لطالما واظب على استخدامه ثم اعتلاها بنفس الوقت الذي باعد  ساقيها وكان بداخل أنوثتها في لمح البصر.

كأي رجل قد تبدأ أنفاسه في التزايد ولكن هو وكأنما هدأت أنفاسه في راحة عجيبة عندما غرس أصابع يده اليسرى بخصرها ويده اليمنى قبضت على ذلك الشعر الماجن الأسود المموج في موجات ثائرة وجذبته بمنتهى الغلظة وشرع في روتينه الذي يرهقها ويؤلمها أكثر من أي رجل قد مرّ عليها في قائمة عهرها أسفل الرجال.

دفع بتلك الوتيرة التي تشابه الحصان الجامح وهي تشعر بكامل ثقل جسده فوق جسدها، تزداد يداه قسوة وعنفاً على جسدها وهي لا تستطيع التفوه بحرف واحد، لقد عرفته تماماً ووعت من هو عن ظهر قلب.

ترك شعرها وانتقلت يداه لأماكن متفرقة بظهرها تارة وخصرها تارة أخرى ومؤخرتها مرات ومرات وبكل مرة يغلغل أصابعه بقوة شديدة بكل تلك الأجزاء بجسدها ورغماً عنها تفلتت صرخاتها المتألمة من شفتاها. 

هو لا يرى ما يفعله، هو موصداً لعيناه تماماً.. لا يرى سوى وجوههم أمامه!! لا يسمع هو صراخها بل دوت ضحكاتهم وحيثهم برأسه وكأنما يُعاد كل ما حدث منذ سويعات أمام عيناه ليستمع لصوتهم مجدداً.

لا يدري أنه يتآوه عالياً، تلك التآوهات المتألمة قهراً وحقداً ونقمةً على وحدته الشديدة، على حياته الخاوية من أي مظهراً من مظاهر الحياة، غيظه الشديد الذي يندلع بدماءه وتفاصيل ذلك اللقاء تعاد أمامه مرات ومرات يدفعه للصراخ وجعاً مما يتأثر به من هؤلاء الذين يحييون البزخ والترف ورغد المعيش بل ويمرحون سوياً معاً ليمثلون أمامه درعاً يستحيل تخلله حتى ولو بعد عقود..

يريد المزيد من إخراج هذا، يريد أكثر من مجرد معاشرة لتلك المسكينة أسفله، أمّا تلك التي لا حول لها ولا قوة شعرت بجسده يتعرق وأدركت أن عنفه سيزداد الآن.. هي تعرف كيف يتحول عندما يصل لتلك الحالة.

شعرت بيداه تجذبها لتصبح مواجهة له وتوسدت السرير أسفله بظهرها وتفقدت ملامحه الجادة التي لا تلائم رجلاً ملتاعاً كان يصرخ شهوةً منذ قليل!

رفع كلتا ساقيها ليصبح بداخلها مجدداً وآخذ يدفع بها بسرعة وهو يعمل بكل دفعه أن تحتوي ذكورته الثائرة في إضطراب بأنوثتها ولا يشعر بالرضاء إلا عندما ينقبض جسدها أسفله متأثراً بملامسته لأعماقها فيعود مرة ثانية ليكرر فعلته دون شفقة أو رحمة.

لا تدري لماذا لم تتلاقى أعينهما ولو لمرة واحدة خلال معاشرته لها، لم ينظر لها أبداً، هو فقط لا يتوقف عن بأسه وعنفه بالعلاقة معها، هو لا يستخدم سوى يداه المجردتان ولكنهما لطالما آلماها أكثر من أي شيء آخر، فظاظته تلك لن ولم تتغير أبداً ولقد كانت محقة تجاه هذا الأمر وخصوصاً عندما التهم احدى ثدييها بين أسنانه ويده الأخرى كادت أن تقتلع ثديها الآخر دون رحمة.

