الفصل الرابع - مشاعر مهشمة
الأسئلة الحيرى التي تضرب العقل بين الحين والآخر، تجعل بداخله زوبعة من الأفكار، ناهيك عن تلك المشاعر المتضاربة التي تختلج الروح، وتؤثر سلبا على صفوها، كان "عاصم" مشتت التفكير؛ بين ما أراده يوما ودُفن في مكان ما بأعماقه، وما يتوجب عليه فعله كما يزعم والده. في قرارة نفسه، لم يرِد أن يكون ذلك الشخص المؤذي، الذي يشابه الشيطان في أفعاله النكراء، فهو لطالما أراد أن يكون حسن المعشر، لين الطباع، وطيب السريرة، كما والدته الراحلة، ولكن تحتم عليه أن يرِث طباع والده، التي كان باغضا لها، وكثيرا ما نفر منها.
بينما كانت المربية تعدل من هندام ملابسة، وهو يطالع هيئته في المرآة، بنظرات طفولية مليئة بالإعجاب، صدح صوت والدته في الجوار، وهي تتساءل بنبرة تظهر منها الغرابة:
-رايح فين يا عاصم؟
التفت برأسه نحو مصدر صوتها، ليجدها دالفة من باب غرفته، ارتسمت ابتسامة لطيفة على محياه، وأجابها بوداعة:
-رايح مع بابا.
حانت منها التفاتة نحو ساعة الحائط، لتتعقد ملامحها، فالوقت قد تعدى التاسعة مساءً، وهذا موعد نومه، عاودت النظر إليه، وتجلى صوتها بغرابة مضاعفة وهي تتساءل مرة أخرى:
-رايح مع بابا فين؟
لم يكن لديه علم مسبق بمكان ذهابهما، وما كاد يخبرها عن عدم علمه، حتى أناب عنه والده بالإجابة، والذي حاد بنظره عنه ليحدق به آتيا من خلف والدته، قائلا بصوته المشبع بالصلابة:
-هاخده معايا السهرة دي، مالك في إيه؟
تساءل بالأخير عندما لمح طيف اعتراض ظهر على قسماتها، تبعه قولها باحتجاج واضح ولكن بأسلوب هادئ كعادتها في الحديث إليه:
-بس أنت بتسهر مع صحابك، وممكن تغفل عنه، و...
أنهى محاولتها في قول المزيد، عن طريق انحنائه نحوها، وتقبيله لشفتيها تحت نظرات المربية التي أنزلت نظرها حرجا، ونظر "عاصم" الذي لم يشعر سوى بعد تقبل والدته للوضع الحالي، ظاهرا له امتعاض وجهها، ابتعد عنها ثم قال بجمود وهو يمسد ظهرها بحركة خالية مش المشاعر بذراعه المحاوط خصرها:
-متقلقيش عليه.
توجه نحو "عاصم" الذي انتقل بنظره بين والده والدته التي اكتسب وجهها أمارات الضيق وغير الرضاء الواضح من ذهابه رفقته، وأردفت طالبة بنوع من التوسل الغريب:
-طب ممكن تجيبه بدري عشان مدرسته.
بنظر لم يحِد عن "عاصم" حيث كان يمد له يده ليقبض على كفه الصغير، ردد بفتور:
-طيب، يلا يا عاصم.
كان كالصفقة المربحة بالنسبة إليه، لما كان عليه منذ صغره من هشاشة، شخصية اهتزازية، وخوف ظاهر في عينيه تجاهه على الدوام، لم يستسغ "كمال" طباعه الشبيه بالفتايات كما كان متراءٍ له، ف"عاصم" كان وحيد أمهِ كما يُقال، وتعلقه بها كان مبالغ به من وجهة نظره، ولكن إذا كان أمعن التفكير، لوجد أنه من الطبيعي ذلك التعلق لطفل بالسادسة من عمره، ليس لديه أشقاء، وحيد، لم يرى منذ وعى على الحياة سوى والدته، ولكنه لم يعطِ لذلك أهمية، راغبا بجعله نسخة مصورة منه، عاملا على تشكيله كالصلصال بين يديه.
وعندما كان يستشعر رفضا غير منطوقٍ منه -لعدم قدرة شخصيتة الضعيفة على المواجهة- يبعث هو بداخله قناعة تامة أن ما يدفعه لفعله ما هو إلا الصواب، حتى وإن كان يغفل البعض عنه، أو يُقابل بهجوم من أخرون. جذبه، واستمال فكره، وأثر عليه بشخصيته المهيبة، إلى أن سار على خطاه، وأتخذ نفس النهج الوضيع في سريان حياته، حتى وإن كان أقل شرا منه، وضميره ينبض بداخله بين الحين والآخر، ينبئه بفداحة ما يفعل، إلا أنه في نظر نفسه قبل الأخرون مثيلا كريها له.
