-->

الفصل الثامن والعشرون - الجزء الأول - النسخة الفصحى



الفصل الثامن والعشرون

النسخة الفصحى

الجزء الأول

شُكر خاص إلى الكاتبة سمر ابراهيم بتعديل الحوار للنسخة الفصحى 

اخفض جسدها بمنتصف الحمام المُلحق بغرفته وهي لا تشابه سوى الجثة المتحجرة من كثرة ما استخدمه عليها أدى لتحنيطها، لم يعد هناك بها روح ولا حتى نفس طبيعية تستطيع المواكبة مع مختل مثله، كل ما دل على حياتها هو تلك الدموع التي تتساقط في خزي مما يحدث لها ومما أجبرت نفسها على تحمله منذ البداية مع رجل لا تعرفه على الاطلاق!

 

وربما هناك بقايا عقل يُفكر في أن الغرفة التي من المفترض أنها تحمل سبيل نجاتها الوحيد قد قام بتركها مفتوحة واكتفى بغلق الباب الخارجي لغرفة عذابه التي باتت تفاصيلها محفورة في رأسها ولا تدري متى ستستطيع أن تنساها، يتبقى القليل بعد، هذا ما تحاول أن تذكر نفسها به..

 

أنين فجائي صدر منها عندما شعرت بسائل يمر على جروح ظهرها التي أصابها بها هذا الوغد عديم الرحمة، وكأنه يكترث لو تلوثت تلك الجروح، ماذا عن التلوث الذي سيُذكرها بقذارة كل ما حدث معه منذ البداية وحتى النهاية؟

 

ترك زجاجة الكحول الطبي على الحافة الرخامية بجانب الحوض ثم وجدته يقف أمامها وينظر إلى عينيها المطلقتين لنظرات يعلم جيدًا أن جل ما خلفها هي امرأة تأبى الرضوخ لأنها لم تُصنع له!

 

قابلها بنظراتٍ أخرى تعكس فهمه لمن أمامه جيدًا، وبكل ما فيه يشعر بالندم، ليس لأنه ألمها بالفعل، الرجل المضطرب بمثله باضطراب الشخصية السادية لا يندم على ما سببه من ألم لمن معه بل العكس، هو يشعر بالراحة واللذة في هذا الفعل المُشين، إنما كان نادمًا على أمر آخر، نادم أنه عشق امرأة محال أن تكون كما يحلو له!

 

مصيبة أن يجمعهما القدر وهي هي وهو هو ولا يستطيع أي من الطرفين أن يجد أيًا منهما حل وسط، وكلما تدخلت المشاعر العاهرة تُذكره بماضيه الداعر.. مشاعره تقوده وبعنف إليها ونحوها وتحتم عليه أن يكون كما يحلو لها، بينما ماضيه يؤلمه، يؤكد له كل يوم حقيقة أنه كان مغفل يوم ما بسبب العشق.. لقد جُن تمامًا بين العاهرة والداعر واستسلم بهوان أمام كل ما يبتعد عن الاستقامة والشرف ليعبثا بعقله كيفما شاءا..

 

-       لماذا تبكين الآن؟

 

اختلط وجهها بحسرة واحباط ساخرة من سؤاله، يا تُرى لماذا؟ ما الذي يجري بعقله الآن؟ ألا يعرف الإجابة على سؤاله الخرف؟ يا لركاكة استيعابه! هل عليها أن تسرد وتنطق بالتفاصيل؟ ليعانق نجوم السماء لو أرادها أن تجيب سؤاله هذا والآن!

 

اختلفت نظراته ولكن لم يعد هناك ما يشفع كي تكترث، ونبرته لم تكن آمرة ولكنها لم تهتم، باب الغرفة الداخلية لم يغلقه، هذا هو وسيلتها للفرار، مجرد تذكرها هذا الأمر يقلل مما تشعر به، لو تركت لنفسها الفرصة أن تُفكر سوى بذلك ستفقد عقلها!

 

تفحصها مليًا وهو يتنهد عاقدًا حاجباه وقال بنبرة كانت لتصدقها سابقًا، أمّا الآن ولاحقًا ستجعله يتمنى ويحلم فقط بأن يفقد المقدرة على التحول لرجل خبيث مخادع مفعم بمشاعر مُزيفة:

-       أنتِ لا تتألمين مما فعلته بكِ، فألم جسدك لا يساوي شيء أمام تلك النظرة التي بعينيكِ وأنتِ تشعرين أنكِ مجبرة على تحمل شيء لا ترضين عنه.

 

هل النظرة ما تزعجه الآن؟ وها هي عينيها ذهبت بعيدًا عن وجهه الكريه وهي تحولها نحو ركن بالحمام، هل يرضى الآن عنها؟ هل أصبحت خاضعته الأفضل؟ فليحترق بالجحيم ويُنهي هذه اللعنة التي دامت ليوم بأكمله معها!!

 

 تلمس أسفل ذقنها ليعود للتحديق بعسليتيها الباهتتين وهو يفهم جيدًا عدم قبولها بالأمر فحدثها بجدية:

-       لا أريدك هكذا، أنا أريدك راضية عما أفعله، أريد هذا أن يحلو لكِ، ما دمتي غير راضية فكل ما نفعله بلا فائدة.

 

زفر بإحباط ويأس ثم امسك بيدها وتوجه نحو كابينة الاستحمام كي يُخلص جسدها من آثار الدماء التي تجمدت عليه، لا يدري ماذا تبقى هناك بعد كل ما فعله ليفعله ولقد قام بإصابتها بنفس ما حدث له يومًا ما؟ لقد فعل الكثير وها هي ما زالت رافضة وآبية بمنتهى التشبث بأن تكون سوى كل ما يحلو لها أن تكونه!!

 

انعكس على ملامحها الوجع والمياه تقوم بلمسها وهو يتفحصها مليًا ولم يُعجبه صمتها الذي طال عن المعتاد، فهو كان يتوقع ثورة، أو خضوع، لكن السكوت لم يخطر على باله!

 

حرك جسدها ليتفقد ظهرها وتلك الجروح التي كان يستحيل أن يقوم بالتعميق منها واطمئن أولًا على ما ارتكبته يديه ثم همس بالقرب من أذنها متسائلًا:

-       هل تقلدينني ولا تريدين الرد علي؟

 

ضمها إليه ليُصاب جسدها بانتفاضة لم تتحكم بها وهي لا تطيقه على الإطلاق فالتفتت له ولم يعد يدري هل هذه هي المياه أم الدموع التي لا تتوقف عن الهبوط من عسليتيها الفاتنتين لتكتم صراخها باستمات كي لا تُفسد ما وصلت له معه وتوسلت له مناجية:

-       أنا لا أقلدك أنا لا أريد شيء سوى ألا تتحدث، هل يمكننا أن نأخذ هدنة من كل شيء؟ القصص، والروايات، والعقاب، وتفكيرك في قدر اختلافنا هل يمكنك أن تسمح لي ببعض الهدوء؟ هل هذا ممكن؟ لقد أخطأت وانت تهاونت معي كثيرًا، ولكنني أحاول استيعاب ما يحدث لي، هل يمكنك أن تصمت؟ أم أنه كثير علي أن أحظى ببعض السكون.

 

رأى هذا الانفجار بعسليتيها ولا يخمده سوى تلك المياه المتساقطة على كليهما فاختلطت مشاعره لوهلة أمام تلك الملامح المصابة بالذعر وحالة كارثية من الهلع لم يرها عليها قط، هو يُريد أن تصبح كما تحلو له، ولكن لا يُريدها أن تصاب بفقدان العقل!

 

أومأ بالموافقة وهو يلاحقها بنظرات فارغة من المشاعر بينما أضافت بمزيد من التوسل:

-       هل يمكنني أن أنام بمفردي اليوم؟ أم أن موعد نومي لم يحين بعد؟

 

النبرة ليست ساخرة، ولكنها مليئة بالحسرة على نفسها، انكسرت صورة تلك المرأة التي كانت دائمًا وأبدًا عليها في عينيها وما زالت تُعاني من تقبل ما أصبحت حياتها عليه، وبين شتاته بأن يُطمئنها أن هذا لن يحدث من جديد وبين رغبته في تملك امرأة بصورة مُعينة وقف شليل اللسان أمامها ولم يستطع قول شيء!

 

غادرت بمجرد موافقته وفي طريقها تناولت منشفة واتجهت لتأخذ ما ترتديه ثم ابتعدت سريعًا عن غرفته التي لا تحمل سوى رائحته التي لو استنشقت للمزيد منها ستصيبها الرغبة بالتقيؤ!

--

لا تصدق أنها ترتدي كما يُريد، تجاري عقله المختل، وتجبر نفسها أن تصبح مجرد دمية بين يديه، لو يمتلك حيوان – كما يمتلك برق حصانه – لن يفعل ولم يفعل به مثل ما فعله معها!

 

حاولت أن تهدأ نفسها بأعجوبة من ذلك الهلع والقلق الذي ينتابها بصحبة الغضب، هو رجل فقد عقله، ولقد توقعت هي ذلك، ليس لديها سبيل سوى أن تصدق هذه الحقيقة وإلا ستنهار.. يتبقى القليل، القليل فقط وستنتهي.. الطريق كان شاق معه منذ البداية وهي ترى خط النهاية قد لاح بالأفق!

 

حاولت أن تختفي من نظرات نفسها أسفل الأغطية، تكره أن ترى ملامحها بالمرآة ووقتها سيكون عليها الاعتراف لملامحها التي تُشابه نسخة طبق الأصل من امرأة أخرى بغبائها الفادح، وأنها من أوقعت نفسها بهذه اللعنة، وأنها كانت غبية.. هي بالكاد تتحمل هذه الحقيقة بعقلها، لكن لا يُمكنها أن تحدق بأعين نفسها وهي تعترف بهذه الصاعقة!

 

الألم لا يحتمل، قدمها وظهرها، هذا اللعين لو يمكنها أن تبتر يده على ما فعله بها، بل يداه، وخصيـ تيه كي يتوقف عن الشعور بالإثارة، لن تترك مثل هذه الفرصة دون اغتنامها بالكامل!

 

شعرت بالهلع يكتسحها والخوف والقلق لا يرحماها لتضم ركبتيها لصدرها وهي تتفقد الباب الذي لا تظن سوى أنه يقبع خلفه وكأنه ينتظر أن يُصيبها بالمزيد من جنونه واختلاله وشعرت بأسنانها تتحرك لترتطم ببعضها البعض حركات لا تملك المقدرة على أن توقفها ليفزعها بدخوله للغرفة لتنهض هي في رعب تام!

 

-       ماذا هناك؟ هل حدث شيء؟

 

انطلق السؤالين من شفتيها بتلقائية وعينيها مصابتين بالرعب فاختلجت سوداويتيه بصورتها المفزعة له وهو يرى انعكاس تضرر ظهرها بالمرآة واكتفى بإلقاء مستحضر طبي ما لم تكترث لرؤيته ولا تهتم سوى بالتخلص من ملامحه وأخبرها بلهجة مشتتة بين الأمر وبين الاهتمام:

-       استخدمي هذا الدهان، ونامي مبكرًا.

