-->

الفصل الثالث - غرف فندقية





الفصل الثالث 



شعرت بالألم في رقبتي من جلستي الخرقاء أثناء قراءتي، لقد أخذت الكثير من الوقت في البحث عن الرواية بين محتوياتي، أنا فتاة مهملة ولا أنظم مقتنياتي فأستغرق الكثير من الوقت في البحث على ما أريد، لا يهم المهم هو أن أجد ما أريد.


شعرت بالملل من قراءتي لتلك الرواية التقليدية، أعترف أني ما زلت أتأثر بشخصية البطل الاعتيادية وتأسرني بعض الجمل التي يقولها، ولكن لم أعد أنبهر بالأمر مثل السابق، لم تعد الوسامة تبهرني مثل السابق، فقد اكتشفت أنها مجرد غطاء لكل ما يمكن أن يكون جيد أو سيء، وفي معظم الأحيان يكون سيئًا، لقد أصبحت مؤمنة أن الخالق لا يوهب الشخص كل شيء، فلا يعطي أحدهم المظهر الجميل والشخصية الحسنة، لا يتوافق هذا في شخص واحد فقط، على أحدهم أن يأخذ المظهر الجميل وآخر الشخصية الحسنة، وبعد خيبتي الأخيرة ما عُدت أثق في صاحب المظهر الجميل أو صاحب الشخصية الحسنة.


استقمت لأجلس على الفراش، دلكت رقبتي بتعب وقد بدا أن رقبتي ليست الوحيدة التي تؤلمني فقد شعرت بالألم في ظهري أيضًا، تنهدت بتعب وأنا أحاول تدليك رقبتي، لن أستطيع أن أخلد إلى النوم في تلك الحالة، عليّ أن أسير قليلًا لأحرك عظامي.


أخذت الرواية معي بينما بدأت رحلتي من شرفة غرفة الطعام لأن البوابة الرئيسية موصدة، سرت ببطء شديد في المرج الواسع الذي يحاوط الفندق، لم أرتدِ حذاءً حتى أشعر ببرودة الحشائش، وأشعر بها وهي تتزاحم بين أصابعي وتداعبها، شردت بينما رُحت أستمتع بهذا الشعور اللطيف.


- ماذا تفعلين في هذا الوقت؟


جفلت عندما وصلتني تلك النبرة الهادئة الرقيقة، استدرت لأجد نفسي في مواجهة موظف الاستقبال، مانويل، كانت ملابسه في حالة يرثى لها ولكنه لم يبدُ بائسًا من هذا، اقترب مني وهو يحتفظ بابتسامة جذابة على شفتيه وعندما وقف أمامي كرر سؤاله:


- ماذا تفعلين هنا؟


أشحت بنظري بعيدًا لسبب أجهله وأجبت الإجابة الإعتيادية والتي بدت لي رتيبة جدًا:


- لم أستطع النوم.


أومأ بينما التقطت عينيه الرواية التي بين يدي، فقال:


- أرى أنكِ من محبي المطالعة.


وقبل أن يترك لي المجال للتحدث سحبها من بين يدي مما أدى إلى تلامس أيدينا عفويًا، تركتها له بعد أن سيطر الارتباك عليّ، فآخر رجل لامسني كان هو، في لقاءنا الأخير، ذلك العناق البارد الخالي من المشاعر الذي أعطاني إياه، كان ذلك العناق أكثر قسوة وبرودة من الوقوف فوق تل في الشتاء ليلًا وبملابس خفيفة كالتي أردتيها الآن، أثرت تلك الذكرى فيّ بطريقة سيئة فارتجفت، لاحظ مانويل - الذي كان يطالع الرواية بسطحية - ارتجافي، فقال:


- هل تشعرين بالبرد؟ وددت لو أعطيكِ شيئًا ما تضعينه على كتفيكِ ولكن للأسف أنا أرتدي قميص يجعل البرد يتسرب إلى عظامي.