الكره، الحقد، الجفاء، عدم الإكتراث بمشاعر الغير، والكثير من العنف، وأكثر من ذلك، كلها دروس بغيضة ظل لأعوام يرسخها في عقله، ويسمم فكره بأقوال ليس لها أساس من الصحة، بعضها كان يحمل معنى ضمنيا؛ بأن هذا ما ينبغي أن يكون عليه الرجال، ليخيل له حينها أن ما كان عليه ما هي إلا صفات أنثوية؛ يجب أن تنمحق مع إنسانيته التي وراها الثرى، وعن طريق هذه الصفات المقيته، استطاع بحنكته الإيقاع بينه وبين "مجد"، عندما تراءى له صداقة ما كان ينبغي لها أن تكون بينهما.
أثناء تناولهم طعام العشاء، رفع "عاصم" نظره عن صحنه، عندما استمع لصوت والده القائل بنوع من التهكم:
-شايف مجد اللي اصغر منك عامل ازاي، ياريتك بس تتعلم.
قبض "عاصم" على الشوكة الممسك بها بضيق بالغ، من تلك الكلمات التي تتردد على سمعه على الدوام، بهذا النوع من التقريع المبطن والمقلل لشخصه، لم يستطع موارة ضيقه وهو يردف بصوت ارتفع نسبيا بغير رضاء:
-اتعلم إيه بس يا بابا أنا مش فاهم؟
على فوره اضطرم وجه أبيه بالغصب، وصاح به في زجر مدمدما:
-عااصم، جرا إيه انت هتعلي صوتك عليا؟
شعر "عاصم" باختناق جثم على صدره، ليس فقط من صراخه عليه، بل من ذلك التقليل من شأنه الذي يلقاه منه على الدوام، وكأنه ينتظر من فتى ما يزال بالخامسة عشر، خلق معجزة ما، أو شيء خارق للطبيعة. فقد شهيته، وشعر بمذاق الطعام كالعلقم اللاذع في حلقه، ترك الشوكة في صحنه، وأرجع كرسيه قليلا وهو ينهض عنه، مرردا في عبوس وملامح واجمة:
-عن إذنكم.
إقتناعه بأن "مجد" نال كل ما رغب به يوما، من سمعة طيبة، احترام من الجميع، حب وتقدير والده له، زعزع ثقته بذاته، وجعله يرى نفسه قليل الشأن مقارنةً به، كما كان يرى في نظرة والده المقللة له دائما. ووضعه في مقارنات متكررة معه، يخرج منها خاسرا متهدلَ الكتفين، هذا ما ضاعف من كرهه وحقده، أقنع نفسه أنه يجب أن يتفوق عليه، ويثبت نفسه لوالده حينها، ويجعله يجزم بأن "مجد" هو الذي لا يقارن به، وكان هذا ما يريده "كمال" بالتحديد، أن يبدد صداقتهما، ويبعث الكره والحقد بينهما، وها قد اصبح له ما أراد.
كان لسجن والده الأثر الأكبر في تعاظم الكره بداخله وليس نحو "مجد" فقط، بل عائلته أجمع، وعندما غادره، لاحظ "كمال" احتدام الكراهية بداخل ابنه ناحيتهم، لسبب مجهول بالنسبة إليه، فهو لم يتوقع أن يكون السبب هو حزنه عليه، ولكنه لم يأبه بمعرفة ما يختلج به داخله، وسبر أغواره، بل كل ما عبأ به أن يطرق على الحديد وهو ساخن، وأخبره برغبته في أخذ حق السبع سنوات التي قضاهم في السجن، الذي كان السبب فيه "هشام الكيلاني"، وكما توقع منه؛ حصل على موافقته الفورية، لرغبة "عاصم" في أن يرى نظرة فخر في عينيه له، ومن ناحية أخرى يقتص لكل ما عايشه من أيام، وشهور مريرة خلال تلك الفترة القاسية.
