الفصل الثالث - مشاعر مهشمة (الجزء الثاني)
الفصل الثالث
في حركة رتيبة متكررة من سبابته، كان ينقر فوق سطح مكتبه، وهو واضع جام تركيزه نحو ما يتفوه به شريكه، والذي تجمعهما علاقة وطيدة إلى حد ما، ولكنها ليست ممتدة لحد الصداقة، فهو ليس بمحبي تكوين الصداقات بوجه عام، كان يتحدث إليه حول بعض من بنود صفقة ما، ويناقشاها معا كالمعتاد، ولكن قطع استرسال كلماته رنين هاتف "عاصم"، والذي اكتفى بالإشارة للآخر بيده لكي يؤثر الصمت، ريثما يرى من المتصل، كان رقما مجهولا، لم يكن من السهل عليه التخمين، فكثيرا ما تأتيه مكالمات من مجهول، وفي العديد من الاحيان تكون ل"داليا"، فعندما ينتابه السأم من ثرثرتها في لغوها الفارغ وإلحاحها في رغبتها لرؤيته لا يجيب مكالماتها، لذا يضيق عليها الخناق وتضطر لجلب خطوط غير مسجلة لتضمن رده عليها، وكثيرا ما تهاتفه منها للإطمئنان على أحواله، ولكنه رغم ذلك لا يجزم بحتمية كونها هي المتصل، قرر في الأخير أن يجيب الإتصال، سحب شهيقا سريعا ثم زفره وهو يضع الهاتف فوق اذنه بعدما ضغط على موضع الإيجاب مرددا بصوت جاد:
-أيوه!
في أقل من الثانية كانت ملامحه المرتخية التي لا يعلوها أي تعبيرات، متحولة لقساوة فجة عندما استمع لذلك الصوت الغليظ عبر الهاتف متسائلا:
-ها، قولت أيه؟
جذوة غضب انتشرت في سائر جسده إثرا لتساؤله المبهم، لتوصله للمعنى الضمني له فور استماعه للصوت، والذي تكرر على سمعه لمرات عدة من قبل، متسائلا حول الأمر ذاته، وها قد عاد هؤلاء الأوغاد يهاتفونه من جديد، في محاولة منهم لاستمالته تجاه طرقهم المشبوهة، والتي انغمس بها والده لأعوام، مما آل به في آخر المطاف للزج به في السجن لسبعة أعوام، كز "عاصم" على أسنانه مجاهدا للتحكم في عصبيته المؤججة، وأخبره بصوت جامد مواريا خلفه غليله المبرر:
-رأيي انتوا عارفينه، ومبرجعش في كلامي.
أتاه رد الآخر بذات النبرة اللزجة، وهو يقول بطريقة باعثة على الإستفزاز بكلمات موحية:
-بس احنا قولنا احتمال يكون اتغير، وكمال بيه أثر عليك.
كان لكلماته بالغ الأثر في مضاعفة احتدام أعصابه، فقد عزز في ذاكرته سير والده في ذلك الطريق طوعا، ورغم ما نهش في رأسه من أبغض الذكريات، تابع رده عليه على ذات الشاكلة الجامدة الذي يخفي خلفها كامل ثورته الكامنة بداخله:
-كل حاجة تحت ايدي، وأنا اللي بمشيها بدماغي، ومن زمان وانتوا عارفين بده.
صدرت همهمة متسلية تحمل المكر من الرجل، تبعها إردافه بصوت مال إلى حد كبير للبرود للعبث بأعصابه، متبعا نهجا آخر ليحصل من خلاله على موافقة ميئوس منها:
-من بعد ما خرجته من السجن!، يعني تقدر تقول عينه مكسورة ليك، عشان كده مخليك انت اللي تديرله شركات الأدوية اللي انت متفهمش عن شغلها حاجة.
لم يكن يعلم أن كلماته النزقة عملت على اضطرام سائر الخلايا العصبية ل"عاصم"، حيث احتقنت عيناه بشرارات غاضبة، وبرزت عروقه للغاية، وراح يصيح به في صوت اخشوشن وازداد صلابة:
-كمال الصباحي عينه مبتتكسرش لحد، وبفهم في شغله أو مبفهمش مش شغلك، سكتنا غير سكتكوا، شوفوا حد تاني يشاركوا في شغلكوا الشمال ده برا عننا.
انتهى من كلماته المشبعة بالإحتدام، وقام بإنهاء المكالمة دون السماح للآخر بقول المزيد، ألقى الهاتف فوق سطح المكتب بإهمال، ووجهه يختلجه كل علامات الغضب، السخونة مندلعة بقوة في صدره، وظاهرة مع كل نفس يغادر رئتيه، كان شريكه "كرم" متابعا الموقف كله، بصمت تام، استطاع بسهولة أن يتراءى له مصدر تلك المكالمة، على الرغم من عدم استماعه إلا لردود "عاصم" المهتاجة، ولكن لعلمه ببواطن ما يتعلق بماضي "كمال الصباحي"، اكتملت الرؤية بسهولة لديه، كما أنه ابن أحد اصدقاء "كمال"، والذي ساند "عاصم" في إخراج والده من السجن، حيث إنه كان واحدا من المحامين المخضرمين حينئذ، لجأ إليه "عاصم" حينما يأس من إخراج والده من تلك القضية، التي استنزفت سبع سنوات من عمره خلف القضبان، ليجد عنده بعد مشقة أعوام الحل في تبرئة والده؛ بإحدى الحيل القانونية، وكان "كرم" ابنه على دراية كاملة بكل ذلك، ومع مرور الوقت، توطدت العلاقة بينه وبين "عاصم" شيئا فشيء، وللثقة البالغة في عائلته، عرض عليه "عاصم" أن يتولى منصب مدير الشئون القانونية في شركاته.
