-->

الفصل الخامس - غرف فندقية

 





الفصل الخامس


 

صباح جميل بعد عدة ليالي ممطرة، أخيرًا تشرق الشمس وتبعد الغيوم عن طريقها، ترسل أشعتها الخفيفة التي يتميز بها شهر مارس، يبدو التل في حالة جيدة وزروعه تتأهب نحو ربيع مليئ بالزهور والورود والخضرة، جميع تلك الأجواء تجعلني أريد أن أطير كالفراشة إلى عملي بالمطبخ، العمل كطاهية في فندق منعزل على تل بالقرب من قرية صغيرة أمر رائع في نظري، أنا شابة بسيطة بطبعي لا أبحث عن اللهو والحفلات، أو العلاقات العاطفية، لا أفهم ما هو هذا الحب ولا أريد، أفضل أن أبقى نقية، وألا يمس قلبي أحدهم، أود أن أحافظ على عذريته حتى الزواج، وعندما أتحدث مع أحد بتلك الطريقة يصفني بالقروية أو ابنة الفلاح، حسنًا إن كان هذا التفكير يجعلني أبدو قروية فأنا قروية وبكل سرور، رغم أني نشأت بالعاصمة مع عمي وزوجته حيث الحضارة - كما يصفونها - ولكني زهدت كل تلك المظاهر، وكنت دائمًا ما أتشوق لأجازة الصيف حيث يأتي بي عمي إلى هنا، إلى تلك المنطقة الهادئة التي يفسدها البشر بصخبهم واحتفالتهم، ياإلهي أضبحت أتحدث كإمرأة عجوز!

 

- كارين هل انتهيتِ؟

 

سأل مانويل فأومأت موافقة وناولته الفطور ليقدمه بغرفة الطعام، إنه شاب جيد على ما أظن ولكني أفضل أن أبقى على مسافة جي فقد رأيت تأثيره مسبقًا على الفتيات، خاصة دافني وهي تقاربني في السن وهذا يعني أنني لم أكن حذرة لن يحدث شيء جيد، على أية حال عملي أولى بالتفكير أكثر من أي شيء في الوقت الراهن.

 

*

 

جلست أنظر للفطور وأنا لا أشعر بشهية لتناول الطعام، ربما كوب القهوة إن أضفت به المزيد من السكر سيعطيني الطاقة الكافية وسيغنيني عن الطعام، أخذت المعلقة المزخرفة بزخارف جميلة وأخذت أسكب في الكوب، معلقة، اثنتين، ثلاث، ماذا بعد هل أملأ الكوب بأكمله بالسكر؟

 

- هل تريدين أن تصابي بالسكري أم ماذا؟

 

سألت ميلاني التي انضمت إليّ توًا، جلست أمامي وسكبت لها كوب من القهوة ولم تضيف به السكر، نظرت لي وكررت سؤالها:

 

- ما كمية السكر التي تضعينها تلك؟

 

- لن أتناول فطوري، لهذا أردت أن أعوض عنه.

 

أجابت بلا مبالاة وأنا ارتشف من القهوة التي كدت أبصقها من كثرة السكر التي وضعتها، حسنًا لقد بالغت في وضع السكر وسيكون عقابي تحمل تناول هذا الكوب.

 

- هذا التعويض أسوأ من تناول فطور مليئ بالسعرات الحرارية.

 

قالت ميلاني وهي ترتشف من قهوتها، لا أعلم لماذا أنا مشتتة الآن، منذ أن استيقظت وأنا أحاول أن أفكر ولكني كثيرًا ما شردت وعجزت عن التركيز، لا أعلم ولكن شيء غريب يحدث لي ولا أفهمه، قُلت بعد لحظة بارتباك:

 

- لا أشعر برغبة في تناول الطعام.

 

وضعت ميلاني كوبها على الطاولة وأخذت كوبي من بين يدي ووضعته على الطاولة، أخذت كوب آخر وملئته بالقهوة دون أن تضع به سكر وأعطتنا إياه.