ولكن والدته لطالما حالت دون ذلك، ابعدته عن أي تناحر وشيك بينه وبين "مجد"، وما كان يبدر منه حينها إلا عثرات يضعها في طريق الآخر خاصة في شئون عمله، ولكيلا ينشب شجار بينهما كانت تتواصل هي مع "مجد" سرا، وتحاول أن تراضيه وتعتذر له نيابة عن ابنها، وتجعله يلتمس الأعذار له باختلاق أسباب واهية، ومن ناحية أخرى كانت تحاول ردع الآخر، وإزالة ما ترسخ في عقله لسنوات، إلا أن والده كان قد تملك منه، وأضحى يسيره كيفما يشاء، فوطأة شرور والده كانت أقوى وأحكم من حكمة وصفاء قلب والدته.
دلفت والدته غرفته دون سابق إنذار، وتوجهت نحوه وهو مستلقٍ على الفراش، يعبث بهاتفه الجوال، رفع نظره عنه، ليتابع تقدمها نحوه، ملاحظا عقدة حاجبيها المعبرة عن ضيق مجهول السبب بالنسبة إليه، ولكن واته شعور بأن السبب له علاقة به، وتأكد شكه عندما هدرت بحدة وضيق جلي:
-مش كفاية بقى يا عاصم.
رغم توصله للمعنى الضمني من عبارتها، إلا أنه تظاهر بالنقيض، وعاود العبث بهاتفه وهو يتساءل بهدوء بعدم فهم مصطنع:
-كفاية إيه؟
احتقن وجهها نسبيا من مراوغته، فهي أكثر من يفهم طباعه التي باتت تتشابه إلى حد كبير بطباع والده، وتابعت زجرها له بصوت غالب عليه الخوف النابع من غريزتها الأمومية:
-كفاية مشاكل، أنت بتجري ورا المصايب برجليك يا ابني!
رفع جسده قليلا معتدلا في نومته، وضع هاتفه جانبه على السرير وهو يزفر بضيق من خوفها الذي لا يجد له داعٍ، وتدخلها في سائر شئونه وكأنه بالخامسة، غير متداركة عمره الذي تخطى منتصف العشرين بعام، ثم سألها بتجهم ناقم:
-هو انتي خايفة عليا من مجد ولا إيه؟
جلست بجانبه على طرف الفراش، ووضعت يدها فوق ساقه الممدد، وأجابته بصوت خبت حدته، ولكنه يحمل بين طياته القلق:
-أنا مش خايفة عليك من مجد، أنا خايفة عليك من دماغك، لتوصلك للسجن زي ما وصلت أبوك قبلك، وأموت أنا وقتها بحسرتي عليك.
نفخ بضجر من كلماتها التي لا تنفك تخبره بها، وكأنه سيجهز على الآخر بسكين في قلبه حتى يرديه قتيلا، نهض عن الفراش، وعلق على كلماتها بفتور وهو متوجه نحو المرحاض:
-لا متقلقيش، مفيش حاجة هعملها هتوصلني للسجن.
تراءى لها تصميمه على تنفيذ اتفاقه مع والده، في أذية "مجد"، والذي سيؤول إلى عراك حتمي بينهما، سيؤدي في النهاية للزج بأحدهم في السجن، وكما تتوقع سيكون أهوج العقل ابنها، حركت رأسها بقلة حيلة، ونهضت هي الأخرى وهي تقول بخيبة أمل وحزن بالغ:
-الظاهر كده إنك بقيت شبهه، عايز تعمل مصايب وتئذي اللي حواليك من غير مايعملولك حاجة، يا خسارة تربيتي فيك يا عاصم بجد.
ستظل التساؤلات متكتلة برأسه، حول حقه المزعوم في كل أفعاله وهجومه نحو عائلة "الكيلاني"، هل لديه كامل الحق فيما يفعله تحت بند الانتقام كما يدعي؟، أم هو الذي أصبح كوالده يفتعل المصائب؛ ويعمل على أذية الغير دون سبب وجيه كما أخبرته والدته من قبل؟، ولكن ماذا هو بفاعل أمام كل تلك النيران التي تتآكل به منذ أعوام؟، أليس ذلك بسبب وجيه!، أليس من حقه أن يشعر "مجد" ببعض مما شعر هو به!، وكان من أبغض ما يمكن تحمله بالنسبة إليه، وفي الأساس هم السبب الرئيسي فيما ينهش بكيانه.