 

التفت وغادرها لتبتلع وهي تسمح لأنفاسها بالمرور بعد أن سُجنت رغمًا عن ارادتها بداخل رئتيها وتمنت أن تهرول خلفه ممسكة بسكين ثم تطعنه بظهره، أو ربما عليها أن تقوم بإجراء عملية تشريح من جديد بظهره ثم تركه لينزف حتى الموت!! لو كانت تمتلك القدرة وتضمن أنه لن يبغى عليها بقوته ستفعلها على الفور!

 

حاولت أن تهدأ من نفسها ولم تعد تثق بما هي مقبلة عليه ولأجل أن تصل لما تريده امتثلت ما قال، فهي لا تضمن من مكث بالمشفى لثلاثة شهور بالسابق هل سيكتشف أنها وضعت بعض من المرهم اللعين أم لا..

 

بعد كثير من الوقت وبعد محاولات فشلت لأكثر من مرة بالهدوء والامتناع عن البكاء والخوف الذي يصيبها بالذعر والهلع استطاعت أن تنجح في النهاية، هذه مُعضلتها الأبدية، لا تنجح أبدًا منذ الوهلة الأولى ولكن فقط تنجح بعد أن تأخذ وقتها في فهم ما تتعامل معه، لم تكن ردة فعلها سريعة قط تجاه أي أمر في حياتها..

 

عانقت نفسها وهي تحاول أن تصمد أمام تلك الصدمات المتوالية وفكرت بطريقتها معه منذ قليل ثم حاولت أن تتذكر ما الذي يتبع الخروج من هذه الغرفة المشؤومة، ممارسات، متوالية وبكثرة، غزل، مزاج جيد.. هذا ما يفعله دائمًا معها.. ولكن تتمنى أن ما فعلته وردة فعلها بهذا الانهيار لم تفسد عليها ما تريد أن تصل له، أن تنظر لنفسها بأنها تجبر نفسها على إقامة علاقة جسدية معه أهون من أن يقوم المرة القادمة بصنع حفلة شواء من أعضائها ويتناول كل يد على حدة!!

 

لقد كانت ردة فعلتها مبالغة معه، غبية وتتغابى وتتمادى للمرة المليون وخمسمائة ألف، متى سيتعلم عقلها الصدأ، لو لم تتوقف عن ردود أفعالها تلك سيكتشف الأمر وتقسم أنها لم يعد بها ذرة تحمل واحدة!!

--

فجرًا اليوم التالي..

لا القهوة تُفيد، ولا احتساء الخمر يشفي عقله اليقظ منذ ليلة أمس، النوم كذلك تركه وذهب، أما عن صوت أفكاره فهو لم يعد يستمع إليه.. لا يعرف أن الحقيقة المجردة هي أن ما يعاني منه هي عبارة عن هلوسات وقد قررت أن تتوقف عن العمل بهذه الأيام دون إرادة منه!! مجرد عرض آخر يأتي ويذهب دون تحكم منه!  

 

يسأل نفسه كثيرًا هل توقف عقله عن العمل مؤخرًا أم ماذا به؟ ولم الأمر معها صعب للغاية؟! كل ما يُريده لا يستطيع أن يحققه، لقد فشل في أن يجد الحلول، ولقد فشل في النجاح في أي لعنة، سواء معها أو مع غيرها، ما النهاية لكل هذا؟

 

تفقد الوقت ليجدها أصبحت الخامسة فجرًا فنهض وجر قدميه بصعوبة، فمنذ أن تركها لتذهب ليلة أمس لم يستطع التفكير، ولم يعد يطيق حياته بأكملها، وبمجرد وقوفه بين الغرفتين وشتات دام لعدة لحظات أخذ قراره بالذهاب لها، شاءت أم آبت لا يمكنه الابتعاد عنها أكثر!

 

حاول أن يكون حضوره هادئ وهو يتجه نحو الفراش بعد أن قام بفتح الباب بمنتهى الحرص وقام بالسير بخفوت وعندما اقترب وجدها تنام بالفعل ووجهها موجه للوسادة وقارب من الوصول ولم يبعده سوى القليل فانتفضت هي ونهضت جالسة بأعين فزعت ملامحه لتتوسع عينيها وهتفت به متلعثمة:

-       ماذا تريد؟ ألم أطلب أن أنام بمفردي؟ وأنت وافقت على ذلك، ما الذي جاء بك هذه المرة؟

 

اشارت لذلك المرهم الذي أعطاه إياها وهي تترك الفراش وتغادر ثم امسكت به وتابعت أسفل عينيه المسلطتين عليها في ضوء الغرفة الخافت:

-       لقد نفذت جميع أوامرك، وارتديت كما أمرت، لقد بت نسخة مثالية كما يحلو لكَ، ماذا تريد؟

 

هذه حالة جديدة عليها من نوعها، بالرغم من كل ما فكرت به وظلت ساهرة تعده بينها وبين نفسها بأن عليها أن تتعامل معه ببعض التقبل إلى أن تحصل على فرارها الأبدي منه، قد طاحت خطتها بالكامل ولا يزال وعيها غير متقبل لما فعله..

 

-       عودي إلى فراشك.

 

أوامر لم تكن بنفس الصوت المهيمن بداخل تلك الغرفة، ولكن يبقى أنه أمر صريح، وتحكم واضح منه، ولا تدري كيف يُمكن لرجل أن يستمر بهذه البشاعة دون أن يكره نفسه!

 

ابتلعت ونظرت للأرضية لبرهة كي تستجمع كل الاحتمالات التي يمكنها أن تحدث، ثم تفقدته مليًا وأومأت بالإنكار ووجدت نفسها تبكي بالرغم من أنها حاولت بشتى الطرق أن تتقبل ما يفعله بها لأيامٍ فقط إلى أن تحصل على ما يُرعبه وتتخلص منه بالتهديد الصريح وبدأ صوتها يعلو رويدًا رويدًا مع كل حرف يتخبط بما يليه بمنتهى المصداقية التي لم تستطع أن تزيف بها حرف:

 

-       هذا ليس إجابة لسؤالي، وأنا لا أستطيع التعامل معك الآن، أنا أعلم أنني قد أخطأت كثيرًا، ولكني لا أستطيع رؤيتك أمامي الآن، لا أستطيع نسيان ما حدث، وعقلي لا يعي كل شيء، أنا موافقة على كل شيء، ولكن اتركني اليوم كي يستطيع عقلي مواكبة ما يحدث، أتوسل إليك يكفي هذا، سأصبح أفضل في الصباح، ولكن ابتعد الآن، مرة واحدة فقط ولن أطلب منك شيء آخر.

 

وجدته يقترب نحوها فاتسعت عينيها بذعر ولم تكترث للألم بقدمها الذي ضرره السطح المعدني الساخن وحاوت أن تبتعد لأي ركن وتخبطت بأثاث الغرفة وقبل أن تتحدث وسط ملامحها المُرتجفة فاتجه لها سريعًا لتقارب هي على إطلاق صرخاتها فهي إلى الآن لم تنس صوت نفسها وهي تصرخ بألم أسفل ما فعله بها وبمجرد أن وضع قبضته على يدها صرخت بالفعل دون أن تشعر بما يحدث لها ولا بما تفعله:

-       ابتعد عني، ابتعد، أنا لا...

 

قام بتكميم فمها بيده الأخرى وصرخ بها هو الآخر دون أن يُفكر بما يقوله:

 

-       أنا أعلم أنكِ لا تطيقيني الآن، وأعلم أنِك لستِ كما أريد، ولن أستطيع أن أغيرك مهما فعلت، وإن طال حبسك بدلًا عن العشرة أيام لعام ستظلين كما أنتِ، ولكن ماذا تريدين مني أن أفعل؟

 

أخفض كف يده عنها عندما توقفت شفتيها على عكس تلك الكلمات والزفرات المرتعدة منها وبمجرد شعوره باستجابتها لبعض الهدوء من حالة هلعها تابع كلماته:

 

-       ماذا تنتظرين أن يفعل رجل مثلي عندما يرى شخص كابن خالتك هذا يقوم بلمسك ويقف أمامك وهو يرى جميع جسدك، ما الذي تريدين مني أفعله؟ أجيبيني؟

 

ملامحه وحدها امتلكت عليها سلطان دفع بها لتعود لحالة من السكون والتفكير، فأن يكون غاضب شيء، وأن يكون غاضب ويحاول أن يبرر أفعاله أمر آخر.. ملامح تعود إلى شهور سابقة وهو يعترف لها أنه يعشقها، المرة الأولى كان راغبًا بها واليوم هو يبدو كالتائه!

 

-       هل تعتقدين أنني لا أعلم من تكونين؟ أم تظنين أنني غبي وأنا على يقين من أنكِ تستحقين شخص آخر أفضل مني.

 

حدق بملامحها التي لم تتخلى عن تصدير الخوف الساكن بداخلها ولكنها هدأت، جيد، الأمر مناسب للحديث الآن.. ليس لأنه يُريد أن يُغير أي شيء ولكن لأنه قد لجأ لكل الوسائل المتاحة بين يده معها فأردف بصدق عاقدًا حاجباه ولانت نبرته عكس الصارخة بغضب منذ لحظات:

 

-       أنتِ لستِ مثلي، لا تستطيعين تقبلي، غير قادرة على فهم ما أريد، أنا أعلم أنكِ حاولتي ولكن ستظلين كما أنتِ، لن تتغيري من أجلي، وأنا أيضًا حاولت كثيرًا ولكن لا أستطيع أن أتغير من أجلك روان، ولكني أحبك، أحبك أكثر من أي شيء في هذه الحياة، ولكني لا أستطيع التغير، لا أستطيع أن أرى امرأة ترفض ما أقول، ولا أستطيع أن أتحمل رؤيتك مع رجل آخر، وأنا على يقين من أنه بمنتهى البساطة أفضل مني بالنسبة لكِ، يستطيع أن يضحك، وخفيف الظل، وله عائلة جيدة، ويذهب إلى عمله، وناجح، وكان يريد الزواج بكِ في يوم ما، ماذا تنتظرين مني أن أفعل وأنا أراكم سويًا؟!

 

لم تتوقع هذا منه، ولم يتوقع هو نفسه أن يستسلم لها بتلك الكلمات، لو كان على العشق فلقد تواجد بالفعل يومًا ما، ولو على الصدق فكلاهما يتحدثان بالصدق في هذه اللحظة، ولو على مشاعر القهر بداخل كلاهما فهي متواجدة، ولكن الواقعية وأن الزواج يختلف عن مجرد علاقات جسدية أو حلم تحلم به فتاة لم تختبر أي علاقات في حياتها السابقة، لا يستطيع أحد منهما بعد التصرف بهذا الوعي!!

 

-       هل تريدين مني أن أقف كالمتفرج واتركه أن يتقرب منكِ ولو بالحديث؟ وتشعرين وقتها أنه شخص جيد، وتندمين على رفضك الزواج منه في يوم ما، وبعد ذلك أشعر أن مشاعرك نحوي قد تغيرت، وبعد ذلك تحاولين تغييري لأصبح مثله لأنك وقتها ستكتشفين أنه أفضل مني في اشياء كثيرة، وستفشلين في تغييري لأنني لا أستطيع أن أتغير في شيء، ولكن وقتها سأكون قد خسرتك للأبد، هل هذا ما تريدين فعله.

