-->

الفصل السادس والعشرون - كما يحلو لكِ - النسخة الفصحى

 الفصل السادس والعشرون


النسخة الفصحى

شكر خاص لـ سمر إبراهيم للقيام بتعديل الحوار للفصحي


 

تنويه: كل التفاصيل الواردة بالفصل لا تحمل توجهات المؤلف ولا يتفق معها من أي منظور أو ناحية!

 

 

 

ليس هناك أسوأ من هذه النيران التي تُطلق لهيبها وتلتهم كل ما تلمسه ألسنتها المتأججة ولا تترك في النهاية سوى دمار، رماد، وهشيم.. فإهانته حرقتها بنار القهر بينما لم تخلف سوى هشيم لروحها المحترقة!

 

 

 

ما الذي يُريده بكلماته وأفعاله؟ هل يُريد مُجرد معاقبتها، أم استبدال كيان بكيان لا يتمنى سواه ولا تملكه هي لا بنشأتها ولا شخصيتها ولا بشريتها التي تقارب من الفطرة السليمة تجاه الكثير من الأمور في حياتها؟ هو حقًا يستمتع بهذا وخصوصًا أنه في أفضل امزجته.. لماذا يريد رؤيتها تنهار أسفل عينيه؟ 

 

 

 

لقد أخبرتها "مريم" يومًا ما أن من يُعاني من اضطراب ثنائي القطب مثل زوجها تمامًا، غالبًا ما يعقب نوبات هوسه مزاج معتدل، لذلك وصفت لها علاج بدوره يُساعده على تثبيت مزاجه كي يتلافى الوقوع في نوباته، وتتلافى هي الوقوع في ثورات جنونه، ويتلافى العالم شره الذي لا يعلم عنه شيء..

 

 

 

لذا ما الأسباب خلف تصرفاته الآن؟ السا دية اللعينة التي لا يستطيع التحكم بها، تطغى عليه، على حياته، على تصرفاته، على ردة فعله تجاه كل موقف، ولا تغفل أنه تطغى عليها الآن.. بتلك النظرات العميقة المُخيفة المتشفية بذلك الانكسار وتلك الصدمة وهو يُشبها من جديد بالحيوانات، وكأنه لم يفعل قط، وكأنه لا يفعل بالفعل..

 

 

 

أسوأ ما به أنه يستطيع أن يختار أكثر ما يؤثر عليها حقًا، وأسوأ ما يتركه لها أنها لم تظن بكابوس مروع يفزع نومها أنه قد يفعل بها كل هذا، ولكن صبرًا.. لن تغمض لها عين قبل أن ترى هذا الرجل ذليل أمامها، بأي طريقة كانت، وحتى لو بلغت من العمر مائة عام، ستعمل طوال حياتها على أن تحصل على ملامحه وهو يتذلل لها، وستقوم بإهانته، وستبرع في الأمر.. ولا تكترث بأن تكون مثله بنفس السوء، هي امرأة سيئة على كل حال لوقوعها في عشق هذا الوغد أمامها! ولكن أولًا أين لها بسبيل الفرار والهروب من بطشه الذي لا ينتهي؟! لقد ألحق الفزع بها من كل ما تختبره ذعرًا من مجرد الفكرة أنها لن تستطيع الهروب من كل ما تختبره معه!

 

 

 

-       هل تتذكرين ما قولته لكِ في بداية زواجنا؟ لما لا تعودين بذاكرتك للخلف قليلًا وتخبريني ما الذي تتذكرينه؟

 

 

 

تفقدته بنظراتٍ مختلطة بين الانكسار والرثاء على حالها وبين حُزنها بأنه ليس الرجل الذي تتوقع منه هذه التصرفات وأنه خذلها وحنث كل وعوده لها، لم تغفل عن ترك العنان لدموعها قليلًا، الكثير من الخوف فهو يعشقه بعينيها أو ربما بأعين كل النساء، أم عن انتقامها وخطتها، فحاولت أن تحافظ عليهما في طي الكتمان وتستعد أن تغامر وترى الأسوأ معه، ربما الصفعات القوية من الحياة هي من تفيق المرء.. ولقد كانت غافلة في سذاجتها لأعوام كثيرة!

 

 

 

أشار بسبابته أن تتكلم وتجيب سؤاله فادعت الارتباك المختلط بخوفها، ولكنها كانت تفهم مليًا ما الذي يريد سماعه، يريد أن ينادي بهيمنته من جديد، فلتلاعبه قليلًا:

 

-       أنك تريدني أن اكون كما يحلو لك.

 

 

 

 

 

ابتسم ابتسامة جانبية ثم عقب ببرد لا يتناسب مع تلك الحرب المشتعلة بداخله:

 

-       جيد جدا، وماذا فعلتي أنتِ

 

 

 

اتسعت عسليتيها، كأنها تبحث عن الإجابة، تشعر أنها في ورطة، تحاول أن تبدو مرتعدة منه ثم همست مجيبة بشفتين مرتجفتين:

 

-       رفضت ذلك.

 

 

 

نظرته المتفحصة الظاهرية بينما أمام عينيه لا يراها سوى الأنثى الوحيدة بالوجود التي خُلقت من أجله، لماذا فرط في حق أن يراها بتلك الهيئة منذ البداية، لماذا هي امرأة عاصية؟ لم لا يُمكنها تقبل ما يُحبه ويشتهيه؟ هل هذا كثيرًا على أن يجده بها ويطالب به في المرأة التي لا يعشق سواها؟!

 

 

 

حربه تحتدم مع نفسه، لا يُفكر سوى بإنهاء كل ما يسنه من قواعد توارت خلف عدة شهور وبعض محاولات من كلاهما ربما لا تحتاج سوى أن تتذكرها، ويذهب مسافة قليلة للأمام، يدنو، ويُقبلها، ويعيد ذلك اللهيب بين جسديهما من جديد، وليذهب كل شيء آخر للجحيم!

 

 

 

هناك أمر يعلمه، يتأكد منه، ولو كان مجنونًا لا يُصدق سواه، وحتى لو سيفقد عقله سيعترف بهذا أمامها آلاف المرات، هو مستمتع للغاية بكل ما يختبره معها منذ تجاهله إياها مرورًا بالعشرة أيام ووصولًا إلى هذه اللحظة وهي جاثية على اربع، هناك خوف وانكسار بعينيها، سيستمتع بالطقوس السادية، وستخلب عقله بصراخها من وطأة الألم، وعندما يرى انعكاس الألم عليها يعرف أنه لن يتحمل شدة اثارة ما ستتركه في نفسه وقد يتراجع وقتها عن كل ما خطط له فقط من أجل أن يحصل عليها.. كل هذا حلم جميل.. أمنية يطمع بتحقيقها منذ الوهلة الأولى التي وقعت عينيه عليها.. ولكن ما يُصيبه بالإحباط والغضب على حد سواء هو أنها لا تستمتع بأي من هذا!

 

 

 

يتذكر تلك الكلمات من ماركيز وهو يقول لا يجوز ممارسة عمل امتلاك على روح متحررة، وها هي روح متحررة أمامه، بل روح ثائرة.. لماذا غامر من البداية معها؟ يستحيل أن يكون عشقها من النظرة الأولى..

 

 

 

لقد اشتاق لكلماته وهو يحاول أن يُعجب بها بحيادية بعيدًا عن سفسطته الجاحدة للأديان ولوجود إله بشكلٍ مُطلق، يعلم جيدًا أن هناك اختلاف لا نهائي شاسع عن هذا الرجل منذ أكثر من مائتي عام، ولكن لطالما وجد تقبل بداخل نفسه لأفكاره التي يُنادي العالم بأكمله أنه رجل متطرف لا ديني..

 

 

 

وفي الحقيقة، التي لا يُدركها بالفعل، هو مختل مثله، بأي زمن وبكل وقت ستجد هؤلاء المختلون فيما بينهما يتفقا في بعض الآراء.. وهذا ما يفعله تمامًا بصحبة كلمات لرجلٍ كتبها من سنوات كثيرة أطاح عقله المتطرف بما تبقى من المنطق، وأطاحت سنوات السجن ما تبقى له من قدرة عقلية على التخيل، فلم يقم بكتابة سوى تخاريف جنـ سية ساد ية مُغرضة!

 

 

 

رجل سا دي، لابد له من امرأة مازو شية، يلحق هو بها الألم ويستمتع، وتتلقى هي الألم وتستمتع، والطرفان يُنهيان وقتهما وهما مدركان أنه كان وقت جيد.. فقط مثله مثل رجل وامرأة يُمارسان الحب.. لا يطيق أن تكون المرأة غير مستمتعة معه، وبما يراه منها يستمتع، ولكن فهمه أنها لا تحب هذا وترفضه ولا تستمتع معه أمر قاتل بالنسبة له، ولكن ماركيز قال أيضًا، اقتلني أو اقبلني كما أنا، لأنني لن أتغير أبدًا.. عليه توضيح هذا لها جيدًا!!

 

 

 

-       لا، لم ترفضي، لأنكِ لا تستطيعين رفض شيء وأنتِ معي، أنتِ فقط تصرفتِ كالبهائم.

 

 

 

المزيد من الخذلان يضربها في مقتل، منذ أيامٍ قليلة كانت تُفكر كيف ستذهب وتتركه وهي تعشقه، كم ستتألم دونه، ولكن ما تراه منه الآن يُساعدها بشدة على كراهيته، بنبرته المهيمنة طاغية الزهو والاعتزاز بالنفس الزائف الذي لا يعلم عنه شيء، لن تنسى كلماته إلى يوم قيام الساعة!

 

 

 

-       هيا لنتذكر سويًا كل شيء، ولكن ليس هنا.

 

 

 

قالها ونهض، وجذب السلسة اللعينة وكأنه يملك زمام روحها بين يديه، وأمام مجسم خشبي وقف، هذا ما كانت تتوقعه منذ البداية، التكبيل والجلد والصفع، علمت أنه لن يتوقف عن همجيته.. ومن جديد، كانت مخطئة بشأنه!

 

 

 

نفس الطقوس ناظرًا لها بمقلتيها، يتعذب كلاهما، فهناك من يستهدف جعلها خاضعة له وهو يتعذب بالسيطرة على نفسه ومحاربة رغبته بها، وهناك من يتعذب بالإهانة والخذلان، جحيمان والعشق لن يملك أن يخمد أي منهما!

 

 

 

أصبحت مُقيدة بتلك الحبال في غضون دقيقتان، أكثر أو أقل، لا تدري، ولا تهتم سوى بالتفكير بما ستصرخ به لاحقًا حتى يقتنع عقله المسموم فاقد الأهلية بأنها ستستمر بهذا الزواج اللعين، ومحال أن تكون كما يحلو له..

 

 

 

يحاول بشتى الطرق أن يتوقف عن لمح ما يبتغيه منها ويشتهيه وينقل كيانه لعالم آخر، ولكنه يعاود أدراجه ولا يُسلط اهتمامه سوى على أن يوضح لها أن كل ما هو عليه وهذا الزواج هو من يملك زمام أموره، ومحال أن يصبح يومًا كما يحلو لها..