لم يفعلها من قبل معها ولكن هو لديه تلك الطرق التي تتركها مذهولة، بالطبع لن يغير صراخهها به شيئاً، لقد قارب ذلك الصراخ على تمزيق حبالها الصوتية ولكنه كان حقاً لا يكترث أو لربما هو لا يسمع أياً منه كذلك!!

تعالت تآوهاته التي تفلتت بين شفتاه لتوازي تعالي خفقات قلبه وكذلك دفعه السريع بها ويداه لم تعد ترحم ذلك الثدي ذو وردة الربيع المتفتحة التي تنتفض من نهدها في أنوثة طاغية قد تترك رجالاً يحلمون بها لأشهر، كل الرجال نعم يتمنون مداعبتها في رفق إلا هو.

ازداد تعرقه، وازدادت وتيرته ودفعاته القاسية الصلبة، وازدادت تأوهاته التي ينقل خلالها كل ذلك الكبت الذي تلاقاه من معرفة أقاربه وعائلة الخولي بأكملها وأمسك برجولته مسرعاً بعدما انتشلها ليفرغ ماءه لا يدري أين ولكنه كان على جسدها بمكان ما وزفر بعمق وكأنه تنفس الصعداء.

نهض من عليها بعدما هدأت أنفاسه ولا يدري ما حال تلك الفتاة التي تحملت عنفه ونظر أرضاً ليجد وشاحاً لم يترجم عقله بعد أنها كانت تضعه حول عنقها المغري الذي يلهث الرجال لتلثيمه وربطه على نصفه السُفلي ثم تركها خلفه بغرفته وتوجه للخارج.

جلس على أحد الأرائك يرى ما لديه من عمل غداً ليدرك أنه سيلتقي بهم مرة أخرى فابتسم بداخله فهو للتو تخلص من عبأ ثقيل مما يفعلوه هؤلاء المزعجين به وهو بمزاج مثالي لرؤيتهم تماماً.

أنتظرها فهي لطالما ما آتت بملابس لها ومنشفتها الخاصة ولها ذلك الروتين الذي لطالما أتبعته فتذكر عندما أخبرته أنها عاهرة بمواصفات خاصة فعلاً ليتعجب من نفسه فهو لطالما عرف أنه محقاً مع العاهرات المطالبات بالأموال إلا تلك المرأة فهي كانت محقة على عكسه، لقد كانت غيرهن جميعاً.

خلّفت طرقات حذاءها على رخام أرضية منزله الفاخر دوياً عالياً بالصمت الذي كان صديقه الوحيد ولم يرفع هو رأسه حتى يتفقدها وعلم أنها متوجهة للخارج فأوقفها بنبرته الجادة

"والدتك عاملة ايه؟ وشركة التأمين ايه اخبارها معاكم؟ّ!"

"كله تمام يا شهاب بيه.. ده أنا لو وزيرة مكانوش هايعملوني كده" اجابته بإمتنان فهو من خلف علاج والدتها منذ أن عرف أن سلمى قد اتخذت ذلك الطريق فقط من أجل مرض والدتها وكي تتكفل بمصاريف أخيها الذي يصغرها بسنوات

"كويس.." كادت أن تذهب وتتركه مرة أخرى ليوقفها مرة أخرى 

"هو أنتي معاكي عربية موديل كام؟!"

"موديل سنتين فاتوا" اجابته بنبرة متعجبة وتوقفت بمكانها وهي تنظر له في استفسار بينما تصنع الإنشغال بهاتفه 

"كمان يومين تلاتة هبعتلك عربية موديل السنادي، بيعي دي واستفيدي بفلوسها وهابقا اخلصلك الإجراءات وابعتلك ورقها" 

"شهاب بيه بس ده كتير.. أنت أصلاً اللي جايبلي العربية القديمة وكفايـ.."

"أخوكي كويس في شغله؟!" قاطعها ولم يكترث لما تقوله 

"تمام.. من ساعة ما عينته في البنك وهو مشغول دايماً" 

"كويس.. يالا امشي انتي دلوقتي"

"أوك"

وهكذا غادرته، دون تبادل كلمات، دون المطالبة بشيء، بالرغم من أنه لم ينظر بوجهها إلا مرات لا تتذكرها هي ولا تعد حتى على أصابع اليد الواحدة وكانت كلها بعيداً عن ممارساته الماجنة معها، أما أثناء العلاقة هو لم ينظر لها نهائياً ولو لمرة واحدة.. 