هززت رأسي بمعنى « لا بأس » وقُلت:


- لا أشعر بالبرد في الواقع، ولكن شكرًا على سؤالك.


شعرت الامتنان كونه ظن أن سبب ارتجافي هو البرد وليس تلك العاصفة من المشاعر التي تعتصر قلبي، أعطاني الرواية في صمت، ثم قال بعد دقيقة:


- ذوقكِ كلاسيكي بالمناسبة.


- أحب أحيانًا السفر عبر الزمن.


قُلت كإشارة لزمن الرواية، فقد كُتبت في الثمانينات، ويبدو أن مانويل قد فهم قصدي فهو لم يجد شيئًا غير منطقي فيما قُلته، سار ببطء كأنه يتنزه بمكان لن يزوره مجددًا فيريد أن يحفره في ذاكرته جيدًا، دون أن ألاحظ وجدتني أسير بجانبه بنفس الوتيرة، عم الصمت لبعض من الوقت ليقطعه مانويل قائلًا:


- هل تؤمنين بتحقق أيًا من تلك القصص؟


- لا أؤمن بأن جميع الفتيات سيتزوجن من رجل أعمال ثري ووسيم حد اللعنة، ولكني مؤمنة بالحب بشكل عام.


أجبت بجمود لم أتحكم به، فما زالت مسألة الحب حساسة في نظري، وهذا ما جعلني أترك القراءة وأنهض لأسير، فقد رأيت البطلة يائسة واقعة في الحب حتى أذنيها، مثلي، ولكن الفارق أن الواقع ليس به نهاية سعيدة مثالية، وهذا هو المؤلم.


- هذا غريب، لم أعتقد أنكِ تؤمنين بالحب.


- ألا ترى أنك تقول " هذا غريب " كثيرًا؟


توقف مانويل فتوقفت بدوري، نظر لي نظرة ثاقبة وقال بنبرة رقيقة أقرب للهمس:


- ربما لأن كل شيء يتعلق بكِ غريب؟


كان الوضع غريب حقًا، نقف أمام بعضنا البعض، في الظلام لا نستمد الضوء سوى من القمر الخافت الليلة والتي لم تمكني من رؤية ملامحه بوضوح رغم قربنا الذي لم أشعر به، وقفنا نحدق ببعضنا البعض وقد شعرت وكأن الهواء يُسحب من رئتي، هذه المساحة الواسعة المفتوحة أصبحت كالصندوق المحكم إغلاقه عليّ، جفلت وابتعدت خطوة للخلف، هذا فخ لا محالة! لا يجب عليّ الوثوق برجل أبدًا، حتى وإن كان يبدو مثل مانويل، بل التعامل مع مانويل يجب أن يتسم بالحذر أكثر من التعامل مع أي رجل آخر، فهو يتمتع بجاذبية لم أرَ مثيلتها قبلًا.


واصلت ابتعادي عنه حتى أصبحت على بعد مسافة آمنة منه، عندها فقط أجبت بهدوء مصطنع:


- لا أفهم لماذا تعاملني وكأني ساحرة من إحدى الكهوف فقط لأني قررت أن آتي إلى هنا في الشتاء؟


تبع سؤالي ضحك صاخب من مانويل مما جعلني أتضايق، عُدت لذكرى قديمة عندما كنت طفلة وكان عمي يضحك على كل ما أقوله مما يسبب ضيقي، قريب بشكل كافٍ.


قام مانويل بمداعبة شعري وإفساد ترتيبه مما عزز تلك الذاكرة في رأسي، أبعدت يده بقليل من العنف وقُلت بتذمر:


- لست ابنة شقيقتك لتتعامل معي بتلك الطريقة!


- بالطبع فابنة شقيقتي أكثر لطفًا.


