الفصل العشرون - كما يحلو لكِ - النسخة الفصحى
النسخة الفصحى
شعر بالاستغراب من كثرة تحديق كلاهما لبعضهما البعض ولا
يدري لماذا نظرات هذا الرجل الغريب تبدو مخيفة، لقد أعجبه أخيه للغاية، رجل لطيف
على عكسه، أمّا عن أخته فهي تشغل باله بشدة منذ رؤيتها لبعض الدقائق، ولكنه لا
يدري كيف ولم تزوجت ابنة خالته من هذا السخيف!
ليس هذا من شأنه على كل حال، فلقد آتى ليصنع أولى الفرص
معها، ولابد أن تصنع له "روان" هذا الجميل وإلا سيتصرف من تلقاء نفسه،
وعلى ما يتذكره من علاقاته المتعددة؛ بالإضافة إلى جنونه الملحوظ الذي يعهده عن
نفسه مع الفتيات، سيُسبب إلى ابنة خالته مُشكلات، وهذا سيؤدي إلى انزعاج
"يارا" بشدة، وسيكون وضع العائلات عصيب للغاية، وهو في غنى عن كل صداع
الرأس هذا!
-
عمر، عودًا حميدًا، كيف حالك؟
مجرد صوته نبهه من تخيلات تخللها بأكملها طرق عِدة
لقتلها، إلى المزيد من التخيلات التي بأكملها تنص على قتله بل والتمثيل بجثته بعد
قتله لا محالة!
أطال النظر إليه، بل حدق به بنظرات باردة كبرودة الموت،
تعابير وجهه غير مقروءة بالمرة، لتتذكر هي جيدًا وجه هذا المحامي الشاب الذي
قابلته منذ شهور ولكن علاوة على هدوءه المريب الذي يشتهر به، هناك غضب مُخيف
بمقلتيه سيلتهم من أمامه حتمًا، ولقد لاحظت هي ذلك وقررت التدخل بسرعة قبل أن تسوء
الأوضاع، وخصوصًا بعد مكالمة أمس وشجارهما على ما ترتديه منذ قليل.
-
يونس، هل لك أن تنتظرني بالخارج وأنا سأتبعك فورًا حتى
ننهِ حديثنا!
شعر بأنها تقوم بطرده تمامًا ولكن بأكثر طريقة لائقة
استطاعت أن تجدها، كما أنه ليس بغبي، على ما يبدو هناك أمر ما بينهما يستدعي هذه
النظرات غير المفهومة بالنسبة إليه، ففكر سريعًا بتلك النظرات من زوجها فلم يجد
تفسير لعدم ترحيبه به سوى الظن أنه انزعج من لمسته لها كأي رجل شرقي، ربما هو من
هؤلاء الرجال ذوي الغيرة العمياء، ولكنه لم يتصرف سوى بعفوية هائلة فأضاف ببعض
المزاح:
-
الآن تقومين بصرفي للخارج ومنذ قليل كدتِ أن تلفظين
أنفاسك الأخيرة فقط بسبب شربة مياه، حسنًا روري، سأفعل، ولكن لا تتركيني منتظرًا
لكثير من الوقت.
وبالرغم من انزعاجه وكذلك تفسيره للأمر من وجهة نظره
لذلك برر الموقف بأي طريقة ممكنة ولم يتخل عن اللباقة ولا يزال يحاول الحفاظ على
علاقة مع رجل يرغب كثيرًا بأن يحدث بينه وبين أخته ارتباطًا من أي نوع كان فأضاف
بابتسامة رسمية موجهًا كلامه له وهو يتجاهل النظر إلى "روان":
-
دعنا نتفق سويًا نذهب بيوم للسهر أو تناول العشاء معًا،
فقط هاتفني ولنرى مواعيدنا، ويمكننا أن نقضي المزيد من الوقت كيفما شئت..
لوهلة كان اقتراحه محل تساؤل في رأس "عمر"، هل
هذا سيكون بعد قتله؟ أم بعد التمثيل بجثته؟!
تركهما وغادر لتنظر له بغضب وفي نفس الوقت بارتباك شديد
وهي تحاول أن تبرر لعقله المريض الذي لا تستبعد أنه قد صدق بالفعل خيانتها له
فاندفعت الحروف من بين شفتيها ترتطم ببعضها البعض في توالي انغمس بتوترها:
-
عمر، لقد حضر يونس فجأة، أنا كنت على وشك الصعود وتبديل
ملابسي، ولكن توقفت المياه بحلقي وهو حاول أن يساعدني، كما أنه آتى من أجل أن
يحدثني بعملٍ جديد، لم أكن أنوي أن يراني أحد بملابسي هذه!
رمقته مليًا وأنفاسها لا تزال حبيسة داخل رئتيها، تنتظر
منه ولو لمحة من التقبل أو أي ردة فعل منه قد تطمئنها قليلًا وتُذهب بخوفها،
فأضافت معتذرة بالرغم من عدم اقتناها بأنها أخطأت بشيء:
-
أنا آسفة!!
قد يكسب هذا بعض من تعاطفه، أليس كذلك؟ هذا ما يُريده،
أنا من يخطأ يعتذر له، وقد تكون فرصة كذلك لتطبيقه العقاب عليها كما أراد منذ
الوهلة الأولى، حسنًا، فرصة رائعة للدخول لغرفة الجحيم خاصته، ولن تدعها تُفلت سوى
بخروجها منتصرة مغادرة إياها بالأوراق التي تظن أنها تحمل حُريتها منه للأبد، عليها
أن تستغلها جيدًا.
من تلقاء نفسها تركت تلك الأنفاس لتتسرب منها بهدوء،
بالرغم من هدوءه المريب وثبات ملامح وجهه، وتظن كذلك أن عقله سرعان ما اتهمها
مرارًا وتكرارًا بالكثير من الأمور التي باتت بالنسبة له حقيقة ملموسة، مع أن
الحقيقة بعيدة كل البُعد عن كل تلك التخيلات في رأسه، فلا هي ولا "يونس"
نفسه يقصدان أي مما يتخيله!
-
عمر، هل ستستمر في سكوتك ولن تحدثني؟
سألته، ولكنه لم يجبها، ولن يفعل، هناك قاعدة هامة، أهم
ما في القضايا برُمتها، القاعدة الأولى والأساسية، أول جُملة يُخبر بها موكله عندما
يقع في أمر ما ويتوجب عليه الذهاب لمخفر الشرطة ويبدأ أن يُدلي بأقواله، ينصحه
دائمًا وأبدًا بعدم التكلم أو الخوض في أي تفاصيل سوى بحضور محاميه كي لا يقوم
بقول شيء بدوره قد يوقعه في حكم قاسي قد لا يستطيع الإفلات منه طوال فترة القضية
ويحكم عليه بسبب كلمة أو جملة واحدة بعقوبة قد تصل إلى الإعدام شنقًا!
ولسذاجتها لم تصمت، ولذكائه صمت هو، لم يقم حتى بدور
السائل، هو يثق تمام الثقة بأن غبائها سيجعل حكم الإعدام قليل في حقها عما قريب!
زفرت بنفاذ صبر وهي لا تصدق أنه يتصنع البرود الشديد
الآن فعقدت ذراعيها وتفقدته بثقة شديدة لتخبره بتحفز:
-
لقد اعتذرت لك، وشرحت لك الموقف، وأي أمر آخر تتوهم به
فهو خاطئ!
مجددًا لم تقرأ على ملامحه أي علامة، مشاعر، أو حتى
رسالة، وعلى ما يبدو لو ظلت أمامه طوال عُمرها إلى أن تلفظ آخر ما تبقى بها من
أنفاس لن تحصل على كلمة واحدة منه بخصوص هذا الأمر، على كل حال عليها التصرف في
هذا الأحمق الذي ينتظرها بالخارج وعليها أن تصرفه سريعًا متمنية أن حيلة التحدث
بشأن العمل قد اقتنع بها ولو بنسبة ضئيلة، ستصرخ فرحًا لو وصلت إلى واحد في
المائة!
ارتفع احدى حاجبيها بتحدي شديد ثم اخبرته بثقة:
-
ابتعد حتى أقوم بتبديل ملابسي.
لم يُحرك ساكنًا فلم تضع هي وقت يُذكر واتجهت صوب الغرفة
مباشرة متحاشية النظر إليه بينما هو أمعن النظر بكل الأدلة المحيطة بصحبة ما استمع
له بمنتهى الوضوح دون ملاحظة أيًا منهما وقتها.
هناك كوب للعصير تُرك جانبًا، بعض من قطراته علت قميصها
القصير المثير لنظر أي رجل خُلق في الحياة، وجهها كان مختنقًا، يد هذا الشاذ كانت
تستقر بمنتهى الأريحية على ظهرها، سيمثل بها أولًا على كل حال، شعرها كان مرفوعًا
للأعلى عكس كونه منسدل منذ قليل وهي معه ومع والدتها، ليس هناك أي أثر لهاتفها،
ليس هناك أي تفاصيل تدل على مقاومتها له، سرعان ما التفت حوله، هناك كاميرا
للمراقبة بمدخل المطبخ، وأخرى عند مخرجه الخلفي، ومكان ما وقف كلاهما تحديدًا قد
يتضح بالتاريخ المُسجل مسبقًا.. سيتفقد كل التفاصيل حتمًا دون أن يغفل عن هفوة
صغيرة، لقد باتت خيانة زوجته قضيته الوحيدة هذه الأيام، ويا ويلتها لو أن ما شعر
به منذ الوهلة الأولى تجاه هذا المخـ.نث كان حقيقي!
❈-❈-❈
اتجه إلى مكان قريب منه حتى يتضح له رؤية كلاهما دون أن
يتضح هو لهما، انتظر كيف ستتزين له، ما الذي سترتديه، وكيف ستتعامل معه، ولا يغفل
أن كل نظرة منها ستكون مدروسة وكل كلمة ستكون مُنتقاة بمنتهى الدقة والعناية حتى
لا تدفعه لتصديق عينيه والإيمان بظنونه.