كان هذا كل ما يجمعهما من علاقة، هدوء يحصل عليه بعد إفراغ كبته معها وشعور بالإنتعاش بعد تركه كل مرة، وأموال باذخة وحياة آمنة تحصل هي عليها منذ أن عرفته.. دون مسميات ودون إطار واضح كان فقط السلام التام الذي يجمع بينه وبين سلمى..

 

❈-❈-❈

زفرت وهي تحاول أن تهدأ ولكنها كان بداخلها بركاناً ثائراً من نوع آخر، تفقدت زرقاوتاها مظهرها بالمرآة الذي بدا مألوفاً لها بينما سيبدو بأعين الجميع جنوناً خالصاً. ذلك الرداء المتسع الذي شابه العباءة المفتوحة بمزيجاً من السواد المشبع بتفاصيل رمادية بسيطة في نسيج ذلك القماش المصنوع منه فوق تلك الكنزة المهرهرة عند نهايتها التي تلاقت بأسفل فخذيها الرفيعان للغاية ولامست بنطالها الأسود المتسع مثل تلك السراويل البوهيمية غريبة الشكل التي زينت بنهايتها برسومات أفيال!!

عقدت شعرها لتصنع منه شيئاً غريباً بنهاية رأسها ثم تفقدت أظافرها المطلية بالسواد لتجدها كما هي منذ البارحة ثم ارتدت قرطاً غريب الشكل ينتهي بعدة أنسجة متدلية من خيوط  سوداء.

زفرت مجدداً ثم أمسكت بحقيبتها القماشية وجذبت احدى الأحذية الرياضية وارتدته على عجل وبداخلها تدعوا ألا يكون أحد أستيقظ وخاصةً والدتها فهي طلبت من سليم أن يقلها وينتظرها إلا أن تبدل ملابسها بذلك الصباح الباكر وقررت مسبقاً أنها ستقنع الجميع بذهبها مبكراً هكذا حتى يعطي لها سليم ملخصاً سريعاً عن طبيعة العمل وحتى تستعد للإجتماع بشهاب الذي يريد التعاقد معهم.

مشت بهدوء شديد وهي تحاول قدر الإمكان ألا تحدث حركة أو صوتاً يسمعه أحد أو يشعر أياً من كان بالمنزل حتى وصلت لأسفل الدرج بنجاح ولكن صوتاً أوقفها لتلتفت له في انزعاج وتوتر

"ايه يا زنزون صباح الفل.. رايحة فين كده على الصبح بدري؟!" 

"إياد.. صباح الخير.. رايحة الشركة" أخبرته بإقتضاب بينما قلب هو شفتاه في تعجب وهز رأسه وملامحه لازالت تحاول التخلص من النعاس الذي سيطر عليه

"سبحان مغير الأحول.. عموماً Good Luck" ابتسم بإندهاش ثم تثاءب في محاولة لطر ذلك النعاس وكادت تتركه ولكنها توقفت 

"لو ماما سألت ابقا قولها إني في الشركة من بدري وجيت غيرت ومشيت" أومأ لها 

"ملوش لزمة تطويل معاها هاقولها في الشركة وخلاص، مش لازم تعرف إنك كنتي هنا.. بدل سين وجيم بقا ومش طالبة بصراحة خناق على الصبح" 

"مممم.. ماشي يا إياد.. سلام"

"سلام يا قطة" 

توجه في هدوء للمطبخ ليحضر بعض المياة لشعوره بالعطش الشديد وهو يفرك وجهه بشدة لمحاولة الإستيقاظ فهو قد علم بالإجتماع الذي سيحضر به شهاب اليوم وبالطبع لن يترك سليم وحده.