 

وجدت ملامحه تتأثر لا تدري غضبًا أم حُزنًا ولكن ما أوقفها عن التنفس هي عينيه الدامعتين، ربما تقف كسيل قارب على تدمير الكثير مما تحاول أن تُسلط عليه تركيزها، هذا ليس بوقت تعاطف لعين معه، لقد كسب تعاطفها آلاف المرات، ولكن الآن لن تسمح له بفعلها!

 

حاول السيطرة على عدم تحكمه فيما يشعر به، وابتلع ذلك السائل المالح المزعج بحنجرته وكان يجب عليه الانتصار بأي طريقة فلقد اكتفى من الخسارة ملايين المرات أمامها وعانى كثيرًا كي يُكمل حديثه لها في خضم النضال الجاري بداخله:

 

-       عندما كنا.

 

لم يعجبه هذه النبرة التي عكست صوت بكائه الوشيك، فابتلع والتفت لثواني كي يحاول السيطرة على نفسه وجفف عينيه بعد أن خسر أمام ما يحدث له وانهزم كالطفل الذي يحارب رجل شجاع لا يهاب شيئًا وزفر زفرة مطولة عكست لهيب معاناته وتشبث بلحظة من السيطرة ثم التفت من جديد لينظر نحوها وهي تطلعه متوجسة من اختلاله فقد يصل إلى أي حد لا تتخيله وارتقبت بمكانها وهي تضم ذراعيها عليها بقوة وهي تظن أنها تحمي نفسها وعقلها بل ومشاعرها من الاستجابة لترهاته لتجده يتحدث لها من جديد:

-       عندما كنا في بداية زواجنا اعتقدت أنني سأكمل كما أنا وسيكون كل شيء كما يحلو لي، ولكن ذلك لم يحدث، وعندما قمت بتجربة الحياة معكِ أصبحت على يقين من أنكِ كثيرة عليّ، ولكن عندما أوشكتِ أن تتركيني وقت قضية الخلع، لا أعلم كيف مرت عليّ هذه الايام، أستطيع أن اتحمل كل شيء، ولكن رجل آخر، مرة أخرى امرأة تتركني من أجل رجل آخر ولكنها هذه المرة تكون زوجتي  وليست مجرد امرأة أحبها، هل تفهمين ما الذي شعرت به يومها؟ أنا أستطيع أن أتحمل رفضك لما أحب، ورفضك لأسلوبي، ولكن أن ترفضيني وتختاري غيري، هل تريدين الوصول بي إلى أن افقد عقلي؟  أليس كذلك؟

 

تمنت لو اخبرته أنه كذلك بالفعل، هل رأته يبكي بالسابق دون أن يثمل؟ لا تجد إجابة على هذا السؤال، ولكنه الآن يتكلم بمنهى المنطقية، لا تفوح منه رائحة الخمر، وهناك ذلك المجرى الدمعي الذي ارتسم على وجنته ولكن بالطبع لم يتركه ليصل لمنتصف وجهه اللعين، لتبكي هي الآن بدلًا منه، ما تراه منه هو الذي يخيفها أكثر من تلك الأقفاص والسلاسل والحبال المُقيدة ليديها والنيران أسفلها.. ساذجة، لكن لن تكون هذه المرة فلقد طفح الكيل بها!

 

اقترب لها وهو يتنهد وتابع بارتجاف بملامحه ثم تكلم بصدق:

 

-       الفتاة النقية التي تبحث عن الحب في أعماقها، ولكونها فتاة جيدة لم تذهب وتعشق شخص دون أن يكون هناك مسمى لتلك العلاقة غير كونهم في علاقة سويَا دون مسميات، وأنا بكل ما فعلته من قذارة أجدها، وتكون نسخة من الملامح التي لطالما تمنيتها طوال عمري، ولكنها نسخة أنقى، وأسهل، وأفضل في كل شيء، هل تعملين كم عدد المرات التي قارنت بها بينكما؟ هل تعلمين كم مرة أخذت أفكر حتى اصبت بألم برأسي من كثرة التفكير في كم انتِ مختلفة عنها؟ حسنًا، هل تعلمين عدد المرات التي حاولت بها إقناع نفسي أنني لا أحبك؟ أتعلمين؟ في كل مرة أحاول أن اقنعك بها بطريقتي أجدك مغصوبة وغير راضية، كل ما أريده أن تكوني موافقة بداخلك، ولكن ذلك لن يحدث ابدًا ولن تستطيعين الوصول إليه.

 

ابتسم ساخرًا من نفسه وحاول أن يحارب رغبته بالبكاء ليتغلب على الأمر في النهاية وتابع مُكملًا:

 

-       انتِ كما تمنيت في كل شيء منذ أن كنت فتى في الجامعة، ما ينقصك فقط أن تقبليني، ولكن لو قبلتيني ستكونين قد محوتِ نفسك، ولو تغيرتي لا أعلم ما الذي يمكن أن يحدث، ولكن ما أعلمه جيدًا أنكِ وقتها لن تكونين المرأة التي أحببتها، إن كان من المستحيل عليّ أن اتغير طوال حياتي فأنتِ الموت أهون بالنسبة إليكِ من أن تصبحين امرأة أخرى، روان أنا أفهم وأرى كل ذلك، لقد كنت سعيدًا وأنتِ تتألمين لأنني رجل سادي وهذا هو أسلوبي الذي وصل لدرجة أن أؤلمك بنفس الألم الذي شعرت به منذ سنوات، كنت سعيدًا بما لم أفعله بأحد غيرك أنتِ، ولكنني بمجرد أن أرى ملامحك الخائفة، والرافضة لكل ما أفعله، ولمشاعرك التي تتغير  بعدها لا أرى غير أنكِ ستتركينني، أنا لا أتحدث معك الآن لأنني أشعر بالندم لما فعلته معكِ، فعندما أفكر في احتمالية بُعدك عني أفقد عقلي، فأنا لا أريد أن أحيا بدونك.

 

كلماته المشتتة، ها هي، الكلمات أفضل من أن تكون مُقيدة، حسنًا هذا أسهل بكثير لكي تتعامل معه، ربما عليها أن تقتنص هذه الفرصة، هو يُحب أن يراها تتألم؟ لأنه سا دي مختل، حسنًا، هي تبكي الآن، ألا يُكفيه هذا؟! ألا يجعله يشعر بالفرحة؟ نوبة من النحيب الذي لا تتوقف خلاله دموعها عن الانهمار كشلال لن يصمد بطريقه جبل راسخ، هل هو سعيد الآن؟

 

لن تكتفي بهذا، بل ستحتال عليه بما يُريد أن يستمع له بملامحه التي تتوسل لعدة كلمات منها، وستفاجئه بما لم يتوقعه، ها هي ستحاول أن تصبح نسخة ثانية منه لعلها تفلح:

-       حسنًا، بعد كل ذلك انا أيضًا أحبك، ولكنني لا أجد حلًا لكل ذلك، وصدقني من المستحيل أن أفكر في شخص آخر و...

 

-       أنتِ لن تفكرين لأنكِ لست كذلك، ولكنك ستجدين نفسك دون أن تشعري تفكرين، لأنه يوجد ملايين الرجال غيري ستجدينهم أفضل مني.

 

 

قاطعها بصراخ أرهبها لتحاول أن تنظم أنفاسها بين شهقاتها وبادلته النظرات ليشعر وكأنه سيبكي هو الآخر ولكنه سيطر على نفسه بأعجوبة ليجدها تهمس له بنحيب لم تستطع أن توقفه:

 

-       حسنًا، وما الذي سنفعله في كل ذلك؟

 

أخفاها بإجبار في عناق ألمها بشدة عندما تلمسها بذراعيه مكان تلك الجروح بظهرها قبل أن تراه يبكي ثم أجاب بصوت يعاني كي يبدو تلقائيًا واجابها بتنهيدة حارة دفعتها وحدها للبكاء:

 

-       لا أعلم لا توجد لدي أي فكرة.

 

بدأ ينتبه لما يفعله فأبعد لمساته عن مكان جروحها وأخفضها لخصرها بينما شعر بتشنجات جسدها فلم يستطع الابتعاد عنها ولم يقوى على منع نفسه من البكاء وهي لا تراه، ولسوء حظها يستحيل أن تكذب هذه النبضات التي لم يتصور عقلها كيف يتحمل صدره احتوائها فلو كان كاذبًا لم يكن ليشعر بذلك، ومن كلماته هو ليس بنادم على ما فعله، ولكنه خائف من أن تتركه، هل هذه هي اللحظة الوحيدة التي قد تنجح بها معه؟ هل هذا ما ود أن يصل له منذ البداية؟ ربما تكون المحاولة الأخيرة الفارقة، وقد تستعيده من هذه النيران التي تلتهمه منذ أن كان طفل صغير، ستعاني وقتها بشدة لكي تنسى تلك الإهانة ولكن قد تكون هذه هي الفرصة المناسبة وقد تندم لاحقًا.. ربما توسلها قد يفلح معه هذه المرة ولن تشير إلى أنه مريض، فقط ستحاول أن تبدو مذنبة من أجله!

 

ازداد بكائها بشدة ثم صاحت به في حالة من الهلع التام الذي نجحت به ببراعة، فمن يمر بكل هذا ولا يستطيع تزييف القليل سيكون غبي بالتأكيد:

 

-       حسنًا، لماذا لا نبحث عن حل؟ انا لا أريد أن ابتعد عنك فأنا أحبك أكثر مما تحبني أنت، أنت تمتلك أشياء كثيرة ظللت ابحث عنها طوال عمري، فأنا كنت أحلم دومًا أن يحبني إنسان ويتمسك بي مثلك، ما ينقصنا فقط هو أن نقوم بحل خلافاتنا سويًا، ما رأيك أن نحاول هذه المرة؟ نذهب لشخص متخصص في الاستشارات الزوجية، حتى لو كان خارج مصر، لا أحد هناك سيعلم من نحن، أنا على استعداد للذهاب معك في أي مكان تقوم باختياره، لعلنا نجد الحل هناك، من الممكن أن تكون أصبحت هذا الشخص الذي لا أعلم كيف يمكنني التعامل معه بسبب أشياء كثيرة لا ذنب لك بها، عدني عمر أن نذهب إن كنت تخشى بالفعل أن تفشل علاقتنا أكثر من ذلك، حاول أن تفعل ما يرضيني ولو لمرة واحدة فقط لعَلّنيِ أكون على صواب وهذا ما يجعلنا نستطيع فهم بعضنا البعض.