 

- تذوقيه

 

قالت فأخذته وتذوقته، كان مرًا بشدة، تجعدت ملامحي عندما تذوقته، فقالت:

 

- إنه مر، وهذه هي الحياة.

 

أخذته من يدي ووضعت به معلقة سكر وقالت:

 

- مع القليل من الحب يصبح طعمها حلوًا.

 

تركت الكوب وقالت وهي تشير إلى كوبي الأول:

 

- ولكن مع المزيد من الحب تصبح حلوة بدرجة مؤذية فتجرحنا.

 

أشارت إلى ابريق القهوة وقالت:

 

- وأن كانت روتينًا واحدًا وتقتصر على شيء واحد، ستصبح مملة ولا تطاق.

 

دفعت صحني نحوي وتابعت:

 

- لهذا أنتِ محتاجة الكثير من النكهات لتصبح الحياة تطاق، وإلا لما استمررتي فيها.

 

- فلسفي جدًا، سيدة ميلاني.

 

ضحكت ميلاني ضحكة رنانة وقالت:

 

- أحاول أن أدعي الحكمة.

 

- أنتِ حكيمة بالفعل.

 

قُلت مبتسمة وأنا التقط شوكتي لأبدأ في تناول طعامي، ابتسمت ميلاني بدورها ونهضت قائلة:

 

- يسعدني أن كلماتي القليلة أقنعتكِ، والآن عليّ أن أذهب إلى عملي، نهارك سعيد.

 

- ولكِ أيضًا.

 

همست وهي تبتعد عن طاولتي وقد استمعت حقًا بحديثها، بدت كقصة بها حكمة كالتي كنت استمع إليها في الصغر، ولكنها تأخذ منحنى أكثر نضجًا ربما.

 

كان الفطور لذيذًا كعادة كارين، وقد شعرت أنني إن لم أتناوله كنت سأفوت على نفسي الكثير.

 

بعض أن انتهيت من فطوري وجدت كارين تتقدم نحوي بابتسامتها البشوشة المعتادة وقالت:

 

- ما رأيكِ في أن أضيع يومكِ بشراء الخضراوات؟

 

ابتسمت وقد أعجبني هذا الاقتراح، فأنا لا أريد أن أبقى ليوم آخر في غرفتي مع أفكاري.

 

- بكل سرور، ولكن أمهليني دقيقة لأبدل ملابسي.

 

أومأت وسحبت إحدى الكراسي لتجلس عليه بينما توجهت نحو غرفتي، وأنا أعبر الردهة لم أتحكم بنفسي ونظرت نحو مكتب الاستقبال بفضول، كان مانويل يجلس خلف المكتب بملل يرسم أشياءً عشوائية على المكتب باصبعه، في اللحظة التي نظرت له بها رفع رأسه لينظر لي، التقت نظراتنا لقليل من الوقت حتى قطعت أنا التواصل البصري بيننا وصعدت إلى غرفتي.

 

بدلت الملابس القطنية الاعتيادية لكنزة قصيرة وبنطال جينز، ما زال الطقس باردًا ولكني لست بائسة من هذا فأنا أحب الشتاء، والأمطار تشعرني بالانتعاش، عندما انتهيت وعقدت شعري الذي لا أمشطه تركت غرفتي.

 

--

تحدثت أنا وكارين كثيرًا في طريقنا، هي فتاة لطيفة ولا تطمح في الكثير من حياة، تود أن تعيش بسلام بعيدًا عن الصراع نحو القمة، ذلك الصراع الذي يجعلك عبدًا للأموال لتشتري أفضل منزل، أفضل سيارة، وأفضل ملابس فقط ليرضي عيون البشر التي تنتقد أي شيء وتضع معايير لكل شيء، معايير حقيرة من بشر تافهون.

 

استمتعت بالحديث معها حقًا، شعرت أن دافني القديمة ربما تكون قد عادت، فأنا لم أتحدث بانفتاح مع أحد منذ وقت طويل، هل كنت أبالغ في ابتعادي؟ ربما، ولكن كأول خيبة أتعرض لها في حياتي استحقت الكثير من الوقت للشفاء، وما زالت تحتاج المزيد من الوقت.