تنهد مطولا، زافرا هواءً ساخنا من عمق رئتيه، اعتدل في جلسته فوق كرسي مكتبه، عندما استمع لتلك الدقتين فوق الباب، نهض عن الكرسي وهو يصدح بصوته سامحا للطارق بالولوج، والتي كانت مساعدته الشخصية، قادمة لأخذ الملفات المطلوبة أثناء الإجتماع الذي سيقام خلال دقائق، حاول كبح ذهنه عن التطرق لتلك الأمور المؤرقة، مختزلا تفكيره وتركيزه المستنزف صوب عمله، لكي يستطيع مجاراة الإجتماع وتحمل أصوات الموظفين ونقاشاتهم الروتينية.
❈-❈-❈
تجمع جميع أفراد عائلة "مجد" في فيلا والده، فاليوم هو اليوم المنشود للإحتفاء بأول حفيد للعائلة، بعدما تم إرجاء ذلك الإحتفال المقتصر على عددهم؛ لحين خروج الرضيع من الحضانة، الذي ظل بها لقرابة الشهرين، حتى تمام التعافي. نزل "مجد" درجات السلم الداخلي المنتهي ببهو الفيلا، حيث يجتمعون أفراد العائلة معا، تاركا زوجته في غرفتهما رفقة والدتها ترضع وليدهما، تقدم نحوه "عدي" بابتسامة مسرورة، وخاطبه في لهجة ودودة برجاوات صادقة مرددا:
-متجمعين في الفرح دايما إن شاء الله.
بادله "مجد" الإبتسامة، وهو يرمقه بتلك النظرة الطيبة، ورد عليه في هدوء مفعم بالراحة التي تختلج صدره الآن لاجتماعه بصغيره:
-أمين، كلها شهر اهو ونتجمع عندك.
طغى على عبارته بعض التفاؤل، الذي يحاول أن يبعثه في نفس الآخر، لما يراه عليه من توتر بشأن حمل زوجته، والتي أضحى ظاهرا عليها الإعياء، كونها باتت في مرحلة متقدمة للغاية من الحمل، وضع يده خلف رأسه، يضغط فوقه بخفة، سحب نفسا مطولا، زفره دفعة واحده وهو يردف في قليلٍ من القلق:
-يا مسهل يا رب، ادعيلها انت بس، الفترة دي كل مدى بتتعب اكتر، وخايف عليها.
ربت فوق جانب ذراعه بدعم، وراح يخبره في نبرة مطمئنة:
-متقلقش إن شاء هتعدي على خير، وهتقوم بالسلامة وهينور حبيب خاله.
على فور قوله الأخير من عبارته، حتى جاء صوت "هشام" ذي النبرة الطيبة من خلفهما، مضيفا على حديث "مجد":
-وحبيب جده.
تراءى ل"هشام" قلق زوج ابنته، ليتذكر نفس الهيئة والملامح المرتعدة التي كانت تحتله في الماضي، عند اقتراب موعد ولادة زوجته أثناء حملها في "مجد"، انشق ثغره بابتسامة تحمل الإشتياق لها، وتابع سيره نحوهما، وجه نظراته نحو "عدي" الذي ما يزال مبتسم على عبارته السابقة، مسح فوق ذراعه برفق، وتابع بجدية محاولا مؤازرته:
-اجمد كده يا ابني، ده لسه أول خلفة، ولا انتوا هتقفلوا على كده!
هز رأسه بالسلب سريعا، وقد تعقدت تعبيراته وهو يوضح له دوافع القلق لديه بصوت يشوبه التخوف:
-مش كده، أنا قلقان بس، واللي حصل لطيف مخوفني أكتر، ومخوفها أكيد بس هي بتحاول تداري.
نما إلى فهمه السبب الرئيسي في خوفه المبرر، ليطنب هو في حكمة ليخفف من حدة توتره:
-اللي حصل لطيف كان بفعل فاعل، وفي جميع الاحوال طيف وطارق بقوا بخير، سيبها على الله انت وكله بأمر ربنا هيعدي.
أومأ له برأسه بتفهم، ورغم قلقه الذي لم يجدب، إلا أنه علق عليه في هدوء مرددا:
-ونعم بالله.
بينما يتابعون الحديث متطرقون لأحاديث متفرقة، انتبهوا لصوت "رفيف" الضاحك، قائلة من بين ضحكاتها المجلجلة:
-لأ يا جاسم، هات بقى.