 

بالرغم من ارتجاف جسدها وبُكائها وتلك النبرة المتوسلة بها إلا أنها استطاعت أن توقفه عن بُكائه الذي حاول أن يخفيه ويمحيه بأنامل يده واعطاه المقدرة على أن يواجه وجهها وكأن ضعفها وبكائها هو أكثر ما يدفعه للشعور بالاتزان وخصوصًا أنه حقيقي للغاية هذه المرة، لدرجة أنه بات يحدق لعينيها مباشرة وهو يُمسك بكتفيها وحدثها بانزعاج:

 

-       أتمزحين معي؟  هل تتخيلين أن أفضل شخص في ذلك المجال يستطيع أن يجعلنا نفهم بعضنا البعض؟ ها أنا ذا أفهمك جيدًا، عرفتكِ وقمت بحفظ كل شيء متعلق بك، المشكلة ليست في اختلافاتنا ولكن المشكلة تكمن في أنني رجل لا أقبل سوى بأشياء معينة، لو كان الأمر يتعلق بكوني أستطيع أن أفهمك فذلك شيء يسير، ولو كان الحل في أن أتغير فلقد فعلتها من قبل، المشكلة أنني لم أصبح سعيدًا وقتها، هل تعانين من خلل في عقلك لكي ترسليني لرجل او امرأة لكي يقومون بتعليمي كيف أفهم زوجتي؟ إن كنت لا أفهمك فكيف يمكنني أن أطلق على نفسي لقب زوجك أو حبيبك، هل يمكن لشخص أن يحب أحد دون أن يفهمه؟ فنحن لو ذهبنا لألف شخص وشخص سواء في مصر أو في الخارج لن يستطيعوا مساعدتنا دون أن يتقبل أحدنا شخصية الآخر ويعلم كيف يمكنه التعامل معها، هل ستستطيعين أن تنفذي جميع أوامري؟ هل هذا ما تودين سماعه من طبيب لن نستطيع أخذ موعد معه سوى قبلها بأسابيع لكي يستطيع حل مشكلاتنا،  ها أنا قد وفرت عليكِ كل ذلك الوقت، وها انا أوفر على تفسي أيضًا وأقول لكِ أنني لا أريدك أن تتغيري وفي نفس الوقت لا أريدك أن تظلي كما أنتِ، لا يستطيع الأطباء أو علم النفس أو أي شيء في هذه الحياة أن يغيرنا دون أن نفكر نحن في ذلك من البداية ونرى ما الذي يريده كل منا وما الذي يستطيع تحمله، هل تريدين مني أن اجلس واستمع لأناس يقومون بإقناعي بأفكار خيالية،  وأنا الذي أستطيع إقناع قضاة ومستشارين بأن القاتل بريء؟ فنحن وبمجرد ابتعادنا عن ما أحب وعن تلك الغرفة خاصتي تكونين رائعة لا يوجد ما ينقصكِ، ولكننا نعود وندور في نفس الدائرة مرة أخرى، عندما اشتاق لذلك الرجل الذي تحاولين تغييره بداخلي وهو لا يستطيع ذلك.

 

أترى؟ كل محاولة معه طريق مسدود، ليس هناك حد لتبريره، وليس هناك من هو أكثر تشبثًا منه برؤيته للأمور، ولم يعد هناك امرأة مثلها أحبطت محاولاتها لمرات ومرات، كما أنه لن يكون هناك من أكثر منها كذبًا وتزييفًا لكل شيء حتى تستطيع الفرار من رجل يرى الخطأ خطئًا ويتمادى به:

-       حسنًا، ما هو الحل من وجهة نظرك عمر؟ ما دمت لا تريدني أن أتغير ولا تريدني كما انا، وأنا لا أستطيع تنفيذ أوامرك كما تقول.

 

تفقدها بحيرة حقيقية لمعت بعينيه ثم اقترب منها وعانقها لاحتياجه هو لهذا العناق وليس العكس واجابها متنهدًا:

-       لا أعلم ما هو الحل ولكنني أثق في اننا سنكون بخير وكل شيء سيصبح على ما يرام أنا على يقين من ذلك.

 

--

ظهرًا اليوم التالي..

 

لم تستطع سوى أن تمكث بجانبه ساعة واحدة إلى أن ذهب في ثبات عميق، كان عليها أن تنتبه لكيلا يأتي جنين جديد ويتدخل فيما بينهما، تناولت دوائها وفكرت مليًا بكل كلماته صباح اليوم ثم تيقنت أنها لطالما ستكون ضعيفة أمام كلماته ومشاعره، ربما كان الأمر للحظة وملامحه تعاني آثار البُكاء، ما زالت تجد في طيات كيانها هذا التعاطف اللعين مع طفل ورجل وشاب عانى الكثير، ولكن هناك اختلاف، لو كان بالسابق التعاطف كلي فاليوم هو جزئي، أثره لم يدم سوى للحظات وتلاشى في ثواني..

 

دخلت الحمام ثم تركت المياه لتعمل وهي تغلق عليها الباب وستبرر أنها خائفة منه لو آتى، ثم اتصلت بـ "علا" من هذا الهاتف الاحتياطي الذي تخفيه وبمجرد اجابتها على الهاتف تحدثت بخفوت ولم تترك جزء من الثانية ليمر في الثرثرة:

 

-       علا هذه أنا روان، استمعي لحديثي جيدًا دون أن تسأليني عن شيء.

 

انتظرت لإشارة واحدة منها فتحدثت الأخرى قائلة:

 

-       بالطبع، تفضلي.

 

زفرت بتوتر ثم تحدثت بلهجة آمرة:

 

-       أريدك أن تبحثين عن ذلك الجهاز الذي يقطع الحديد هذا الذي يخرج لهيب عند تشغيله، من الممكن أن تسألين السائق، أو موظفي الخدمات، أو الصيانة، من المؤكد أنهم يعلمون أين يباع، انفقي كما تريدين، أريده صغير الحجم وخفيف قدر المستطاع، ضعيه في علبة كبيرة الحجم وكأنه هدية، وقومي بتغطيته بتلك الأشياء التي توضع فوق الهدايا، وضعي فوقه بعض الكتب للشعر القديم اليوناني، والروماني، وكأنكِ ستقدمينها هدية لأحدهم، قومي بتجهيز هذه الأشياء وضعيها في مكان خارج الشركة، وعندما أحدثك قومي بإرسالها مع السائق، ومعها جميع الأوراق التي تحتاج إلى توقيعي، لا تخبري أحد بشيء عن ذلك، أنا لن أستطيع أن أحدثك أكثر من ذلك، معكِ أسبوع كحد أقصى لتقومي بتجهيز كل شيء، ولو استطعتي تجهيزهم قبل ذلك يكون أفضل، إلى اللقاء.

 

لن تترك نفسها لمزيد من الاحتمالات والتخمينات معه، على الخطة المحكمة أن تظل محكمة للنهاية، ووقت استلامها لهذا الجهاز الذي لا تدري هل ستحتاجه أم لا سيسهل لها الأمر في الإفلات بكل ما تجده بهذه الخزينة، تتمنى فقط أنه سيكون كافيًا لفعل ما تريده، وها هي تضع جميع الحلول أمامها لكيلا يوقفها شيء..

 

لو استطاعت أن تتغلب على المشاعر بداخلها، وتتنازل عن حُلمها برجل تعشقه، تتأكد أنها تستطيع فعل أي أمر في الحياة حتى ولو كان مستحيل، فلقد علمها أنه بمنتهى السهولة يُمكنه أن يُعطيها ما انتظرت لأجله سنوات وفقط بأيام قليلة يستطيع أن يجعل نفسه في عينيها أسوأ الرجال وهو يطأ بما تحمله له من عشق أسفل حذائه.. وهذه المرة لن ينتهي الأمر بعد سقوط اقنعته اللعينة إلا كما يحلو لها، ولن تسمح سوى بغير ذلك!!

  --

لقد هدأ من جنونه – مؤقتًا – كما هي عادته، وأخذته المشاعر والعشق وأنها فتاة أحلامه وكل هذه الترهات التي اعتادت أن تستمع لها.. وكما أكد لها صباح اليوم أنها لو تغيرت بالكامل لن تكون هي.. لذا الخليط الكاذب لطالما خدع الأعين بكل ما تشتهيه النفوس..

 

الهاتف عاد إلى مكانه، هي تبدو رائعة الجمال بالرغم من تلك النظرة الباهتة بعينيها، القليل من مساحيق التجميل تفتنه، لقد جربت هذا، كما أن الثوب مكشوف الظهر الذي يضعها في مكان بين الأنثى الفاتنة والمرأة اللعوب والفتاة المرحة سيؤتي بثماره، رائحتها الأخاذة وشعرها الذي أعطت له عناية مُكثفة حتى أصبح يتدلى كما شاء يزيدها أنوثة وهو بما فعله وبتلك النظرات التي رأتها في الغرفة منه تعلم أنه يرغب بها..

 

صعب للغاية أن يتعامل الإنسان بمكرٍ وخبث مع شخص لا يعرفه تمام المعرفة، وهذا ما قد يستحق هو جائزة عليه، بس الأسهل أن تختال على من تعرفه، وبعد علاقة متكاملة دامت لما يقارب عشر شهور مرا بها سويًا بالكثير، التأثير سيكون أصعب عليه.. تقسم أنها ستنتقم منه بمجرد حصولها على ما يؤهلها للفرار للأبد..

 

تمرنت على ملامحها وتعابيرها بالمرآة حتى باتت مقنعة، هناك الكثير من الثقة بداخلها هذه المرة، وأن تنهار كما ليلة أمس لم يعد بأمر مقبول، لا من أجل نفسيتها وثباتها العقلي، ولا من أجل خطتها!

 

اتجهت للغرفة الأخرى التي تركته بها بعد أن اعدت له طعام ودست به الأدوية من جديد، ما زال نائمًا، هل هذا من مجهوده الشديد في اهانتها له، يا له من وغد مسكين مُتعب من شدة بطشه.. لم لا تنقطع أنفاسه أثناء نومه وتتخلص منه، لا لا يمكن أن يحدث هذا، ستكون هذه رحمة له!

 

-       عمر..

 

نادته بنبرة لا تدعي بها شيء، تلقائية، بعيدة كل البُعد عن افتعال أي شيء، عليها أن تحصل على مزاجه المعتدل المتبقي قبل أن يُصاب بأي نوبة لعينة تفسد ما تخطط له منذ شهور معه، لا هي مستعدة لاكتئابه ولا لهوسه، ولن تقوم بوضع الأدوية له بطعامه سوى فقط لتوقف جنونه وبعدها ستهرب منه للأبد..

 

-       عمر، ألن تستيقظ؟

 

حدثته من جديد بينما وجدته لا يستجيب لشيء فتنهدت لتلتفت لكي تبتعد ولكنها اوقفها بجذبه ليدها وفتح عينيه بإرهاق وهو يتفقدها بلهفة ليرى تلك القماشة الرقيقة تهبط على ذراعها فكشفت المزيد من نهـ دها ليحدق بها وهي تبدو مثالية الملامح والجسد بعينيه وابتلع صامتًا وهو يحاول أن يزيل اثار النوم من على وجهه فسألته بعفوية دون أن تبدو وكأنها ساذجة نست ما حدث وتبتسم له ودون أن تتشبث بحزنها وانكسارها:

 

-       ألن تستيقظ وتتناول إفطارك؟ لقد تعدت الساعة الواحدة.