عاد "عاصم" برأسه للخلف، مستندا على ظهر كرسي مكتبه الجلدي، يزفر أنفاسا محملة بالإختناق الذي ملأ صدره، ولكنه ما لبث أن مال برأسه قليلا للأمام؛ عندما انتبه لصوت الجالس على أحد الكرسيين الملحقين بالمكتب، متسائلا بهدوء وحذر:
-هما تاني؟
كان لديه علم سابق من "عاصم" بمحاولاتهم المستميتة في جذبه للعمل معهم، تشكل على ملامحه ضيق متزايد، طرد دفعة من الهواء تزامنا مع غمغته الموجزة مجيبا:
-آه.
زم "كرم" شفتيه للحظة، وهو يطالعه بنظرة متفحصة، رآيا كل ما اجتلج وجهه، قبل ان يضيف بما طرأ بفكره، وكان من وجهة نظره حلا قاطعا وناهيا لتلك المكالمات التي تعكر صفو الآخر:
-طب ماتخلي كمال بيه يعرفهم إنه...
قاطع "عاصم" تتابع عرضه، الذي كان بالنسبة إليه حماقة محضة، حيث ردد بامتعاض واضح على محياه وهو متحفز للنهوض عن الكرسي:
-أنا مش ضامن كمال بيه نفسه.
ظهر عدم الفهم جليا على وجه الآخر من إذعانه، بينما سار "عاصم" تجاه البراد الموضوع في إحدى زوايا مكتبه، مخرجا منه إحدى زجاجات المياة المعدنية الباردة، لكي ترطب صدره قليلا، وتبدد سخونته، أنزل الزجاجة عن فمه، بعدما ارتشف منها قدرا كبيرا، كإنما يروي عطش ساعات بل أيام، تسارعت أنفاسه قليلا من كمية المياة التي تناولها، فقد أنهي الزجاجة كاملة، توجه نحو سلة النفايات، وألقى الزجاجة الفارغة، ثم استدار بجسده نحو "كرم" الذي لم ينبس ببنت شفة، وكأنه منتظر منه متابعة أو توضيح لرده، لفظ "عاصم" نفسا مطولا، ثم استطرد بفتور مخالطه الإنزعاج مطنبا:
-بس برجع وأقول كبر، ومش دماغه اللي تجيبه يكرر الغلطة مرتين، ودي مكانتش أي غلطة، دي كلفته سبع سنين من عمره، وكلفتني أكتر من كده بكتير.
تلفظ بالآخير من عباراته بخفوت وهو مطرق رأسه لأسفل، لكيلا يستفسر عن المعنى الضمني لعبارته الغامضة، بينما مط الآخر شفتيه بغرابة من إلحاح الآخرين في مهاتفته دونا عن والده، وثب عن مقعده وسار المسافة الفاصلة بينهما، حتى صار قبالته، وأردف بتخبط ملحوظ على محياه:
-أنا عايز أفهم ايه اصرارهم انهم يكلموك انت، ما كان ممكن يكلموا كمال بيه علطول، ولو بيفكر يرجع للشغل ده تاني زي ماهما متخيلين هيشتغل فيه من وراك.
رمقه بنظرة اعتداد بالنفس، فهو لم يكن ليدع لوالده المجال ليعود لتلك الأعمال مرة أخرى، وهذا ما عمل عليه تحديد، شبح ابتسامة واثقة انشق فوق ثغره، ثم تكلم بطريقة مغترة بإيضاح:
-وأنا يعني مش عامل حساب الكلام ده!، مفيش حاجة بتتم من ورايا، وكل كبيرة وصغيرة في شغل بابا أنا على دراية بيها، وهما عارفين بكده، وده السبب اللي مخليهم يتفاوضوا معايا انا مش مع بابا.
وضحت أمامه الرؤية كاملة من توضيحه، والسبب الأساسي الذي دفع بهولاء الجماعة للتفاوض معه هو بالتحديد، هز رأسه له متفهما، ولكنه قد تدارك من كلامه، مدى الضغط الموضوع على كاهليه، لذا من باب المعاونة، عرض عليه بود ملحوظ على نبرته قائلا:
-لو عايزني أتابع معاك حاجة في شركات كمال بيه معنديش مانع، عشان حتى مايبقاش الحمل كله عليك.
لم يكن عرضه بالأمر المستحسن بالنسبة إليه، لفصله بشكل تام بين عمله في المعمار، وشركات الأدوية الخاصة بوالده. حرك "عاصم" وجهه بالسلب، وأخبره بطريقة لبقة تحمل الرفض:
-مفيش حمل ولا حاجة، انت عارف إن شركات بابا مش كتير، وفي ناس معتمد عليهم هناك مسهلين عليا كل حاجة، متشغلش انت بالك وخليك في شغلنا.
لم يرِد الضغط عليه، خاصة أنه ليس بالشخص الذي يتراجع عن قراره، كما أنه ينتابه الضجر سريعا من المماطلة في الحديث، لذا أومأ براسه له بخفة معبرا عن موافقته، وأخبره وهو يتفقد ساعة يده متحفزا للمغادرة:
- تمام، هروح أنا على مكتبي، وبالنسبة للصفقة، هدرس بنودها كويس وهبعتلك تفاصيلها على الإيميل.