 

 

 

هذا ليس بزواج، بل تحول الأمر لحرب شنيعة، الدماء تتناثر هُنا وهناك، طعنات قاتلة، والخسائر ضحيتان مسكينتان، لا الزواج يُكفيه العشق، ولا النزاع، والأقوى لا ينتصر.. الأمر لا يُمكنه أن ينجح كما يحلو لأحد، بل كما يحلو للمنطق والعقل والواقعية، قبل العشق، سواء قبلا هذه الحقيقة، أم لا يحلو لكلاهما، رغمًا عن أنفهما كلاهما فشلا بهذا الزواج..

 

 

 

فشلت هي بالاختيار، وفشل هو بتشبثه بالمرض!! وكلاهما لا يستطيعا الاستمرار بهذا الطريقة التي بُنيت على باطل، سينهاران عما قريب!

 

 

 

ابتعد وأحضر اسطوانة صغيرة من الغاز، أخرجها من شبه خزانة متوسطة الحجم، وتلقائيًا أصبح رعبها الذي تحاول أن تزيفه حقيقي.. أما عن هذه المنضدة المعدنية صغيرة الحجم التي وضعت بداخل خزانة أخرى لا تعرف ما الذي سيفعله بهما، هل سيقوم بالطهي أم ماذا؟!

 

 

 

تركهما أمامها، حدق بالفزع المنهمر من عينيها، استمتع نوعًا ما، ويكاد يرى قلبها يقفز كي يغادر ضلوعها، ولكن ليس بعد، هناك المزيد، والكثير، والعديد من الأشياء التي لن يتخيلها عقلها الذي أفسده الدلال!

 

 

 

يحتاج لتدخين الغليون بصحبة فنجان من القهوة المرة، كما عليه أن يستخدم تلك القداحة التي لم تُستخدم من وقت ليس بالقريب.. الغليون أولًا أم هذه الأسطوانة أم هذه العصا الجلدية؟ لابد من أن يديها الآن بدأت في الشعور بألم طفيف تظن أنها ستتحمله، ولكن شدة العقد ستسمح لها بالتُعلم، الدرس ليس سهل على الإطلاق!

 

 

 

أشعل الغليون وتنفسه، ومقلتيه ماكرتين، يحاول إخفاء رغبته بما لا يشتهي سواه، دقيقتان بعد وستفلت زمام الأمور من بين يديه، وسيهرول معانقًا إياها كطفل ضل طريق ذراعي أمه!

 

 

 

نفث المزيد من تبغه، أشعل الأسطوانة، ووضع فوقها المنضدة المعدنية، ووضعها أسفل قدمها التي لم يترك نفسه ليلمسها، من أجل سببان، الأول هو رغبته التي ستسيطر عليه لو فعل، والثاني هو شعور التقزز الذي يتمنى أن ينجح بإيصاله لها.. لعله يُفلح بهذا!

 

 

 

استخدم العصا ليقوم برفع واحدة من ساقيها لتصبح لا تستند سوى على قدم واحدة، ثم وكز بمنتهى الرفق قدمها بالعصا ورافق وكزته نبرته المتلذذة بأمره وهو يرفع حاجبيه ثم اخفضهما ببعض المزاح:

 

-       ارفعي قدمك لكي لا تحترق.

 

 

 

اتسعت عينيها في رعب مما استمعت له وسرعان ما أدركت أنه بالفعل دفع الأسطوانة التي تعلوها المنضدة لتصبح أسفل قدمها! وقبل أن تبالغ بالمزيد، ذهب وتركها مغادرًا الغرفة بأكملها، ربما ستعلم الآن أنه لا يمزح بشأن ما يُريده.. لتقتله أو لتقبله.. هو لن يتغير أبدًا!

 

--

 

 

بعد نصف ساعة كاملة، وقف أمام الباب من الخارج وهو ينظم أنفاسه بعمق، أمر وحيد فقط يجن أن ينتصر عليه، تأثيرها الذي تملكه عليه، سواء بجسدها أو بروحها، عدا ذلك، كل شيء سيكون على ما يُرام!!

 

 

 

زفر وهو يغلق عينيه، فهو مشتت للغاية وبالكاد يتحمل، أمسك بقدح القهوة الخاص به، ثم عاد من جديد، وبمجرد عدة خطوات للداخل وهي تشعر بالذعر من ذلك السطح الساخن أسفل قدمها التي تقوم برفعها، عاد من جديد ليتطلع لهذا المنظر الخلاب، تبغ غليونه احتاج لأن يُشعله من جديد، تناول رشفة من القهوة، وبمنتهى الهدوء المستفز سألها:

 

-       ماذا كنا تقول؟

 

 

 

تريث وهو يتفحص أعماق مقلتيها ليرى المعاناة والقهر بصحبة الفزع كل هذا مختلط ببعض التوعد منها، لذا من جديد يعرف أن أمامه طريق طويل وعر معها حتى يُمحي هذه النظرة عن بكرة أبيها ويستبدلها بأخرى مُذعنة له، فأجاب نفسه بمزيد من الهدوء:

 

-       حسنًا، كنا نقول أنكِ تتصرفين كالبهائم، ونريد أن نتذكر ما الذي فعلتيه بالضبط، هيا لنراجع سويًا ما حدث شيئا فشيئا، هل تتذكرين ما حدث في يوم زواجنا.

 

 

 

هي لا تتذكر شيء، ولا تستطيع أن تُجيبه سوى بعد أن يزيل تلك اللعنة من أسفلها، فقدمها لا تقوى على التحمل، وبأي وقت ستخور قواها وستُخفضها، وتلك السخونة المنبعثة من هذا الصفيح الساخن بفعل النيران أسفله مؤشر مرعب بالنسبة لها!

 

 

 

-       هل من الممكن أن تزيل هذا الشيء من تحت قدمي أولًا، وبعدها نتحدث في كل شيء كما يحلو لك.

 

 

نبرتها المتوسلة الخائفة بصحبة عسليتيها الفاتنتين كان أمر رائع للغاية، معاناتها نفسها تثيره، ألمها وخوفها أكثر ما يستفز رجولته، لو كانت فقط تشعر بالمثل لكان شعر هو الآخر أنه قد ملك الدنيا بأكملها، لديه الكثير لفعله على كل حال!!

 

 

 

-       هل انتِ خائفة؟

 

 

 

سؤال مستفز جديد يثير بداخلها الارتباك، ولكن هي ليست في وضع يؤهلها للجدال الآن ولا تلقيبه بالمجنون، وبالطبع لن تصل لما تريده بأي لهجة اعتراضية فاكتفت بإجابة صريحة وصوت مرتعش ذعرًا:

 

-       من المؤكد أنني خائفة، لم أعد أستطيع الوقوف على قدم واحدة أتوسل إليك أبعده عني.

 

 

 

ابتسم بمكر ثم تحدث بنبرة ذات مغزى لم يغب عنه سيطرته بنفسه وصوته الهادئ:

 

-       أين ذلك العَقد الآن الذي سخرتي منه في يوم ما ورفضتي أن يكون لكِ تدريبات معينة تجعلكِ تتحملين عقابكِ.

 

 

 

تريث لبرهة ثم نبس بما اثار المزيد من خوفها الذي سرعان ما اختلط بالكثير من التخمينات بعقلها جراء ما قاله:

 

-       لا يهم، لا يهم العَقد، كما كانت الغرفة غير مهمة، والعقاب غير مهم أيضًا، كما هو غير مهم بالنسبة إليكِ أي شيء أريده، ما الذي تريدينه الآن؟

 

 

ابتلعت وهي تحاول النظر له بتوسل لعله يستجيب إليها وهمست له:

 

-       أريد الابتعاد عن تلك النار المشتعلة أسفل قدمي، لا أستطيع التحمل أكثر من ذلك.

 

 

 

ارتشف من قهوته، واتخذ لحظة ليستنشق من غليونه، ثم تفقدها باشتهاء واستفزها متعجبًا:

 

-       لماذا؟

 

 

 

هي تعرف أنه مريض، وتعرف أنه مصاب باضطراب الشخصية السادية، ولكنه ليس بغبي لدرجة تؤهله للنطق بسؤال كهذا فتحاملت على كل هذا الذل الذي لم تعد تطيقه واجابته:

 

-       قدمي تؤلمني، يكفي هذا، أتوسل إليك.

 

 

 

نظر لها بتشفي شديد، الابتسامة الطاغية التي علت ملامحه كان لا يضاهيها فرحة، معاناتها أكثر ما يجعله يشعر بالراحة، ومن يجد المتعة في ألم غيره فهو مضطرب بالتأكيد!

 

 

 

تعمقت نبرته كما لمع ذلك الظلام الداكن بين جفونه وهو يتفقد كل ما أوتيت من حُسن ثم تكلم بهدوء مبالغ فيه جعل عينيها تدمع من جديد:

 

-       يمكنني أن أجعلكِ تفقدين وزنك دون عَقد، ويمكنني أن أجعلك تنامين في الوقت الذي يعجبني دون عقد، ويمكنني أن أقوم بتعذيبك دون أن ألمسك لمسة واحدة، ويمكنني أن أفعل كل ما أريده دون أن أتحدث كلمة واحدة، كما يمكنني بغاية البساطة أن اتحكم في وقتك، وعملك، وكل حياتك دون اللجوء إلى العنف، أليس كذلك قطتي؟

 

 

 

لقد انتصر، هذه كلماته التي تؤكد هذا، ينتصر، لتدعه يشعر بالفرحة، ولكن تُريد أن تبعد عن هذه السخونة المنبعثة من أسفلها ولقد بدأت بشرتها تتشرب بحمرة تأثير النيران عليها، وهو حتى لم يبدأ بعد!

 

 

 

ابتلعت وهي تحاول أن تثبت بوقفتها وهي تُمسك بتلك الحبال التي تُكبل يداها ثم أخبرته بأنفاس تعالت توجسًا وقهرًا:

 

-       صحيح، حديثك كله صحيح، أرجوك أبعد هذه النار وسوف أفعل كل ما يحلو لك.

 

 

ضحك بسخرية عندما استمع لكلماتها ثم عقب سائلًا:

 

-       هل تسايريني في الحديث؟ أم تعقدين معي صفقة؟

 

 

 

هز رأسه بإنكار وما زال وجهه يحمل بقايا ضحكته وارتشف المزيد من القهوة بينما انطلقت نظرات التوعد المختلطة بالتقزز من عينيها كألسنة الجحيم لتجده يُتابع حديثه متأملًا بتلك الفِتنة التي يراها أمامه وهو يُترجم تلك الرسائل من عينيها بمنتهى الوضوح وفهمها كما هي دون أن يصعب عليه الأمر:

 

-       عل تعلمين أنكِ فاشلة كسيدة أعمال، أنتِ فقط يمكنكِ أن تصلحي المصائب، أتدرين، أنتِ هوايتك الإصلاح، تعشقين العمل بيديكِ يمكنكِ إنشاء نظام كامل، تضعين له قواعد وخطوات، وتبذلين كل جهدك لكي لا يحدث أي خلل أو مشكلة في ذلك النظام، تعشقين التحكم، ولكن عندما يأتي وقت الجد والقرارات والاتفاقيات مثلما يفعلن سيدات الأعمال الحقيقيات فانتِ وقتها لا شيء، أليس ذلك هو عملك؟ بعض الشفرات ولأنكِ تجيدينها استطعتِ الحفاظ على هذه الشركات، ولكن هل سألتي نفسك لماذا هذه الشركات لم يزيد عددها؟ لم تقومي بإنشاء فرع واحد جديد على سبيل المثال أو قمتي بإضافة شيء جديد لنشاط الشركات.