 

دفعها من يدها ليُجلسها رغمًا عنها على طرف الفراش بجانبه ثم استمر في النظر لها بنُعاس وأخبرها بنبرة ما زالت تحتوي أثار نومه:

-       صباحُ الخير

 

تفقدته دون مبالغة في أي مشاعر ثم عقبت:

-       صباحُ الخير..

 

مرر سبابته على ذراعها ولكن بعد أن بدأ من كف يديها صعودًا إلى الأعلى وهو يتابع اصبعه المتأني بلمساته ثم توقف حيث نظر منذ قليل وحدثها برغبة وهمسٍ كان ليخجلها بالسابق ولكنها تغيرت كثيرًا الآن بعد ما رأت اقنعته بالكامل تسقط ولم يعد وجهه الحقيقي يُمثل سوى الجنون الخالص:

 

-       إفطار ماذا وأنتِ بذلك الجمال؟ إن كنتِ تريدينني أن اتناول الإفطار فسوف أتناولكِ أنتِ وليس بعض الطعام.

 

ابتلع وهو يحدق بها بنظرات راغبة ولم يسمح لعقله اللعين بالتدخل وفرض التخمينات، هو لا يحتاج سوى لنوبة من الهدوء إلى أجل غير مسمى معها بين ذراعيها ولينسى كل ما مر عليهما بتلك الأيام السابقة..

 

اخفض من جسده ثم وضع رأسه فوق ساقيها وأغمض عينيه وهو يحاوط خصرها ومن جديد تجد منه تصرف مميز، حميمي، وأمر قد كان ليجعلها تعشق اقترابه، فانتظرت مترقبة دون أن تنخدع بفعلته وسرعان ما وضعت يدها بشعره الطويل لتمررها بهدوء وعقبت قائلة وهي تحاول أن تكون ذكية قدر الإمكان، فهي لا تريد أن تصبح كما يحلو له لأنه لن يُصدق فورًا، ولا كما يحلو لها لأنها وقتها عليها أن تبكي وتبتعد عنه، بل ستكون نسخة جديدة عليها هي نفسها وتتمنى أن يتقبلها هو الآخر:

 

-       لا أعلم هل سيكون ذلك مناسب الآن أم لا، أنا لا أريد أن أرفض، ولكني لا أعلم آن كنت سأستطيع، إن استطعت أن تنسيني ما حدث يمكنك فعل ما يحلو لك، لن أقوم بمنعك.

 

القليل من التلاعب بمقدرته أمام النساء قد لمس غروره، لقد أحرزت هدفًا ولكنها لا تعلم ذلك بعد، لم يصدر منه إجابة ولا تعقيب غير تحركات وجهه المنعكسة على ساقيها.. ودون المزيد من كلماته تدخل بمكره وهو يرفع ثوبها الذي لم يكن طويل على كل حال، ومرة ثانية اكتفى بذلك الإحساس الغريب الذي يشعر به بالقرب منها..

 

دقائق مرت ولم يتحرك أي منهما، لا هي تتوقف عن العبث بخصلاته وهو لا يتوقف عن عناقه والتنعم بهذا الهدوء وهو يتخلص من ألم رأسه وكأنها بلمستها له توقف عقله عن العمل.. ليته يتوقف للأبد!! سيبرأ هو وستشعر هي بالراحة للأبد!!

 

اعتدل بجسده لتصبح رأسه مستقرة على قدميها ورفع نظراته الناعسة بالرغبة مسلطة نحوها لتدرك أن هذه النظرة تحديدًا التي تبعث بعقلها أنها أجمل نساء الكون هي واحدة من الأسباب التي جعلتها تعشقه وتسمح له بالكثير مما أزهق روحها مرارًا بداخلها ولم تتوقف عن تمرير يدها برأسه وسألها بابتسامة متواضعة وهو يرفع حاجبه بتحدي:

 

-       أستطيع أن أنسيكِ؟ هل ذلك سؤال؟

 

هزت كتفيها وملامحها ما زالت عفوية واجابته بمنطقية:

 

-       طريقتك، أسلوبك،  الغرفة، وانا أرفض، وأبكي طوال الليل، وتعدني أن ذلك لن يتكرر ثانية، وتقترب مني وأحبك،  وتعود لنقطة البداية مرة أخرى، وندور معًا في نفس الدائرة التي لا تنتهي، أعتقد أننا حاولنا أن نبتعد عن بعضنا البعض، وننفصل، ولكن ذلك لم يحدث، ولم نستطع الابتعاد، لم أعد أعلم ماذا يمكنني أن أفعل، أنا أشعر أنني قد تغيرت كثيرًا بعد ما حدث في الأيام الماضية، ولكني لا أستطيع أن أحدد هل تغيرت لأصبح كما يحلو لك، أم تغيرت لأنني حزينة مما حدث منك ولا أري أن ذلك الحزن سيذهب مهما حدث، حتى لو استطعت أن تعوضني عما فعلته بشهرين كاملين تجعلني بهما أشغر بتلك الأشياء الجيدة التي جعلتني أشعر بها من قبل.

 

لوهلة بداخله راهن أن عشرة أيام ستكون كفيلة بأن يُنسيها ما حدث، ولكنه لأول مرة أمامها يكون غبي، فعقب مُزايدًا وهو يضيق عينيه نحوها:

-       شهران ونصف؟!

 

حدقته باستنكار وزمت شفتيها وأطلقت تنهيدة وهي لا تصدق اجابته حقًا بينما كرر الأمر:

 

-       ثلاثة أشهر وسنسافر ولن ندخل الغرفة لمدة شهرين من الثلاثة.

 

  قلبت عينيها بنفاذ صبر ليبتسم وهو يقول:

 

-       أربعة أشهر وسأفعل كل ما يحلو لكِ، وسأجعلك تصدقين أن عمر الجندي هو أحسن رجل في هذه الحياة.

 

ضيقت عينيها نحوه وأومأت بالرفض ليتابع بلهفة مازحًا:

 

-       حسنا، هناك عرض رائع، سأتركك لمدة شهرين وكل منا يمكث في منزل غير الآخر، تفعلين ما يحلو لكِ وتعودين إليّ دون حدوث علاقات أو رجال آخرون غيري، هل اتفقنا؟

 

أطلقت زفرة مستنكرة لكلماته وتقززت ملامحها ليزفر بإرهاق ثم اخفض جسده لأسفل الفراش الوثير وهو يتخلص مما يخفي جسدها عنه ثم حدثها قائلًا:

 

-       حسنًا، كل العروض السابقة لم تعد موجودة، فانا لا أستطيع الابتعاد عنكِ لمدة يومين فقط وليس شهرين، ولتكوني على يقين أنكِ في أقل من شهرين ستعودين كسابق عهدك قطتي وستجربين ذلك بنفسك.

 

لم يعد أمامها سوى أن تقنعه مؤقتًا أنها المرأة التي تعشقه وتريد المحاولة من أجله، الغرفة، تقبل طريقته ثم ممارسة علاقات جسدية متوالية ثم العودة للغرفة من جديد، من تاريخ كامل معه تعرف أن هذا ما ينتظرها، من لم يتعلم من تجاربه فهو غبي، ولقد كانت هي غبية بما فيه الكفاية!

 

هو نفسه، بنفس لمساته التي لا تتغير، بنفس تأنيه عندما يكون في مزاج يقبل لهذا، هل يواسيها بعلاقة حميمة؟ هل يظن ان ما فعله معها ستنساه بعد ملايين العلاقات الحميمة؟ غبي وبشدة!

 

نعم تستجيب، هي لا تنكر الأمر، وبعد كل ما عرفته سواء من مختص أو غيره هو يمتاز بهذا، لديه القدرة بعدة لمسات وهمس متأجج بالرغبة أن يتحكم في الكثير، ولكن هذه المرة يستحيل أن يتحكم في عقلها..

 

لا تصدق أنها هذه المرة تحاول أن تتابع الساعة بعينيها كلما أتيحت لها الفرصة، وتأنيه هذه المرة ورقته الشديدة كانت لتقنعها منذ ستة شهور أو سبعة شهور بأنه يحبها ومنجذب لها ولن يعود كالسابق، أمّا الآن فلم يعد هناك ما يجعلها تصدقه..

 

-       هل اقتربتِ من النسيان؟

 

همس بأذنها بنبرة خالطها المزاح نوعًا ما بينما اتقدت هي لأفعاله، لا تعرف مجبورة أم خادعة له، فاكتفت بالهمهمة بين ذراعيه وأنفاسه الدافئة المتثاقلة لكيلا يُلاحظ كم تكره لمسته وتتمنى لو تبتر يده للأبد..

 

الدقائق تمر، وتزداد استجابتها، ويزداد عقلها تصميمًا أن كل ما يحدث لن يُغير بها شيء، أن يتم الأمر بهذه الطريقة أفضل من أن يتم وهي راكعة وتستمع لكلمات مُهينة، أو أن تحرق السخونة باطن قدمها، أو ربما يزداد ظهرها جروحًا وهي تصرخ وتبكي وتتوسل، أن تصرخ بالرغبة أهون آلاف المرات من أن تصرخ من الألم.. لم يعد هناك سوى أسبوعان على اقصى تقدير وعليها أن تقنعه بما تريده باحترافية!

 

تلاحظ محاولاته في تجنب تلك الجروح على ظهرها، تفهم مليًا لما هو متأني هذه المرة، تعرف جيدًا أنه يستند على التقارب والحميمية في الاقتراب أولًا، لقد باتت خبيرة بـ "عمر الجندي" بكل تصرفاته، تتذكر يومًا ما أن أول محاولة اغتـ صاب بينهما تبعها عشاء رومانسي ورقص وتعارف.. لابد من أن هذه المرة ستكون رائعة فيما بينهما!

 

لثمات تجعلها تتقد والمزيد من تأنيه يترك بأعماق روحها البشرية تمني أنه يستمر هكذا للأبد وأن يكون بنفس الطريقة منذ أن تزوجته، ثم تفيق نفسها على الحقيقة، ومن جديد تدخل بدوامة من الصراع، وكلما مر الوقت يزيدها تصلبًا برأيها وبما تريد أن تصل له، لابد من أن تهرب للأبد فكل شيء معه مخزي ومهين ومرهق.. علاقة مستنزفة لن يُصلها العشق ولن يصلها براعته في الفراش..

 

عانق نهـ ديها بكفي يديه وهي تتنفس بلهاث راغبة في المزيد، اغمضت عينيها لكيلا يقرأ بهما كم تريد أن تنتهي من أمره، ربما يتصرف جسدها طبقًا لما فكرت به أو استجابة له، ولكن عقلها يأبى الخضوع للأمر..

 

-       هل يعجبك ما أفعله؟

 

همسه واسئلته اللعينة التي لو غابت ستفهم أن هناك أمر خاطئ، فهمهمت وهي تهزر رأسها بالموافقة، فلم يتوقف عن المزيد من ترهاته المُشتتة لعقلها وهو يتكلم بنبرة اذابتها بين يديه:

 

-       الشيء الوحيد الذي لم يشكل لنا مشكلة من قبل كوني واثقة أنه لن يتغير مهما حدث.