 

بدأنا بالسير بين البائعات لتفحص الخضراوات الطازجة وكنت أحب أن أقوم بتلك الجولات مع والدتي وقد علمتني كيف أختار الفكاهة والخضراوات الطازجة، فكنت أقوم بتلك المهمة بشغف تام، نظرت لي كارين مبتسمة وقالت:

 

- يبدو أنكِ ماهرة في تلك المهمة.

 

- إنها هوايتي المفضلة.

 

بعد أن انتهينا من شراء الخضراوات التي تحتاج إليها كارين، قالت مقترحة:

 

- ما رأيكِ إن أخذتي جولة بالقرية؟

 

نظرت لها بارتباك ثم نظرت إلى الحقائب الكثيرة التي نحملها وقُلت:

 

- كيف بكل تلك الأشياء؟

 

أخذت كارين الحقائب من يدي وقالت:

 

- أنا سأعود بتلك الحقائب وأنتِ تجولي كما تريدي.

 

نظرت لها ببلاهة وأنا لا أفهم ما تقوله، وقُلت:

 

- لا كارين لن تستطيعي العودة هكـ..

 

- أخرسي أنا أقوم بتلك المهمة بنفسي كل أسبوع ولا أحد يساعدني.

 

قاطعني كارين بحدة، ثم دفعتني وقالت:

 

- هيا أيتها القوقعة خذي جولتكِ.

 

ولم تترك لي فرصة للاعتراض ورحلت سريعًا لتتركني أقف وحيدة في منتصف الطريق، بدوت بلهاء حقًا وهذا جعلني أشعر بالضيق، لا أحب أن أبدو وحيدة، أنا وحيدة حاليًا ولا مشكلة لديّ في هذا ولكن أن يراني أحدهم وحيدة؟ كلا هذا مزعج، الأمر يبدو ساذجًا في نظر البعض ولكنه مهم بالنسبة إليّ ولا أهتم برأي الآخرين في هذا الشأن تحديدًا، لأن هذه هي مشاعري ومشاعري ليست أداة للسخرية أو للعبث بها.

 

والآن ماذا عليّ أن أفعل؟ إلى أين من المفترض أن أذهب؟ آخذ جولة في القرية مثلما قالت كارين؟ أم ماذا؟ لا أعلم وأشعر بالحيرة، ربما قد يكون جيد ا المرور بميلانيبميلاني في المستوصف، ربما الحديث معها قد يخفف من ضوضاء عقلي، فأنا سأصاب بالصداع قريبًا إن استمررت على هذا الحال

 

--

 

كنت أسير كالضائعة بالقرية، أنظر هنا وهناك علّي أجد المستوصف، كان الجميع ينظر إليّ بتعجب، مؤكد يرونني سائحة ساذجة ضلت طريقها، وهذا جعلني أشعر بالضيق، شيء آخر لا أحبه ويشعرني بالضيق هو أن يراني أحدهم غريبة الأطوار وساذجة، بعد وقت من البحث وجدته أخيرًا، كان مبنى كبير مما جعلني أشعر بغبائي كوني لم ألاحظ هذا المبني في قرية تعتبر صغيرة، دلفت بارتباك وقبل أن أقوم بأي حركة أخرى نحو الداخل وقفت أمامي ممرضة تنظر لي بامتعاض وقالت:

 

- ماذا تريدي يا آنسة؟

 

فتحت فمي للإجابة ولكنها قاطعتني قائلة:

 

- اليوم لدينا عمل كثير ولا وقت لتلك الأشياء.

 

طريقتها الكريهة جعلتني أود لو أنقض عليها وأقتلع شعرها، ولكني فضلت الصمت والانسحاب بهدوء فهمست:

 

- لا شيء شكرًا.

 

استدارت لأرحل ولكن أوقفني صوت ما ينادي اسمي، فعُدت إلى الداخل وجدت ميلاني تقف وتبتسم لي ثم تقدمت وقالت بحماس:

 

- هل فكرتي في زيارتي؟ رائع.