اكتفى بإيماءة تكاد لا تذكر من رأسه، وهو ثابت على وقفته، بذلك الشموخ والهامة المنتصبة المتسم بها، تتأرجح بعقله العديد من الذكريات، التي أقل ما يقال عنها، أنها نهشت بعقله لسنوات، وصدعت روحه مسببة شروخا بالغة الأثر وغير قابلة للزوال، مهما حاول أن يتناسى؛ ويتظاهر بعدم التأثر بما مضى، يأتي أمام مرمى بصره، ويتكرر على سمعه، ما يعزز في ذاكرته ما حاول وأده من تلك الذكريات المريرة، والأحداث القميئة، ويتأرجح تفكيره ويتخبط بما ينهك كامل قواه، ليجعل بداخله تام التأكد من عدم تبديد ذلك الجزء القاسي من ذهنه ما حيا، انتبه من حالة الشرود التي اتحكمت بمداركه، لصوت رنين هاتف من جديد، كانت سائر خلاياه محفزه للثورة والهياج، إن كان المتصل هو البغيض ذاته، بخطوات تتآكل في الأرض من شدتها، توجه نحو المكتب، التقط الهاتف بطريقة هوجاء، ولكنه سريعا ما خبت عصبيته وتحولت لتعبيرات سأم وملل، عندما قرأ اسم المتصل، فقد كانت "داليا" تلك المرة، لم يكن ببالٍ رائق لسماع لغوها الفارغ، وثرثرتها التي تصيبه بالإنزعاج، نفخ في ضجر تفرس كامل ملامحه، وضغط على زر إنهاء الإتصال، ثم فعل وضعية الطيران، لكي ينهي محاولاتها الغير منتهية للوصول إليه، ثم ألقاه من جديد على المكتب، والإختناق بداخله ليس له من زوال، بل يراوده إحساس خانق بتفاقمه وتضاعُف وطأته.
❈-❈-❈
شحنات الغضب، الإنفعالات المكبوتة، والنيران التي تُستشعَر مع سريان الدماء في العروق، قد تصل إلى رغبة ملحة في تهشيم أي شيء وكل شيء، كتنفيسٍ متاح عما تختلجه النفس، ولم تعد تحتمله الأعصاب، من مخزون الذكريات المقيتة، والمواقف البغيضة التي لا تنفك تعكر صفو الفكر، وتدفع داخل النفس شعور بالدونية، ذلك الشعور الذي لازمه لفترة تمنى لو تنمحق تماما من ذاكرته للأبد. في الوقت الراهن، المشروبات الكحولية أقرب حلا أمامه، لجعل عقله يتغيب بشكل وقتي، ويكف قليلا عن التفكير المضني، سواء في ماضيه الاسود، أو في الاحداث النكراء المتوالية عليه الفترة الماضية.
أنزل كأس مشروبه بعدما ارتشفه دفعة واحدة، والنظرات الميتة محتلة عينيه، ومسددة تجاه اللا شيء، في صالة شقته الفارهة والمتسعة، على الرغم من شعور الوحدة الذي يتسلل لداخله من بقائه بها، إلا أنه من بين الحين والآخر يحتاج للمكوث بها، بعيدا عن بيت والده، لما هو مترسخ ذهنه من أمور عدة حول طفولته التي عايشها بين جدرانه، وبالنهاية من كانت تشعره بالدفء به قد رحلت، ليتبدل ذلك الدفء لبرودة محضة تنبعث من كل ركن به، أمسك زجاجة المشروب الكحولي، ليصب كأس أخرى، ولكن حال دون ذلك سماعه لصوت جرس شقته، وضع الزجاجة فوق الطاولة، وتوجه بخطوات خاملة تجاه الباب، يعلو وجهه تعبيرات حانقة، حيث إنه ليس ببال رائق لرؤية أحد.
فتح باب الشقة، وكما كان متوقعا بالنسبة إليه، كانت "داليا" هي القادمة، بعدم اكتراث ظهر على محياه من رؤيتها، التف وسار عائدا لطاولة المشروبات، لم يكن فتوره بالأمر الجديد عليها، لذا دلفت الشقة وأغلقت الباب، تبعته في صمت، حتى توقف أمام الطاولة، وبينما يصب المشروب في الكأس الفارغة، ومسلط نظره تجاهه، سألها بنبرة جوفاء:
-إيه اللي جابك؟
رغما عنها لم تستطع التماسك لأكثر من ذلك دون رؤيته، أو حتى سماع صوته عبر الهاتف، الذي لا يجيب عليه، فقد انتُزعت أخر ذرات صبرها، رآية أن الحل الأمثل والمتبقي أمامها هو المجيء إليه، تنحنحت جالية بصوتها، ثم أجابته بربكة متسبب بها أسلوبه المتجافي وتساؤله الذي يوحي بعدم رغبته في رؤيتها، وضيقه من مجيئها:
-مبتردش عليا.. وقلقت عليك.