 

 

تعالت أنفاسها غضبًا، بالرغم من موقفها الذي لا يؤهلها للغضب، ربما كانت لابد أن تُركز على الانصياع المؤقت والفزع وإرضائه لتفر من أسفل بطشه بها ولكن عفويتها ما زالت تتواجد بداخلها، لذا كان عليه أن يُطيح بهذا الكبرياء تمامًا عبر عدة كلمات، الكلمات على كل حال هي من تُغير شعوب وأمم، وتحرك الثورات، وتدمر زعماء ودول، والتاريخ الذي يحفظه حافل بتلك المناسبات:

 

-       رأسك مبرمجة لا تقبل سوى الإصلاح والقواعد التي ترييها من وجهة نظرك فقط، كما هو عملي الذي لا أحبه جعلني أصدق وأقتنع أن أي شيء في هذه الحياة يمكنك ِ أن تقنعي بيها غيرك.

 

 

 

نفث المزيد من دخان غليونه بعد أن استنشق منه وهو يُرتب كلماته مليًا ثم أكمل بنبرة كمن يُحدث نفسه محدقًا بعيدًا عنها حتى لا تظن وكأن ابتعادها عنه يؤثر به:

 

-       كل العقل، والمنطق، والتاريخ، والأدلة الأولية تقول أن فُلان قاتل، أو تاجر مخدرات، أو له آلاف التجارات الممنوعة، ولكن مع الوقت يمكن بمنتهى البساطة أن ينتهي الموضوع بغرامة، أو صلح، أو أدلة جديدة تمامًا، المهم في ذلك أن يستطيع الماهر إقناع من أمامه بما يراه، يستطيع برمجة عقله على قواعده هو لا قواعد الغير.

 

 

اشرأب ليها ثم لاقى عسليتيها بسواد لامع ابتهاجًا من أقواله وهو زاهي بنفسه أكثر من المُعتاد ثم رسم ابتسامة مغازلة كيانها الأنثوي المُهلك له وهمس إليها:

 

-      نحن نشبه بعضنا، كل منا يريد برمجة الآخر.

 

 

 

أراح جسده بُكرسيه ولا يغفل عن لمح الاستفزاز الذي يُشعل غضبها بداخلها ثم تابع:

 

-       ولكن الفرق أنكِ تحبين البرمجة لذلك تنجحين بها، كمثل شخص يحب الرسم فيقوم برسم لوحة تلفت الأنظار إليها، هذا هو المتوقع من شخص يحب عمله، ولكني لا أحب القضايا، أو حفظ القوانين، ولا أحب البحث عن الأدلة، أو التفاوض مع شخص أثق في إدانته، ولكن بالرغم من ذلك فأنا ناجح، ونجحت، ومتأكد من نجاحي في أي قضية؛ لأنني أستطيع توظيف إمكانياتي جيدًا لذلك ولكن أتعرفين؟

 

 

 

أنهى ما تبقى بفنجانه واحتدمت ملامحه بالجدية والثبات وهو يُفكر في كلماته مليًا حيث ستبدأ المواجهة من هذه النقطة تحديدًا فاستنشق أنفاس متعددة من غليونه بينما يلمح عدم استطاعتها في الثبات وهي توشك في أي لحظة على الانهيار وستسقط قدمها لا محالة وأخيرًا تابع كلماته:

 

-       أنا لا يمكن برمجتي يا قطتي، فأنا غير قابل للإصلاح، لا يستطيع أحد أن يجعلني أسير كما يحلو له، حتى القانون الذي يحكمنا جميعًا لا أسير عليه.

 

 

قلب شفتيه ثم مدد ذراعيه يمينًا ويسارًا على مسندي الكُرسي وارتفعت سبابته لتعبث أسفل شفتاه ثم همس بتساؤل أرعبها:

 

-       ماذا يمكننا أن نفعل في ذلك الأمر؟

 

 

 

 

 

صمت عجيب لا يتخلله سوى صوت الغاز الذي يغذي النيران أسفلها، وعُزلة مع الرجل الذي عشقته يومًا وعلى يده تتذوق أنواع عذاب شتى أنهكت روحها، ونظرات لا تدري تصيبها بخيبة الأمل والإحباط والحزن لأنها عشقته يومًا، أم تصيبها بالخوف والفزع جراء هذا العذاب المؤلم الذي لا ينتهي منذ أكثر من شهر بأكمله عندما بدأ بتجاهلها، أو ربما تصيبها بالشتات لتتراجع عن خطتها التي تجعلها تقبل كل ما تمر به على يده، أم الشتات!! شتات يتبعه شتات منذ أن عرفته وصولًا لتلك النار التي ستحرقها لو فقط تنازلت وأخفضت من قدمها!

 

 

 

-       أنتِ تستطيعين البرمجة ووضع القواعد وجيدة في ذلك، أما أنا فأقوم بإحضار القواعد وبرمجتها ولكن على حسب قواعدي انا وليس قواعد وقوانين المفروض والحتمي، نحن نشبه بعضنا كثيرًا أنا أصر على قبول ما أراه صحيح، أم أنتِ فمصرة على إصلاحي، وجعلي أسير على القواعد الصحيحة من وجهة نظرك، فما هو الحل اذًا؟

 

 

 

فلسفة ماهرة، يُحدث عقلها من جديد بمقدرة رائعة أن يدفع رأسها للتفكير في سفسطة عقله الخرب، منطقيًا كلماته صحيحة، لا يُمكنها سوى أن تقتنع بهذا، إنما بعد ما رأته واختبرته بنفسها معه وعلى يديه تدرك أن جنونه ومنطقه الذي بُني على باطل لا يمكنها سوى أن ينهار في عينيها، لأنها وببساطة طفح بها الكيل من كلماته الخبيثة التي لا تُفيد!

 

 

 

-       لا يوجد بي عيب يريد الإصلاح، وأنتِ مصرة بكل الطرق على إصلاحي، فلا أنا سأقبل بذلك، ولن أقبل أن تفرض امرأة رأيها علي، ما الحل إذًا.

 

 

أزعجه بشدة نفاذ تبغ غليونه، فنهض لإعادة تعبئته، أشعله كما يُشعل رأسها وكامل حواسها بالإجبار المستتر على الاستجابة لقواعده، استنشق مرة أخرى مُفكرًا بما سيقوله لاحقًا، لقد اضطرم تبغه وأصبح مفعمًا باللهيب، ينقصه فقط عاشقًا لتنفس السموم ليلتهمه بأكمله.. تمامًا كما ينقصها أن تخضع له! لن يقبل سوى بهذا!

 

 

 

استدار مواجهًا لها من على مسافة وهو يُلاحظ وتيرة أنفاسها المتصاعدة فزعًا وجسدها بأكمله قارب على الانهيار الوشيك ثم تكلم وكأنما لديه وقت لا ينتهي، كأنه على يقين أنها لن تذهب وتتركه يومًا ليغرق بأعماق عقله الفاسد وشخصيته المضطربة ثم قال بنبرة راوية بحتة:

 

-       أتعرفين؟ منذ يومين عدت لقراءة رواية أحبها كثيرًا، تم ترجمتها خصيصًا لأجلي، لأن النسخة المترجمة قانونيًا لا توضح الحقيقة، وأنا أغضب كثيرًا فوق ما يتصوره عقلك من الكذب والتضليل، إن أحببت أحد أو شيء أحبه كما هو، ولكن الأهم من كل ذلك أن يكون محتواها مناسب لي، ترضيني ولو بجزء منها، وتتوافق مع معظم أفكاري، ولا يوجد لدي مشكلة في أن أختلف مع الكاتب ولكن في النهاية أترك لعقلي ما يرضيه ويقنعه ويشعرني أن كلماته المكتوبة قد لمست بداخلي شيء معين، وإن لم نتفق في كل شيء، وفي النهاية أنا أعلم أنها مجرد كلمات فليس لي علاقة بالكاتب غير أنني أحكم على كلماته من وجهة نظري البحتة، هيا لأقصها عليكِ.

 

 

 

يقص عليها رواية، بهذا الوقت وهي تقارب على الاحتراق، هل يُعذبها بأفكاره المتعفنة أم يؤلمها بمجرد كلمات وأمر تافه تعرف مليًا في البداية أنه سهل وقابل التحقيق ولكن مع الوقت تكتشف كم هو صعبًا أن يحدث ويستمر، كعلاقتها معه تمامًا.. لو سألها أحد لا يملك عقلًا هل يُمكنك الوقوف لبعض الوقت على قدم واحدة فوق نار مستعرة أسفلك وصفيح ساخن دون أن تمسيها؟ ستكون اجابتها بنعم، تصورها المحدود والعفوي لن يجيب سوى بهذا!

 

 

 

ولكن لو سألها أحد موضحًا لها التفاصيل المؤلمة، هل يُمكنك أن تتحملين التقييد، وتستمرين بالوقوف بثبات وصلابة على ساق وحيدة، لما يزيد فوق الساعة بأكملها، وأنتِ لا ترتدي شيئًا كما ولدتك أمك، وهناك صفيح ساخن أسفل قدمك التي لو فكرتِ بالوقوف عليها لتدعم وزنك وتُريح جسدك الذي مزقه الألم في قفص حديدي لمدة عشرة أيام متوالية وكل ما يُسمح لك أن تتحركين على أربع، ستصرخ به حتمًا وستترك السائل وهي تُعطيه نظرة استحقار ثم ستتجنب معرفة هذا الشخص لمجرد سؤال انبعث من أفكاره المريضة..

 

 

 

ها هما، جسدها يُمثل علاقتهما ببعضهما البعض، والساق الوحيدة التي ظنت أنها ستتحمل هي العشق والانجذاب فيما بينهما ونظرتها السطحية لتقبله هو نفسه كزوج لها، الحبال التي تؤلم رسغيها هي قواعده اللعينة وأفكاره المتعفنة، والصفيح الساخن الذي سيحرقها عاجلًا أم آجلًا لو فقدت المقدرة على التحمل في جزء من الثانية هو كل ما سيصيب جسدها بالاحتراق الوشيك كما تُحرق روحها ويتلظى عقلها بكثرة المحاولات، أمّا عن السائل فها هو مستمتع أسفل عيناها المقهورتان بغضب الجحيم، ولكنه سائل خبيث، لم يُعطها كامل التفاصيل بسؤاله، موقف وحيد فقط لا يُمثل لها سوى علاقة مدمرة مستهلكة لكيانها بأكمله حتى قاربت على الاحتراق!

 

 

 

-       الرواية تحكي عن فتاة كان لا يوجد أمامها سوى طريقين يجب أن تختار بينهما، يا إما طريق الخطيئة، أو طريق الصواب وألا تفرط في نفسها، وفي أواخر القرن الثامن عشر بمملكة أوروبية كان الكل يسير بطريق الخطيئة ، فتاة فقيرة ليس لديها مال أو إرث ليست متزوجة، لازالت صغيرة، الحل الوحيد لكي تحيا هو طريق الخطيئة والكل نصحها بذلك.