رآها تدخل، تسير بنفس الثقة الغريبة التي لم تتغير قط
بها، شعرها يُداعب كتفها الأيمن بثوب أبيض فضفاض لا يُظهر منها سوى القليل من
ساقيها، وحذاء منزلي شفاف تمامًا، لا ترتدي أي حُلي، ولا أي مساحيق تجميل، ولماذا
تحتاج إليها وهي تبدو كالعروس بليلة زفافها.
خطواتها، تحركاتها، كل ما بها يبدو عفويًا ولا يُثير أي
من شكوكه، نفس تلك الهيئة اللعينة أوقعته مرارًا، دائمًا أبدًا كان ولا يزال يُفتن
بها، تخطف الأعين بطريقة تحبس الأنفاس، لقد كان مُحقًا عندما أخبرها أنها تُشبه
الملائكة!
ولكن هناك حقيقة واحدة تعرفها البشرية بأكملها منذ فجر
التاريخ، بل وما سبقها من الكائنات، لقد كان إبليس يومًا ما واحدًا من الملائكة،
أو على الأقل كان يُخالطهم، وبجملة واحدة منه، بمنتهى الثقة والتحدي، عصى، وتحول من
ملاك إلى شيطان، أو ليصيغها بشكل أدق وأشمل في نفس الوقت استنادًا على الكثير من
الأدلة التي تنفي كونه ملاك من الأساس، لقد نُفي إبليس من الجنة وكل ما ينتظره هو
العذاب المُقيم الأبدي، مثل ما ينتظر عاصيته الفاتنة ذات البهاء الملائكي!!
جلست أمامه، بأنوثتها المعهودة غير المبتذلة والتي لا
يرتاب أحد بكونها فطرية عكست ساقًا فوق الأخرى، يا لها من قديرة باستخدام أسلحتها
الفتاكة، ويا لها من زوجة بريئة بما تبدو عليه، ولكنه تعلم أن قمة الخطأ تكمن في
الوثوق بامرأة، ولقد غرق في الخطأ حتى أصبح هو والقاع قطعة واحدة بمنتهى الغباء.
-
وأخيرًا تملكين الوقت لابن خالتك، هيا روري، اخبريني، ما
الذي سنفعله فيما حدثتك به؟
اتفاق، متى حدث؟ وأين كان هو؟ المحامي المخضرم ابن
المحامي القدير اللذان بالكاد يخسران أمام خصم بالمحكمة، لقد كان مغفلًا على ما
يبدو، كما تحاول أن تجعل منهن مغفل الآن وهو يشاهدها تبتسم له بمنتهى الرسمية
الشديدة، ولكن لن تنطلي الخُدعة عليه.
كاد هذا الغبي أن يقول شيئًا ولكنها سرعان ما لحقته
بنبرة تتخبط بين العفوية والتحذير:
-
لا تقلق، سأهاتف لك بعض معارفي وسأتفق معهم على كل شيء،
ولكن أنا فقط غير مقتنعة لأنه مجال جديد عليك للغاية.
بما أن حيلتها لم يُصدق منها حرف واحد بعد تلك الملامح
التي رآها متوردة في غاية التوتر منذ قليل وهو يلمسها بمنتهى الاريحية، فإذن لابد
أن الحقيقة ستضح على وجهه الكريه، فسرعان ما حرق وجهه ذلك الفحم المتأجج بعينيه
ليجد علامات الاستغراب مرتسمة على ملامحه كالأبله تمامًا، هنا تكمن الحقيقة بأم
عينيها، هناك أمرًا تدعيه هي وتكذب به لدرجة أن هذا الوغد لم يفهم ما ترمي إليه!
سافرت مقلتيه بسرعة الضوء لوجهها، ابتلعت، أجلت حلقها،
ثم اشفقت على عقله الغافل لشهور في غباء العشق والوله بمزيد من الأدلة الدامغة
التي تُبين توترها، والكثير من الكلمات التي تؤكد له أن هناك ما يحدث بينهما
بالفعل ولا يعرف هو عنه شيء:
-
أخبرتك أنني سأنهي لك هذا الأمر، ولكن بالتأكيد ستكون
الأمور أوضح غدًا عندما نتقابل بمكتبي، انتظر فقط سأعود غدًا ولم يتبق سوى ساعات
على كل حال، المنزل ليس للعمل يونس، وأنا من ظننت أنك ستأتي أنت ويارا والأولاد
حتى تقوموا بزيارتي بعد عودتي من السفر، أنت حقًا لم ولن تهتم بأي شيء سوى مصلحتك
في المقام الأول!
لقد كُشف بتنصته عليهما، تلقى الرسالة منها بوضوح،
وخصوصًا وهي تُشدد على نطقها بأن البيت ليس بمكان للعمل، البيت الذي يقطن به زوجها
المُغفل بالطبع، كما تلقاها هذا الحقير، أخيرًا فعل، وآخرًا سيفعل هو به الكثير،
وبعدها سيحتفل بالتمثيل بجثته المغادرة للحياة بالتأكيد!
جابت عسليتيها الصافيتين المكان وهي تبحث عنه، لا تدري
أين يقف تحديدًا ولكنه رأى الرعب بهما، فابتسم لتوترها الهائل الذي سيفتك بها عما
قريب، كما رفع هذا المخـ.نث حاجبيه ثم اخفضهما في ادراك ما ترمي إليه، وما أكد له
المزيد من ظنونه بشأن ما يدور بينهما هو تلك الحسرة المرتسمة على وجهه وزفرة
الإحباط التي اطلقها وهو يقول بانزعاج:
-
حسنًا، سأنتظر حتى غد، لأرى ما الذي سيحدث بعدها!
❈-❈-❈
عصرًا نفس
اليوم..
صمت تام، تعابير وجه وملامح غير مقروءة، وقرار عقل فاسد
تتريث لسماعه وكأنه حكم حياتها، تستحثه مسلوبة الأنفس وكأنما انعدم الهواء حولها
ولن تحصل عليه مجددًا سوى بأي ردة فعل منه أيًا كانت.
بالرغم من حالتها الرثة بمجرد لقاء عابر مع ابنة خالتها
لعدة دقائق لم تكمل نصف ساعة، إلا أنها تعلمت قواعد هذه اللعبة ببراعة وصلت لدرجة
الاحتراف، لو رأى أو لمح خوفها وترددها وترقبها ستُثبت التهمة عليها، وهذه سيُرضي
غروره. وهذا الأمر ليس غايتها.
لو تصنعت الصلابة والبأس، سيُغضبه الأمر حتمًا، وسيزداد
العقاب بأس مماثل لبأسها، وستصل إلى معدنه الحقيقي وستُكشف لأعماقه حتى النخاع،
وما هو عليه ليس سوى مرض ومحرك انتقامي تجاه النساء في العموم وتجاه الخائنات في
الخصوص، ولتشابه ملامحها مع حبيبته السابقة يبدو أن لها اليد العليا في احراز ما
تريده، ولن تتوقف حتى تصبح هذه الغرفة بكل ما تحتويه لها هي في المقام الأول
لتستغله لمصلحتها على أكمل وجه.
أغلقت عينيها، لم تعد تكترث بما يفكر به في هذه اللحظة
تحديدًا، وصرخت منتحبة على ما وصلت له، لقد أصبحت عا هرة مخضرمة مستغلة فقط لتتخلص
من جنون مرضي يرفض بشتى الطرق أن يُعالج..
كاد صراخها الداخلي أن يتعالى ليصل إلى مسامعه وهو جالس
يدخن سجائره في توالي وهي تتذكر واحدة من ذكرياته المرعبة التي تركها لها كسبب
قاطع للفرار بنهاية نوبة هوسه الأخيرة التي نبهتها لفداحة ما تتعامل معه، وللأسف
كانت ظنونه خاطئة، والأمر ذكرها بما يمر عليهما الآن!
-
عمر، ماذا تفعل؟
حاولت تفقد مصدر
ذلك الصوت الغريب الذي أفسد نومها وانتشلها منه ثم رمقت الساعة لتجدها الثالثة
والنصف صباحًا ومن جديد توجهت نحوه بتلقائية لتتبين أنه لا يرتدي سوى سرواله
الداخلي واقفًا أمام حاسوب لأول مرة تراه منذ تزوجها به، فوق طاولة من المعدن
المختلط بالزجاج بمنتصف غرفة الملابس المُلحقة بغرفة نومه، بجواره زجاجة من الخمر
على ما يبدو يحتسي منها مباشرة، وبيده احدى سجائره ويده الأخرى ممسكة بقابس
الحاسوب واسلاكه تصدر شررًا بفعل الكهرباء الموصولة بطرفه الآخر.
سرعان ما توجهت نحوه وارتفع الادرينالين فورًا بدمائها
وتركها شعور النعاس وتخلى عنها تشويش الرؤية وهتفت به:
-
ما هذا، ما الذي يحدث؟؟
رفع رأسه نحوها وهو ينظر لها بملامح رجل يحمل خطة وكأنه
سيُنهي بها حرب دامت لقرنين من الزمان!
-
أتعرفين، سأخدع عُدي وسأنتظر حتى يقوم بمسك هذا السلك
ووقتها ستصيبه الكهرباء بشدة.
صرخت به فورًا وهي تتجه نحوه لتمنعه عن لمس الشرر
المتطاير:
-
لا، انتظر، لو لمسته ستصل لك الكهرباء وستضرر
توجهت سريعا لمصدر الكهرباء وسرعان ما انتزعتها من
القابس وأنفاسها احتبست بداخلها وهي لا تصدق ما تراه يفعله لتجده يتوجه نحوها
مبتسمًا بمكر وسألها باستهزاء:
-
ماذا؟ أخائفة على عُدي؟ لن يرى أن هذا السلك قد قمت
بقطعه بالفعل!
اقترب منها وألقى سيجارته المشتعلة أرضًا على ملابسه
التي خلعها منذ قليل ثم احتسى من الزجاجة لتتوسع عينيها تجاه سيجارته الملقاة فهي
ستسبب احتراقًا بالغرفة التي اكتست ارضيتها بالخشب بأكملها.