لم يرى حتى أمامه وتوجه نحو الثلاجة ولم يرى تلك التي التفتت لتوها بعد أن تناولت تفاحة بيدها من الثلاجة لترتطم بصدره لينظر لها إياد في غير تصديق أنه لا يبعده عنها سوى بعض سنتيمترات.

"أسما!!" همس وقد تناسى ذلك النعاس تماماً وتفحصها بعيناه ليرى أنها أستعدت للخروج باكراً 

"صباح الخير.. معلش مخدتش بالي.. ممكن تعديني لو سمحت؟" نظرت له بعسليتاها وإبتسامتها الودودة

"انتي رايحة فين الصبح بدري؟" سألها وأومأ لملابسها لتتعجب من سؤاله، فهو عادة لا يوجه لها تلك الأسئلة واجابته مضيقة ما بين حاجبيها

"بصراحة أنا اجازة النهاردة ومش طالبة دوشة مشاكل في البيت فناوية اروح اذاكر برا، بس اشمعنى يعني؟!" أخبرته مجيبة بينما هو تاه في تفاصيل ملامحها التي يعشقها وقد لاحظت شروده لتبتسم بداخلها على طريقته تلك التي لطالما لاحظتها ولكنها تعي جيداً أن هذا ليس الوقت المناسب لحدوث أي شيء بينهما 

"إياد.. أنت كويس؟!" سألته متفقداه بتلك الأعين التي وكأنها حملت ابتسامة من نوعاً ما

"ايه؟! اه اه كويس.. رايحة فين يعني؟!" فاق من شروده على صوتها الذي نبهه بذلك الوضع الغريب

"يا Cafe يا النادي لسه مش عارفة، عديني بعد اذنك"

"والله فكرة حلوة.. أنا هاجي معاكي.."

"إياد أنا رايحة أذاكر.. مش فسحة" نظرت له بجدية وملامحها تحولت للصرامة

"وأنا قولتلك متذاكريش.. أنتي ذاكري وأنا هاغير جو واتبسط" ابتسم لها لتزفر هي في تعجب 

"ماشي.. بردو عديني عشان اطلع اخد الكتب"

"اتفضلي" ابتعد عنها بنبل وما إن تأكدت أنه لا يراها حتى ابتسمت ابتسامة رقيقة وتنهدت وهي تفكر بداخلها متى تتخلص من تلك المسئوليات عليها حتى تتفرغ لعشقه ذلك الذي يجعلها تثابر أكثر وأكثر من أجله، فهي تتمنى قربه واعترافها له بمشاعرها أيضاً ولكنها لديها طموحاً لن تتنازل عنه أبداً.. هزت رأسها في تعجب كيف لها أن تُركز اليوم وهو بالقرب منها.

زفر إياد وهو لا يدري كيف تسرع هكذا وتلك أول مرة أن يعرض عليها أن يذهبا سوياً لمكان ما وأدرك أن سليم لن يتهاون معه بعدم حضوره وسيسمع كذلك من أمه ما لذ وطاب من شتى التفسيرات بأنه ليس مسئولاً وليس كبير أخوته وما إلي ذلك ولكن ولمرة واحدة سيفعل أكثر ما يريده وهو قضاء الوقت برفقة أسما. 

 

❈-❈-❈

 

 



"جرا ايه يا إياد.. واحنا من امتى بناخد اجازات في أيام زي دي" صاح سليم بإنفعال وهو يدلف الشركة التي بدت شبه خالية لوصولهما الباكر قبل الموظفين ولم يتواجد سوى الأمن، أمّا عن زينة توسعت زرقاوتاها من طريقة سليم الذي تحولت ملامحه للصلابة وارتسمت عليها القسوة! 

"تتصرف وتيجي في معدك! أنا مش هاقبل الهبل ده بالذات بإجتماع النهاردة، لازم كلنا نكون موجودين" صاح بإنزعاج وبنبرة تتسم بالحزم 

"آسف يا سليم بس النهاردة مش هاجي!" أخبره هو الآخر بنبرة قاطعة 

"تمام.. ابقا استحمل بقا اللي هيجرالك" تحدث بمنتهى الهدوء ولم يعطي له فرصة في الإسترسال في الحديث وأنهى المكالمة بملامح غاضبة ثم عقد حاجباه في إنزعاج لتتفقده زينة في إستغراب شديد فهي حقاً لم تكن تتوقع تلك الملامح التي لوهلة شعرت بالتوتر منها وخاصةً من ذلك الرجل الذي لطالما عُرف بضحكته وبرفقه في الحديث.