 

 

 

تنهد بعمق ثم تابع:

 

-       أنا أرفض فكرة استهلاك الجسد بذلك الشكل، وكل شخص يأخذ منها ما يريد، سواء بموافقتها أم لا، ولكن الفكرة ليست في الفعل، الفكرة فيما تريد الرواية أن توصله للقارئ.

 

 

 

قلب شفتيه واستغرق في التفكير الفلسفي البحت ثم أكمل بينما هي توشك على الانهيار في أي وقت الآن:

 

 

-       قابلت الكثير من الرجال أثناء رحلتها وكانت مصرة ان تكمل بطريقتها، ولكن كل من رآها في ذلك المجتمع المليء باللصوص وقطاع الطرق الذين لا دين لهم، يستحلون القت.ل الجن.س وشرب الخمر أخبروها أنهم يريدونها، سواء بالفعل أو التحرش أو بمجرد الطلب والحديث، وهي مازالت ترفض وتصر على ما يحلو لها وهو أن تحافظ على نفسها وسط طبقة معدومة تحت خط الصفر، المرأة بها تقوم ببيع نفسها لكي تأكل.

 

 

 

ارتكن بمقلتيه لأحد أركان الغرفة وأردف بالمزيد وهو يستغرق بالتفاصيل التي حفظها عن ظهر قلب فيما يخص هذه الرواية أمّا عنها فلقد أدركت أن المزيد من تحملها لن يوصلها لأي طريق سوى تضرر قدمها التي لا تستطيع تحمل رفعها بثبات أكثر من هذا:

 

-       إلى أن قابلها شخص واطمأنت إليه وقالت هذا هو من أعطيه الأمان من أجل أن يوفر لها مكان يحميها بدلًا عن الشارع والفقر ويعطيها في نهاية اليوم شيئًا تأكله، ولكنه فجأة قام بالغدر بها، وتفيق لتجد نفسها ليست كما كانت، أقام معها علاقة وقام برميها، فلا منها تمتعت بالفعل نفسه، ولا منها استمعت لكل من عرض عليها المضي في طريق الخطيئة، ولا منها اقتنعت أن هذه عي الطريقة الوحيدة التي تضمن لها مجرد وجبة رخيصة، وفي النهاية ما حدث كان على عكس ما يحلو لها وما تريده.

 

 

 

رطب شفتاه ثم التهم أنفاس مؤذية، ونفثها من شفتين لا تتفوها سوى بالهراء الخالص وتابع مُكملًا:

 

-       الوقت كان صعب جدًا في ذلك العصر، ثورة مع أو ضد، الشعب يثور على النظام الملكي، يريدون الاستمرار في الليبرالية، اغنياء وفقراء ولا سط بينهما، الأغنياء يرفضون ويريدون المملكة التي تضمن لهم أن يظلوا كما هم، الفقراء يعتقدون أنهم سيضمنون حقوقهم بالتفكير المتحرر، يحاربون الدين، هناك طبقة كافرة يعتقدون أن الدين ما هو إلا جهل وخوف، وأن وجود إله مستحيل، أو يرونه ظالم، أما الغني فهو يذهب للكنيسة متخفي خلف إيمان مزيف لكي يقولون عليه إنه رجل مؤمن ولكنه في الحقيقة أشد كفرًا من الفقير، في ذلك العصر كانت المرأة التي لا إرث لها ليس أمامها سوى طريقين، إما أن تعمل خادمة بلقمة عيشها، وإما أن تسلك طريق الخطيئة، ولم تكن تتزوج غير المرأة التي لديها إرث، عصر صعب للغاية، السجون ممتلئة وهناك من يهرب، أما هي فكانت ترا أنها على صواب وأن الدنيا أمان، مقتنعة بأن الله معها وسينجيها من كل شيء، كانت محدودة الذكاء لصغر سنها ولأنها لم تكتسب خبرات كافية من الحياة تجعلها تفهمها جيدًا.

 

أنا أؤمن أن الله موجود، وأؤمن أن المواقف لا تتشابه، أؤمن بالدين وبصدقه، ولكن الإنسان الغبي محدود الذكاء هو الذي يعتقد بأن عدالة السماء ستحميه، وأن الدين فقط هو ما سيحميه، بالرغم من أن الدين نفسه هو الذي أباح لنا أشياء كثيرة محرمة في وقت الضرورة، فأباح شرب الخمر إن تعرض الإنسان للهلاك وليس أمامه غير الخمر لإنقاذ حياته، وأن يصلي في الحرب وهو مستعد للحرب، وأباح أكل لحم الخنزير في الصحراء إن لم يوجد غيره لكي يستطيع ان يكمل طريقه ويحيا بالرغم من حرمة تناوله في الطبيعي، أباح لنا القتل دفاعًا عن النفس، وعن الشرف، كذلك قام بسن الحدود لكف الأذى، الدين ليس جهل أو خوف، الدين الحقيقي لا يجبر الإنسان على أن يكون غبي، الدين هو قانون، شريعة سماوية تحلل وتحرم، ولكن بطلة الرواية كانت غبية.

 

 

هل يتحدث عن الدين الآن؟ فلسفة وأديان ونظرة الإنسان وإيمانه بالشرائع السماوية؟ ما الذي يجري بعقله الفاسد وهي هنا توشك على الاحتراق؟!

 

 

 

امتلئ زهو بداخله وهو يقتنع بكل ما يقوله، والتهم ادخنته، وفكر بالمزيد، ومجرد رؤيتها ستنهار تذيب قلبه راحة وسعادة حتى سار يضخ دماء الابتهاج بعروقه، ولم يمنعه كل هذا عن قول المزيد:

 

-       كان من الممكن أن تفرط ولو بجزء ضئيل من نفسها أو تعمل بلقمة عيشها، ولكي لا أكون كاذب هي حاولت أن تعمل خادمة بلقمة عيشها ولكنها دخلت السجن عندما اتهمها صاحب المنزل بالسرقة، كان يمكنها أن تجد طريقة وتستمع لمن حولها وتسير في طريق الرزيلة كما فعلت شقيقتها.

 

هذه الرواية دائمًا ما تشغل تفكيري، كل الظروف من حولها تخبرها أنها يجب أن تختار الطريق الخاطئ من وجهة نظرها بالطبع، أما الكاتب فلقد كان غير حيادي بالمرة لأنه ملحد وانا ضد ذلك تمامًا، أنا غيرهم، أرى أن البطلة غبية، أما هو لأنه كافر فهو مصر على أن السبب في كل ما حدث لها هو تمسكها بالدين، وأنا أرى أن كلاهما على خطأ، أرى أنها كانت تستطيع عمل أشياء كثيرة لو فقط أمعنت التفكير، كان من الممكن أن تعمل بالدعارة بشكل متخفي، لا تقوم ببيع نفسها ولكنها تستطيع بيع غيرها، تحاول أن تجد حل وسط ولكن الأسوأ من الكفر والإلحاد هو الغباء، ولا توجد أي شريعة في هذه الحياة تقول للإنسان أن يصبح غبي.

 

 

 

 

تفقد حالتها المزرية التي ستنهار في أي وقت الآن ليجدها تُصيح وهي تبكي متوسلة:

 

-       أتوسل إليك لا أستطيع أن اتحمل أكثر من ذلك لا أستطيع رفع قدمي، يكفي هذا ولن أقوم بعصيانك مرة أخرى.

 

 

 

همهم وهو يُفكر بجدية تجاه ترهاته وتابع متجاهلًا معاناتها التي تثلج قلبه بالنيران التي أوشكت على مس قدمها:

 

-       كانت تستطيع أن تخدع من حولها، تستنجد بشقيقتها وتبحث عنها في هذه البيوت المشبوهة وتكون لها خادمة وتحصل على حمايتها بدلًا من أن تصبح مثلها، تحارب، تتعلم كيف تصبح قوية، تدافع عن نفسها، ولكنها كانت غبية جدًا، غاية في الغباء، لا تستطيع التصرف، معتمدة على أن عدالة السماء موجودة دون أن تتحرك هي وتستغل عقلها الذي وهبه الله لها، أنا متفق معها أنه كان يوجد ظلم والناس وقتها كانوا يأكلون بعضهم البعض، ولكن الغباء أسوأ من أي شيء آخر.

 

 

 

 

لم يُمكنها التحمل أكثر وسقطت قدمها لتصرخ مجهشه ببكاء شديد ومست تلك النيران بشدة وحاولت أن تبتعد عنها بشتى الطرق ولكنها لم تستطع من شدة السخونة فصاحت بين بُكائها:

 

-       ما الذي تريده الآن؟ يكفي هذا، هل وصلت لدرجة أن تفعل بي ذلك؟

 

 

حاولت أن ترفع قدمها المرتجفة من جديد وهي تبكي آلمًا لينهض ووقف أمامها ثم نفث دخانه وأكمل كلماته:

 

-       هل تعلمين ما هو الشبه بينكِ وبينها؟ أنتِ أغبى منها قطتي، وبكل ما لديكِ أنتِ أمامي لا شيء، لا يوجد أمامك سوى أن تقبلي بما أقول، ليس معنى ذلك انني أريدك أن تسلكين طريق الرزيلة، ولا يفرق معي ما الذي يريد الراوي من البطلة أن تفعله، ما يفرق معي هنا أن الإنسان لو وضع في موقف ما عليه إما القبول وإما الرفض ووقتها يتحمل تبعيات قراره، طالما كان غبي ولا يجد حل لما هو به، مثلك تمامَا.

 

 

 

حدقته بغلٍ هائل وهي تنظر لها بقهرٍ لم يغب عنه غضبها ووقف هو مستكينًا بنظراتٍ متشفية لم تعد تقبلها، يُريد أن يجد عقلها حل حتى تُخلص نفسها مما هي فيه، أن تقبل الألم ما دام هو الحل الوحيد لتُنهي ألم أكبر وأقوى وأشد، الألم هو الحل الوحيد كي تتخلص مما يفعله بها!

 

 

 

لُعبة عقلية، كان يُمكنها بمنتهى البساطة أن تتخلص منها منذ البداية قبل أن يصبح هذا الصفيح ساخن لدرجة تؤلمها، ولكنها ليست بهذا الذكاء لأن؛ وبسبب الظروف المحيطة، كثقته التي تطغى عليه، الترهيب واغواء نفسها بأنها تُعذب، لقد صدق عقلها بالفعل أنه لا مفر، لقد كبل وقيد يديها وليس قدميها، ولكن بعد أن لمست ألم الاحتراق مرة، سيُمكنها الآن أن تواجهه مرة أخرى..

 

 

 

النفس التي تُجرب الهوى مرة، والجسد الذي يعتاد على الألم، والروح المُهانة، رويدًا رويدًا تحت ظروف مُعينة ستخضع بالنهاية! حتى ولو للحظة حاولت التخلص من العذاب كما تفعل هي الآن!

 

 

 

قامت بدفع المنضدة الساخنة المعدنية بقدمها المُرتعشة وهي تتحامل على شدة الحرارة التي ستصيبها بالطبع بالألم ولكنه ألم وقتي وسرعان ما تبعتها بأسطوانة الغاز بقوة شديدة، دفعت كل ما أسفل قدمها باتجاهه وهي تنظر له متهدجة الأنفاس بانتصار وروحها المتحررة بداخلها تأبي الخضوع والانصياع، ولكن إلى الآن لقد تقبلت ألم وقتي.. لعدة لحظات.. لقد استجاب عقلها بالكامل أن تتألم ولو فترة وجيزة من الوقت..