-
ألهذه الدرجة تكترثين لأجله وتشعرين بالخوف عليه، ولكن
لا قطتي، ما حدث قد حدث بالفعل
اتسعت عينيها مشدوهة بما تستمع له يُغادر شفتاه ولكنها
اتجهت سريعًا لتحاول احتواء هذا الحريق قبل أن يلتهم كلاهما أحياء، الأمر بات
متعلق بأولى درجات الأمان الإنساني، ولا تصدق أنه يبالغ في أمر كهذا.
هرعت لتجلس أرضًا على ركبتيها وحاولت بسرعة أن تخمد تلك
الأدخنة القليلة التي بدأت تتصاعد من قميصه وهي تدك القماش بعضه ببعض وتطفأ مصدر
الاشتعال الطفيف لتستمع له خلفها يضحك بسخرية وهو يتحدث بمنتهى الأريحية ونبرة ثقة
لا مثيل لها:
-
بالطبع ستقومين بالدفاع عن هذا الحقير لأنك تعشقيه،
المحاضرة اقتربت للغاية وأراها تتلاعب على شفتيكِ، يا تُرى ما سبب أنكِ كنتِ معه
طيلة الليلة هذه المرة؟ عمل؟ أما كان يشكو إليكِ من أخيه الفاشل الذي يقوم بضرب
أصدقائه وازعاجهم؟
هنا قارب عقلها على الانفجار ونهضت لتصرخ به:
-
فلتستيقظ من ثمالتك هذه، أنا لم أكن أسهر مع عُدي، أنا منذ
شهر بأكمله لا أغادر المنزل، ولا يأتي أحد هنا، كف عن احتساء هذه الخمر اللعينة،
وتوقف عن اعمالك هذه، لم أعد أتحمل كل هذا!
اتجهت بعصبية لتغادره وامسكت بالسلك بطريقها للخارج كي
لا يفتعل به كارثة جديدة لتجده يجذب ذرعها بقوة وقبل أن تتحرك وجدته يصفعها وصرخ
بها:
-
كالعادة أنا المخطئ فقط لتناولي بعض الخمر، إنما امرأة
خائنة مثلك على صواب بالطبع، هل تظنين أنني لا أعرف كل ما بينك وبينه، أنا أفهمكِ
أكثر من نفسكِ وأعلم جيدًا ما يدور خلف ظهري
لم تستطع منع تلك الدموع المتحجرة فوق عينيها ورغمًا عنها
آتى صوتها واهنًا من وصفها هذه المرة بالخائنة وهو يصفعها مثل ما فعل أمس بل بلطمة
أقسى هذه المرة وهي تواجه منه تلك النظرات التي تتهمها بالكثير أسوأ من أي كلمات
قد ينطقها بلسانه:
-
ليس هناك شيء بيني وبين عُدي، وكل ما في عقلك عبارة عن تخيلات
مريضة، كف وفق من جنونك هذا أرجوك!
ابتسم لها ابتسامة جانبية مستهزأ بكل ما تحاول أن تبرره
له ودفعها أمامه حتى واجهت الحائط ووجدته يُمسك بالسلك من بين يديها وكرجل مارس
الكثير من طقوس السا دية مع العديد من النساء لم يكن صعبًا عليه أن يقيد يديها خلف
ظهرها في غضون عدة ثواني وعدة ثواني أخرى كانت كفيلة لتمزيق ملابسها وهو يهمس بغل
من بين أسنانه الملتحمة:
-
ما الذي يعجبك
به، بعد كل ما أفعله من أجلك وأنتِ تذهبِ لتُعجبِ بهذا الحقير، لو كنت أتعامل معكِ
كالكلبة منذ البداية لم فعلتِ هذا، ولكنني أستطيع أن أقوم سلوكك وكأنكِ ولدتِ للتو..
حاولت أن تمنع تلك الدموع التي قاربت على مغادرة عينيها،
حريق، جنون، اغتصـا ب، بليلة واحدة، بالإضافة إلى عبث بمصدر كهربائي، يا لها من
عدة أسباب كانت لتكتب في تقرير وفاتها، أو؛ وفاتهما سويًا!
ماذا لو كانت استغرقت في النوم هذه الليلة؟ ماذا لو
وجدته يومها بوسط نيران لا يستطيع التخلص منها؟ هل كانت لتنجو هي نفسها في الوقت
المناسب من حريق؟ وكيف سيكون رجل مثله زوج ووالد مسئول عن طفل صغير وهو من يحتاج
لمن يرافقه ليطمئن أنه لا يفعل شيئًا كارثيًا؟
وها هو اليوم يرتاب بشأن وجود علاقة شائنة تجمعها بابن
خالتها الذي كانت تعرفه منذ أنو كانت طفلة وتقسم أنها لو أرادته لكانت تزوجته منذ
عشرة سنوات!
مرضه سيستمر، وستستمر ظنونه، تتذكر حديث
"مريم" عن تلك الأعراض الخاصة باضطرابه خصيصًا بذلك اليوم، هناك بعض
الأوقات سيُخيل له أن الجميع اعداءه، وأنهم يدبرون المكائد له، حتى هي لم تسلم من
نعته لها بالخائنة، ولكن لعنتها معه أنه يُريدها دائمًا وأبدًا.. وستتخلص هي منه
بكل الطرق الممكنة.
شعرت بالقشعريرة بأكمل جسدها فنهضت لتنظر له نظرة ثلجية
لم تظهر بها دموعها قط، وحدثته بملامح متقززة ونبرة ثقة طاغية:
-
فلتفكر كما يحلو لكِ، أنا لم أفعل شيء خاطئ، ولم أكن
يومًا خائنة!
ابتسم بداخله دون أن تنعكس مشاعر على وجهه، لم ينطق هو
بحرف واحد وها هي تنعت نفسها بالخائنة، وكأن نفيها الصفة في نفس الجملة الواحدة
ستشفع لها بتصديقه إياها!
❈-❈-❈
مساءًا نفس
اليوم..
لقد رأى كل ما التقطته كاميرا المراقبة، نسختها من القصة
تماثل باحترافية ما حدث، لم يقف معها سوى لدقيقة واحدة، لم يرى سوى اقدامهما فقط،
ويده عندما وضعت الكوب بعيدًا لا يستطيع الحصول على ملامحهما، لم يرى بقية ما حدث،
لابد من أن يصحح وضع هذه الكاميرا، يبدو أنه هناك أكثر من السرقة ليقلق بشأنه..
كزوجة خائنة!!
دقيقة واحدة كفيلة لتبادل قبلة محمومة بفعل الغياب،
كفيلة لتحول لون وجهها، كفيلة ليخبرها أنه اشتاق إليها حد اللعنة، كفيلة لاعترافها
له باشتياقها إليه، وكفيلة بجعل رجل يظن أنه حصل على أنقى نساء الأرض، أكبر ساذج
ومغفل بالحياة، كل شيء قد يحدث بدقيقة واحدة فقط!
أشعل سيجارة جديدة ببقايا السابقة، ثم نفث دخانه أمامه
في سماء الليل التي عابت نجومها، سحب ماذا التي تتواجد بصيف حار؟ أم عينيه عمت
بالفعل؟!
لقد أصبح ضريرًا، كما لم يرى خيانتها لم يعد يرى السماء
الداكنة بنجومها اللامعة، ولا قمرها الساطع، ربما غابت زينة السماء لتترك له تفسير
وحيد كي تنبهه إليه، حياته باتت سوداء تمامًا كالسماء أمام عينيه!!
- هل أنتِ بخير الآن؟
- هل تعرفين أنني كدت أفقد
عقلي وأنتِ بعيدة واستخدمت كل الحيل بيدي مع هدى وخالتي لتخبراني عند عودتكِ؟
- يونس هذا ليس الوقت
المناسب للتحدث في هذا الأمر
هذه كانت كلماتهما سويًا، عشيقان، مغرمان، مزق كلاهما
لوعة الغياب والشوق الجارف، عقله يأبى سوى تصديق هذا!!
أين عقله الآن عندما يحتاج له؟ لماذا غاب صوته عندما رأت
عينيه ما رآه؟ ولماذا أصبح أخرس بعد ما استمع بأذنيه إلى ما استمع له؟
-
هيا فلتتكلم أيها الأبله، دور الأبكم لا يليق بك، أين
أنت، أين ذهبت يا صاحب صوت الحكمة، يا أكثر رجل حنون على الإطلاق؟!!
العقاقير التي تحسن من حالته نوعًا ما سكنت هلوساته
قليلًا، وبالطبع لا يعي هو ذلك بعد، ولن يعي الأمر عما قريب سوى بالوقت الضائع!
-
عمر، هل تقول شيء؟
كان هذا تساؤل من أخيها الذي التفت نحوه عندما انتبه على
صوته ولم يلحظ أنه كان جالسًا على طاولة أخرى بحديقة المنزل بالقرب منه وحدق به
كثيرًا قبل أن يجيبه قائلًا:
-
كنت أتساءل أين أنت اليوم، لقد كان يونس هُنا ولقد سأل
عنك!
رفع يده باعتراض ثم حدثه بتلقائية:
-
كان لدي امتحان، وأخبرته أكثر من مرة أن ينتظرني ولكنه
سخيف، لا يريد أن يخسر أمامي على ما يبدو
قلب شفتيه وكرر بنبرة متسائلة:
-
يخسر؟!
أومأ له بالموافقة وقال بنبرة اعتزاز بالنفس:
-
لا يستطيع الصمود أمامي بمباراة ولديه ثأر قديم عندي
ابتسم بسخرية له وسأله:
-
مباراة، هل انتما اصدقاء؟
رفع كتفيه ثم اخفضهما وتناول المزيد من أطراف الحديث
معه:
-
بالطبع، يونس رائع، كما نقول نحن هذه الأيام عسلية.. لكن
بيني وبينك وأتمنى أن تخبر أمي وروان، كلتاهما تريانه شقي للغاية ولا تريدان أن اقترب
منه واحدثه كثيرًا ولكنه الرجل الوحيد في العائلة!