 

ابتلعت وهي تحاول أن تحصل على وتيرة منتظمة من أنفاسها والتفتت إليه بأعين غابت بالرغبة ثم قبلته على الفور لتُخرسه عن المزيد من الكلمات التي لا تريد أن تستمع لها، يُكفيها ما ألحقه بجسدها من هيمنة واستجابة، لم يعد هناك المزيد سوى أن تثبت له أنها توافق على العلاقة الجسدية بينهما لأنها كانت بالسابق لا تفعلها ولا تريده أن يلمسها، ربما ستفلح الحيلة هذه المرة!

 

هو محق، هذا هو الأمر الوحيد الذي سيظل بخير، بهذا التآلف والتناغم لن تفسد علاقتهما الجسدية قط ولو بعد آلاف السنوات، ليت التآلف والتناغم في الأفكار وليس فقط في الفراش معه!!

 

تلقائية شديدة في تحركاتهما واستجابة من كليهما للرغبة المحمومة التي لم تشعر بها قط لسواه، ولم يختبرها هو سوى معها، وبالرغم من كل ما فكرت به وجدت نفسها هذه المرة هي من تقودهما ليصلا للقاء المحتوم حتى تنتهي هذه الجحيم بخمود من صرخاتهما وهما يبحثان عن الخلاص..

 

-       انتظري قليلًا.

 

همسه بين قبلاتهما لم يلق أي من تقبلها فأومأت بالإنكار وهي تتخلص من بقية ملابسه التي تحول بينهما وعقبت بلهاثٍ وهي تتفقده بتوسل:

 

-       لن أستطيع فلقد ظللنا لأكثر من شهرين لم نقترب من بعضنا البعض.

 

أطبق أسنانه وهو يتفقدها بولهٍ شديد ولم يجد بداخله القدرة على أن يمنعها، فلو كانت هي وصلت لهذا الحد فلقد وصل هو له منذ أيام بالفعل وهو يراها أمامه ولا يستطيع أن يمسها ولو لمرة واحدة عابرة!

 

ثواني قليلة مرت وهي تعتليه وتعانق خصره، عدة تحركات قليلة لم تستمر ولو لدقيقة واحدة، وأنفاسه المحمومة التي تنعكس على بشرتها بصحبة يديه المعانقتين لخصرها كان كفيلًا لطبيعة جسدية بحتة تم تهيئها لما يقارب ساعة من المداعبات بأن ترتجف بشدة!

 

خارت قواها وهي تلتقط أنفاسها وبالكاد استندت على عنقه لتستمع لهمهمته المنزعجة، وتبعها فورًا تلك التحركات منه برفضه في التوقف، ولكن الأمر غريب هذه المرة ووجهه قد دفن بما أسفل عنقها، وكأنه يأبى كل ما عهدته عليه، كل مرة لعينة معه هناك أمر جديد يفاجئها به، ولكن مهما حدث ومهما اكتشفت لم يعد هناك بعقلها ما يدفعها للموافقة أن تستمر مع رجل مختل مثله!

 

وجدته يرفع احدى يديه ليحتوي جانب وجهها ويحصل على عينيها لتلاقي خاصتيه الناعسة بحميمٍ لم يخمد بعد للمزيد منها، استمر في الأمر وهو يُعدل من جسدها قليلًا لتسهل له الحصول على تلك الدفعات بيسر، ولكنها تعجبت من تركه لها أن تستمر في نفس مكانها، تعتليه، وبأقل حركة ستكون هي المتحكمة..

 

-       أنا لا أريد خسارتك لأي سبب أو لأي أحد، هل تفهمين ذلك؟

 

أومأت له بالموافقة وهمست مُعقبة وهي تدفن وجهه من جديد تقربه إليها حتى تفترق ملامحهما ولا يُلاحظ أي تزييف أو كذب بعينيها:

-       أتفهمين؟

 

تدخلت أصابعه بخصلاتها، تسمعه يهمس لها بكلمات يعترف خلالها بعشقه لها، واستجابت هي لجولة أخرى، ليدفعها مكرها الذي تعلمته على يده باحتوائه بلمسات لم تترك المساحة ولا الفرصة له سوى بالاستجابة للمزيد من الاثارة ولم تمر سوى دقائق قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة إلى أن شعر كلاهما بالخلاص، وصراخه المكتوم كان كل ما انساب لأذنيها لدرجة لم تشعر بما تفعله هي الأخرى..

 

شهر متبوع بيومين من جنون وعذاب وإهانة ومجرد علاقة حميمة معه تجعلها تكره نفسها بعد أن تمنت بينها وبين نفسها لو كان الأمر بينهما هكذا منذ البداية إلى النهاية دون سا دية ولا اختلال ولا إهانة! ولكن هي مجرد أمنية وستتلاشى عن قريب عندما تلمح ظهرها المتضرر في المرآة، لم تجد بداخلها سوى مجرد مشاعر مختلطة بين القهر وبين يقينها أن ما حصل عليه منها منذ أول مرة أقرت بنفسها أنها تعشقه، لن تستطيع أبدًا أن تعوضها ولا تختبرها مع أي رجل آخر، لتكره أن الانسان الوحيد التي ظنت أنها ستنجح معه في الحياة وفي العشق وفي ذلك الطريق الذي تمنته وحلمت به يومًا ما وهي مجرد فتاة قد وصل بهما الحال إلى ذلك.. يمكر هو مرات وتمكر هي مرة وتتمنى أن تنجح لأنها المحاولة الأخيرة لها بالحصول على فرار أبدي منه!

 

دفعته للخلف قليلًا بعد أن هدأت أنفاسهما ونظرت له لتجده يبكي فهمست متعجبة:

-       لماذا تبكي الآن؟

 

وجدته يبتسم وهو يريح ظهره للخلف ونظر لها بمكر بين تلك الدموع القليلة على وجهه ثم سألها بهدوء:

-       وانتِ أيضًا لماذا تبكين؟

 

اندهشت من سؤاله ثم تلمست وجهها لتجده مُحقًا فارتبكت بشدة وهزت كتفيها وهي تتلعثم قائلة:

-        

-       لا أعلم، أنا لم أشعر أنني أبكي، لا أعلم، ما الذي حدث؟

 

ضحك رغمًا عنه من تلك الحالة التي تنتابها كل مرة لا تعرف بها شيء وتختبرها لأول مرة ليجذبها إليه معانقًا إياها وقبل مُقدمة رأسها واتجهت بتلقائية لتريح رأسها على صدره وهي لا تتمنى أكثر من قتله بيديها ليخبرها بهدوء:

 

-       هو أمر علمي بحت، الهرمونات تؤثر على المشاعر، على ما أعتقد أنه يوجد هرمون آخر غير الدوبامين يدعى أوكسيتوسين وهو ما يطلق عليه هرمون الحب، أعتقد هذا ما حدث لنا لعدم اقترابنا طوال تلك المدة لقد قرأت عن ذلك الأمر أكثر من مرة ولكنه غريب هذه المرة.

 

رفعت عينيها نحوه ثم سألته بعفوية:

-       ما هو الغريب؟

 

اخفض بصره إليها وهي ممددة فوق جسده ثم تنهد مُجيبًا حائرًا فيما أدركه بالفعل:

 

-       هذا الأمر يحدث لشخص واحد فقط وعلى فترات متباعدة ممكن مرتين أو ثلاثة طوال العمر، وليس للاثنين سويًا في نفس الوقت، إلى أين يمكننا أن نصل أكثر من ذلك روان.

 

الماضي بكل ما فيه، هذا الرجل الداعر الذي يجبرك على تتبعه مهما بلغت حيلتك، وتلك المشاعر التي تسيطر على الواقع كما العاهرة المخضرمة، فالماضي بات يقود كلاهما لطريق مختلف ليس هناك بينهما نقطة التقاء سوى نقطة واحدة فقط.. وكلاهما يلتقيان بها الآن!

 

هو يهيم بها عشقًا لدرجة باتت غير قابلة للفهم بعقله بعد كل ما تعلمه من ماضيه، ومشاعره تدفعه في النهاية كل مرة بأن يفعل لها كل ما يحلو لها..

 

أمّا هي فماضيها معه تمامًا كرجل داعر اذاقها الذل والإهانة، دفع مشاعرها أن تحتد بداخلها حد الجنون ولكنها تعلم أن الصواب هو أن تقتلها كلما انبعثت بها وثارت كالبركان.. لم يعد هناك ما يصلح سوى أن تفعل ما يحلو للصواب..

 

فلو بكت هي من ألم الماضي، بكى هو الآخر من ألم ماضيه بفقدان نفسه لسنواتٍ مُرهقة، أعوام من ظلامٍ دامس ولم يُصدق في النهاية أن ضياء النهار سيتجلى بسمائه الدامسة!! بكائها كان حُزنًا وألمًا وبكائه كان عشقًا.. كل منهما أصبح يسلك طريقًا مختلف..

 

فطريق العشق الحقيقي ليس مُهيأ للألم سوى كعثرة وبعدها يتلاشى بعد التغلب عليه.. أمّا طريق الألم فهو الأصعب، العشق الحقيقي به منعدم، العشق ليس بألم، ربما لوقت قليل وبعدها سيتلاشى بعد أن تتغلب هي عليه.. ولقد اختارت أن تسلكه للفرار منه واختار هو أن يسلك طريقه للفرار من ماضيه!!  كل منهما يحارب حربًا لا يعلم عنها الآخر شيء، ولكن الواقع لا يستجيب للعشق، الواقع يستجيب للصواب دائمًا وأبدًا!

 

اختلفت نظراته لتصبح جدية متفحصة بملامحها وشرد بها لوقت كاد أن يُربكها فحاولت النهوض بينما منعها وهو يُدرك بداخله أن الاقتراب منها بات يتحكم بمجرد جسده، ورغباته، بل وحياته بأكملها لتدفعه للبكاء وقتما شاءت، وتعبث بمشاعره بمنتهى الهدوء كيفما يحلو لها!

 

انعقد لسانه لوهلة وثم تأثرت ملامحه لترى عقدة حاجبيه وقبل أن تنطق بحرف أخبرها بجدية:

 

-       لقد وجدت أبي عندنا في المنزل بالأمس.

 

اندهشت ملامحها وسرعان ما ارتبكت وسألته:

-       هل علم أننا كنا في..

-       لا أعلم.

 

قاطعها سريعًا لتختلط مشاعرها بداخلها، ثم سرعان ما عاد لها صوت عقلها، ماذا لو علم والده شيئًا؟ هل كان ليكترث بما يفعله ابنه بها؟! بالطبع لن يفعل!!

 

ابتعدت قليلًا لتتحامل على آلام ظهرها وهي تستند على وسادة ناعمة خلفها فمنعها ودفع جسدها لكي تستقر على وجهها وهو يحدثها:

 

-       لا تتسطحين على ظهرك اليوم.

 

يا له من حنون!! أليس هذا بفعل يده؟؟ يأتي الآن ليُخبرها كيف تتعامل مع الأمر والألم! وغد لعين ولن تنسى هذا أبدًا..

 

استند على ذراعه وهو يُبعد خصلاتها كي ينظر لوجهها مليًا ثم حدثها مُحذرًا:

 

-       مهنا حدث ومهما تغيرت الظروف حاولي ألا تتعاملي معه، وإن حدثت بينكما أي مواجهة أخبريني.