 

 

 

ابتسم بمنتهى الزهو ثم حدثها بهدوء مُستفز لم يتناسب مع حالتها الباكية وهي تسارع أنفاسها من ألم الاحتراق:

 

-       أخيرًا فعلتيها قطتي، هل كان يجب أن تصلي لتلك المرحلة الصعبة لكي تستطيعين التصرف وتجدين الحل؟  فبعد أن وقفتي على قدم واحدة كل ذلك الوقت في النهاية قمتِ بتحمل ألم بسيط لكي تستطيعين التخلص من ألم أكبر، هل أدركتِ الآن ما هو مدى غباؤك؟

 

 

 

--

 

أزال الأسطوانة وقام بإغلاق النار بها قبل أن تقوم بحرق الغرفة بأكملها وانتظر حتى بردت تلك المنضدة المعدنية وقام بإعادة كل شيء إلى مكانه، وأعطى لأنفاسها فرصة كذلك كي تهدأ قليلًا كي يكون التالي قاعدة وقانون فيما بينهما، لتقبلها أو لتتقبلها، أو تخضع وتنصاع، أو ربما عليها أن تفعل.. هذه كلها اختيارات متاحة أمامها لتختار من بينها لم يعد لديها خيار آخر!

 

 

 

هو في مزاج معتدل، ثابت، لا يتضح به اضطراب ثنائي القطب، لا يُعاني من الهوس ولا من الاكتئاب، هذا هو الرجل الذي تزوجته، سادي الطباع، سادي التفكير، يُحب أن يُعذب من أمامه، وألم من أمامه يدخل السرور على قلبه ويُرضيه ويشعر بسببه براحة طاغية، هو مصاب باضطراب الشخصية السادية المترسخ بداخل أفكار طفل صغير تعلم أن وظهره يُجرح أن في الألم مُتعة، وأن القوي هو من يؤلم، ها هو في قمة اعتداله وعدم تأثير أي اعراض من مرضه العقلي، هو يتصرف بمنطق مؤذي، ومؤلم؛ وسادي لأنه قد اختار منذ أكثر من عشرين عام بعقله الباطن بعد ما اختبره بنفسه أن يكون قوي، كما الفتى الذي اذاه، وكما والده.. والقوي دائمًا وأبدًا يستمتع بألم الغير!! وهذا بالطبع من وجهة نظره المضطربة الخاطئة!!

 

 

 

تنهد وتوقف عن تدخين غليونه، التجربة خير دليل، ومن خاض التجربة بنفسه يختلف رأيه كثيرًا عن الذي لم يُجرب.. ولقد جربت واختبرت وتألمت، فما الحل والنهاية والدرس المستفاد من تلقينه لها؟

 

 

 

-       نعود لما كنا نتحدث عنه مرة أخرى، ونترك تلك الرواية، ولكن أريد أن أخبرك فبغض النظر عن كونك غبية مثلها إلا أنكِ في النهاية تستوعبين ولكن بالطريقة الصعبة، سوف أخبرك ما الذي قاله كاتب الرواية في النهاية، قال:

" لا يمكن لروح حرة أن يمارس عليها فعل التملك" وانتِ حرة.

 

 

 

ابتلعت من تلك الكلمات وهي ترمقه عاد لكُرسيه الذي أحضره ليُصبح أمامها مباشرة، يا له من جبان ويا لتأخر عقلها في الادراك، لو كانت دفعت المنضدة واسطوانة الغاز بوجهه لكان تضرر بشدة، غبية، ما زال يُدهشها بنوع من أنواع الخداع وخُبث لا يُضاهى.. لا يُمكنها أن تتقبل أي كلمات منه الآن، فهو يُطري عليها بقول إنها حُرة، ولكنها لن تستجيب لرجل لئيم مثله!

 

 

 

تفقدها بزوج من الفحم الذي توسط عيناه الكاشفة للحقيقة دائمًا والتي تفهم من أمامها بمهارة، وكأنه جهاز كاشف للكذب، وهي تعلم أن ليس هناك مفر منه، خاصة الآن، وليس هناك ما يؤثر عليه كنوبة أو أعراض عقلية!!

 

 

 

-       فتاة جميلة ترتدي ما يحلو لها، تتحدث مع من تحب، ابنة أبيها المدللة، تلقي أوامرها على الرجال، حرة، لم تجرب السجن في قفص لأيام، أو أن تتناول طعامها بمواعيد محددة، لقد عشتي طوال حياتك حرة، لدرجة أنه كان لديكِ حرية اختيار مستقبلك العملي.

 

 

 

لوهلة احتدمت نظرته التي لم تكن واضحة ومستترة، بالكاد استطاعت فهمها، فهو أمام نفسه يشعر بالانتقاص، لم يملك أن يفعل مثلها بيوم من الأيام وهو طفل صغير، يكره القانون بشدة وتحمله، ولكن هذا الأمر من الماضي ولقد اختلف كل شيء على كل حال!!

 

 

 

-       وأنا أيضًا رجل حر لا أحد يختار لي أو يجبرني على شيء ولا أقبل قوانين غيري، ولكن بيني وبينكِ لقد حدث شيء بيننا ما لم نكن أنا وأنتِ على علم بحدوثه، وليس معنى اعترافي بذلك أمامك أنني ضعيف، لا على العكس تمامًا فذلك سيجعلك تنظرين إلى الصورة كاملة، لقد أحببتك، وجودك في حياتي أصبح شيء يستحيل تغييره تحت أي ظرف من الظروف، والآن أمامك حل من اثنين، إما أن أجبرك رغمًا عنكِ أن تصبحين كما يحلو لي، وإما أن أرى ما هي قواعدك لكي نستطيع أن نكمل حياتنا سويًا.

 

 

 

هل يتحدث عن عشقه لها؟! لديها الاستعداد أن تضحك وتضحك وتقهقه حتى تبكي وتبكي إلى أن تفنى الأرض ومن عليها، أو تهلك هي نفسها.. يتلاعب بالعشق الآن وفي هذه اللحظة حتى يُبرر لها عذابها، يا له من محتال مجنون!

 

 

 

التقت اعينهما، الباكية بالأخرى التي تبعث الخوف في النفوس، هناك شبح للعشق، أو أثر طفيف، أثر مُعاتب لعلاقة تدمرت بالكامل، ولكنها لم تعد تفيد بعد الدمار!

 

 

 

-       تركتك على حريتك واتفقنا ألا يحدث شيء لا تريدينه وحدث والتزمت بقوانينك في كل شيء ولم أرفض لكِ طلب، وستكونين كاذبة ولا مانع لدي أن اقتلك إن قولتي أننا لم نكن متفقين وسعداء سويًا وشعرنا بذلك الحب، هل تذكرين أم تريدين أن نعيد تفاصيل لا داعي لها؟

 

 

 

رمقته وكلماته بها أمر لا تستطيع انكاره، نعم كلاهما اختبرا لذة لا تضاهى بالعشق قبل أن تكتشف أمر حبيبته السابقة وتشابه ملامحها معها، ولكن ما بُني على باطل فهو باطل، حتى ولو كان يبعث مشاعر لا يُضاهيها أمر بالحياة!

 

 

 

-       جاوبي.

 

 

 

صراخه بنبرته الرجولية التي انبعثت حولهما في فراغ هذه الغرفة الشاسعة جعلت جسدها ينتفض وهو يلمحها بهذا الغضب لترضخ ثم همست بإجابة لا تعرف هي كاذبة بها أم مُحقة:

 

-       أتذكر، صحيح ما قولته.

 

 

 

هبطت بعض من دموعها وهي تشعر بالرعب، القفصين والمعاملة غير الآدمية وما فعله بها منذ قليل لم يتركا بنفسها سوى ضرورة الرضوخ – المؤقت – لم يعد لديها حل آخر أمامه حتى لا يُقابلها بالمزيد من الأمور المُفزعة ووقتها ستفقد عقلها وستبدأ بالتصرف مثله وهو غير واعي وانتظرت حتى عاد لهدوئه واكماله لترهاته:

 

-       كونك تشبهينها فروحك نفسها لم تقبل أن تكونين بديلًا لأحد، أن تكونين نسخة أخرى لامرأة قد عرفتها قبلك، هذه هي أفكارك وتوجهاتك، فالحل من وجهة نظرك بعد كل ما حدثتِني عنه من التفاهم، والنقاش، والاحترام، أن تذهبي وترفعين علي قضية خلع، أليست هذه هي طريقة تفكيرك؟ أم أنني مخطئ؟

 

 

 

عينيه اكتفت بالتحذير دون أن يُرهق نفسه بالغضب والصراخ، وهي كانت على قدر من الذكاء أن تُجيبه بهدوء ومصداقية هامسة بصحبة دموعها ورافقها سؤاله الذي أعاد ذكريات تمنت لو أنها كانت استمرت للأبد:

 

-       لقد فكرت في الانفصال عنك بسبب خوفي من أن تكون قد كذبت علي في كل شيء وأخفيت عني الكثير من الأشياء.

 

 

 

تفحصها لوهلة، وبداخله شعر بالألم المساوي لنفس مقدار غضبه، أما عن ملامحه فهي ثابتة بتشفي لا يتغير، لديه البراعة في الأمر، ولكن أن تطيح بكل ما تركه بين يديها من تاريخ مظلم وهو يعبر عن ضعفه بكلمات صاغها بصعوبة لتقرأها المرأة التي تعشقه، يا لها من حقيرة، عاصية، ناكرة لكل معاني العشق، سيطيح بكيانها هو الآخر، القليل من الصبر بعد وسينتهي من هذا العقل المسموم ليبدله بالكامل بآخر جديد لا يترسخ به سوى قوانينه هو!

 

 

 

أطلق تأتأة مفادها عدم الموافقة على ما تقوله وأخبرها دون اهتمام:

 

-       أنا لن أقول أو أريكِ أدلة تنفي ما تفوهتِ به من هراء، في الحقيقة كل ذلك لا يفرق معي، كل ما يفرق معي هو الحل، الحل الذي يجعلنا نحيا على وفاق، لأن فكرة الانفصال غير مقبولة بالنسبة لي، ولقد جربنا أنا نحيا بطريقتك وفشلنا في ذلك، ولقد جربتي ذلك للتو، وسوف تجيبيني بنفسك بعد كل التجارب التي مرت علينا.

 

 

 

 

نهض ووقف خلف الكُرسي واستند عليه وهو يحدق بها ولقد آتى وقت الأسئلة الهامة التي يريد سماع اجابتها عليها:

 

-       بعد أن جربتي الأقفاص، والمواعيد، والجو الحار، وتناول الطعام في مواعيد محددة، والألم، والذل وأنا أكيل إليكِ الإهانات، بعد ذلك خرجتي لفراش مريح، وطعام جيد، وملابس، وراحة، وحياة إنسانة، ما هو اختيارك الآن؟

 

 

ابتلعت وتوقفت عن البكاء وهي تلمحه بملامح أنهكها الخوف والريبة، فهي يستحيل أن تثق به، ولكن صوت المنطق الباعث لخطة فرارها منه للأبد تقول بأن تذعن ولو لحظيًا لما يُريد:

 

-       الثانية.. بعد أن خرجت..