قال بنبرة يشوبها المرح ومجددًا يسخر مني، يا له من لعين! نظرت له بأعين نارية تشع غضبًا وقُلت:


- إذًا توقف عن التصرف معي بتلك الطريقة، بالأصل أنت لا تكبرني بكثير من الأعوام.


ابتسم بعذوبة وقال:


- أجل ولكن الخبرة تضيف عمرًا فوق العمر، وفي حالتكِ تلك خبرتكِ ستنقص من عمركِ لا تزيده.


نظرت له بدهشة، فمي مفتوح لا أستوعب سخريته الجديدة مني، أو أستوعبها ولكني أرفض أن أصدقها، من يظن نفسه هذا! أخرجني من دهشتي رفعه لذقني حتى أغلق فمي بينما ضحك وقال:


- أتعملين الحديث معكِ جعلني أنسى آلام السفر.


جذب هذا عقلي نحو حوار جديد، إنه سريع في تغيير دفة الحديث ولكني لم أفكر في هذا في تلك اللحظة، فكنت مشغولة في الاحتفال بانتصاري فقُلت:


- لقد علمت أنك لاتيني وأنت استمررت في المراوغة.


نظر لي بتعجب وقال:


- من أخبركِ بهذا؟


- كارين فعلت.


أجبت بتوجس بعد أن شعرت بأنني قُلت شيئًا خاطئًا، فتلك النظرة التي نظر لي بها جعلتني أشعر وكأني ارتكبت إحدى الجرائم، ولكن ما إن ذكرت اسم كارين نمت ابتسامة بسيطة على وجهه وقال بخفوت:


- كارين تلك أكبر واشية رأيتها في حياتي.


شرد للحظة وبدا أنه يفكر في شيء ما، وقفت أراقبه في صمت وأشهد على ملامحه وهي تتحول تدريجيًا من المرح إلى الجدية، يبدو أنه يفكر في أمر هام، عاد ينظر لي مجددًا، رأيت الإرهاق على وجهه مما جعلني أوقن من صعوبة الرحلة التي قطعها، قال بعد صمت دام كثيرًا:


- أعذريني ولكن عليّ الذهاب إلى النوم، عمتِ مساءً.


- عمت مساءً.


همست بينما راقبت هذا الكيان وهو يتحرك نحو الفندق حتى أصبح طيفًا، تنهدت ونظرت للقمر لثانية ثم تبعته نحو الداخل، بالنهاية ليس هناك شيئًا مفيدًا قد أنجزه في هذا الوقت غير النوم.


❈-❈-❈



كارين.. كارين تلك الفتاة الساذجة، جملة محفورة بعقلي منذ الصغر، لا أفهم لماذا يراني الجميع ساذجة وخرقاء؟ هل الطيبة أصبحت تصنف سذاجة؟ لماذا بحق الجحيم؟ لماذا عندما أقوم بعمل طيب دون مقابل ينظر الجميع لي بشفقة؟ لماذا عندما أثق في أحدهم بسرعة يسخر مني؟ أنا أعرف أن هناك أناس سيئون كثر في هذا العالم، أعرف أنني لا يجب عليّ أن أثق بالبشر بسرعة، ولكني أفضل أن أرى الجانب الجيد فقط من الأمور، النصف الممتلئ من الكوب كما يُقال، ليست جريمتي أنني متشائمة، هذا ليس من شأن أحد بالأصل، هذه هي حياتي وأنا أحدد كيف أعيشها، أنا وحدي.


رفعت رأسي لأنظر للقمر، في تلك الليلة البديعة والقمر مكتمل هذا ما استطعت التفكير فيه فقط؟ يا له من أمر محزن، هل أصبحت كارين المتفائلة كئيبة وتتأثر بآراء الغير؟ كل هذا يحدث لي بسبب محادثته مع تلك الضيفة صباحًا، هي من جعلتني أفكر بهذا الأمر مجددًا، هل عليّ أن أفكر في رأيها وأطبقه؟ كلا كلا كارين ستظل طيبة مهما حدث لن تتخابث، أنا لن أستمع لتلك الترهات أبدًا، ربما عليّ النوم حتى أتوقف عن التفكير بتلك الأشياء الآن، ولأتحدث مع تلك الضيفة في هذا الأمر غدًا؛ لهذا دلفت غرفتي وأغلقت باب الشرفة الزجاجي حتى لا يصلني البرد وخلدت إلى فراشي.