كرر مجددًا بنفس النبرة المتسائلة:
-
عسلية!! ويا ترى لم لا تريد روان ووالدتك أن تطيل معه
الكلام؟
غمز له بمزاح وهو يبتسم ببعض الخجل وقال:
-
بسبب علاقاته المتعددة، ولكنه يختار أفضل النساء دائمًا،
كلهن يصلحن للحصول على لقب ملكات جمال!!
ضحك بسخرية بعد أن أدرك أنه على ما يبدو انعدام كل ذرة
رجولة بهذا المنزل، لا أخيها ولا ابن خالتها وهكذا يظن أن والدها هو الآخر لم يكن
جميعهم سوى مخنثين، ربما فقط هذا المخنث يتميز عنهم بكونه طويل القامة ولوح من
السكر أصفر اللون الفاسد اللصوق كما وصفه أخيها، ومن الواضح أن هذا هو نوعها
المفضل!
-
حسنًا، سأتركك لتُنهي مذاكرتك، ليلة سعيدة.
❈-❈-❈
جال الطريق بسيارته، قاد بسرعة معتدلة، لا يدري ما الذي
يفعله منذ رؤية واستماع ما استمع له، يعرف أمر واحد فقط لذلك يحافظ على المداومة
عليه حتى الآن، ألا وهو التجاهل، ولقد آتى بثمارٍ طيبة المذاق لم يتذوق مثلها
يومًا ما سوى معها هي وحدها.
عندما جُرح بالخيانة بالسابق بكى كالطفل الرضيع، أمّا
هذه المرة فلا يدري ولا يعرف ما الذي يحدث له، هل هذه هي الصدمة؟ الغضب؟ أم عدم
تصديقه للأمر وتصديقها هي؟ هل يثق بها ثقة عمياء؟
زفر مُبتسمًا بسخرية، وأخذ يقود على غير هدى ليلمح أنه
بواحد من الشوارع الحيوية للغاية ولكن على ما يبدو أن قُبيل منتصف الليل يبدأ
الازدحام بالتشتت وتبدأ الحياة الليلة تأخذ مجراها.
لمح امرأة ترتدي ملابس فاضحة نوعًا ما، تضع الكثير من
مساحيق التجميل، عا هرة رخيصة، تنظر لكل سيارة بها رجل أو حتى رجلان، فتوقف على
مسافة بعيدة منها وأخذ ينظر لها، تمعن كل ما بها، حدق بكل تفاصيل قوامها، تملك
جسدًا رشيق نوعًا ما، هناك بعض المناطق المغرية بها، أي رجل لن يُمانع قضاء ليلة
معها، وبتلك الإشارات منها تبدو مخضرمة وستقرأ من سيلقي لها ورقة واحدة من أعلى
فئة نقدية بمنتهى السهولة وستستطيع امتاعه، وبالرغم من كل ما لديها لم تنجح في
اثارته، ولو لجزء من الثانية، عشقها جعله
يعتزل النساء سواها، يا له من غبي!
انطلق عائدًا لمنزله، لا يقتنع سوى بوجود ما تُخفيه
زوجته هي ولوح السكر الأصفر اللصوق كما وصفه أخيها، ما الجمال في هذا التشبيه، مثل
تلك الألواح من الحلوى تترك اثرًا في اليد مزعج للغاية، أو ربما لأنه لم يكن يومًا
مولعًا بالحلويات، مذاقها يُزعجه ويجعله يُريد التقيؤ!
تريث أمام البوابة الخارجية لبرهة حتى بعد أن فُتحت،
عقله مُلبد بالكثير من الظنون، هذا لابد أنه الهدوء الذي يسبق العاصفة، لقد قام
بخداع "يمنى" لمدة سنوات، ما الذي عليه فعله الآن مع زوجته التي وثق بها
ثقة لم يثقها في امرأة طوال حياته، يُعذبها بغرفة مغلقة لسنوات ثم يقتلها، ربما
هذا هو الحل الوحيد.
أخذتاه قدماه ليجد نفسه أمام فراشهما وسلط انظاره عليها
وهي تغط بنومٍ عميق، لا يلمح سوى وجهها، شعرها البني الطويل مسترسل بجانبها على
الوسادة، عنقها، ذراعيها، ونصف ساق بينما غابت ساقها الأخرى أسفل الأغطية.. تبدو
فاتنة ومثيرة أسفل عينيه أكثر من تلك المخضرمة، ولولا غياب عقله بتهيئة الجحيم
التي سيصنعها خصيصًا من أجلها لكان أخذها أسفله الآن!
جلس بالقرب منها يُتابعها بعينيه، يتأكد في هذه اللحظة
أنه لم يعشق امرأة مثل ما عشقها، ولن يعشق بعدها ولو تلاقت السماوات والأرض، تلك
الفاتنة اللعينة التي تذيب قلبه بنظرة واحدة من عسليتيها، بتلك الثقة الظاهرية
والهشاشة الداخلية التي بها، من بعيد يراها أي رجل امرأة ناضجة مهلكة الأنوثة، أما
من قريب فلا يدري هل هي طفلة أم صديقة أم حبيبة وزوجة، ما الذي تفعله به؟ وإلي أين
سيصل معها بعد ما اثارت تلك الظنون بداخله؟!
اطنب بجلوسه إلى ساعات الصباح الأولى حتى رأى شمس الصيف
تسطع بالسماء، فنهض وهو يلملم بصدمته التي لا يدرك أنها صدمة بعد ثم بدل ملابسه وتوجه
للعمل مباشرة، كنوع من أنواع الفرار.
وبعد كل تلك السنوات لا يعرف نفسه بعد، فالضغط النفسي
الشديد عليه دائمًا ما يُبدل حاله، اقترابه من خسارتها ومغادرة حياته عندما طالبته
بالطلاق، تحفيز صدماته اثناء سفره، عودته وما نساه بالفعل بعدها، كلمات والده، ارتيابه
واعراض امراضه التي لا ترأف به، عدم وجود وجه وحيد لتربية رجل بشكل سليم بداخله،
كل هذا يُفسد بعقله بشدة ويدفع به للهاوية، وعدم اقتناعه بوجود ضرر به وايمانه
بأنه بخير يُزيد من بشاعة ما يحدث له، وهو لا يدري!
سرعان ما وجد نفسه يتواجد قبل الموظفين بأكملهم، ولا
يكترث حقًا بالعمل، اكتفى بترك رسالة إلى "باسم" بعدم ازعاجه، ورمق ما
لا يقل عن عشرة ملفات للتوقيع موضوعة فوق مكتبه بتنظيم شديد، زفراته تتابعت بملل
شديد تجاه مواجهة العمل، وبمجرد مسه زر حاسوبه ولمحه ذلك الرقم المكون من ثلاثة
ارقام أخر كان بمثابة رعب شديد له..
فعل مثله مثل أي طفل يتهرب من دروسه المتراكمة، توجه إلى
الأريكة المُلحقة بغرفة مكتبه بعد أن أغلق الباب من الداخل، ثم جلس يحدق في الفراغ
وهو يحاول أن يُفكر فيما عليه فعله بشأن زوجته.
❈-❈-❈
على النقيض تمامًا، كونها امرأة مسئولة، تعلم جيدًا ما
عليها فعله، اتجهت لعملها بنشاط بالرغم من كل ما يدور بداخلها من زوابع لا نهائية
وتخمينات وافتراضات بشأن زواجها المشؤوم، وتركت لوهلة الحياة الشخصية جانبًا
واهتمت بمنتهى العناية بما ينتظرها من اعمال متراكمة.
تنهدت وهي تُلقي بعينيها على بريدها الالكتروني ورتبت
سريعًا برأسها التصرف في كل تلك الرسائل غير المقروءة أن ترى ما بهم بُناء على
ترتيبها لأولوية هذه الملفات التي قسمتهم هكذا منذ سنوات، فهذه ليست مرتها الأولى
في التصرف في العديد من الأعمال المتراكمة.
ولكن قبل كل هذا عليها أن تُنهي اجتماع واحد بصحبة
"علا" وهذا سيمهد لها الكثير من التوقعات قبل أن تجد نفسها في احداث
غريبة لم ترها ولم تحضر نشأتها.
لم تتركها منتظرة كثيرًا وآتت بملامح غريبة وابتسامة
اغرب لم ترها على وجهها قط منذ أن كانت مساعدة والدها منذ سنوات وحالة من التوتر
غير معهودة عنها فسألتها بنبرة عفوية:
-
اجلسي علا، ماذا بكِ؟ وجهك يبدو متغيرًا بشدة..
لمحتها تبتلع وهي تنظر لها بحيرة شديدة وحاولت انتقاء
كلماتها مليًا لترتشف "روان" بعضًا من قهوتها ثم انتظرت بنفاذ صبر ودت
اخفاءه قليلًا بينما اجابتها بقليل من التردد:
-
حتى أكون صريحة معك لقد حدث الكثير من الاحداث الفترة
الماضية، وحاولت أن أصل لكِ أكثر من مرة ولكن لم أفلح في أي من محاولاتي!
أومأت لها بالتفهم وعقبت بنبرة هادئة:
-
أنا متفهمة أنه هناك الكثير، لقد قمت بالغياب شهران، تريثي
وأخبريني بالترتيب، ما الذي حدث، اشعر وكأن هناك الكثير لا أعرفه، ولكن أيًا كان ما
حدث فأنت ليس لكِ ذنب به، بل أنا على يقين أنك تصرفتِ بأحسن طريقة ممكنة، وهذا ليس
أول تعامل بيننا، فقط لا تقلقي وأخبريني بكل شيء..
تنهدت مساعدتها
وازداد توترها ثم أخرجت ورقة وضعتها امامها وقالت:
-
كل أمر تغير عندما آتى سيد عمر وأراني هذا التوكيل!
قصت عليها كل ما حدث، تفاصيل تلك الدفعة الهائلة من
المال التي قام بتحويلها لحساب الشركة، تلك القرارات التي قام بها، ووضعها المخجل
من أن تقوم بقبول توليها هي نفسها كل الصلاحيات وأن تحل محل "روان"، وحصوله
على معلومات من إدارة الأمن بالشركة، ولم تترك امرًا دون أن تخبرها به ووضعت
القرار بيدها كالعادة، ولم تمر المحادثة دون صدمة شديدة حولت وجهها لعدة دقائق
كوجه فارق الحياة تمامًا!