امتعضت ملامحه قليلا من لذاعة المشروب الذي تناوله جرعة واحدة كما السابق، وضع الكأس على الطاولة، وعينيه تناظراها بنظرة غير مبالية، ثابتة على ملامحها الذابلة بشكلٍ واضح، وأخبرها بفتور يحمل التهكم:
-أنا مش قولتلك انسي اللي بينا!، وبعدين قلقانة عليا بجد!، ومقلقتيش ليه وانتي رايحة لمجد تعرفيه باللي سمعتيه؟، ولا بالنسبالك دي نكرة ودي نكرة تانية؟
اضطربت أعصابها من طريقته الباعثة على التوتر، تدرك كل الإدراك أن هدوء اعصابه ذلك سيؤول بها إلى انفعال صارخ، وشجار حتمي متكتل بتعنيفه لها. اعتذارها، إظهارها الندم، وخنوعها لعلاقة حميمية، ليست بدوافع لجعله يغفر لها خيانتها المجازية، دارت حول الطاولة وهي تتكلم بتبرير صادق:
-عاصم أنا كنت بنقذ طفل، ملهوش ذنب في أي عداوة بينك وبين باباه.
اضطرمت ملامحه من ردها المستفز لأعصابه، جحظت عينيه وهو يحدجها بتلك النظرة التي اجفلت جسدها، ثم هدر بها في انفعال بالغ ملوحا بيده في وجهها:
-انتي محدش طلب منك تدخلي.
تمكنت من التحكم في الانتفاضة التي سرت بجسدها من صراخه المباغت، وردت عليه متابعة في توضيح لدافعها الوجيه في فعلتها العفوية:
-مقدرتش ماتدخلش، حطيته مكان اللي في بطني، أنا أكتر واحدة أحس بوجع خسارة أم لابنها، عشان أنا أجهضت اتنين غصب ووجعوني.
رغم ملاحظته بتفوها بعبارتها الأخيرة بشكل نزق، إلا أن إلقائها الذنب عليه في إجهاضها أوغر صدره، تقدم منها العدة سنتيمترات الفاصلة بينهما، واستطرد باستهجان على نفس المنوال المشبع بالإنفعال:
-إنتي عارفة إني مش عايز أطفال، لكن انتي بتعملي كل حاجة بدماغك، أول مرة قولتي غصب عنك ومكنتيش تعرفي، طب وتاني مرة وتالت مرة؟
غامت لمعة خضراوتيه، خلف حزن متخلل روحها، وكامل وجدانها، فلا هو يرحم قلبها المعذب في حبه، ولا حتى يعترف بتضحياتها لأجل راحته، اعترت عينيها لوم صامت، وغلف الأسى صوتها وهي تخبره:
-كنت بسمع كلامك، وبنزله.
لم يأبه بمظهرها المنهك، ولو بصوتها الظاهر عليه الإعياء بصورة واضحة، وتابع في تعنيفه متسائلا بصوت آجش:
-والمرادي؟
حاولت ضبط نفسها، ومنع تلك الغصة المرير التي أصابت حلقها، من الظهور على صوتها وهي تعلق بكلمات ألقتها على مسمعه من قبل:
-المرادي مكنش ينفع اسمع كلامك وأنزله زي مانت عايز، عشان كان في احتمال كبير إني مخلفش تاني وانت عارف السبب.
للمرة الثانية، ترمي بكلماتها إلى إجباره لها في إجهاضها، المرتين الماضيين، والذي نتج عنه -إذا تكرر الامر- احتمالية عدم حملها بجنين في رحمها مرة اخرى، مما سيجعلها تُحرم من الإنجاب. لم ينبس بكلمة حيال شجنها المنبعث من حدقتيها، والذي لم يعبأ به وقابله بنظرة مليئة بالغليل سددها لها، قبل أن يهمّ بالتحرك من أمامها، ولكن حال دون ذلك إمساكها لساعده، ورفعت نظرها له لتقلص المسافة بينهما، مما جعلهما شبه ملتصقين، وتابعت بنبرة مستعطفة:
-انا بعملك كل حاجة عايزها، وبحاول أريحك على طول بكل مقدرتي؟، ليه الحاجة الوحيدة اللي عايزاها وهتفرحني انت مش عايزها؟
سحب ساعده من قبضتها، واشتدت قسماته، وامتلأت عينيه قساوة فوق قساوتها، فح أمام وجهها بصوت متريث باعث على الرهبة وهو يقول بصلابة:
-هنرجع لنفس الأسئلة، واللي ملهاش غير إجابة واحدة، أنا مش هتجوز يا داليا، وتصميمك على إنك تكملي في حملك مش هيغير حاجة لإني مش عايزهم.
تخطاها سائرا في اتجاه غرفته، تاركا إياها مشدوهة من قساوة كلماته المجردة من أي احساس آدمي، ترقرقت الدموع بعينيها، وصارت العبرات على شفا طرفيها، استدارت وهي تشعر بدوار طفيف، غبش الرؤية للحظة، ثم استعادت اتزانها، وهتفت بصوت يحمل كل الشجن الممزوج بالجوى:
-بس أنا كنت فاكرة باللي بيحصل بينا إننا هنتجوز.
التفت وعلى محياه استنكار جم لعبارتها، انفرج احد جانبي ثغره بابتسامة هاكمة، واعتلى صوته غلظة وهو يخبرها:
-وأنا ولا مرة قبل كده قولتلك إني هتجوزك.