❈-❈-❈


مر أسبوع هادئ دون الكثير من الأفكار، أرغمت نفسي على القراءة حتى لا أتمكن من الفتكير مجددًا، لا أفهم كيف يمكنني أن أستمر في التفكير في موضوع واحد لما يقارب الشهر، هذه معجزة!


أخذت رشفة من القهوة كثيرة السكر التي تعدها كارين، قهوة لذيذة في نظري رغم أن بعض المتفلسفين سيقولون أني أفسد القهوة بالسكر وأنها خُلقت مرة وأن ما أفعله يعد جريمة، ولكن تبًا لهم جميعًا هذه قهوتي وسأستمتع بها بالطريقة التي أحب.


جعلتني تلك القهوة أتذكر صانعتها اللطيفة، تلك الفتاة التي اقتحمت غرفة الطعام بفوضوية منذ أسبوع فقط لتخبرني أنها ستظل طيبة ولن تتخابث أبدًا وترحل، ربما كان حكمي عليها قاسيًا قليلًا، ربما أشعرتها أنها ساذجة، وربما هذا جعلها تفكر كثيرًا، جميعها افتراضيات قد لا تكون صحيحة، فأنا لست حكيمة بالشكل الكافي لأقدم نصيحة لأحد ما، بل إن خبرتي في الحياة تنقص من عمري لا تزيده، ابتسمت متذكرة حديثي الأخير مع مانويل والذي اقتبست منه تلك الجملة، لم نتحدث منذ ذلك الحين، فقد فضلت الابتعاد عنه مجددًا، هو يؤثر عليّ أحيانًا وأنا ما زلت ضعيفة هشة، أي كلمة وأي فعل تؤثر بي كثيرًا، ما زلت أذكر تلك الدقيقة التي وقفنا بها متواجهين، لم أتبين ملاجيدًا ولكن الشعور بأني قريبة منه كان شعورًا غير مألوف، ربما بسبب فارق الطول بيننا، فأنا كنت أنظر له رافعة الرأس وكأني طفلة صغيرة بجانب شاب ضخم.


كان مانويل يقف بالشرفة ويحتسي قهوته بدوره، لهذا تعمدت أن أجلس في طاولة بزاوية معينة حيث يواجهه ظهري، وفي تلك اللحظة التي كنت أفكر فيها به شعرت بصوت خطواته يقترب مما جعلني أهلع، فقد كنت أفكر به لتوي وها هو قادم إليّ!


حاولت أن أحافظ على مظهري الهادئ واحتسيت ما تبقى من قهوتي، وجلست مترقبة ما سيقوله.


وقف أمامي وهو يحمل قدح قهوته ويرتشف منه بتلذذ وقال:


- ياإلهي يمكنني اشتمام رائحة السكر من هنا.


قلبت عيني بملل وقُلت:


- أجل أنا أحب قهوتي مليئة بالسكر.


ارتشف المزيد من قهوته ونظر لي بتسلية، كانت نظرته مريبة بالنسبة إليّ، أشحت بوجهي عنه حتى أتوقف عن هذا الشعور، ولكني عُدت بعدها أنظر إليه مجددًا لأجد نفس النظرة ونفس الابتسامة المريبة، اللعنة! همست داخليًا وقد أردت أن أنوح خوفًا من نظرته تلك.


- لدينا ضيف جديد على ما يبدو.


قال بنبرة تقريرية بعد أن أنهى قهوته، أومأت بعدم اهتمام وقُلت:


- إذًا هذا وقت عملك.