"سليم أنت كويـ.."

"هنا أنا Mr. سليم.. سليم دي في النادي، في البيت، هنا أنا مديرك، مش ابن خالك يا Miss زينة.. وياريت التعامل هنا بيني وبينك يكون بمنتهى الرسمية ويبقا في اطار الشغل وبس" أخبرها وملامحه قد تحولت تماماً للجدية الشديدة وأشعل حاسوبه وبدا وكأنه رجل آخر تماماً لم تعرفه من قبل.

تفقد الوقت بساعة يداه ثم أخرج بعض الأوراق من أحدى أدراج مكتبه وتفقد زينة بعينيه ليستشعر وقوعها الشديد في الحيرة والتعجب من تصرفه، بالرغم من أنه لا يريد أن تظن أنه يقسو عليها ولكنه لا يمزح أبداً بالعمل وعليها تقبل طريقته تلك عاجلاً أم آجلاً.

"احنا لسه قدامنا ساعة ونص على الـ meeting ياريت تركزي في كل الكلام اللي هاقوله عشان تعرفي تتعاملي معايا وكمان تعرفي تتعاملي مع أي عميل.. أنتي بالذات مكانك ووظيفتك هيقابلك إنك هتتعاملي مع الناس في المواقع أكتر من أي حد فينا، وأي مشكلة ممكن تحصل هيمسكوا فيكي أنتي قبل أي حد، فلازم تفهمي إنك تكوني واثقة في كلامك وقادرة على مواجهة أي مشكلة أياً كانت ايه، وبالذات النهاردة.. اجتماعنا مع شهاب مش سهل، لازم تعرفي أنتـ.."

"ليه يعني شهاب ماله؟!" قاطعته سائلة بتلقائية لترى ملامحه بأكملها تختلف اختلافاً مرعباً بحق ولا تصدق أنها حقاً تأثرت بداخلها من تلك الملامح 

"أول وآخر مرة تقاطعيني.. فاهمة؟!" نظر لها نظرة أخافتها وتحولت ملامحها للعبوس وبادلته النظرة بحنق شديد فهي لن تقبل طريقته تلك في التعامل ولن تسمح أن يتحكم بها شخصاً جديداً وكادت أن تحدثه ولكنه سبقها "اسمعي اللي هاقوله وتنفذيه بالحرف عشان مش هاقبل أخطاء.. بالذات الـ meeting بتاع النهاردة!! اتفضلي قومي اقعدي على الترابيزة اللي هناك"

شيئاً ما بنبرته الحازمة أعطى الإشارات تلقائياً لساقيها فوجدت نفسها تنهض وتسير نحو ما أشار وهي بداخلها تلك الدوامة من الأفكار التي ارتطمت ببعضها البعض وبالرغم من نفورها من أسلوبه إلا هناك شيئاً بداخلها يتغير من ناحيته ومن حيث تراه، فسليم الذي عهدته بالأيام الماضية كان رجل ومن يحدثها الآن رجل آخر، لن يفرض عليها سيطرته ولكنها علمت بقرارة نفسها أنها تميل إلي الرجل المتحكم الذي يستطيع السيطرة على الموقف، تخاف بشدة من أن تتقبل طريقته فيتمادى، كما تخاف أن تواجهه بأنه لا يمكن التحدث لها مرة ثانية هكذا!! لا تعرف كيف ستتعامل معه ولا تعرف لماذا يصمم على أهمية الإجتماع الذي سيحدث بعد قليل، ولكن ما تعرفه جيداً هو أنها لن تترك لأحد الفرصة بأن يتحكم بها!

 

 

يُتبع..