لقد كانت تعرف بالفعل أنه يمر بنوبة هوس، ولكن أن يصل
الأمر لتوكيل كامل بالإدارة وعليه توقيعًا منها لا تدري ولا تعرف متى وكيف حصل
عليه وأين كانت هي، هذا كان بعيد كل البُعد عن مُخيلتها!
نظرت بالتاريخ وتيقنت من أن الأمر تم اثناء تواجدهما
بغرفة الفندق بعد العشاء الذي كان أولى قراراته العجيبة، لابد من أن الأمر تم
اثناء ثمالتها، يا له من وغد أن يستغلها بهذه الطريقة!!
قد تستهين بحقها هي نفسها معه، قد تتحامل على كرامتها
تحت مسمى الحب، ربما تتحمل الكثير من أجل الفرار بأنسب طريقة مُناسبة من وجهة
نظرها، فهذا شأنها وهي من ستتكبد ثمن افساده حياتها، لقد كانت غبية في القبول برجل
كهذا ليُصبح زوجها وعشقته وهي من ستتحمل العناء، ولكن أن يصل الأمر للعمل، يستحيل
أن تقبل بهذا أبدًا!
اخذت وهلة تُفكر بها بينما نكست "علا" وجهها
أرضًا بعد عدة اعتذارات منها بأن كان عليها أن تقبل بعرضه عليها سابقًا، شردت في
الفراغ لعدة دقائق متتابعة في صمت ثم همست قائلة:
-
هل هذا هو كل شيء؟
هزت رأسها بنعم لتبتسم لها قائلة:
-
هذا رائع، فليستمر كل شيء كما هو، أنا اعرف بالفعل.. لقد
أخفتني، بملامحك تلك كنت أظن أن هناك مُصيبة ما!
رمقتها "علا" باستغراب هائل وسألتها بتعجب:
-
كيف سيستمر كل شيء كما هو وأنـ..
-
ماذا هناك علا، انا على دراية بكل هذا، كنت أظن أنك
تتحدثين عن أمر آخر ليس لدي علم به.. ولكن، حسنًا، كل شيء يسير وفقًا لما أريده
تمامًا، الفكرة هي أنني كنت منشغلة بأمر آخر وعمر هو الذي أنهى كل شيء بدلًا مني..
أم نسيتِ أن زوجي هو الذي أستطاع مساعدتنا فيما فعله عمي بالسابق؟!
اقترب حاجبيها بعدم فهم لكل ما استمعت له بعد أن قاطعتها
بابتسامة عفوية وقبل أن تخبرها بالمزيد استمعت لاهتزاز هاتفها فنظرت لتراه
"يونس" لتزفر بضيق ونهضت وهي تخبرها:
-
هيا لنحضر شيء نتناوله.. اشعر بالجوع.. وكذلك سأقوم
بالمرور بالشركة، لم أر الجميع منذ مُدة.
هذا هو الحل الوحيد، بعد معرفتها من "علا" أنه
تفقد كاميرات المراقبة من القسم الأمني لم يعد لديها سوى الثقة العمياء بأنه
يُراقب كل ما تفعله، ولا تستبعد أنه قد يتنصت عليها الآن، السؤال الأهم من أي شيء
الذي يطرق على عقلها دون توقف، هل يتذكر أي من هذا أم نساه تمامًا؟
تبعتها مساعدتها الشخصية بعد أن تقدمت هي وتعجبت للغاية
من ردة فعلها، لم تتوقع أنها هي كل من خلف ذلك وفجأة رأتها تدخل إلى الحمام الملحق
بهذا الدور وهمست لها:
-
تعالي..
التفتت لها لترى ملامحها اختلفت تمامًا عكس ما كانت منذ
قليل ثم هتفت بها هامسة:
-
افعلي ما قولت، ستُكملين أنتِ الإدارة واعتبري أنني من
قررت هذا، بالرغم من أنني تفاجأت بالطبع ولم أعرف شيئًا، ولو حدث في أي وقت مواجهة
بينك وبينه فلتتصرفي كأني أعلم كل شيء وأنني من أرسلت التوكيل معه!
ازداد قلقها للغاية وسألتها بتردد والحروف التي نطقت بها
تقطعت بعدم فهم:
-
ولكن كيف يُمكن ذلك وأنتِ هنا، أقصد، هل سنحضر سويًا الاجتماعات،
ومن منا ستقرر بشأن العديد من الأمور، كيف سنفعلها؟
زفرت بنفاذ صبر وقالت بلهجة مُسرعة:
-
فلتستمعي لما أقوله، كل شيء سيستمر كما هو وسيكون الأمر
بخير لو استطعت العودة للعمل بالفترة المُقبلة وبعدها سنرى ماذا سنفعل، أهم شيء
الآن اذهبي إلى مدير الأمن لتعرفي ما الذي عرفه عمر منه، وبعدها اذهبي لإحضار
الطعام وكأن شيئًا لم يكن!
أومأت لها بالموافقة وتوجهت للخارج فأوقفتها قبل أن
تنسى:
-
أريد هاتفك لعمل مكالمة رجاءًا.
ناولتها هاتفها فسرعان ما طبعت رقم "يونس"
وتركتها "علا" وغادرت وبمجرد رده زجرته بشدة:
-
هل أنت مجنون أم فقدت عقلك!! ألهذه الدرجة تُفكر كما
الطفل الصغير تضعني في وسط ترهاتك تلك!
تعجب لمن يحدثه ثم تسائل:
-
ثانية واحدة، من أنتِ؟
اجابته هاتفة به:
-
أنا روان أيها الغبي!
تعجب ثانية ثم سألها:
-
ولماذا تحدثيني من هذا الرقم الغريب، أين ذهب هاتفك؟
اجابته بلهجة متعجلة:
-
انظر، زوجي وأخته غيرنا تمامًا، لا يتوقف عن غيرته، وأنا
ليس لدي أي استعداد للمزيد من المشاكل معه، أرجوك تصرف أنت وحدك في أمر عنود!
همهم متفهمًا ثم همس:
-
الآن أفهم، لهذا كان يبدو غريب للغاية أمس..
تريث لبرهة ثم تابع دون أن يغفل عن الوصول لهدفه:
-
آسف روري، لم أقصد أن اسبب لكِ أي موقف محرج.. فلتخبريني
ماذا سنفعل بشأن ما حدثتكِ به؟
توسعت عينيها في اندهاش من كثرة الحاحه التي لا تنتهي ثم
اجابته بالرفض القاطع:
-
لا، لا يوجد سنفعل، هناك ستفعل، ستتصرف، أنت وليس أنا،
لا شأن لي بأي من هذا!
تنهد وسرعان ما استرسل في كلماته التي أعدها مسبقًا بعد
تفكير دام لحوالي شهرين:
-
يمكنني بمنتهى السهولة أن اذهب إلى كُليتها وتجدني
أمامها، ولكن الفكرة لو حدث أي رفض منها يمكن أن تدخل العائلتان بمُشكلات وسأكون معدوم
الكرامة بين الجميع وسيلومني كل من يراني على ما فعلته، كما أنني حاولت بكل الطرق لأي
من حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي ولكن كل حسابتها محمية بخصوصية، لا أستطيع
ارسال أي شيء لها، حتى أصدقائها لا أستطيع إيجاد واحدة منهن بسبب اعدادات الخصوصية..
أخبرتك أنه ليس هناك من يُساعدني سواكِ..
تنهدت وهي غير مقتنعة بتصميمه وشدة الحاحه على هذا الأمر
ثم حدثته بيأس:
-
حتى أكون صريحة معك، لا أظن أن فتاة مثلها تناسبك، فارق
العمر بينكما، هي تهتم كثيرًا لدراستها، وأمامها الكثير من الوقت حتى تُنهيها، كما
أنها تُفكر مثل الفتيات اللاتي تردن الزواج، وأظن فتاة كعنود خطوة كالزواج لن تفكر
بها سوى بعد إنهاء دراستها، لأقرب لك الصورة، هي مثلي عندما كنت بالسابق أرفض
الارتباط بعمرٍ صغير!
تمنت لو اقنعته تلك الكلمات حتى تنتهي من الحاحه ولكنه
سرعان ما عقب وكأنه حضر كلماته مُسبقًا:
-
يخصني أنا وهي فقط متى نرتبط أو لا يكون بيننا علاقة من
الأساس، كما أنني معجب بها، انتِ عندما كنتِ صغيرة لم أعجب بكِ لذلك لم اقنعك بشيء،
اهتم بشأنك وكل ما أريده فقط هو رؤيتها بعيدًا عن الجميع، قومي بدعوتها للخارج وكأننا
التقينا صُدفة، واتركِ البقية لي.. ولا تذكري الأمر لأي من أخويها، وأنا بمجرد أن
اطمئن لها واشعر أنها مناسبة لي لن اضعك بموقف صعب، كما أن هذه الفتاة خاصةً عن
بقية الفتيات لن ينفع معها أي تسلية، لأن عائلتينا ستضرر بالأمر لو حدث وقمت
بالتسلية معها.. أنا افهم هذا جيدًا!
تريثت لبرهة وهي تُفكر بالأمر ثم قالت بعد تنهيدة طويلة:
-
حسنًا، ولكن مرة واحدة فقط ولا شيء غيرها، بعد هذا أنا ليس
لي علاقة بهذا الأمر، ولو حدث أي مشكلة بسبب حماقتك هذه يونس، أنت وحدك تمامًا
بالأمر.. هل لدينا اتفاق صريح وواضح؟
سرعان ما آتاها رده الواثق الذي لم يخل من إلحاحه
المعهود:
-
اتفقنا روري، ولكن، متى؟!
ردت وهي تُفكر فيما عليها فعله ثم أخبرته قائلة:
-
عشر دقائق وسأهاتفك مرة أخرى، لقد فرغ هاتفي من الشحن..