- أجل إنه كذلك.


قال مبتسمًا ثم اقترب ليأخذ الكوب الفارغ من بين يدي ورحل، ودُهشت للحظة وبقيت أنظر للمكان الذي كان يقف فيه لقليل من الوقت حتى أدركت أني أنظر للفراغ بالمعنى الحرفي، فنهضت وتركت الغرفة، في جميع الأحوال لقد انتهيت من تناول فطوري.


مررت بالردهة وأنا أصعد إلى غرفتي فوجدت مانويل يقف ويتحدث مع إمرأة ما، بدت طويلة بحق وربما هذا يعود لكعب حذائها العالي، هذه هي الضيفة الجديدة على ما يبدو، لم أشعر بالفضول حيال تلك المرأة التي كانت تعطيني ظهرها وفضلت الصعود إلى غرفتي.


❈-❈-❈



بعد عدة أيام وبينما كنت أنتظر غدائي، دلفت تلك المرأة الغامضة ترتدي فستانًا أخضر أنيق تناسب مع شعرها البني الكثيف، جعل مظهرها الأنيق والمرتب أشعر بالاحراج من الملابس القطنية التي قاربت ملابس النوم التي أرتديها باستمرار، حاولت أن أبدو غير مبالية ولا أشعر بالغيرة حيال مظهرها، دلف مانويل بالغداء لينقذني من هذا التوتر الذي انتابني، قدم لي الغداء الذي قررت أن أشغل بالي به، إلا أن أذني التقطتا شيئًا آثار ارتباكي، فقد قالت تلك السيدة الغامضة:


- سأجلس مع تلك الفتاة اللطيفة، مانويل.


تتحدث مع مانويل دون كلفة، مانويل الذي عرفته لشهرين وما زلت أتعامل معه بحذر!، ولكن مهلًا هل هي تقصدني؟ تبًا!


وضع مانويل غدائها على طاولتي بينما شكرته المرأة بلطف وجلست أمامي، نظر لنا مانويل للحظة وقال ممازحًا:


- لا يتسنى لنا استضافة إمرأتين بهذا الجمال في وقت واحد أبدًا.


ثم أعطانا ابتسامة أخيرًا ورحل، بادلته المرأة الابتسامة، بينما راقبت أنا الوضع بضيق لم أفهم سببه، عادت المرأة تنظر لي مبتسمة وقالت:


- حسنًا كيف حال الفتاة الحزينة؟


نظرت لها بحدة وأجبت:


- هل أتيتِ للسخرية مني؟


شعرت أنها تمكنت من قراءتي من الوهلة الأولى؛ لهذا اتخذت وضعية الهجوم حتى لا أضطر أن أدافع في وقت لاحق، ضحكت المرأة بصخب مما جعلني أنظر لها بحيرة، عندما انتهت من نوبة ضحكها غير المبررة قالت:


- حسنًا أنتِ ذكية، أدركتِ أنني أفهمك.


رفعت إحدى حاجبي باستهجان وقُلت:


- نحن نساء ليس من الصعب فهم بعضنا البعض.


ابتسمت بخفة وقالت:


- مؤكد ولكن أنا لا أنوي أن أعاديكِ.


- إذًا ماذا تريدي؟


إنها إمرأة غريبة بحق، ماذا تريد مني؟


أجابت بخفوت:


- ربما لأعطيكِ نصيحة، مهما حدث لا تجعلي رجل لعين يحزنك.