حانت منهم التفاتة نحوهما، جالسين فوق الأريكة بالقرب منهم، يتجاذبان معا حديثا جانبيا يتخلله المرح، رأى ابنته متحولة لطفلة صغيرة، تحاول انتشال هاتفها من بين يد الآخر الذي يثير غيظها، مستحوذا على الهاتف ويحاول العبث في شيء ما به، التفت "هشام" برأسه نحو ابنه، الذي يطالعهما بصمت وببسمة صغيرة، وارتسم على شفتيه ابتسامة متسلية وهو يسأله في قليل من الحماس:
-مش يلا بينا احنا نعرفهم بالفاجأة، ولا إيه؟
هز رأسه في إذعان، وتنهد بقليل من الإنزعاج الذي يختلجه من إلحاح الآخر الآونة الأخيرة، والذي قرر أن يتخلص منه، بمشاورة والده في ذلك الأمر بالتأكيد، والذي فاجأه الأخر بالقبول، بل والتعجيل، رآيا أنه لم يعد هناك بدا من تأجيل الأمر أكثر من ذلك، أردف في هدوء مزعوج وهو متحفز في وقفته:
-يلا، اهو اريح دماغي شوية من الزن اللي مبيخلصش.
ضحك والده بخفة على قوله، وتوجها للجلوس على مقعدين بجوارهما، انتبه "جاسم" إليهما، عندما هتف "مجد" مناديا:
-جاسم.
التفت إليه، ووجهه مرتسم عليه أمارات الضحك، اعتدل في جلسته، وسحب ذراعه الملتف حول ظهر "رفيف" وسأله في اهتمام ملحوظ:
-ايوه يا مجد، عايزني؟
رمقه بنظرة متهكمة، وملامحه عبرت عن القليل من الإمتعاض، وهو يتشدق بنبرة تحمل إيحاءً مقصودا:
-ماستغناش يا حبيبي، بس خف شوية يعني مش كده.
تفهم قصده فور ان لمح تلك النظرة الضائقة المسددة له من عينيه، والذي تنم عن عدم رضائه عن مزاحه المبالغ فيه قليلا مع الجالسة جواره طرقت بنظراتها أسفل من الخجل، أراد أن يثير غيظه أكثر، حاوط خصر "رفيف" وقربها قليلا إليه، تحت نظرات الأخرى المحذرة، لحرجها وعدم ارتياحها في وضعها ملاصقة له أمام الجميع، محاولة التملص والمناص من مسكته المشددة على خصرها، بادله "جاسم" النظرات المتحدية، واستطرد بابتسامة مستمتعة:
-ده هزار بريء، وبعدين لو مضايقك عندك الحل، وتبقى ريحتني وريحت نفسك، وخلصت من زني.
تغاضى "مجد" عن حركته المستفزة، وأشار بيده نحو "جاسم" عند انتهائه من عبارته الأخيرة، موجها نظراته وحديثه لوالده عندما قال معلقا على الأخير من كلماته:
-مش قولتلك زنان.
انفرجت شفتا "هشام" بضحكة واسعة، ضاقت لها عينيه، ثم رد على "جاسم" بكلمات تحمل نبأً ينتظره على أحر من الجمر:
-ماحنا خلاص قررنا نشوف حل لزنك.
انتفض "جاسم" في جلسته قليلا، وتوسعت عيناه بعدم تصديق لما نما إلى فهمه، وسأله في تأكد يحمل السعادة التي بدأت معالمها في الظهور على وجهه:
-بجد يا عمي؟، هتجوزونا خلاص؟
على نفس الشاكلة الهادئة المليئة بالودادة، أجابه "هشام" بتأكيد:
-أيوه هنجوزكوا خلاص، اتفقت مع مجد إن فرحك انت ورفيف يبقى أول الشهر الجاي، مفيش داعي نأجل أكتر من كده، خير البر عاجله.
تهللت أساريره، ونمت تعبيراته عن فرحة لا توصف، وراح لسانه يردد بتلقائية بسعادة غامرة:
-أخيرا، ده انتوا نشفتوا ريقي.
لم يستطع "مجد" أن يمنع ابتسامة افتر ثغره عنها على ردة فعله الغير متزنة، وكأنه لم يكن يتوقع موافقتهما على إتمام الزواج، وبلمحة من المرح أخبره:
-ماحنا قولنا نخلص منك.. اقصد نفرح بيك.
تظاهر "مجد" بقوله عبارته الأولى عن طريق الخطأ، عابثا مع "جاسم" الذي تقبلها بصدر رحب، فقد نال مراده على كلٍ، بابتسامته التي لم تفتر قال بعاطفة وهو يخبط مقدمة رأسه بخفة برأس "رفيف" التي لا تقل حالتها فرحا عنه:
-تخلصوا تخلصوا، المهم إننا هنتجوز.