ألجم رده لسانها، وأجبرها على عدم التفوه بحرف، لعدم إيجادها من الكلام ما يعادل جرحه لشعورها، ودعسه لكبريائها، مما جعلها تشعر بالدونية، ضغطت على شفتيها، متحاملة على نفسها غصة البكاء التي تنهش حلقها، نفخت أنفاسا ساخنة، وبصوت مختنق للغاية سألته:
-وقربت مني ليه من الأول؟
بنظرات لم تحِد عن وجهها، رآيا عبراتها المتكومة بحدقتيها والتي لا تعنيه في شيء، ولم تتأثر تعبيراته الثابتة بها، بمنتهى الجفاء والقسوة الذي لا ينفك يتحدث بها أجابها:
-كل حاجة كانت بمزاجك، وإنتي اللي جيتيلي لحد عندي.. جوا أوضتي، ولا نسيتي؟
أحست بمطرقة هوت على رأسها، بنصل حاد غرز في جنبات قلبها، ممزقا شغافه، شعرت للحظة كأنما حجر بالغ الثقل، جثم فوق صدرها، صادعا كامل روحها، انسابت العبرات من حدقتيها في تتابع صامت، ما الفارق الذي ستحدثه تلك العبرات الواهية، أمام جبروته وعدم اكتراثه حتى بمدى الألم الذي نجم بداخلها، من كلماته القاسية، والاي إند دلت على شيء، فلن يكون سوى أنها في حياته ليست سوى وعاء لتفريغ رغباته الذكورية فحسب، انهمرت المزيد من الدموع الحارقة، ولكن وقوفها أمام مرمى بصره وهي في أوج ضعفها وإنكسارها، وهذا لم يحرك فيه ساكنا، كان بمثابة جرح قاتل لها.
شهقة غادرة تفلتت من حلقها، تبعها وضعها ليدها فوق فمها لتمنع خروج المزيد المصوبة بنهنهاتها الباكية، وبخطوات سريعة تحركت تجاه باب الشقة، وبداخلها بالغ الندم على استسلامها لصوت قلبها، الذي حثها على المجيء إليه، ليكن جزاءها جرحه لها بكلماته التي أخترقت قلبها، كأنما طعنات مدوية، مزقته إربا.
تابع خروجها بنظرات ثابتة، لم تتبدل إلا عند سماعه لصوت غلق الباب، ليعتلي عينيه طيف ندم على ما تفوه به، فقد رأى بأم عينيه تأثيره المضني عليها، مستشعرا كم الحزن الناجم مما قاله، بحركة مباغتة تملأها الغضب، ألقى بالمزهرية الموضوعة على الطاولة المجاورة له أرضا، لتتهشم لقطع صغيرة مشابهة لتهشم قلبها في صدرها، بخطوات حثيثة مليئة بالتثاقل، توجه صوب الأريكة، وارتمى عليها ممدا، وضع ساعده فوق جبهته، عينيه موصدتين، وكأنما يحاول محو صورتها الباكية عن ذهنه، ولكن ما جال في خاطره حقا ولم يستطع تبديد طيفه عن مخيلته، هو هيئتها الفاتنة ذلك اليوم، والتي تتشابه مع حالة التلبك التي كانت طاغية حينئذ مع ما رآه عليها منذ القليل من الدقائق المنصرمة.
لم يخفَ عنه تتبعها له، وإرهافها السمع لحديثه لتلك الفتاة عبر الهاتف، متحججة بصعودها لغرفتها المجاورة لغرفته، أبطأ من خطواته بعدما أنهى المكالمة الهاتفية، متوقفا عند عتبة باب غرفته، مد يده ليدير مقبض الباب، وقبلما يشرع في الولوج التفت برأسه نحوها، لامحا التوتر على محياها، حمحت وهي تتمسك بحقيبتها، متحكمة في ربكتها، تظاهر بعدم ملاحظته لمواريتها تركيزها مع حديثه، مع تلك الفتاة التي كان يتفق معها على مقابلتها في أحد الملاهي الليلية، الذي لا ينفك يتررد إليه تقريبا كل ليلة، دفع الباب ولكن منع دلوفه تحدثها له بنبرة صوتها الناعمة وهي تتقدم نحوه:
-ازيك يا عاصم؟
كانت تحاول أن تتظاهر بالتلقائية في تعاملها معه، خاصة بعدما صد محاولتها في التقرب إليه، حينما صرحت له بحقيقة مشاعرها نحوه، حافظ على جمود قسماته، رغم ما كاد يُرسم على محياه من أمارات ساخرة، على محدودية عقلها، رد عليها بجفاء وهو محفز للولوج لداخل حجرته:
-كويس.
منع محاولته للولوج مرة أخرى، اندفاعها في الحديث متسائلة عما ترجمه لها عقلها، حول ذهابه لأخرى، راغبة في التأكد عن الأمر، مرددة بنزق:
-هو انت.. رايح فين؟
اشتدت تعبيراته، لم يحبذ نهائيا تطفلها على خصوصياته، حدجها بنظرة تحمل الإستخفاف، ورد عليها باقتضاب:
-وانتي مالك!
تحرجت من جهامة رده، كادت تتحدث بأي هراء لتغطي على حرجها، بينما هو لم يدع لها مجالا لإضافة المزيد، ودلف الغرفة مغلقا الباب خلفه، نفض عن عقله ملامحها المرتبكة، والتي رغم سنوات عمرها الصغيرة، إلا أن بها هالة غريب تجذبه للتحديق بها، توجه مباشرة نحو المرحاض وهو يفك رابطة عنقه، ناوٍ على الاستحمام لإنعاش جسده، نافضا عنه عناء اليوم.