أنهت المكالمة وهي لا تصدق أنها باتت ترتاب بشأن تنصته
على مكالمتها وشعرت بأن عدم الأمان الذي باتت تعيش به أكثر مما تتحمله، لوهلة لا
تتمنى أكثر من مجرد يوم طبيعي دون شكوك وظنون وتفكير يؤلم الرأس، يا ليتها لم تلتق
به ويا ليتها كانت ذكية لتستطيع معرفة ما هو عليه منذ أن رأته!
لم يعد هناك وقتًا لتضيعه، فليستمر العمل كما شاء،
ولتستمر هي في كونها زوجة جيدة كما يُريد إلى أن تصل لتلك الأوراق وتحصل عليها
ووقتها إما أن تتخلص منه بحصولها على طلاق فوري، وإما ستقوم بفضح تلك الصورة التي
يُحافظ عليها لسنوات..
تلك المُسماة بـ "يُمنى" يستحيل أن تخبرها عن
هذا الأمر دون وجود دليل ما يُدينه بخصوص أي لعنة ارتكبها بالسابق، كما يستحيل أن
تكون هي غبية وتُعطيها هذه الأوراق، ولو كانت كاذبة ستعمل بمنتهى الجدية على أن
تتملك أي دليل يُدينه حتى تتخلص منه للأبد!
❈-❈-❈
بعد حوالي ساعة..
أزعجه صوت اشعار من هاتفه ليجد نفسه قد سقط في النوم دون
أن يشعر فتنبه ثم اتكأ ليجلس وتفقد الرسالة ليجدها من الحراس الذين عينهم لها ليجد
أنها التقت بأخته وكلتاهما جالستان بمكان ما ليس ببعيد عن مقر شركتها.
مسح وجهه ليزيل عنه اثار النُعاس ثم خلل شعره ولم يجد
بداخله حل بعد لما رآه بينهما، ظنونه بأكملها تدينها بالخيانة، ولكن كلما ظن بها
أمرًا يجدها في النهاية بريئة من كل ما نسبته إليها ظنونه، اللعنة على العشق
وعليها!
-
لا عمر، لا تفعل، وسترى في النهاية أنك ظلمتها!
ابتسم بسخرية ثم تكلم بنبرة خافتة مستهزئة:
-
واخيرًا استيقظت من نومك الطويل، هل نسيتك بالمكسيك أم أبيت
العودة معي؟!
كثيرًا ما سأل نفسه ما هذا الصوت الذي بات يُصادقه منذ
خيانة "يُمنى" له، ولكنه لا يزال مقتنعًا أنه يُفكر بصوتٍ مرتفع ليس
إلا!!
-
كيف أكون ظالمًا وأنا رأيت بعيني يده تلمسها، هل عليّ
الانتظار أن يصبحان سويًا في فراشٍ واحد حتى أكون عادل بشأنها؟
لم يُجبه الصوت ليجد نفسه غارقًا في صمتٍ لا نهائي
وصورتهما أمامه لا تفارقه فحدق بأرضية غرفة مكتبه وتسائل:
-
لماذا توقفت عن الكلام؟ لأنك لا تريد الاعتراف بكونك أحمق
أمامي بعد أن اكتشفت أنها خائنة!
آتى صوته يُحدثه بعد فترة:
-
اسمع أيها الذكي، أنت لا زلت محامٍ مخضرم، أو يعتبر أنك
كنت محامٍ جيد، بما آخر قضية توليتها كانت قضيتها!
-
أشعر بالسخرية بين كلماتك!
استمع لصوت ضحكته الساخرة من نفسه ثم تواترت الكلمات على
عقله:
-
أمامك حل وحيد، إما أن تجد دليل على خيانتها، وإما أن
تجد دليل على العكس، الأمر في غاية السهولة.. فضلًا عن هذا أيها الأحمق، لو كانت
بالفعل خائنة، هل ستقابل عشيقها أمامك وبمنزلك.. ألا ترى أنها على قدر من الذكاء يؤهلها
للاحتراس منك بعد كل ما فعلته معها؟
حك مؤخرة رأسه وهو يُحدق في نفس البقعة دون أن تذهب
عيناه لمكان آخر وفكر في تلك الكلمات ثم قال بتنهيدة:
-
ولو اكتشفنا أنها خائنة؟
-
افعل ما يحلو لك وقتها!
-
ولكن هذه ليست يُمنى لأخدعها عامان ثم اتركها..
-
اعرف، ولأنها ليست يُمنى أنا متأكد أنها ليست خائنة!
-
لماذا تقوم بالدفاع عنها دائمًا بالرغم من أنك لابد أن
تكون في صفي أنا وليس بصفها هي؟
غادر هذا السؤال شفتيه بصوت مسموع غاضبًا من تلك الأفكار
المتلاحقة برأسه واتجه للحمام المُلحق بغرفة مكتبه ليغسل وجهه بينما اجابه الصوت:
-
لأنك تعشقها وتريد السعادة معها، أظن نحن الاثنان حاربنا
المعاناة لسنوات، ورؤية ابن خالتها يلمسها في بيتك، الأمر بالنسبة لي غير مقبول، ولكن
ربما الأمر في هذه العائلة مقبول، غيري أنا وأنت!
عدل من مظهره وعقد شعره للخلف من جديد وهو يسخر بشدة:
-
تدافع عنها مجددًا أيها الأحمق، اخرس وغادر رأسي اللعين!
حدق بوجهه بالمرآة ليستمع لصوته هو نفسه بنبرة جادة
للغاية:
-
أنا وأنت ماذا، عمر؟ أنا وأنت رجل واحد، أنت من تدافع
عنها وأنت من ترى أنها ليست بخائنة، ولكنك خائف أن تعترف بهذا ثم يتضح أنها خائنة
في النهاية وتكون أنت المغفل الساذج ولم تجد بحياتك امرأة تعشقك، وهذا الشعور
يقتلك حيًا!
ترقب قليلًا وهو يُفكر بتلك الكلمات مليًا ثم أخذ قراره
ناطقًا بعزم:
-
حسنًا، عندما اكتشف الدليل سأعلم من منا مُحق أيها الخرف..
❈-❈-❈
جلست تبتسم لها وهي تحاول أن تتغلب على نوبات الفزع
الداخلية كلما فكرت فيما فعله وفيما عليها هي فعله، ولكنها لابد أن تغلق أولًا باب
هذا اللحوح الذي لا يتوقف عن تصميمه على كل ما يُريده.
لوهلة تفقدتها
وشردت قليلًا دون اكتراث لما تقوله بالرغم من أنها تبدو مصممة وتتحدث باستمتاع
شديد في قص تلك القصة الطفولية المليئة ببعض السلوك الذي يتسم به المراهقات، تبدو
سعيدة للغاية بمجرد لقاء ونُزهة في مقهى لا يبعد كثيرًا عن جامعتها، لا تدري هل هي
تشعر بالغيرة لأنها لم يكن لديها الوقت لفعل المثل، أم تشعر بالسعادة لأن فتاة
مثلها تُسعدها مثل هذه الأشياء البسيطة.
-
أخبريني، هل كان السفر الأخير جيد، هل شعرتِ بالسعادة؟
ذلك الالتماع بعينيها ونبرتها الحماسية وهي تسألها هذا
السؤال عن حياتها مع أخيها تمنت لو أنها تستطيع قول تلك الكلمات التالية دون كذب
أو ادعاء ولكن عليها أن تُكمل في هذه المسرحية حتى النهاية:
-
نعم، للغاية، لقد كنا في غاية السعادة، ولقد توقفنا عن
العمل واهتممنا ببعضنا البعض وهذا اعطانا بعض الراحة لوقت ليس بالقليل..
هذا كان مجرد عُذر ساذج لعدم اجابتها وتأخر ردها في
الأيام الماضية عليها ولكنها عليها أن تقلب الأدوار سريعًا تمهيدًا لقدون ابن
خالتها الذي لابد من أن يتخذ مكانًا الآن في أي لحظة قادمة:
-
عندما تتزوجين من رجل تعشقيه وتصلان للتفاهم سويًا
ستكونين على يقين بأن قرارك كان أفضل ما قررتِه طوال حياتك..
على الاستغراب ملامح "عنود" وكأنها لا تصدق ما
تقوله فأردفت بمصداقية شديدة:
-
ولكن سأعطيكِ نصيحة هامة إن اعتبرتِني أختك، لا تتزوجي
بسرعة كما فعلنا أنا وعمر، هناك الكثير من الأشياء التي لا نتفق بها ولم تأتِ سوى
بعد وقتٍ طويل والأفضل أن تعرفيها من البداية بأيام الخِطبة!
تحولت ملامحها للاستنكار التام وزفرت بتردد وكسى وجهها
التقزز وعدم الاقتناع:
-
أنا لا أعرف أي من أخوتي جيدًا، عدي أستطيع تفهمه عن
عمر، ولكنني غير متقبلة أن هناك امرأة مغرمة بعمر بهذه الدرجة، إذا كنت أنا أخته ولا
أعرفه جيدًا.. عندما استمع لكلماتك تلك عن عمر، لا أصدق أيًا منها، ليس لأنني
أكذبك ولكن الفكرة في أنني لا أجده شخص يستطيع أن تعشقه امرأة، لا اقتنع بكلماتك
ولو لمدة خمس دقائق من التفكير بالأمر أجد أنه أكثر مما يتقبله عقلي، يُمكنني
التصديق يومًا بأن عدي أخي يُعجب النساء وقابل للعشق والغرام وكل هذه المشاعر،
وأصدق بأنه قد يعشق امرأة يومًا ما، إنما عمر وأنكِ سعيدة مع شخصية غريبة مثله، يستحيل
أن اصدق هذا!
ضحكت بسخرية وسألتها بعفوية:
-
لماذا تقولين هذا؟ هذا أخيكِ بالنهاية
تنهدت بعمق وعينيها توسعت وترددت في اجابتها قليلًا
بينما اخبرتها في النهاية:
-
أنا حقًا لا أعرفه، دائمًا يتعامل بجدية ومتجهم طوال
الوقت، يُشبه أبي كثيرًا في كل شيء الملامح والطباع وأنتِ تعلمين أنني لست على
وفاق مع أبي، كما أنه منذ زمن طويل يعيش بمفرده وبالكاد يرانا، ولأن أبي يُدلله
يستحيل أن يعترض أحد على أي مما يفعله عمر!