بينما يتحدثون وتملأ أصوات ضحكاتهم المكان، استمع "مجد" صوت شقيقته "أسيف" قادما من خلفه قائلة في لطافة:
-أنا حساه شبه مجد أوي.
بغير تفكير توصل إلى المقصود بعبارتها، والذي لم يكن سوى صغيره الذي يبدو شبيها به إلى حد كبير وملحوظ، التفت برأسه نحوهما متابعا قدومهما نحوهم، بعينين مرتكزتين على وجه زوجته المعبر عن إشراقة وارتياح واضح، وذلك عائدا لاطمئنان قلبها على رضيعها، استمع إلى صوتها المليء بالحماس وهي ترد عليها بما يشبه تأييدا لما قالته الأخرى:
-ماما برضه قالت كده.
لمحت نظراته الموجهة نحوها، قابلته بابتسامة محملة بكل الحب الذي يتخلل وجدانها له، وتوجهت للجلوس على كرسي بجانبه، اقترب بجذعه منها، مد يده محتويا كفها، مسده بإبهامه بحنوٍ وهو يسألها باهتمام:
-رضعتيه؟
أدارت رأسها في اتجاهه، أومأت له بتريث مؤكدة، ثم أجابته بهدوء مضيفة:
-أيوه ونام.
تسلل لروحه الراحة من رؤيتها مستكينة هكذا، عاد لوجهها إشراقته بعدما كان شاحبا ذابلا، فقد انقضت الفترة الماضية عليها تذرف الدموع خوفا على وليدهما، رمقها بنظرة دافئة وهو يطنب متسائلا:
-قلبك اتطمن؟
اتسعت ابتسامتها المليئة بالرضاء، وأخبرته براحة عارمة تتقافز من وجهها البهي:
-الحمد لله.
كان لصبرهما على مصابهما، رضاءً من المولى عز وجل، فقد منّ عليهما بتعافي رضيعهما، ودب الروح في جسديهما من جديد بوجوده بين أحضانهما، آتيا معه كل مباهج الحياة لقلباهما اللذين قد تآكلا خوفا على فلذة كبدهما، باعثا لواجدانهما كامل الراحة والإطمئنان.
❈-❈-❈
على المكتب الخشبي الأنيق، في غرفة المكتب المخصصة ل"كمال الصباحي" في فيلته، جالس هو و"عاصم" يتناقشان حول أمور عدة تختص بشركاته، لعدم كفاية الخبرة لدى الآخر في التعامل بحرية تامة دون الرجوع إليه فيما يخص مجال شركاته، يطالع "عاصم" الأوراق المفرودة أمامه بتمعن ونظرات ومدققة، مع تدوين بعض الملحوظات التي سيطلعها على والده فيما بعد، قطع انتباهه المرتكز على ما يقرأه، صوت هاتفه المعلن عن تلقيه مكالمة من أحدهم، رفع نظره عن الأوراق، وحدق بشاشة الهاتف، ليتشكل على فوره خلجات عابسة على وجهه، ضغط على الزر الجانبي للهاتف، مغلقا صوت الرنين، وتركه متابعا ما يقوم به، ولكن ما لبث أن صدح صوت الهاتف مرة أخرى، أغمض عينيه وزفر في ضجر من إلحاحها، وكرر فعلته مرة أخرى، تحت نظرات والده المستغربة، والذي أردف بجمود:
-ماترد.
رفع نظره عن الهاتف؛ موجها إياه إليه، وعلى محياه تعابير الملل جلية للغاية، ورد عليه في وجوم وضيق واضح وهو ينتقل بنظره للورقة الممسوكة في يده:
-مفياش دماغ.
للمرة الثالثة تكرر رنين الهاتف، زم "عاصم" شفتيه بغضب بدأ في التصاعد على وجهه، وألتقط هاتفه من فوق المكتب، وقام بتفعيل وضعية الصامت، وذلك بعد أن رفض المكالمة، ظهر الفضول على معالم وجه "كمال"، وتساءل بنفس اللهجة الجامدة:
-مين يا عاصم اللي بيرن؟
حاد "عاصم" بعينيه عن نظرات والده، متظاهرا بانشغاله بقراءة الورقة، وجاوبه بإيجاز فاتر:
-داليا.