 

رمقته باستغراب وسيطر عليها رغبة بالنوم والافتقار إلى الراحة وكأنما تخيم ظلال سوداء فوق عينيها لا تستطيع الرؤية خلالها بوضوح ليتابع هو بمزيد من الجدية:

 

-       روان هذا الأمر لا يحتمل المزاح، فيزيد الجندي ليس مثلي، فأنا بالنسبة إليه لا شيء، لو صادف وتعاملتي معه بطريقة غير التي يريدها فردود أفعاله ليست مثلي، هل تفهمين؟

 

همهمت له وهي تحاول الابتلاع، ففي رأسها تعلم أنها لديها الكثير لفعله معه وسيلزمها طاقة لا نهائية لإحراز ما تود الوصول له، فبالكاد استطاعت التحدث متسائلة بهدوء:

-       لقد استيقظت مبكرًا وأشعر بالتوعك، هل يمكننا أن نكمل عندما نستيقظ؟

 

ابتسم باقتضاب وعقله يتألم من كل ما يعايشه ثم لم يصدق تلك النبرة التي يستمع لها منها فاقترب وقبل وجنتها وهمس لها:

 

-        بالطبع يمكننا ذلك.

 

استمر بمتابعتها إلى أن سقطت في النوم وهو يلمسها بأنامل متأنية يمررها على ذراعها ليلاحظ همهمتها بين الحين والآخر ليدرك أنها تشعر بالإرهاق الشديد الذي ماثل تمامًا ذلك الإرهاق الجاري بعقله!

--

مساءًا بنفس الليلة..

شعرت به حولها واحست بشفتيه على مناطق متفرقة من وجهها وعنقها فانتفضت بخوف حقيقي تملكها دون أن تعي أنها لابد عليها من تزييف ما تشعر به ونظرت له بارتباك ليبتسم لها وهو يحدقها مليًا ثم سألها:

 

-       هل أصبحتي تخافين مني قطتي؟

 

سرعان ما أدركت ما الذي يحدث وفاقت من نومها وأومأت له بالإباء واجابته برغبة ناعسة:

-       لا، أنا فقط تفاجأت بك، لست خائفة.

 

حاولت أن تبتسم له ولم يقتنع كليًا بقولها فاقترب ليقبل جبهتها ومنها إلى شفتيها بقبلة مطولة وابتعد عنها لمسافة قصيرة ثم أخبرها:

 

-       الطقس جميل بالخارج اليوم، انهضي واستعدي سنتناول طعامنا في الخارج.

 

أومأت له بالموافقة ثم بادرت هي هذه المرة بتقبيله لكي يُلاحظ أنها تلقائية معه للغاية ودام مبادلتهما للقبل لفترة من الوقت فابتعد عنها وهو يحدقها بمكر ثم حاول أن ينهض بعيدًا عن الفراش وهو يقول:

 

-       لقد فوتنا الإفطار لا نريد تفويت العشاء أيضًا، فلن أضيع كل طاقتي معكِ.

 

نظرت له بتلاعب وابتسامة امتنعت بصعوبة عن التوسع واشتقت من كلماته سابقًا فأعادت عليه نفس سؤاله بدلال:

-       عموري أصبح يخاف مني.

 

عقد حاجباه وهو يحدق بها وتمتم ساخرًا:

-       عمورك؟

 

أومأت له وهي تقضم شفتها السفلى وازداد التلاعب بعينيها فأكمل بتنهيدة وهو يلمح جسدها المكشوف برغبة ونظرات جريئة:

-       عمورك سيقوم بالتهامك إن لم تفعلي ما قولته لكِ الآن.

 

نهضت واتجهت نحوه لتتعلق بعنقه وأخذت تقبله لتقول بين قبلاتها:

 

-       هل يمكنك ايصالي إلى دورة المياه؟

 

حاول أن يوقفها ولكنها لم تترك له الفرصة واتجه نحو الحمام معها وبجرد التفاتها هز رأسه بإنكار وصفعها أسفل ظهرها بقوة وحدثها مُحذرًا:

 

-       عليكِ تنفيذ ما أقوله لكيلا أفعل شيء يزعجك، انتهي سريعًا والحقي بي.

 

أغلقت الباب بوجهه وبمجرد بقائها بمفردها تغيرت ملامحها بالكامل وهبطت دموعها لتذهب مسرعة لتصبح أسفل المياه، فهي لا تضمن ما الذي سيحدث لو رآها تبكي بعد كل ما تحاول أن تنجح به معه!

--

آتت لتسير بأنوثة في هذا الثوب الرمادي الذي اختاره لها حيث تركه على السرير بصحبة ما أسفله فارتدته لتبدو في غاية الفتنة وأخذ يتابعها بعينيه وهو يتفقد ظهرها المكشوف أمامه وساقها الواضحة للغاية أسفل ذلك الجزء غير المخيط لتغيب صاحبتها الأخرى مما جعله ينزعج لاختيار تلك اللعنة.. اختيار غير موفق بما تسببه له من تأثير!!

 

رآها لا ترتدي شيء بقدمها وشعرها غير مبتل ولكن رائحة عطرها تسللت لأنفاسه بصحبة شفتيها المصبوغتين بالحمرة القاتمة لتعكس بشرتها لتبدو أشهى له، وكأنها تحتاج لهذه الترهات لتفتنه بها، ولو بأسوأ حالتها لا يستطيع سوى رؤية فتنتها.. ما بالها فيما تفعله به!

 

جلست وامتدت يديها للطعام وبدأت في تناوله بشهية شديدة فتابعها لتلاحظه وهي تُسلط عينيها على الطعام وبالكاد اعطته لمحة عابرة ثم سألته:

-       لماذا لا تأكل؟

 

لو أخبرها من جديد أنه يود التهامها بدلًا من الطعام الفعلي سيُصبح الأمر مزعجًا لكلاهما، فستتوقع أنه يبالغ بينما سيزداد تخيله للأمر بعقله ووقتها لن يستطيع سوى تنفيذه!

 

امتدت يده للطعام وتناوله بتأني على عكسها لتتعجب بداخلها ولكنها لم تكترث غير على تناول قدر كافي من الطعام فهي ستحتاج له معه ليمدها بالطاقة اللازمة للفترة المُقبلة وقد احكمت خطتها بالفعل، وحتى لو حدث منه أي تصرفات مجنونة ستكون بصحة جيدة لتحمل المزيد، فتلك العشرة أيام فهمت معنى أن تتناول قدر قليل من الطعام..

 

نهضت ثم اتجهت بالقرب منه وجذبت كرسيها وهي تضع طبقها أمامها وجلست لتضح ساقيها له أكثر بقوامها المثير الفاتن ثم بدأت في تقديم الطعام له لتضعه بفمه ثم تتناول هي الأخرى البعض فلم يعد يفهم ما تفعله به ولا له ولا ما الذي جعلها بعد أيام ظن أنها إما ستقتلها وإما ستجعلها شبح امرأة عرفها يومًا ما تبدو هكذا!

 

-       ماذا؟ هل استطعتي نسيان ما حدث سريعًا هكذا؟

 

آتى سؤاله الذي لم تستغربه بعد تفكير دام لأيام كونت شهور من الاستعداد فأجابته سائلة وهي متأكدة أنه يتفحصها جيدًا كي يكتشف مصداقيتها:

-       نسيان ماذا؟

 

تناولت المزيد من الطعام ثم وضعت البعض بفمه بغتة ليبتسم وهو يمضغه سريعًا ثم ابتلعه دفعة واحدة وقال بوعيد:

 

-       ألم اقل لكِ قبل ذلك كثيرًا لا تجيبي على سؤالي بسؤال، هل تدعين عدم الفهم الآن صغيرتي؟

 

تناولت دفعة جديدة ومضغتها بتركيز ولم يغفل عن محاولتها في التأخر عن الإجابة بينما صدمت توقعاته بإجابة أرضته وعلم أنه يستحيل أن تختلقها في هذه المدة القصيرة:

 

-       إن كنت تقصد ما حدث في الغرفة فلقد كنت أتوقعه منكَ في أي وقت، وأنت فعلت ذلك لأنني نسيت كالعادة وتركت نفسي لأتصرف كما يحلو لي ولم أضع أي أولوية لغضبك أو ماذا تحب وماذا تكره، لقد كان معك كل الحق أنت لن تتغير وأنا كذلك، ولكنك صارحتني من البداية وأخبرتني عن الأشياء التي من المستحيل أن تقبلها، وأنا أخطأت أكثر من خطأ، وأنت تحملت عشرات المرات، وكل إنسان سيتصرف على حسب شخصيته مع أخطاء زوجته، أنا أعرفك جيدًا وأعرف شخصيتك، من الممكن أن أكون قد حاولت جعلك إنسان آخر بالسابق، كما حاولت أنت أن تجعلني إنسانة أخرى، ولكن ذلك لم ينتج عنه سوى الشجار فيما بيننا، وفي الحقيقية لقد مللت ذلك، ولذلك وجب علينا إيجاد حل وسط يجمع بيننا، تحملت وقدرت وجهة نظرك لجميع أخطائي  وأنت كعادتك استطعت أن تثبت لي أنك تحبني بالفعل، فبمجرد خروجنا من تلك الغرفة فأنت تتعامل معي جيدًا، ولو كنت قد عرفت طباعك جيدًا بعد تلك الفترة من زواجنا فيجب علي أن ابتعد عن كل ما يضايقك كما تبتعد أنت عن كل ما يضايقني، ووقتها فقط سنكون سعداء، أنت تحترمني أمام الناس وأمام عائلتي، وكل مشاكلك تكمن في بعض التصرفات التي تصدر مني وانا أعتقد أننا نحب بعضنا البعض لدرجة كافية تجعلني أتنازل عن بعض الأشياء التي تغضبك في شخصيتي  أمام ذلك الحب، كما تنازلت أنت عن أشياء تغضبني في شخصيتك، ولن تستمر حياتنا معًا سوى بذلك، هذا هو الحل في اعتقادي.

 

ثرثرة، كلمات رُصت كثيرة خلف بعضها البعض بنفس طريقته، استندت على ماضي وحاضر ومستقبل، نبرة تلقائية، ونظرات عفوية، وجدال لا يصدر سوى عن مختلة عقليًا يليق بالمختل الذي أمامها.. تلميذة نجيبة للغاية.. ولكن هناك إضافة صغيرة عليها أن تفعلها!

 

لمست يده ثم امسكتها بقوة، ونظرت له تلك النظرة الهائمة به كما ينظر لها تلك النظرة التي تجعلها تشعر وكأنها المرأة الوحيدة بالحياة، وابتسامة تجعل سوداويتاه حائرتان، وتحرك عفوي عبث باعتدال ثوبها ليكشف منها المزيد ودلال فطري حرك خصلاتها الطويلة التي أطرى عليها من قبل، وأهم ما في الأمر إقناعه بكلماتها:

 

-       أنا أحبك فأنت أول رجل في حياتي، الرجل الوحيد الذي سأستمر معه، والدتي ستعيش على قدر ما ستعيش ولكن لن تدوم لي.