 

 

 

أومأ برأسه في تفهم وقال مُعقبًا:

 

-       جيد، جيد جدًا.

 

 

 

ضيق عينيه بعد أن تريث لبُرهة ثم سألها مرة ثانية:

 

-       وبعد كل ذلك الألم الذي شعرتي به والنار تحت قدمك كيف كان تصرفك؟ وماذا فعلتي؟ وما هو شعورك وانتِ تفعلين ذلك؟ ولماذا تصرفتي هكذا؟

 

 

ملامحه المنتظرة لإجابة منها شافية عليه كان لابد من أن تتنازل أمامها ولم تستطع أن تواجه اتساع عينيها توجسًا مما قد يفعله بها فأجابته:

 

-       قذفتها بقدمي، وشعرت بألم الاحتراق، والخوف من لمس النار مرة أخرى، فقررت أن أتحمل قليلًا وأحاول ألا أخاف والألم البسيط أفضل من الألم الدائم.

 

 

 

وكأنه وجد ضالته التي كان ينشدها منذ أن توقف عن الحديث معها، بل منذ أن تزوجها.. لقد اقترب للغاية من ايمانها بالأمر، لذا كان عليه الطرق على عقلها وهو يتأجج بانصياعها ورضوخها ومصداقيتها التي يلاحظها بنبرتها بمنتهى الوضوح:

 

-       جيد جدًا، معنى ذلك أننا عندما نتحمل الألم ونتغلب على الخوف الذي بداخلنا سنرتاح بعد ذلك من أشياء كثيرة، عظيم، لقد فهمتيني جيدًا قطتي.

 

 

 

عاد من جديد ليجلس بغروره الذي لمسته به منذ أول وهلة لها بهذه الغرفة وهيمنته تطغى على كل حركة بملامحها وتحركاته لتبتلع خائفة، فهو نجح أن يُذيب عقلها بالفعل، ولولا أنها كان لديها بعض الاستعداد لما هي مُقبلة عليه ولغايتها في التوصل لحل نهائي يُمكنها من الفرار منه، لم تكن لتستطيع الصمود أبدًا، لو حدث هذا منذ البداية لكانت انهارت أو رضخت له!

 

 

 

-       أن تتحملين الألم سواء كان نفسي أو جسدي وأن تتغلبين على خوفك معي، هذا هو الحل، هذه ستكون حياتنا معًا لأننا جربنا الأمر بطريقتك قبل ذلك وفشلنا، فلنجرب بطريقتي هذه المرة، وهذا ما سينجح، أن تظلي حرة ليس بحل، لابد أن تدركين أنه بمجرد وجودي في حياتك فلقد فقدتي حريتك في أشياء كثيرة بالفعل، كما فقدت أنا حريتي أيضًا.

 

 

 

حكم وقرار مختلطة بترهات تفزعها، ما الذي يريد الوصول له حقًا؟ ولماذا يرمقها الآن بنظراتٍ راغبة تمتزج بأخرى تصيب نفسها بالرعب؟

 

 

 

-      كل رجل في هذه الحياة تتوق نفسه إلى أن يجرب، أن يمل ويقنط، فنحن جشعين بطبعنا، ولكنكم عكسنا، لا تستطيع المرأة أن تفهم احتياج الرجل لواحدة واثنين وعشرة، وأنا أستطيع بمنتهى السهولة أن أقتلك في اليوم ألف مرة لو فقط فكرت في أن أقيم علاقة مع امرأة أخرى، أريدك أن تفهمي حديثي جيدًا وسأعطيكِ دقيقتين لتتخيلي بهما أنني قد تزوجت بأخرى، أو أقمت علاقات جسدية وأنا زوجك، حاولي أن تتخيلي ذلك، انتِ متزوجة برجل من المفترض أن بينكما قصة حب، استيقظتِ في يوم لتعلمي أنه يقوم بخيانتك، أو على علاقة بامرأة أخرى، أو تزوجت، وشرعًا وقانونًا هذا من حقي، كما أن قسيمة زواجنا ليس بها شرط أن يتم تبليغك بزواجي من أخرى، وقانونًا يمكنني التصرف حتى إن وجد ألف قانون يمنع ذلك، هذا إن وجد بالفعل، وشرعًا من السهل والبسيط أيضًا أن أقوم بعمل إشهار لتلك الزيجة الأخرى وبموافقة جميع أفراد عائلتها، حتى لو كان ذلك الزواج غير مثبت قانونيًا على الأوراق، وصدقيني هناك الآلاف يتمنين الزواج برجل مثلي.

 

 

 

ابتسم نصف ابتسامة مغترًا بنفسه ثم تكلم آمرًا اياها بنبرة مُحذرة:

 

-       اغمضي عينيكِ وتخيلي، ثم قومي بالرد علي.

 

 

 

 

تفقدته بحسرة شديدة، ثم فعلت ما أمر به بمنتهى القهر، أكان هذا ليُرضيه؟ لا بالطبع، كان عليه أن يعبث بعقلها أكثر، وبجسدها، وبتذكيرها بمن الذي ينص القوانين الآن، ومن يملك زمام الأمور، ومن القائد ومن التابع في هذه العلاقة التي على ما يبدو لن يُنهيها إلا بمقتلها أو برضوخها!

 

 

 

تحرك بمنتهى الهدوء واتجه ليقف خلفها وهي ما زالت مُقيدة بهذا المجسم الخشبي، يتفحص منها ما يجعله يشعر بالاختناق بمنتصفه الأسفل وكأن ملابسه فجأة أصبحت لا تناسبه وتسبب له شعور مُزعج بالضيق، ولو كانت في الجحيم جثة هامدو محترقة، لن تتوقف عن اصابته بالإثارة وكأنه لعبة بين يديها!!

 

 

 

اقترب قليلًا منها، واندفعت الدماء تغلي بعروقه بضرورة أن يتملكها بكل الطرق الممكنة عاجلًا أم آجلًا، بالرغم من كل ما يفعله ولكن ما زال يشتهيها، وكونها الآن لا تستطيع سوى أن تفكر ألف مرة قبل التفوه بحرف من كلماتها تجعله يود أن يحصل عليها في هذه الهيئة أكثر من أي شيء بالحياة!

 

 

 

تملك لحظة فاصلة استطاع أن يُسيطر بها على نفسه من خلالها وهو ينظم أنفاسه حتى شعر ببعض الهدوء وعادت ملابسه تتلاءم في قياسها من جديد، فاقترب مرة ثانية ثم همس بالقرب من أذنها:

 

-       زوجك يعرف امرأة أخرى، ليست أجمل منكِ، ولا أغنى منكِ، ولكنه تعرف عليها، يريد أن يعرفها وكفى، سيجد بها أشياء لا يجدها بكِ، ما هو رأيك في ذلك؟

 

 

 

يؤثر عليها بكلماته، ويتأثر هو باقترابه منها بهذه الطريقة وهو يرى كل ما يبتغيه بها، شهر لعين كان عليه أن يُقضيه دون الاقتراب منها.. هي تعرف تأثير الأمر الأول عليها ولقد تعلمت ما يفعله، بينما تأثير الأمر الثاني لم يخطر على بالها في مثل هذا العذاب الذي تمر به!

 

 

 

لو كان استمر للحظة أخرى من جديد لكان انهار، كان عليه أن يبتعد ويصرف نظره قبل أن يلتهمها ولا يبقى بجسدها المقدرة على التحرك لأيام، لذا ابتعد، تصنع فعل شيء بعبثه ببعض الأدوات ليُرهبها وهي لا تدري ما الذي يصنعه وليس لديها أي فكرة عن أي أداة قد يستخدمها عليها.. ولكنه في الحقيقة كان يُحضر ما يُخفي به عينيها.. لن تفر اليوم دون أن يجعلها تبكي من مجرد عدة كلمات، دون إهانة، ودون عنف، ودون أي أمر يُرهبها، بل على النقيض تمامًا سيجعلها تتمنى عودة بعض الذكريات بينهما إلى أن تتوقف عن عنادها وترضخ لما يُريده هو!

 

 

 

احضر كذلك عصا رفيعة تتصل ببعض الفراء الناعم للغاية، وأحضر مجرد سلسلة تستخدم للأطواق كي تستمع للصوت وتفزع إن فقط خرجت الأمور عن زمام يده!

 

 

 

عاد من جديد وهو يضع عصابة فوق عينيها مخملية ثم عاد من جديد ليقف خلفها تمامًا وتفقد منها المزيد بهذا الشعر المسترسل على جسدها الفاتن الذي يحرضه على التنازل التام ومعانقتها ثم تعويض كل تلك الأيام الماضية بصحبتها في فراشٍ واحد..

 

 

 

-       هل وجدتي إجابة؟

 

 

 

همس بالقرب من اذنها وابتلع في صمت وأنفاسه تلقائيًا تتصاعد بينما ترددت هي في اجابتها عليه، وضعت الكثير من التخمينات.. وها هي القصة تُعاد من جديد.. شتات، لا تدري ما الصواب وما الخطأ معه، وغد لعين!!

 

 

 

حاولت أن تسيطر على ارتباكها واختارت إجابة مُحايدة وقلبها تتصاعد ضرباته فزعًا مما قد يفعله بها لو أن الإجابة كانت خاطئة:

 

-        سأغضب أكيد.

 

 

همهم واقترب أكثر إليها حتى باتت تشعر وكأن أنفاسه على بعد سنتيمترًا واحدًا منها ثم حدثها بما لم تتخيله قط:

 

-       اخبريني قطتي، تذكري ما بيننا واحكِ لي عن وقت جيد كان بيننا لا تستطيعين نسيانه.

 

 

 

أنفاسه المنعكسة على ملتقى عنقها بكتفها باتت تُربكها أكثر ليقشعر جسدها من مجرد تخيل ما قد يفعله بها الآن، آلاف من الحيل التي يملكها عقله المجنون وهي لا تعلم عنها شيئًا، وغابت تمامًا عن التفكير في أي شيء سوى ما قد يفعله بها، لقد ظنت أنها ستتحمل القليل بعد، وظنت أنها قد تستطيع الفرار منذ أيام ماضية بعد أن قررت أن تذهب لمنزله، ولكن ها هو يبعث بها الارتباك، الشتات، والخوف.. وكأن كل ما قضته معه من شهور لا تُفيد!

 

 

 

-       ألهذه الدرجة لا يوجد بيننا أوقات جيدة؟

 

 

 

آتى تساؤله لينبهها من غفلتها ولكن بهمس تعرفه جيدًا، نبرته يصرخ بها الرغبة، هل هذا هو الوقت المناسب لعلاقة جسدية؟ هل انعدم شعوره إلى هذه الدرجة؟!

 

 

 

همهمت وهي تحاول أن تجد أي فترة جيدة سريعًا ولكنه شعر بالملل في نبرتها وكأنها فقط تريد أن تجيب السؤال وتنتهي ليس إلا:

 

-       عندما قمنا بعمل تلك الجولة الأوروبية وسافرنا معًا ثانية في بداية زواجنا.

 

 

هل تظن أن الأمر هين، هو لا يُريد هذا، بل يريدها أن تبكي عشقًا من أجله، ولن يتوقف إلى أن يصل لما يريد ويحرز هدفه معها اليوم!