شعر والده بالإسترابة من مهاتفتها المتواصلة، خاصة عند رؤيته لضوء الشاشة الذي أنار من جديد، موضحا تكرارها الإتصال به للمرة الرابعة، وهذا ليس بنذير خير على الإطلاق، أراح ظهره للخلف، وأشار لابنه بعينيه تجاه الهاتف، وأخبره بنوع من التشكيك المبطن؛ الذي لاحظه "عاصم" بسهولة من نظراته المسددة عليه، حول اتصالاتها المتوالية مرددا بثباته:
-متشوفها عايزه إيه.
لم يرِد أن يبعث المزيد من الشكوك المتراءية له في عيني والده تجاههما، حتى لا ينهال عليه بتساؤلات هو في غنى عنها، نفخ "عاصم" أنفاسا ضائقة، وتعقدت ملامحه معبرة عن احتقانها بالغضب، وهو يمد يده ملتقطا الهاتف، ضغط على موضع الإيجاب، ثم وضعه فوق أذنه ودمدم بغليل مكتوم:
-نعم!
تفاقمت عقدة حاجبيه، ولكن تلك المرة معبرة عن تعحب يشوبه الريبة من صوت كلماتها الباكية الغير مفهومة، فقد تداخل صوت بكائها مع كلماتها المنطوقة بنحيب تتخلله الصرخات المتألمة، شعر بقلق لأول وهلة يمس قلبه عليها، واعتدل في جلسته المرتخية، وتساءل بارتياع ظاهرٍ حتى مع محاولته لمواراته:
-مالك؟ في ايه؟
غطَّى صوت بكائها وأنفاسها المتهدجة على ما تحاول إخباره به، ليحولا دون استماعه لإي مما تقول، خرج عن طور هدوئه المزعوم، وصاح في استياءٍ وصبر نافذ:
-اهدي وبطلي عياط، أنا مش فاهمة حاجة.
انقلبت قسماته بشكل مضاعف، ولكن تعبيرات الصدمة كانت أطغى وأقوى، تسللت كلماتها لأذنه لتحدث تخبطا عارما في رأسه، شعر بجفاف أصاب حلقه، ولم يستطع الرد على استجدائها؛ وسيل كلماتها المشبعة بالبكاء المصحوب بشهقاتٍ صارخة، ليصبح التعبير الوحيد المرسوم على وجهه آنذاك الشحوب المخالط بالصدمة المشتتة.
❈-❈-❈
بعد لحظات من إخبارها له بالحدث الجلل الذي هاتفته لأجله، بصوت عافرت لكي يخرج واضحا خاليا من البكاء، لم يصل إليها رده، أو حتى أُنهيت المكالمة، ليعم الصمت المهيب من ناحيته، ظنت أنه لم يستمع لتكرار كلماتها مرة أخرى، لتعيدها على سمعه من جديد بصوت مرتفع يحمل التوجع الممزوج ببحة بكائها:
-أنا بولد يا عاصم، بولد..
أبعدت الهاتف عن أذنها، لترى رقم السيارة التي طلبتها لتقلها للمشفى يهاتفها، فعندما لم يجِبها الآخر لجأت لذلك الحل كونها لن تستطيع القيادة بوضعها الحالي، تجاهلت الرد عليه مؤقتًا، فهي ترتدي حذائها وهابطة إليه بعد برهة على كلٍ، أمسكت بحقيبة متعلقاتها وهي تتحامل على نفسها السير وتابعت التحدث إلى الآخر بتوسل باكٍ:
-أنا رايحة العيادة اللي كنت رحتها معايا لما تعبت، أنا خايفة أوي، عشان خاطري متسيبنيش، أنا ماليش حد غيرك.
أنزلت الهاتف عن أذنها وهي تذرف الدموع الحارقة، تجابه تلك الآلام بمفردها دون معين أو من يحاول شد أزرها، ركض نحوها السائق عندما رآها متوجهة نحوه، ساندها حتى السيارة، بعدما حمل عنها الحقيبة، قام بفتح الباب الخلفي لها وأجلسها بتروٍ لكي لا يضاعف من آلامها، وضع الحقيبة بجانبها، ثم دار مسرعا حول السيارة، جلس في مقعده وسريعا ما أدار المحرك، بينما هي لم تهدأ حدة بكائها، ولا آناتها المكتومة التي تتفلت بين الفنية والأخرى على شكل صرخات متقطعة، راودها شك حيال عدم مجيئه، لعدم رده عليها بأي كلمة تذكر، كان الخوف يتآكل بأوصالها من عدم وجود أحد رفقتها وهي مقبلة على وضع جنينيها. لم ترد أن تشعر بالمزيد من المذلة وهي تستجدى عطفه للقدوم إليها، ولم يأتِ ببالها في ذلك الوقت لتكون جوارها سوى رفيقتها، فهي الوحيدة التي تجمعها علاقة بها عداه، بيد ترتجف أتت برقمها، فعلت خاصية مكبر الصوت، لقدرتها المسلوبة في رفع الهاتف عند أذنها، ولم تمر سوى ثانيتين وآتاها رد صديقتها، لتتكلم هي على الفور بصوت ممزق ناشج:
-رفيف..