هزت كتفيها وحدثتها بتلقائية شديدة وهي تنحي تمامًا ما
تعرفه عنه جانبًا بمنتهى الحيادية:
-
ربما لو كان أحد اقترب منه سواء أنتِ أو عدي أو حتى والدتكِ
كنتم رأيتم عمر بشكل آخر وسيختلف رأيكم عنه!
ابتسمت بسخرية ثم عقبت قائلة باستخفاف:
-
صدقيني روان، هو نسخة من والدي في كل شيء، وها أنت ذا
تزوجتِ منه وتعرفينه أكثر مني أنا وعدي وأمي، هل تستطيعين اخباري ما الجيد في
شخصية مثل شخصية أخي؟ لو بحثتِ مليًا لن تجدين شيء مقنع! أي شخص يُشبه والدي لن
يكون رجل جيد.. ولكن في النهاية لو أنتِ سعيدة معه هذا ما يهم، كل امرأة تستطيع
التعامل مع زوجها على كل حال!
حدقت بها وعقلها لا يتوقف عن التفكير بكلماتها وتمنت لو
أنها تستطيع التعامل معه حقًا ولكن في الحقيقة هي لا تدري كيف تفعلها، ربما تحتاج
لمعجزة إلهية حتى تستطيع التوصل لطريقة مثلى للتعامل معه.
لوهلة فكرت من ناحية أخرى تمامًا، كانت تريد أن تجيب عن
هذا التساؤل، لعله يُلهمها بعض الصبر على كل ما تواجهه معه، وربما هي سبيل لإعادة
تفكيرها بشأنه فحدثتها قائلة:
-
هناك الكثير من الأشياء الجيدة به بالمناسبة!
تقارب حاجبيها وملامحها يزداد عليها الاستهزاء برأيها
تجاهه فسألتها:
-
حسنًا، سأصدقكِ هذه المرة، هل لكِ أن تخبريني ما هي تلك
الأشياء؟
شردت قليلًا وهي تُفكر به وملئت رئتيها بالهواء ثم زفرته
بالكامل ولم تر تلك الابتسامة على شفتيها واجابتها:
-
لديه طريقة غريبة للغاية في الاستماع إلى كل ما تخبريه
به غير الرجال، ليس هو الرجل الذي يجلس ويقوم بهز رأسه أو يجلس ويستمع إليك كتحصيل
حاصل، لا، بل هو يُركز وينصت لكل حرف تقوليه، ويهتم للغاية، ولو مزاجه رائق لديه
القدرة والاستعداد أن يناقشك في كل أمر حتى لو هو نفسه غير مقتنع بها، رومانسي فوق
ما يُمكنك تخيله، ويُحب الشعر والتاريخ ومثقف جدًا من هذه الناحية، ويحب القراءة
والاطلاع، وأحيانًا أجده يخبرني بأشياء لا أعرف عنها ولم اسمع بها قط.. له كلمات تجعلني
أقف معقودة اللسان لا أستطيع أن أرد بتعقيب يُناسبها فقط من شدة تلك المشاعر
والسعادة التي أتأثر بها بسببها.
حاولت السيطرة على ابتسامتها الخجولة ونظرت إليها نظرة
ذات مغزى ثم قالت:
-
وعندما تتزوجين يومًا ما ستعرفين أن العلاقة مهمة للغاية
بين الرجل والمرأة، وهو بارع بالأمر!
لوهلة سيطر التساؤل على وجه "عنود" وكادت أن
تسأل فنظرت لها ببعض الجرأة ليختلط وجهها بالحمرة الشديدة بعد أن فهمت ما تقصده ثم
غمغمت بإحراج:
-
ليتني لم أسألكِ عن شخصيته ولا عنه هو نفسه!
ضيقت عينيها وهي ترمقها مليًا ثم حدثتها بمزاح:
-
ألم تتصنعي أنكِ امرأة بالخمسين من عمرها وأنتِ تجعليني
أقرأ تلك المشكلات بين المتزوجين عبر وسائل التواصل الاجتماعي.. هذا الأمر الكثير
من النساء تشكين بسببه ولكن عمر يستطيع أن يُصبح محاضر ومُعلم في كل ما يتعلق
بالعلاقة الحميمة..
ضحكت كلتاهما بمصداقية لتنتشلها سريعًا من هذه الجزئية
وشتت عقلها بالمزيد من تلك الأسباب التي تقنعها هي نفسها بعشقه وأكملت ببعض
الجدية:
-
عمر يستطيع تحقيق المستحيل حتى ولو قام بتحمل الضغط وكل
ما يفعله يكون على حسب امكانياته المتاحة حتى ولو يفعل ما لا يحب فهو يستطيع
النجاح والوصول في النهاية، عندما يحدد هدف يستطيع الوصول له.. وكشخص عمومًا هو
بسيط، غير متطلب، خيالي نوعًا ما لا أنكر هذا، بمجرد حل أي مشكلة معه لا أشعر
بعدها أنني احتاج لأي شيء في الحياة سوى بقائه بجانبي..
تلاشت ملامحها التي كانت غارقة في السعادة للحظات
متتالية وهزت كتفيها وتابعت:
-
أو يمكن أني اعشقه لأنه الرجل الأول والأخير الذي اقتربت
منه لذلك اعشقه بمميزاته وعيوبه.. ربما تكون نظرة سطحية للغاية ولكني اعشقه، والعشق
أمر لا يُمكنك التحكم به، قد أكون في البداية أعجبت بمظهره وملامحه وسُمعته ونجاحه
ولكن كلما اقتربت منه اشعر أنه من الصعب الابتعاد عنه، حتى لو كان كل ما احصل عليه
هو نظرة واحدة منه.. ينجح للغاية في اقناعي بأنني المرأة الوحيدة التي تراها
عينيه، وهذا بالنسبة لي كافي للغاية..
همهمت متنهدة واقتربت من الطاولة واسندت ذقنها على
يديها:
-
يا إلهي، وماذا بعد؟!
انتبهت على تلك المحاكاة السخيفة منها بينما لحقتها
متسائلة بنبرة جادة:
-
هل تتحدثين عن عمر أخي متجهم الوجه الذي بالكاد نراه
مرتين بالعام؟ فلتخبريني بشيء أستطيع تصديقه!
ابتسمت لها وأخبرتها بمصداقية:
-
فلتجربي الاقتراب منه ومصادقته، سترين أن به الكثير من
المميزات، ولكن هذا لا يعني أنه رجل خالي من العيوب مثلًا!
قلبت "عنود" شفتيها بعدم اقتناع بينما أومأت
لها بثقة شديدة وهي تتمنى لو اقترب أحد منه ليُساعده على تلك العقبات في حياته دون
وجود اتصال جسدي فيما بينهما فأخبرتها بمصداقية:
-
جربي الأمر، لن تخسرين شيئًا..
-
ما هذه الصدفة السعيدة؟
ادعت بالطبع انها تفاجأت برؤيته بينما انتبهت
"عنود" على هذا الصوت فنظرت له كلتاهما فحدثته "روان" بسخافة
وهو يمد يده إليها فصافحته قائلة:
-
ليست بسعيدة ولا شيء، لقد كنت لتوك بمنزلنا أمس، فلتجلس،
ربما سأستطيع أن ابدلك بدمية ستنفعني أكثر منكِ..
اعتصر يدها وهو يرمقها بجدية وقال مغمغمًا:
-
دمية!! حسنًا، روان!
حاولت التخلص من يده التي لم يبالغ من شدتها على كل حال
وهمست له:
-
فلتفلت يدي، ونعم، دمية، اراهنك أنها لن تتوقف عن الغناء
بصوتها المزعج لأنها ستكون لحوحة مثلك.
رمقها بغلٍ دفين وهو يتوعدها ثم التفت نحو
"عنود" وقدم يده ليُصافحها وحدثها بابتسامة ساحرة ولكنه أخفى تلهفه
عليها ببراعة شديدة:
-
كيف حالك.. ممم، ما اسمكِ؟ لقد نسيته!
اتسعت عيني "روان" بعدم تصديق، أحقًا يسألها
هذا السؤال وهو ينتظر منذ شهران ليلتقي بها؟! هل فقد عقله؟ أم كل الرجال حولها
أصبحوا مجانين دون سابق انذار؟
رمقته بلمحة سريعة ثم تحدثت بملامح اختلفت تمامًا عن تلك
المرحة التي كانت تعلو وجهها منذ قليل:
-
عنود..
ثم اضافت بلهجة حاسمة لا تحتمل المزاح:
-
لا أصافح الرجال!
نظر بتعجب نحو ابنة خالته لتقلب لها شفتيها واكتفت
بإعطائه نظرة ذات مغزى بأنه وحده تمامًا في هذا الأمر ولكنها قالت بعفوية حاولت
تصنعها:
-
حظي أن أجدك هنا بدلًا من أن ألقاك بالشركة، هيا، أدين لك
ببعض القهوة أو العصير، لترى ما الذي ستتناوله!
جلس بمنتهى الأريحية وتجاهل "عنود" تمامًا
فعلى ما يبدو المرة الأولى لم يملك تملقه وهديته لها سلطانًا عليها، ربما هي من
الفتيات التي يقتلها التجاهل، وربما لن ينفع هذا ولن يشفع ذاك ويظن أنه هو من
سيقتله التجاهل لو لم ينظر لها ليحفظ تلك الملامح التي شغلته ببراعة شديدة لمدة
طويلة لم تكن هينة عليه!
-
حسنًا، لا أمانع بعض الدلال من ابنة خالتي العزيزة، ولكن
هل سأتناول القهوة بمفردي؟
نظر لها محدقًا بها بجدية يزجرها فحمحمت
"روان" ثم قالت:
-
لا، لن أستطيع تناول المزيد، لتوي فرغت من احتساء بعض
القهوة كما فعلت في الشركة قبل أن آتي لهنا..