 

قضمت شفتها ودفعت نفسها لتذكر قطعة الزجاج اللعينة وهي تنهش ببشرتها لتمزقها فدمعت عينيها ثم أكملت:

 

-       أما عن بسام فغذًا سينضج، ويعمل، وتصبح له حياته الخاصة، ليس لدي أصدقاء، أو أشقاء آخرين، وليس لدي أحد سواك، حتى والدي لم يعد موجودًا الآن.

 

تريثت لبرهة لتستعيد كلماته التي قتلتها آلاف المرات بالأيام الماضية، هي مثل الحيوان أليس كذلك، ها هي دموع التماسيح!!

 

-       حياتي بأكملها متوقفة عليك، ليس بسبب تهديدك لي، بالرغم من استطاعتك أن تفعل ذلك بمنتهى السهولة بعد عملك مع تجار الممنوعات، وقضايا القتل ولكن لأنني أحبك وأريدك، ولا أطيق الابتعاد عنك حتى لو كان للذهاب للعمل، وعندما ظللت صامت تلك الفترة الماضية لم أكن اشتاق لشيء في هذه الحياة سوى نبرة صوتك، كنت أنتظرك لتتحدث مع والدتي وبسام لكي أستمع لصوتك.

 

وجدته يقترب منها ليجفف دموعها بأنامله لتدرك أن تشتيتها له قد نجح بالفعل فانتحبت وهي لا ترى أمامها سوى فتحات تلك الأقفاص وملامحه ولكن ليست هذه المتأثرة أمامها بل الأخرى المتشفية بإهانته لها وقالت بارتجاف شفتيها وهي تسأله بملامح مُتأثرة:

 

-       هل تريدني أنا اتنازل عن كل ذلك وأتمسك ببعض تصرفات من الممكن أن تبعدني عنك؟ ألهذه الدرجة تعتقد أن حبي لك قليل وليس لو معنى؟ عمر أنت هو الرجل الذي انتظرته منذ أن كنت فتاة صغيرة وأرى الفتيات تتحدث مع شباب، ويتم خطبتهن، وزاجهن، ويحصلون على الهدايا، ويعيشن حياتهن مع الشخص الذي قمن باختياره، أتريدني أن أنسى ذلك الحلم من أجل أسلوب من الممكن أن يتغير؟

 

أدركت أنها انتصرت بالكامل عندما اقترب منها ليُقبلها فلم تنتظر هي لأكثر من ثانية واحدة ثم نهضت لتجلس على قدميه وبادلته القبل المتوالية وهي تداعب لحيته بإبهامها ليحاوط خصرها بذراعيه ثم همست له بلهاث:

 

-       أنا أحبك أكثر من ذلك الألم الذي شعرت به وأنا في تلك الغرفة، وأحبك أكثر من حبي لنفسي ولشخصيتي وكياني، وأحبك لدرجة تجعلني أتنازل عن هذه الحياة بأكملها من أجلك، وأنا أثق في أنني أستطيع إثبات ذلك لك، هذه المرة غير كل مرة مرت علينا عمر.

 

تفحصها بعينين حائرتين ولكن كل ما بها يجعله يعشقها والعشق يدفعه لفعل كل ما لا يؤمن به في جنس النساء ولكنه لم يقتنع كليًا بعد فسألها بتركيز وهو يحاول أن يتوقف عن الاستجابة للمسات يديها على صدره إنما هي فلقد كانت تريد الشعور بتلك النبضات التي اعتادت على تصاعد سرعتها عندما يكون الأمر جاد بالنسبة له:

 

-       وما الذي تغير هذه المرة؟

 

 عبثت بخصلاته التي عقدها للخلف واجابته بعفوية لدرجة أنه صدقها:

 

-       ما تغير أننا كنا قديمًا غير الآن، عمر عندما كنت تصمت في بداية زواجنا شيء والآن شيء آخر، عندما كنت تعاقبني على تصرف خاطئ قديما شيء والآن شيء آخر، قديمًا ام أكن أحبك مثل الآن، وعندما رأيت حبك لي واستعدادك لعمل أي شيء من أجلي، كل شيء تغير في نظري، بدأت أقدر الاشياء التي تحبها، فما الذي تنتظره من امرأة تعشقك غير أن تفهمك جيدًا.

 

كلماتها مقنعة، يصدق ما تقوله، ولكن ذهب عقله لليلة أمس ولتلك الكلمات التي نبست بها وهي في حالة من الانهيار وطلبها بالبقاء بمفردها فعقد حاجباه وهو يشعر بالتشتت بداخله من كل ما يمر عليهما ثم تعجب:

 

-       وكل ذلك قد تغير من حديث الأمس، في تلك الساعات القليلة، لحديثك الذي تقولينه الآن.

 

 زفرت وهي تضم شفتيها بانزعاج ثم اجابته دون تفكير فلقد صممت على ما تريد أن تصل له معه:

 

-       بالأمس لم أقل سوى أنني أحتاج لبعض الوقت لاستيعاب ما يحدث، كنت احتاج أن أفكر، وبعد حديثنا فجرًا، فكل ما اختلفنا عليه كان موضوع اختلافاتنا، وموضوع ذهابنا لمختص علاقات، وعندما استيقظت فكرت قليلًا فلو كنت استمعت لحديثك وبدلت ملابسي، وحدثتك بأسلوب لائق، وهادئ، ولم اتقابل مع يونس في الخارج لم يكن ذلك ليحدث، فلقد عدنا من السفر ونحن في حالة جيدة، ولم يكن بيننا أي مشكلات، ولكن أنا من تسببت في كل ذلك، كل ما احتاج إليه هو أن احترس قليلًا وانا أتصرف أو اتعامل معك، لو لم أكن غبية، وعنيدة، لم يكن ليحدث كل ذلك، أليس كذلك؟

 

لم تغفل يومًا عن تلقيبه إياها بهذه الصفة الكريهة فذكرتها بين كلماتها، هي لم تعد تضيع أي لحظة بمفردها دون أن تفكر جيدًا بكل ما ستخبره به وبكل تصرفاتها معه ونظرته تلك المرتابة التي يتفحصها بها كان لابد لها من المزيد من الكلمات والأفعال كي تقنعه:

 

-       أنا أحبك وأريد أن نصبح سعداء، لو وضعت في الاختيار بينك وبين بعض التصرفات سأختارك أنت.

 

هذه الكلمات تحديدًا أخبرها بها منذ حوالي شهرين بعد أن استيقظ من هوسه أثناء سفرهما الأخير، تتذكر ما قاله بالحرف الواحد يومها قبل أن يهاتفها ابن خالتها:

" أنا أتغير لأنني أريدك أكثر من أي شيء آخر، ولو كنت اشتاق للسادية على سبيل العموم واسلوبي مع النساء، لو ذلك ما تقصديه فنعم، وكثيرًا ما أشعر بأننا لو كنا سويًا بشكل مختلف كنت سأصبح سعيدًا أكثر، ولكن لو اخترت بينكِ وبينها سأختارك أنتِ، لو اخترت بينكِ وبين أي شيء آخر في هذه الحياة سأختارك أنتِ"

 

هل ظن حقًا أنها تضيع كل هذا الوقت منذ أن ارادت الطلاق منذ أن اكتشفت مشابهتها لتلك الخائنة أم حتى حبيبته السابقة فهي حتى لا تثق بحكمه عليها، عمومًا هي تريد أن تحوله لساذج غارق ببحور العشق، وتتحدى نفسها في أن تحقق هذا خلال أسبوعان، فلقد حققه هو الآخر في نفس الوقت عندما سافرا للمرة الثانية ببداية زواجهما.. لديها مخزون من السذاجة يُكفي أن توزعه على الجميع على كل حال!

 

شتته وارتبك، وكل ما بها لا يُثبت له سوى مصداقيتها، فسألته بقليل من التردد كي ينخدع بالمزيد:

 

-       ولكن من المؤكد أنه إن أصبحت كما يحلو لك وأوقفت تصرفاتي الجنونية تلك لن تقوم بحبسي لمدة عشرة أيام، وتصمت لمدة عشرون يومًا، وتقوم بجرحي في ظهري، أليس كذلك؟ لقد كان ذلك عقاب، ليس له علاقة عندما أحسن التصرف، ما أقصده أنك لن تفعل ذلك سوى عندما أخطئ خطأ كبير.

 

تفحصها مليًا وأومأ بالرفض وهو يُتابع عينيها المتوجستين لتتنهد بتردد وهي تنظر له مُدعية العفوية ليخبرها بنبرة عميقة:

-       اثبتي لي أنكِ قد تغيرتي.

 

ابتلعت وشردت لوهلة بتفكير ثم سألته بمنطقية نوعًا ما وهي تخمن وترفع كتفيها ثم تخفضهما بتأني:

 

-       هل بذلك يكون عقابي عما حدث قد انتهى؟ أم أن هناك شيء آخر.

 

هو كده خلاص عقابي على اللي حصل ده خلص؟ ولا لسه فيه حاجة تانية؟

 

اجابها باقتضاب وهو يبتلع محدقًا بوجهها وشفتيها المزعجتين:

-       انتهى.

 

شردت من جديد ثم قالت بنبرة مُقترحة:

 

-       يمكنك عمل أي شيء وأنا سأقبل به أو أشياء، ندخل الغرفة، أو نتحدث في تفاصيل العقد الذي كنت تريدني أن أوقع عليه قديمًا ، ومن الممكن أن تقوم باختباري لترى هل تغيرت بالفعل أم لا، أليس كل عقابي هذا كان الهدف منه ألا أكرر أخطائي ثانية؟

 

وقع بالحيرة الفعلية أمام كلماتها التي لو تحققت سيكون تملك العالم بأسره، ليس لكلمات أو أفعال أو غرفة أو عقد، بل لهذه المحاولة الجديدة منها التي تثبت له أنها تريد التشبث به مثلما يتشبث بها دائمًا وأبدًا، اختبار!! يوافق على هذا! ولكنه لن يكون خاليًا من مكافئته لها، ولنفسه على كل ما تحمله بالأيام الماضية!

 

-       اقوم باختبارك؟

 

نهض حاملًا إياها لتحاوط خصره بين ساقيها وتشبثت بعنقه وعينيه لا تفارق عسليتيها ليجدها تسأله بعفوية:

 

-       هل يمكننا قبل الاختبار أن نقوم بحلاقة تلك الذقن الطويلة؟

 

ابتسم ليضحك بمصداقية واجابها سائلًا:

 

-       مثلما قومتي بحلاقتها وانتي خجلة في بداية زواجنا؟

 

 

نظرت له بمرح اثناء صعوده لغرفته واجابته:

 

-       هذا كان قديمًا، الأن صغيرتك قد أصبحت امرأة أخرى.

 

غمزت له بمرح وظلت تقبله وهي تؤثر عليه بلمسات لعنقه ومقدمة صدره إلى أن وصلا للحمام الملحق بغرفته واجلسها على السطح الرخامي بجانب الحوض ولكنها جذبته للمزيد من القبلات وتضرعت بداخلها أن تفلح محاولة فرارها للنهاية!

يُتبع..