تحرك بخطوات متباطئة، بعدما أنهى استحمامه، وهو ممسك بمنشفة صغيرة في يده، يجفف بها ما ينسدل من رأسه من خطوط مموجة من الماء، نزولا على ظهره وجذعه العاري، مرتديا فقط بنطالا قطنيا، توقف أمام التسريحة، ملتقطا هاتفه الذي قد تركه فوقها قبل دلوفه المرحاض، متفقدا ما بُعث له من رسائل أثناء الدقائق المنصرمة عليه وقت استحمامه، حال دون متابعته لرسائله الوارده، صوت طرقات خافتة على باب غرفته، لم يحِد بنظره عن الهاتف، مستمرا في التقليب متفقدا أي أمرا هاما، مكتفيا بالرد على الطارق، سامحا له بالدلوف، هاتفا:
-ادخل
استشعر خطوات حثيثة تطئ الأرض دخولا بعدما فُتح الباب، رفع ناظريه عن هاتفه بلا مبالاة، ليرى من الدالف، تفاجأ بحضورها، ورغما عنه ثبتت نظراته على كلها، فقد بدلت ثياب مدرستها، مرتدية قميصا قطنيا يصل إلى ما قبل ركبتها بعدة إنشات، لم تكن مرته الأولى في رؤيته لها بثياب قصيرة، فهذه هي نوعية ثيابها المعتادة عليها منذ صغرها، ولكن اختلف الأمر كل الإختلاف بعد ما علم بمكنوناتها نحوه.
خصلات شعرها ذهبية اللون، خضراوتاها اللامعتان، وشفتاها الممتلئان، لسن سوى عوامل رئيسية في انجذابه نحوها، رغم ادعائه بالنقيض، جمالها الأوربي الذي ورثته عن والدتها -لاندراج عائلتها لأصول إنجليزية- أعطى لها جاذبية ساحرة، كل ذلك كان متاحا أمام مرمى بصره، ولم يكن له تأثيرا طاغيا، ولكن ما تمكن فعليا من التحكم بكينونته الذكورية، ذلك الجسد المغاير تماما لأعوام عمرها الستة عشر عاما، منحنيات جسدها تبرز أنوثة كاملة، تتخطى ذلك العمر بعمر آخر، وما يزيدها أنوثة، ذلك الخجل الفطري، وجهها المتخضب بحمرته الطبيعية، من رؤيتها لجذعه العاري، أنزلت نظرها لأسفل، وعلى محياها توتر متضاعف عما رآه منذ عدة دقائق، وراحت تفرك يديها متحكمة برجفة خائنة تتسلل لجسدها كلما أبصرت عينيها عينيه المثبتتين عليها تتطالعاها بنظرة لم تعهدها منه تجاه جسدها، وتحركت شفتيها بصوتها المهزوز وهي تخبره بضيق محسوس على نبرتها:
-عاصم بلاش تروحلها.
رفع عينيه اللتين قد انغمستا في تفرس مفاتنها المطبق عليها القميص بإحكام مهلك، عندما استمع لطلبها الغريب، قطب جبينه بطريقة توحي باستغرابه، وحدق بوجهها، ليلمح ازدرادها لعابها، ثم نطقت بصوت متلعثم بعض الشيء مضيفة بتوضيح يحمل الأسى:
-أنا.. أنا عارفة إنك رايح لواحدة، سكعتك وانت بتكلمها في التليفون وبتتفق معاها، عشان خاطري ماتروحش.
لم تكن تعلم أن صوتها الناعم المطالب بعدم ذهابه لأخرى يزيد الأمر تعقيدا بداخله، فقد بدأت خلاياه تتحفز، ومخيلته البغيضة راحت ترسم لهما صورا، ما كان ينبغي لها أن تدور برأسه لهما معا، لم يركز في أي مما تقوله، فقط حركات شفتيها هو ما يمعن النظر عليه، حين تابعت بعاطفة قوية نابعة من بين جنبات قلبها:
-أنا بحبك بجد، وبتضايق أوي لما بعرف إنك...
لم تتم عبارتها المختنقة، لانحنائه بجذعه نحوها، مطبقا على شفتيها بطريقة أرجفت كامل جسدها، ومع ذلك ألجمته في موضعه، طوق خصرها بأحد ذراعيه، وهو مستمر في تلثيمته الهوجاء، المجردة من أي مشاعر تذكر، مليئة برغبة بحتة فحسب، لم يكن هناك أي تناغم منها أو مقاومة حتى، بل استسلام مختلط بوجيب قلبها العنيف، يعصف كيانها مع كل شعور قوي يدك حصونها المنيعة، امتدت ذراعه الآخر نحو الباب غالقا إياه، ليضمن عدم مقاطعة ما نوى على فعله، أو أن يحول أحد دون إخماد ما استعر من نيران الرغبة التي انتشرت، وتعاظمت، وألهبت سائر خلاياه.
حرر "عاصم" زفرة مطولة، من عمق رئتيه، وهو يعيد بذهنه أحداث ذلك اليوم، الذي لو ما كان استجاب لشهوة جسده حينئذ، ما كان حدث على الأقل تلك المناقشة المحتدمة بينهما، وهي تحاول أن تستجديه لتقبل جنينين لا يريد لهما الحياة بالأساس، وكانت اقتصرت علاقتهما على صلة قرابتهما، التي مع مرور الوقت وبموت والدته ما كان ليعطي لها بالا، ويتناسى وجودها في حياته التي لطالما كانت وستظل فارغة.