بدأت في تناول طعامها بنظام وترتيب ملحوظ، نظرت لها باستنكار وهي تأكل وكأنها في إحدى الحفلات المهمة، بدأت في تناول طعامي وخيم الصمت لقليل من الوقت لتقطعه هي قائلة:


- بالمناسبة ما اسمك؟


- دافني


أجبت بخفوت ولا مبالاة، وجدتها تنظر لي بحماس وتقول:


- هذا اسم كاتبتي المفضلة، دافني دو مورييه، هل تعرفينها؟ 


ضيقت عيني محاولة أن أتذكر هل سمعت هذا الاسم قبلًا أم لا، ثم أومأت بالنفي بعد أن فشلت محاولتي، تابعت عندما وصلتها إجابتي الصامتة:


- أرشحها لكِ إن كنتِ من محبين القراءة.


عم الصمت مجددًا إلا من صوت المعالق التي تضرب الصحون، حتى قطعته أنا قائلة بنبرة ساخرة:


- قيل لي أن الجميلات لا يأتين في هذا الوقت من العام هنا، فلماذا أنتِ هنا؟


ابتسمت وأجابت بمرح:


- أوه مؤكد أن مانويل هو من قال هذا، فهو قد قالها لي عندما أتيت إلى هنا للمرة الأولى.


شعرت بالضيق عندما أخبرتني بهذا، لا أفهم لماذا ولكني شعرت أني متميزة، حتى وإن كنت متميزة في كوني غريبة الأطوار ولكن يكفي أن هناك شيء أتميز به عن غيري، وقد أتت تلك لتسرق مني هذا.


- أنا طبيبة وقد أتيت هنا لتولي أمر المستوصف الصغير الذي بالقرية بشكل مؤقت.


أخرجتني من شرودي إجابتها، فنظرت لها بصمت لوهلة وقُلت متابعة سلسلة سخريته التي افتتحتها:


- الطبيبة المجتهدة الكارهة للرجال، تبدو تلك بداية جيدة لفيلم رومانسي.


ضحكت المرأة بخفوت وقالت:


- أنتِ محقة في هذا.


ثم تابعت عندما ابتلعت طعامها:


- الفكرة أنني لم أجد شيء واحد جيد في الرجال، جميعهم سيئون.


رفعت حاجبي بتعجب وقُلت:


- يبدو أنك قد جُرحتي بقوة حتى أصبحتي تكرهين بقوة.


أخذت كوب المياه وارتشفت القليل منه ثم عادت إلى صحنها وقالت:


- في الواقع أنا لم أقع في الحب أبدًا، ولكني وجدت العمل شيئًا يستحق أن أرهق نفسي به أكثر من الوقوع في الحب.


ابتسما وقُلت:


- وجهة نظر تحترم.


نظرت لي نظرة ذات مغذى وقالت:


- أنتِ تحترميها الآن لأنكِ مجروحة من رجل ما.


جعلتني جملتها تلك أصمت وأغرق في وادي أفكاري، بينما هي أمسكت المنديل ومسحت شفتيها، ثم نهضت وقالت:


- حسنًا لا أحب أن أكون متطفلة ولكنكِ بدوتي محتاجة لهذا، ودائمًا تذكري أن الطبيبة ميلاني يمكنها أن تساعد في أي وقت.


أعطتني إيماءة صغيرة كتحية صامتة ورحلت، مكثت قليلًا في مكاني حتى تأكدت أنها ابتعدت ونهضت متوجهة نحو الردهة، وقفت أمام مكتب الاستقبال وتحديدًا أمام مانويل وقُلت:


- هل هناك أي متجر لبيع الكتب بالقرية؟


نظر لي لوهلة بتعجب ثم تحولت نظرته إلى أخرى غير مفهومة وأجاب:


- أجل ولكنه لا يبيع سوى الكتب القديمة، وربما قد يكون مغلقًا.


- لا يهم، هل يمكنك إرشادي إليه؟


قُلت بأكثر نبرة لطيفة لدي ربما لأؤثر به، ترك مانويل القلم الذي يحمله وقال:


- حسنًا أمهليني لحظة.


ثم تركني واتجه نحو إحدى الأبواب والتي تبدو وكأنها غرفته وأغلق الباب خلفه. 


يتبع