 

 

 

-       ما الذي تتذكرينه؟

 

 

ابتلعت وهي تعاني من عدم رؤية شيء ثم استمعت لسلسلة خلفها ولم تتذكر سوى أنها كانت تُساق كالحيوان الأليف بصحبة اهاناته المتتالية لها لترتبك أكثر وتحدثت على عجالة والذعر يتضح بنبرتها:

 

-       كنت تستمع لي طوال الوقت، وكنت هادئ الطباع، شعرت وقتها أننا من الممكن أن نصبح في يوم من الأيام أسعد زوجين في هذه الحياة، وكنا سعداء جدًا.

 

 

 

رطبت شفتيها ثم ابتلعت وهي تتذكر كل ما فعله بها بالأيام الماضية وما فعله منذ قليل ليتصلب جسدها في استعداد لصفعة أو جلدة أو ربما سيؤلمها بشيء ما، فهي تتذكر تلك العجلة المعدنية التي مررها على جسدها ذات يوم وهو يُعرفها على محتويات هذه الغرفة اللعينة واستطاع أن يستمع لأنفاسها المرعوبة ولكن هذا لم يكن ليكفيه فسألها بهمس صخبت به أنفاسه المتثاقلة بما يتفقده منها:

 

-       أي وقت بالتحديد؟ وأين كنا؟

 

 

 

ابتلعت وهي لا تدري ما الذي يقصده من كل هذا، هي لا تستطيع أن تفكر ولا تتذكر سوى وحشيته معها منذ أيام ومنذ قليل، لا تستطيع أن تُسلط تركيزها سوى على هذا، وكل ما تتذكره بالسابق هو غبائها وسذاجتها وكل ما فرطت به كفتاة لابد لها من أن تعلم كيف يكون لها علاقة سليمة منطقية مع زوج متفاهم، ولا تتذكر سوى أنها تزوجت من رجل سا دي مجنون!!

 

 

 

فجأة انتفض جسدها عندما تلمسها شيء مبالغ في نعومته وهو يمر من أسفل عنقها هبوطًا لظهرها وما يليه بحركات متأنية وحاولت أن تركز بما سأله ولكنها تشعر بالمزيد من الخوف، فلطالما تبع مثل هذه التصرفات أمر قاسي يؤلمها!

 

 

 

-       عندما كنا في سلوفاكيا، قبل أن نعود من السفر، في ذلك المنزل البعيد.

 

 

 

همهمت وهي تحاول ألا تتلعثم وتتمنى أنها اجابته بما يُريد بينما تلك التحركات على جسدها لم تعد تنبه عقلها إلا لما سيؤلمها به وهي تضرع بداخلها أنها ستستطيع الصمود أمام الألم الذي سيُلحقه بها وانزعجت للغاية من أجل أنها لا تستطيع الرؤية ولا تبين ما سيقع بها لتستمع لصوت السلسلة من جديد فانتفض قلبها يرجف بعنف حتى تيقنت أنه سيترك قفصها الصدري وسيغادر في أي لحظة الآن!

 

 

 

اقترب أكثر ثم قلب طرف العصا ليمررها بدلًا من الفراء فابتلعت في ذعر وهي لا تدري هل سيقوم حقًا باستخدامها أم لا وهمس متعجبًا:

 

-       لقد مكثنا هناك أكثر من يوم، ما الذي تتذكرينه؟

 

 

 

تريث لجزء من الثانية ثم أضاف بمكر:

 

-       حدث الكثير من الأشياء في ذلك اليوم، ذكريني.

 

 

وكي يُصاعد من ترهيب نفسها قام بما يشابه ضربها ولكن بمنتهى الخفة التي لن تؤلم طفل لم يبلغ بعد العامان من عمره ليجد صراخها انطلق فورًا وحركة جسدها تضطرب بشدة فسرعان ما قال:

 

-       ألهذه الدرجة كانت ضربة صعبة ومؤلمة؟

 

 

 

 

 

التقطت أنفاسها المضطربة وهي لا تعلم إلى أين يريد الوصول وهي كالضريرة التي فقدت بصرها لتتلعثم وهي تقول:

 

-       أنا، أنا، أنا أعتذر.

 

 

 

بدأت عينيها في ذرف الدموع وهي تود الصراخ بداخلها أنها خائفة، مذعورة، قلبها سوف يتوقف عن العمل من كثرة ما يفعله وبمجرد سماعها لصوت السلسلة من جديد وجدت نفسها تبكي وتجيب سؤاله قبل أن يفعل بها شيء يؤلمها:

 

-       في ذلك اليوم الذي، اليوم الذي كان صباحًا، ليس اليوم الأول، الثاني الذي كنا فيه سويًا عندما...

 

 

ابتلعت وهي تحاول أن تصوغ جُملة وحيدة مفهومة بين خوفها وأسئلته التي لا تتخيل ما الذي قد يفعله لو قامت بإجابتها بشكل لا يُرضيه ثم أكملت بين بُكائها:

 

-       عندما هبطنا من السطح وكنت معي، وقتها كنا سويًا، أعني بشكل حميمي، كانت هذه هي المرة الوحيدة التي لم نتحدث بها، وكنت سعيدة جدَا معك، كنا نتداعب ونضحك قبلها، وبعد ذلك ظللنا جالسين بجوار بعضنا البعض، ووجدتك تقترب مني.

أتوسل إليك كفى ألا أستطيع التحمل، قدماي أقف عليهما منذ مدة، ويدي تؤلمني، وقدمي احترقت من النيران، يكفي هذا، سأفعل كل ما يحلو لك ولكن كفى.

 

 

 

 

ما يبدر منها ليس بضعف ولا تقبل للإهانة ولا تجيبه لترضيه وحسب، بل الأمر الآن بات يتعلق بذكرى واحدة جعلتها لا تطيق صوت هذه السلسلة وهي تُجذب منها أسفل قدماه ثم تعلق من عنقها بفعلها لمدة ساعتين على مدار خمسة أيام متتالية، ولا تستطيع سوى تخيل نفسها كحيوان أليف بداخل هذا القفص وصوت تلك السلسلة اللعينة يتهاوى محدثًا صوت يقشعر له بدنها كلما تذكرته وهي تتلمس فتحات القفص!

 

 

 

-       لماذا تبكين الآن؟

 

 

 

ابتلعت من سؤاله ولم تتوقف عن بُكائها فهمست قائلة:

 

-       لقت تعبت، وأوافق على عمل أي شيء ولكن يكفي ذلك.

 

 

 

 

همهم متفهمًا وهمس بالقرب من أذنها ليجدها تحاول الابتعاد عن أنفاسه وانتفاضة تسري بجسدها ولكنه لم ينتظر وأخذ يطرق على عقلها:

 

-       أنا أعلم جيدًا أنكِ قد تعبتِ، وجسدك يُرهقك مما يحدث له، ولكنني إلى الآن لم أقم بلمسك أو ضربك أو عمل اي شيء، كل ما أريده هو رد على أسئلتي، نحن مازلنا نتحدث، وانتِ تقفين ليس أكثر، ويديك لا تؤلمك لهذه الدرجة أنا أراها جيدة، أكملي هيا، ما هو شعورك يومها؟

 

 

لعين وحقير ووغد وكل ما يُمكنها تصوره من سُباب وصفات بشعة تُناسب شخصية رجل مختل مثله، لماذا يصل بها الحد لهذه الدرجة من أجل أن تنفصل، لقد شرع الله الطلاق، وقانونًا يُمكنها الانفصال، لماذا لا يحقق لها ذلك، هل عشقه يسن أن تُعذب وتُنتهك عقلًا وروحًا وجسدًا بهذه الطريقة؟ ولو كان مهووسًا بها، ولو كان قلبها لا ينبض إلا لسواه ومن أجله، هي مستعدة لفقد حياتها على أن تواجه المزيد معه!!

 

 

 

حاولت السيطرة على بُكائها وجسدها يتشنج وهي تحاول أن تمنع نفسها عن البكاء لتُفكر في لعنة اسئلته التي لا تعني لها أي شيء منطقي، هو يُعذبه بالفعل فلم يسألها عن اوقاتهما الجيدة، أما عنه فلقد رأى ما الذي يُحدثه هذا الصوت كلما استمعت له فقال من جديد بنبرة نافذة للصبر لم تتخل عن همسه الراغب بها:

 

-       اخبريني بما شعرتي يومها؟ ماذا كان احساسك؟ وسريعًا، لن انتظر كثيرًا.

 

 

من جديد قام بتحريك تلك السلسلة فتحدثت بتوسل:

 

-       حسنًا، حسنًا، أنا أتذكر، شعرت بأنني سعيدة، ولا أريد اي شيء آخر في الحياة غير أن أصبح بجوارك، كنت أريد أن نبقى هكذا طول العمر.

 

 

 

حالتها المزرية ازدادت تشتتًا وهي تحاول أن تستجمع نفسها لينتفض جسدها بمجرد امرار هذا الشيء الناعم عليه فابتلعت وهي لا تدري إلى متى سيستمر عذابه لها ووجدته يتساءل باستمتاع غريب بنبرته الهامسة وكأنه رجل يمارس الحب وليس مجرد رجل لعين يقوم بانتهاك مقدرتها العقلية:

 

-       ممم، ومتى أيضًا كنتي سعيدة معي؟

 

 

 

تعجبت عندما احست أنه يقف أمامها ولم يعد خلفها لينعقد لسانها لوهلة ولحسن حظها لم تر تلك النظرات التي تفترس مفاتنها فارتجفت شفتيها وهي تحاول التفكير في الوقت الجيد معه لعله ينتهي ويرضى اجابتها:

 

-       عندما، اليوم الذي جئت به بالعقد، عندما ذهبنا للإفطار في الخارج، كان يوم جميل.

 

 

 

وجدها بدأت تهدأ قليلًا فهمهم ثم عقب بسؤال جديد:

 

-       ومتى أيضًا؟

 

 

 

تنهدت وهي لا تدري إلى متى يود الذهاب بأسئلته العديدة ولم يأت على عقلها سوى تذكرها لتلك العشرة أيام التي اطنبت يومها بإجابتها فتقبلها فحاولت من جديد أن تجيبه إجابة نهائية شافية لأمراضه المتعددة ووافيه لأسئلته السخيفة التي لا تتناسب مع ما يفعله لها:

 

-       تلك الفترة التي كنت بها طوال ذلك الشهر قبل أن تسافر، كانت أيام جميلة، وكنت أعتقد إننا لن نختلف على أي شيء مرة أخرى، كنت سعيدة معك، وكنت قد تأكدت من أنني أحبك، ولا يوجد ما يمكن أن يبعدنا عن بعضنا البعض، لا مشكلات، ولا نقاشات، كنت على يقين من أنك لن تأتي بي إلى هذه الغرفة مرة أخرى وثقت بك وقولت أنه من المستحيل أن يفعلها أبدًا، ولن يتحدث مرة أخرى عن الثواب والعقاب والحساب ولكن...