❈-❈-❈
القلب ليس مكان للشعور بلذة الحب فحسب، بل وقساوته أيضا، تصيب شغافه الحساسة، بتمزقات غائرة، وجروح لا تندمل. شدة الوجد، والإحتراق من العشق، بالنسبة إليها أهون آلاف المرات، عما وقع على سمعها منه، ومزق نياط قلبها، ورغم أنه كان محقا بعدم تحدثه في أمر الزواج من قبل، ألا أن عقلها الأحمق ترجم ما حدث بينهما على أنه رغبة منه فيها زوجة له، كانت تظن أن ما تم بينهما في ذلك اليوم المشئوم، سينجم عنه زواجه به، كونها امورا يقتصر حدوثها بين الأزواج كما كانت تظن حينئذ.
وقعت تحت وطأة جلدها لذاتها، ظلت تلوم نفسها على استجابتها الرخيصة له، هو محق في كل ما قاله، هي من ذهبت إليه بمحض إرادتها، هو لم يفرض عليها الأمر، كان بيدها أن تصده، تردعه، ولكنها دفعت نفسها مع موجة لمساته الخبيرة على مواطن انوثتها الحساسة، وفيضان المشاعر الذي غرقت به بين يديه، وغفلت عن الإثم الفادح الذي ترتكبه بكامل رغبتها حينها حتى وقتها هذا.
بعد دلوفه الحجرة، نفخت في ضيق عارم، وخبطت بقدمها الأرض، وبداخلها نيران الغيرة تنهش بها، زفرت هواءً ساخنا وهي تتوجه نحو غرفتها، تفكر بحل سريع يمنعه من الذهاب لتلك الساقطة.
ظلت تجوب الغرفة مجيئا وذهابا، لا يوجد بعقلها حلولا تحول دون ذهابه، أنفخت أنفاسا مليئة بالكدر، لن تدعه يذهب لغيرها وبمعلمها أيضا، لن تقف مكتوفة الأيدي خالية الوفاض هكذا، حتى وإن لم تجد حلا، ستذهب لتحدثه، وتخبره مجددا عن مشاعرها ناحيته، إن لم يرضخ لإحساسها، ستعطله عن الموعد المتفق عليه على الأقل، بدلت ثيابها مدرستها سريعا، بأخرى بيتيه مريحة، وغادرت الغرفة لتلحق به قبل مغادرته.
حدث اكثر مما توقعت، ومغاير تماما لما تخيلت، لم يكن يأتي بمخيلتها منذ وطأت بقدمها الغرفة، أن يؤول الأمر إلى أخذها إلى فراشه، حتى أن وعيها لم يكن كاملا حول تلك الأمور الحميمية، سنوات عمرها الصغيرة، وقوتها المسلوبة بفعل تأثير الطاغي، لم يسعفاها للمناص من بين براثنه، كانت مغيبة عن الواقع، ينتفض شعورها، ويشتعل كل ما هو كامن، مع إحساس بإنعدام كل أساليب دفاعاتها الممكنة، لتصبح مسلوبة القوى، مستسلمة تام الاستسلام لشحنات حميمية، حسية، تقتحمها دون هوادة.
مر الوقت عليها كدهر، عايشت خلاله تجربة، ليست بالقاسية، ولكنها مليئة بالدونية، وعدم الإحترام لحرمة جسدها. نهض "عاصم" عنها، بعدما أخذ وطره، ولبى متطلباته البغيضة، باقية هي موضعها فوق الفراش، ليس بمقدورها حتى رفع الغطاء، لتستر جسدها عن عينيه الجائعتين، بأنفاسٍ متسارعة، وهو موجه لها ظهره، ومحفز لترك الفراش، أخبرها بجمود:
-قومي البسي، وروحي أوضتك.
لم تهدأ حدة خفقات قلبها، شاعرة بتألم موضعه في صدرها، رفعت جذعها قليلا للأمام، مدت يدها المرتجفة، ورفعت الغطاء موارية جسدها، بوجه مشتعل بحمرة غير طبيعية، ردت بتلعثم بالغ، غير قادرة على صوغ الكلام بصورة صحيحة:
-طب.. أنا..
كانت تود أن تلمح له بتحرجها من النهوض، وهي عارية بلا أي ساتر، ولكنها انتفضت دون أن تتابع في محاولتها الواهية في التكلم، حينما هب واقفا، وهدر بها بانفعال، ملوحا بيده أمام وجهها:
-خلصي يلا.
رفعت له عينيها المتستعين برهبة من صوته الصارخ، ناهيك عن رهبتها مما دار بينهما، لاحظ هو ما ظهر على محياها من ارتعاد مبرر، كما أدرك عصبيته الغريبة، مجهولة السبب بالنسبة إليه، ليستطرد محاولا إظهار سبب وجيه فيها مطنبا:
-قبل ماما ماتسأل عليكي ومتلاقيكيش وتعرف إنك هنا.