❈-❈-❈4
تفشت البرودة في إطرافه، حتى شعر بسريانها في سائر جسده، لم يضع لذلك النبأ حسبانا، كأنما كان يظن أن حملها سيستمر أبد الدهر، تملك منه حالة من التيه والزيغ، عصفت كلماتها بتفكيره، وعجز عن إتخاذ القرار الصائب حول ذهابه من بقائه، جزء بعيد في أعماقه يدفعه للذهاب إليها، صوتها الباكي ما يزال صداه يتردد على سمعه؛ محدثا زوبعة في جوف رأسه، مجيء روحان إلى الدنيا ينتسبان إليه جعل فكره يخامر نوع من أنواع الصدمة الملبكة، ووسط تلك العاصفة التي أصابت رأسه من تخبط، تشتت، وشرود استمع إلى صوت والده المتساءل:
-في ايه؟
انتشله تساؤله من حالة شروده، انتقلت نظراته الخاوية نحوه، ووجه الذي فر منه الدماء، وأجابه بما يشبه عدم الإستيعاب الكامل بعد:
-داليا بتولد؟
علامات الحيرة بدأت تتقافز من عينيه، وهو يعلق عليه مستفهما بغرابة ممزوجة بالإستخفاف:
-وايه يعني؟
توترت نظراته، وازدادت تحركات بؤبؤا عينيه، ورغم إحساسه بالتخبط وعدم التركيز، إلا أنه أجابه بتحفظ لعدم رغبته في إخباره بالحقيقة كاملةً:
-عايزاني معاها.
ضم ما بين حاجبيه بحيرة مضاعفة، فلمَ ستحتاج لإبنه في موقف كهذا، الأولى أن تكون الحاجة لزوجها، على نفس الشاكلة المتحيرة سأله:
-وفين جوزها؟
تمكن من تركيزه ما يجوس في رأسه من تفكير بها وبما ستضعه خلال السويعات القادمة، وبدون تفكير رد عليه بإندفاع موجز:
-مش متجوزة.
عند إجابته النزقة جال بذهنه الموقف العابر الذي أخبرته فيه الأخرى عن عدم وجود زوج لها، وما راوده من شك حينها حول كلماتها التي كانت ترمي بها إلى نسب طفلها ل"عاصم"، وكذب الآخر الأمر باستماته، حدجه بنظرة غامضة، تابعها تساؤله في هدوء مريب:
-مين ابو اللي في بطنها؟
لم يفق من كبوة نبأ ولادتها بعد، ليأتي والده ويسأله حول نسب من برحمها والذي هو تابع له، تأزم به الموقف من تساؤله المفاجئ، رمقه بنظرة تحمل كل معالم الإرتباك، قابلها والده بنظرات مستشفة مشككة، ظل التواصل البصري المحفوف بالتوتر من ناحيته والتفرس من ناحية والده مستمرا فيما بينهما لعدة لحظات ران خلالها الصمت، قطع تلك النظرات نهوض "عاصم" عن الكرسي، معطيا له ظهره، مبتعدا عن مرمى بصره، خلل شعره بيديه، ضاغطا فوق فروة رأسه لما يعتريه من تشوش، تراءى لوالده حالته المغايرة للطبيعي من تساؤله، مما بعث التأكد بداخله حول شكوكه به من قبل والحين، ضيق عليه الخناق مكررا سؤاله مشددا على نطقه بطريقة محققة باعثة على الإعتراف، مما لا يجعل لديه مجالا لإختلاق الأكاذيب مدمدما بصلابة:
-مين يا عاصم؟
تدارك أنه لا يوجد مفر من صدق إجابته، فتلاعبه مع والده سيؤول إلى ما لا يحمد عقباه، غير أنه سيعترف بالأخير بالحقيقة لا محالة، سحب نفسا مطولا لرئتيه مثبطا عن طريقه انفعالاته المكبوتة، زفره دفعة واحدة، قائلا بصوت أجوف بما أكد حدس الآخر وما يجوس في رأسه مرددا:
-أنا.. أنا أبوهم.
يُتبع ...