التفت لها ثم سألها مقترحًا:
-
تبدين وكأنك تحبين القهوة المثلجة، ما الذي تريدين
تناوله؟
لم تعطه اهتمامًا يُذكر وحدقت بهاتفها ثم اجابته بلباقة:
-
لا، شكرًا!
نظر إلى "روان" مرة أخرى بتعجب لتقلب شفتيها
كدليل على عدم المعرفة وسرعان ما تهربت منهما وهي تدعي الانشغال الزائف:
-
اعتذر لكما، لقد نسيت، هناك اجتماع هام عليّ الانتهاء
منه، فقط ربع ساعة وسأعود إليكما، سيكفي أن يكون على بُعد، سأنجزه من السيارة سريعًا
وسنُكمل وقتنا!
رفعت "عنود" عينيها نحوها وهي تنظر لها
باستغاثة ثم اخبرتها بتوتر:
-
حسنًا، لو لديكِ الكثير من العمل يُمكننا أن نتفق على
موعد آخر لاحقًا.
رفضت بشدة ونهضت وهي تمسك بهاتفها لتقول:
-
لا لا، لقد اتفقنا أننا سنتناول الغداء سويًا، سأنجز من
هذا الاجتماع وسأعود على الفور!
سرعان ما غادرت بينما تابعتها "عنود" بعينيها
فهي لم يسبق لها أن تجلس بمفردها بصحبة رجل قط، خصوصًا هذا السخيف الذي تتذكره من
ليلة يوم مولدها وهديته هو وأخته المبالغ فيها!
تنهدت وهي تُسلط نظرها بشاشة هاتفها ولم تنظر له ولو
للحظة وكأنها لا ترى كيف يحاول التعرف على ملامحها الفاتنة بوضوح كي يحفظها عن ظهر
قلب ليتذكرها لاحقًا وهو لا يُفكر سوى بها!
أجلى حلقه ثم حاول أن يمازحها وسألها بمرح:
-
هل يرضيكِ ما تفعله؟ هل يوجد من يترك ابن خالته وهي للتو
التقتني ثم ذهبت لتتركني وحدي؟
لمحته بجانب عينيها وحاولت السيطرة على هذا التوتر
بداخلها وكل ما تتخيله هو معرفة والدها أنها تجالس رجل غريب لا تعرفه ثم تحدثت
بصرامة واضحة في نبرتها:
-
هل تتحدث لي؟
نظر حوله بنظرة تفقدية ثم اجابها وهو ينظر مباشرة
لعينيها دون أن يسمح لأهدابه بالتلاقي ثم اجابها متسائلًا بابتسامة:
-
وهل هناك سواكِ لأتحدث لها؟!
نظرت هي الأخرى حوله وسيطر عليها الخوف من مجرد ردة فعل
والدها كما أنها لأول مرة تختبر الأمر بأن تبقى بمفردها مع رجل غريب عنها فابتلعت
وأنفاسها تتعالى وهمهمت وهي تبحث عن الكلمات المناسبة وتنظر بالطاولة أمامها ثم
امسكت بحقيبتها لتنهض بغتة وأدت لاهتزاز محتويات الطاولة وأخبرته بتردد وهي تجمع
اشياءها:
-
أنا، أنا.. أنا سأذهب إلى الحمام!
غادرت تهرول كمن يلحقها قطار مُسرع ولم تُعطه حتى الفرصة
للتصرف بنُبل كالوقوف عند مغادرتها مثلًا أو مساعدتها بإبعاد الكرسي التي تجلس
عليه للخلف ليتعجب مما يحدث وسرعان ما امسك بهاتفه واتصل بـ "روان"
وسرعان ما اجابته:
-
ماذا هناك، هل تم الأمر بهذه السرعة؟
اجابها بنفاذ صبر ونبرة عصبية واضحة:
-
ما هذه العائلة، هل جميعهم مُصابين بالجنون، بالأمس
أخيها واليوم هي، لم تنطق بكلمة واحدة ثم أخبرتني أنها ستذهب إلى الحمام، على
الأقل كنتِ بقيتي معنا عشر دقائق، هل أنتِ ساذجة لدرجة أن تتركينا معًا بمجرد
وصولي، روان؟!
اتسعت عيني "روان" وهي تهتف به لتقول:
-
مرحاض ماذا؟! أنا من ذهبت إليه وليست هي!!
ارتبكت لو أصبحت كاذبة بأعين "عنود" وفكرت لو
أنها غادرت الحمام ستلاقيها في طريقها فنظرت حولها ولم تجد حل سوى أنها دخلت واحدًا
من الحمامات وأغلقت الباب عليها وهمست له:
-
ولكن لو قامت برؤيتي ستدرك أني كذبت.. أو ربما لن تراني..
لا أدري.. كما أنك اخبرتني بأن اذهب واتركما معًا، ماذا عليّ أن أفعل أكثر من هذا،
كما أني لم أكن أقابل فتيان وأنا صغيرة بمفردي لذا لا أعلم كيف تجري هذه الأمور
زفر بضيق ثم تحدث منزعجًا:
-
فتيان!! أتعرفين؟! لقد بدأت الشعور بالملل من الأمر
برُمته، هيا، اذهبي أنتِ وسأنتظرها أنا هُنا!
زفرت وهي لا تدري لماذا تشعر وكأنها طفلة صغيرة تقوم
بخيانة صديقتها وتوريطها في أمر، يا ليتها اخبرتها بالحقيقة، ربما كانت تقبلت
الاقتراح بأنه مجرد شاب يريد التعرف عليها، لماذا تُفكر هي الأخرى بهذه الطفولية
الشديدة؟! ولماذا تشعر بكل هذا التوتر؟!!
استندت بيد في منتصف خصرها وهي تفكر وبدأت الدقائق تمر
واحدة تلو الأخرى فأرسلت إلى "يونس" رسالة تخبره بها بأن يُرسل لها
بمجرد عودتها واخذت تنتظر أي رد منه بينما لم يقم بالرد ولكنه قرأ الرسالة
بالفعل.. وما زادها ارتباكًا هو مهاتفة "عنود" لها أكثر من مرة!
وجدت طرقات على الباب فتوسعت عينيها ولم تُفكر سوى في
"عنود" نفسها وبالطبع لم تُرد أن تُصبح كاذبة بأعينها فهمهمت كرد على
الطارقة فآتاها صوت لم تتعرف عليه:
-
هل انتهيتِ سيدتي؟ نريد القيام بالمراجعة والصيانة!
لم تدرِ بما تُجبها وشعرت بالإحراج الشديد لو كانت
"عنود" هي الأخرى بالحمام ستتعرف على صوتها لو اجابت فزفرت وهي تحاول
عدم الارتباك ليأتيها الصوت من جديد:
-
سيدتي، هل أنتِ بخير؟ اعتذر لكِ ولكن علينا أن نقوم بعمل
الصيانة اللازمة، وأنتِ الوحيدة المتبقية، ولقد مكثتِ بالمرحاض لمدة طويلة، هل
هناك أمر ما يُمكنني مساعدتك به؟
فتحت الباب وهي تنظر لتلك العاملة بعصبية شديدة ولم
تفعلها سوى بعد معرفتها أنها الوحيدة بالحمام ثم حدثتها بانزعاج واضح وعجرفة لا
نهائية:
-
وما في ذلك، يمكنني التأخر كما يحلو لي، لديك بقية
الحمامات، ما ضير أن يبقى هذا دون صيانة، هل ستقومون بمحاسبتنا على الوقت الذي
نقضيه في المرحاض، هذا غير لائق بالمرة!
ارتبكت المرأة من نظرات "روان" الواثقة ولو
كانت تعلم أنها منذ عدة ثواني كانت قاربت الهلاك من شدة الخوف لعرفت أنها لا
تستطيع إيذاء ذبابة فتوترت العاملة وحدثتها معتذرة:
-
آسفة لا أقصد ولكن إن لم أقم بتسليم التقرير في الوقت
المُناسب سيخصم لي من راتبي والمراقب سيمر الآن في أي وقت!
تنهدت وهو تومأ لها ثم فتحت حقيبتها واعطتها بعض الورقات
المالية وحدثتها بهدوء لتقول:
-
لا بأس، لم يحدث شيئًا، آسفة لغضبي المفاجئ!
اتجهت لتتصنع أنها تقوم بغسل يدها ثم تفقدت وجهها
بالمرآة لتقرر أن تتجه عائدة لنفس الطاولة التي تركتهما عليها منذ قليل وليحدث ما
يحدث!
خرجت بخطواتٍ مسرعة مصوبة تركيزها على العودة لتجد
"يونس" يُحدثها فلم تُجبه، على كل حال هي في طريقها له بالفعل..
أكملت الطريق ليوقفها من لم تتوقع رؤيته أبدًا وفي نفس
الوقت استمعت لصوت "عنود" يُناديها ولكنها ابتلعت بارتباك لتهمس بغير
تصديق:
-
عمر!!
تفحصها مليًا ليجد وجهها مرتبكًا بشدة وكأنها تخفي أمر
ما بينما وجدت "عنود" تُحدثها من خلفها ولم تنتبه لوجود أخيها الذي
تعلقت عينيه بعين زوجته التي لا يُفكر سوى بخيانتها:
-
ايه انتي وقفتي كده ليه؟ وبعدين انتي اتأخرتي و.. ايه ده
انتي بتبصي كده ليه؟
التفتت نحو ما تعلقت به عين زوجة أخيها لتجده هو نفسه،
ولم تتخيل سوى شيء وحيد، لقد رآها، جالسة بصحبة رجل غريب، وسيخبر والدها، ووالدها
لن يسمح لها بالخروج خارج المنزل سوى للقبر، لا، لن تصل حتى للقبر، سيدفنها بباحة
المنزل الخلفية وسيكتفي بهذا!
-
عمر!!
هتفت هي الأخرى بصدمة وازداد ارتباكها لتبتلع وارتعشت
شفتيها بينما لم يتوقف هاتف "روان" عن الرنين وتعجب من نظرات أخته هي
الأخرى وقبل أن يتحدث لواحدة منهما وجد من يُناديه:
-
عمر، يا لها من صُدفة سعيدة..
يُتبع..