انتبهت مداركها لخطورة الأمر بالنسبة إليه، لذا تفهمت السبب في ارتفاع صوته عليها، هزت رأسها في تفهم، وانصياع لطلبه، وما ساعدها على النهوض بأريحية، هو دلوفه الشرفة، كإنما يترك لها حيزا لمغادرة الفراش دون خجل، لم تمر سوى دقيقتين، وكانت منتهية، تقدمت من الشرفة، بخطوات تستشعر بها هزة تصيب سائر جسدها، مع كل خطوة تطئ الأرض، فاح في الغرفة دخان سيجارته التي يدخنها بشراهة في الشرفة، نافذا لرئتيها، مسببا شعور بالجفاف في حلقها، لتسعل مرتين بخفة، انتبه حينذاك لصوتها القادم من خلفه، استدار على فوره، مدركا انتهائها، اطفأ السيجارة في مطفأة السجائر، الموضوعة على المنضدة الصغيرة بالشرفة، ثم توجه إليها، لتردف هي مبلغة إياه -أثناء تقدمه نحوها- بكثير من الربكة التي تضاعفت على قسماتها:
-أنا خلصت.
وقف أمامها، بهامته المنتصبة، وعضلات جسده المشتدة، والظاهرة لتجرد جذعه من الثياب، طرقت برأسها أرضا خجلا من رؤيته هكذا، ارتسم فوق ثغره شبح ابتسامة ساخرة من فعلتها، لم تلمحها هي، وهو يخبرها بجفاء موجز:
-طيب، أخرجي يلا.
رفرفت بأهدابها بمزيد من التوتر، وهي تنظر بطرف عينيها تجاه الفراش، تحديدا تجاه البقعة الحمراء المتوسط الملاءة، ابتلعت ريقها، وتكلمت بتردد يملأه الحرج الممزوج بالهلع:
-طب والسرير واا..
تدارك بغير تفكير، ما تحاول التحدث حوله، لذا قاطعها مرددا بجمود، ويده تمر على نهاية رأسه بضغط عليه بضيق غير مبرر:
-ملكيش دعوة، أنا هتصرف.
رغم انتشاله عبء أمر الفراش عن كاهلها، إلا أن شعور الرهبة والخوف متمكن من كل ذرة في كيانها، تحركت بكتفين متهدلين، وخطوات مهزوزة، تجاه باب غرفته، ولكن أوقفها عن متابعة السير، صوته الآمر حينما قال:
-استني.
استدارت له، تتابع تقدمه نحو، بقلب يكاد يقفز من موضعه، من قوة خفقانه، فكلمة منه صارت ذات وطأة على أعصابها، دنا منها إلى حد أرجف جسدها، وطلب منها على نفس الشاكلة الآمرة:
-مش عايز حد يعرف باللي حصل.
حملقت به بتحير يتخلله الاسترابة، راودتها الشكوك حول ندمه على تقربه منها، وربما يكون طلبه، تمهيد لإخبارها بعدم تكرار تودده إليها، بعدما ظنت أن ما حدث بينهما، دليلا قاطعا على أنه قد تقبلها معه، لاحظ شرودها الذي طال، ونظراته المليئة بالخوف، بدون إرادة منه، وجد يده أخذت الطريق لوجهها، محتوٍ إحدى وجنتيها في راحته، شعر بالقشعريرة التي انتابتها من لمسته، رمقها بنظرة متفحصة، وسألها بغموض:
-عايزانا نفضل مع بعض.
لمعت عينيها بوهج عارم، وسريعا ما هزت وجهها هزات متتالية، كإيماءة منها على الموافقة، تبعها تأكيدها على تساؤله مرددة:
-آه.
انتقل إبهامه لشفتيها، يمسدهما بطريقة مغرية، باعثة على الإغواء، وهو يغمغم بطلب متخذا نهجا آمرا، مشروط به بقائهما معا:
-يبقى محدش يعرف حاجة ماللي حصلت بينا.. وخصوصا ماما.
كان طلبه ليس بالأمر المستصعب فعله، هي لم تكن لتخبر خالتها بالأمر بالأساس، لذا قابلت طلبه بموافقة فورية، عن طريق هز اخرى من رأسها، تبعها قولها بنعومة قبلما يتركها لتغادر:
-ماشي.
لقد فتحت له أبوابها المحظورة على مصراعيها، لم تمنعه من التمادي، أو الإستمرار، بل كانت تذهب هي إليه في بعض الأحيان، إن طالت مدة ابتعاده، وعدم مطالبته لها بين الحين والآخر، لوهلة تداركت كما كانت رخيصة، أدركت حقارة شأنها في نظره، فهي ليست سوى ساقطة كانت تعيش معه تحت سقف واحد، كانت بديل جيد ومتاح لتلك العاهرات الأخريات، عندما لا يريد ان يكلف وسعه ويذهب إليهن، كانت هي متاحة في أي وقت، وبإشارة واحدة منه، تخر تحت قدميه، منفذة له شتى متطلباته.
دفنت وجهها بالوسادة، وهي تبكي بقهر لم تشعر به قبلا، لقد سأم منها، استغنى عن وجودها، نبذها من حياته، بعدما استحوذ على كامل وجدانها، وأضحى هو الشيء الوحيد والأهم بحياتها، تركها لتشعر بوحدة قاتلة، مع ندم مميت، يكادا يوديا بحياتها إلى هلاك حتمي.
حاولت النوم بعدما انجرفت داخل نوبة بكاء، اهدرت بها طاقتها، وأنهكت روحها، رغم تألمها والتشنجات المصحوبة بآلام ظهرها، إلا أنها لم تعطِ للأمر بالا، مفسرة أنه نتيجة لتواجدها بالخارج مساء اليوم، وأرغمت نفسها على استحضار النوم، لكي تمنع عقلها عن التفكير قليلا، في حياتها المُدمرة، ونفسها المهشمة.
يُتبع