 

 

 

الكلمات، سلاح ذو حدين، إما يُشفي أم يؤلم كنصل السيف الحاد الذي يردي من أمامه قتيلًا من شدة حدته، وتلك الكلمات جعلتها تُرثي على حالها، لينطلق لسانها وبكت، بدون تعمد، فقط من مجرد تذكر الأمر:

 

-       كنت وقتها أشعر بأنك الرجل الذي انتظرته طوال عمري، كنت أرى إنك تفهمني وتحبني، وتراني المرأة الوحيدة في الدنيا وكأن جميع النساء والناس اختفت من حولك، حديثك الذي كنت تحدثني به كان مهم جدًا بالنسبة لي، وعندما اقتربت مني وقومت بمصارحتي بما حدث لك بالماضي، كنت أقدر ذلك كثيرًا وشعرت أننا لم يعد بيننا حواجز وأخيرًا قمت بالانفتاح لي، وكنت سعيدة للغاية وقتها لأني اعتقدت أنك من المستحيل أن تخفي عني شيء، كانت أطول فترة قضيناها معًا دون مشاكل، وكنت أحلم أن نستمر هكذا  طوال العمر، ولكن في النهاية اكتشفت أنك قمت باختياري فقط لأنني أشبه امرأة أخرى.

 

 

 

استمتع كثيرًا بذلك الضعف الممتزج بألمها، لم يعد جسدها يتململ بمكانه، بل كانت روحها تتمزق، وكل هذا النحيب لم يكن بفعل الخوف، أو الألم، بل بفعل المشاعر، ما زال بداخلها حُزن من أجله، ومن أجل كل ما حدث بينهما!!

 

 

 

حاول السيطرة على نفسه ثم جذب تلك العصابة من فوق عينيها وهي ما زالت تبكي ليسألها وهو ينظر بمقلتيها ليتبين صدقها من عدمه:

 

-       لماذا تبكين الآن؟ ما الذي يبكيكِ أو يغضبك في تلك التفاصيل؟

 

 

 

نظرت له بانكسار وحزن دفين انعكس بعينيها خلال دموعها التي لا تتوقف ثم اجابته بهمس يعج بمصداقيتها التي صدق بها فورًا:

 

-       لأنني من الممكن ان أتحمل أن تضربني ولكن لا أتحمل أن تكذب علي، وأنت فعلت ذلك فلقد كذبت علي في كل شيء، وعدتني ملايين المرات بفعل ملايين الأشياء ولكنك لا تعطيني ولو سبب واحد يجعلني أثق بك وانا أشاهدك تفعل العكس، كوني أشبه يمنى ليست هي المشكلة، المشكلة الحقيقية أنك دائمًا ما تكذب علي، ودائمًا ما اكتشف عدم التزامك بوعودك معي، فكانت تلك المشكلة هي آخر شيء يمكنني تحمله، ولذلك طلبت منك الطلاق ، ومن وقتها قد تغيرت مشاعري نحوك، سواء تصدقني أم لا، أنا لم أعد أتصرف هكذا سوى بسبب كذبك علي وحياتك وماضيك الذي لا أعلم إلى أين سيصلون بنا في النهاية.

 

 

 

تفقدها وشعر برغبته تحتدم بداخله، رؤية معاناتها وألمها كان أمر فوق الوصف بالنسبة له، لا يفكر سوى بتأجيل العقاب لأجل غير مسمى، ويهشم هذا الجسد الذي اشتاق له، وخصوصًا وهي مُكبلة وعن قريب لن تستطيع التحمل لوقت أكبر، لا، لم يكن هذا هدفه!!

 

 

 

سيطر على نفسه سريعًا واقترب منها للغاية لتنكمش على نفسها بينما لم يكن سوى يحل وثاقها وليرهبها أكثر بردة فعله غير المفهومة بعد كلماتها وهي تنعته بالكاذب رمقها بنظرة فارغة من المشاعر ثم تركها بالغرفة وذهب للخارج ليدعها تخمن ما الذي سيحدث بعد ذلك!!!

 

--

جلس على تلك الطاولة وهو يحاول أن يحافظ على ابتسامته التي بالكاد تغيب عن أعين الجميع ولم يتعود أحد على رؤيته متجهمًا هكذا ليرى تلك الفتاة التي تعمل بمركز مرموق بالشركة المقابلة وهي تحاول أن تستدعي انتباهه ثم قالت متسائلة بنبرة مرحة:


-       أين أنت يا رجل؟ لقد كنا الآن نَسُب ونلعن في مديرين الموارد البشرية الذين يخربون كل شيء في العمل، هل هم جيدون عندكم أم ماذا؟



همهم منتبهًا لها وكأنه لم يستمع لشيء ليتكلم صوت رجولي:

-       اتركيه لأنه ليس في حالته الطبيعية هذه الأيام وأصبح العمل هو آخر ما يهتم به.


ضيقت ما بين حاجبيها ثم تفحصته مليًا بنظرة ذات مغذى وهتفت به:

-        ماذا بك يا رجل؟ ما الذي حدث لك فجأة وجعلك تنشغل عنا هكذا؟ لو لم أكن عازفة عن الزواج لكنت شعرت بالغيرة نحوك.

 

 

أشار لها زميله، فثلاثتهم قد تعودوا على تناول الطعام في استراحة الغداء، ولا يتفارق أي منهم كل يوم عمل، ثم همس لها من على مسافة وهو يفتعل بعض الحركات المازحة:

 

-       لقد أفقدته عقله، وأصبح هكذا يوميًا.

 

 

 

تفقدته مليًا وتعجبت باندهاش:

 

-       ما هذا؟ ولم تخبرني؟ سوف أغضب منك إذًا.

 

 

 

تجهمت ملامح "يونس" أكثر ثم زفر بضيق بعد أن بات الأمر أصعب من اللازم ليتحمله فنهض عاقدًا حاجباه وهو يغمغم:

 

-       لقد أخطأت بالجلوس معكم.

 

 

 

تركهما خلفه غير مكترث لحالة المزاح الخاصة بهما، ومن الغريب عليه ألا يمزح، أن يُصبح متجهم طوال الوقت، وأن ترفضه فتاة بهذه الطريقة، لا يدري ما الذي سيحدث لو انتظر إلى أن تعود إلى الجامعة، على ما يبدو لقد ورط نفسه والأمر هذه المرة في غاية الجدية لدرجة أنه لا يستطيع الانتظار من أجل فتاة وكل ما يُفكر به هو الذهاب ليقف تحت منزلها حتى يلمحها صُدفة!!

 

 

 

--

خرج مغادرًا للغرفة وبمجرد استناده على الباب انهارت ملامحه تمامًا التي كان يعمل جاهدًا على تزيفها، وتلك الرغبة اللعينة لها بداخلة لا تنوي الاندثار في أي وقت قريب.. لو فقد السيطرة على نفسه هذه المرة لن يكون هناك أمر جدي فيما بينهما بالمستقبل، وستعرف هي أنها تملك عليه طائلًا وتأثير لا يختفي دائمًا وأبدًا..

 

 

 

خلع قميصه القطني قصير الكم ثم ألقى به أرضًا غير مكترث لنظام المنزل الذي يقوم بإفساده ثم توجه عاري الصدر للأسفل ولا يُفكر سوى بمحاولة الهدوء، استعادة رباطة جأشه على مشاعره التي لا تتوقف لها، ربما كوب من العصير البارد والاغتسال بماء مثلج كي يُذهب تلك اللهيب التي أججته بداخله كلما لمحها، وخصوصًا أنها باتت نسخة قريبة من تلك المرأة التي تخيلها وأرادها يومًا ما..

 

 

 

اتجه نحو المطبخ وقام بسكب العصير بواحدٍ من الأكواب ثم فاجئه ذلك الصوت الرجولي المتحدث:

 

-       لقد بحثت عنك في كل أرجاء المنزل ولم أجدك، أين كنت، عمر؟

 

 

التفت ببعض الصدمة لتواجد والده لأول مرة بمنزله واجابه متسائلًا وهو يبحث عن تبرير منطقي بداخل عقله:

 

-       كيف حالك يا أبي؟

 

 

 

أومأ له باقتضاب مبالغ فيه وملامحه لا تحمل خير قط فمن الواضح أن "يزيد الجندي" قد آتى للنزال الضاري الحاد معه ثم كرر سؤاله من جديد:

 

-       أين كنت يا عمر؟

 

 

 

عقد حاجباه وتصرف ببرود لا يتفق مع ذلك البركان الثائر الذي يغلي بداخله فأجابه هو الآخر بما لا يُفيد:

 

-       كنت بالأعلى.

 

 

 

رمقه والده بنظرة غير راضية، فبالطبع هو لا يعجبه شعره الطويل المعقود للخلف ولحيته النامية ببعض المبالغة، بالرغم من تهذيبها ولكنها لا تليق بوجه محامي!!

 

 

 

تنهد وهو يُحدق به ثم اعطى له نظرة مفادها "هات ما عندك" فهو يتوقع أنه سيُحدثه عن العمل، ولكن من وجهة نظر والده ليس هناك سبب ولا داعي لفشله سوى أمر واحد قط، تلك الفتاة التي ذهب وتزوج منها وجعلته لُعبة بين يديها وأصبح في النهاية ابنه أضحوكة الجميع وهم يتغامزون ويتلمزون لماذا توقف "عمر الجندي" عن العمل كمحامي!

 

 

 

كل ما لا يتحمله ويميته حقًا أكثر من هذه الفتاة هو أن حلمه الذي تجسد في طفل صغير آتى يومًا ما بعد أن فقد الأمل في الإنجاب قد قارب على الاستحالة!

 

 

 

التفت حوله بالمنزل وهو يُبدي نظرات مُعجبة وتحدث قائلًا:

 

-       جميل.. اقصد منزلك..

 

 

 

ابتسم له ابتسامة لم تقابل عينيه كعلامة على امتنان لم يتعد حدود الذوق مع الرجل الذي جعله كل ما هو عليه ليجده يتابع متعجبًا:

 

-       أين هي زوجتك يا تُرى؟

 

 

 

كل شيء وكأنه معد لها مُسبقًا، فسرعان ما اجابه:

 

-       في الخارج

 

 

 

قلب شفتيه وهو يومأ ثم غمغم:

 

-       جيد سنجلس بمفردنا إذن، هي التي بالخارج وأنت الذي في المنزل، عظيم.

 

 

 

 

تريث لبرهة ثم ضيق عينيه نحوه فلم يُلاقيه ابنه سوى بنظرات صلبة فارغة من المشاعر ليجده يتحدث بهدوء غالبًا ما يسبق عواصف ضارية متتالية لن تنتهي لشهور:

 

-       هذا غريب، لقد أخبروني بالخارج أنكم بالمنزل، وظللت ما يقارب النصف ساعة أبحث عنكم داخل المنزل ولم أجدكم.

 

 

 

تركه والتفت ثم قام بسكب بعض العصير له، هو ليس بمزاج مناسب لأي كان مما سيُنادي به والده، يعلم عن ظهر قلب أنه يريد أن يراه الأفضل بين الجميع، ولكن في هذا الوقت لديه ما يهمه أكثر من العمل!

 

 

 

عاد من جديد ثم قدم العصير لوالده فتناول رشفة منه ليجد ملامح تشابهه تحدق به وسأله بنبرة جامدة:

 

-       ها أنا ذا أمامك، ما الذي تريده؟ ما هو السبب المهم جدًا الذي جعلك تشرفني في منزلي لأول مرة، المحاضرة التي ستلقيها عليّ هل ستكون عن زوجتي، أم عملي، أم شكلي وشعري الذي لم أقم بتقصيره؟

 

 

 

يُتبع..