 

سحبتني من ذراعي نحو إحدى الغرف والتي بدت مكتبها، أغلقت الباب وتقدمت نحو ثلاجة صغيرة وقالت وهي تنحني لتفتحها:

 

- أي نوع من العصائر تفضلين؟

 

- لا شيء شكرًا.

 

قُلت بابتسامة خافتة وجلست على إحدى الكراسي أمام المكتب، بينما جلست ميلاني خلف المكتب، شبكت يديها فوق المكتب معًا وقالت:

 

- إذًا هل تحتاجين لطبيبة أم لمستمعة؟

 

نقلت نظري بينها وبين الفراغ وأنا أفكر قليلًا ثم أجبت:

 

- في الواقع لا أريد أن أعطلكِ عن عملك، لقد كنت في القرية مع كارين وفكرت بالمرور بكِ.

 

أومأت بتفهم وقالت:

 

- آه وأين كارين؟

 

- أخذت الأشياء التي اشتريناها وعادت إلى الفندق.

 

أومأت ميلاني مجددًا ثم نهضت والتفت حول مكتبها وقالت:

 

- حسنًا ويبدو أنها تركتكِ دون مهمة محددة.

 

أومأت مصدقة على حديثها، فتابعت:

 

- هل تودين أن تكوني ممرضة لبقية النهار؟

 

ابتسمت بتوتر وأرجعت إحدى خصلاتي خلف أذني وقُلت:

 

- لقد درست التمريض، في الحقيقة.

 

صفقت ميلاني بقوة وقالت بحماس:

 

- يالها من صدفة! هذا يجعلكِ مفيدة ومهمة بالنسبة إليّ كثيرًا اليوم، لذا هل توافقي؟

 

- لا مشكلة.

 

أجبت مبتسمة بعد أن وجدت شيئًا آخر يبعدني عن غرفتي، أو عن.. مانويل.

 

أعطتني ميلاني زي الممرضات لأرتديه قبل أن أبدأ في العمل، أمضيت اليوم كله في مساعدة ميلاني وتنقل من مريض إلى آخر، استمعت للكثير من القصص، استمعت إلى قصة حب من سيدة عجوز كانت تعاني من مرض السكري، استمعت إلى قصة السقوط الأسطورية عن تل ما من إحدى الفتيان المراهقين والذي أدت إلى كسر ذراعه، الكثير من القصص من الكثير من المرضى، بعضهم لم يكونوا مرضى لدى ميلاني والبعض الآخر كانوا مرضاها، كان يومًا لطيفًا وددت لو أكرره بشكل يومي فقد ملأ الفراغ في داخلي وأنساني آلامي وأفكاري حول خطبتي اللعينة، ربما احتجت هذا النوع من الاشغال، بعيدًا عن القراءة وعن الفندق، ربما هذه هي البيئة المناسبة للشفاء، بيئة العمل، لم أعمل يومًا رغم أنني وددت أن أكون ممرضة بشدة في صغري، ولكن ليست جميع رغبات الطفولة تتحقق، فرغم أني حققت حلمي ودرست التمريض بالفعل ولكني لم أشعر أني سأكون قادرة على العمل، كان تفكيرًا سطحيًا فأنا قد قررت أني لا أنفع لهذا العمل وأنا لم أجربه، ولكن عندما انخرطت في العمل اليوم وهذه البيئة والأجواء اللطيفة وجدت أني كنت مخطئة، وأن العمل كممرضة لهو أمر رائع، كان شعورًا غريبًا من السعادة عندما شعرت بأني أحقق حلم طفولتي.

 

بعد انتهاء نوبة ميلاني رحلت أنا وهي متوجهات نحو التل، شعرت أن ميلاني سعيدة برفقتي، ليس برفقتي أنا على وجه الخصوص ولكن سعيدة بأنها وجدت رفقة تؤنس من وحدتها، بدت وحيدة بالفعل وهذا جعلني أشفق عليها دخليًا رغم أني عانيت من محاولتي لقهر هذا الشعور، فالشعور الذي أكرهه أكره أن يشعر به غيري، وأنا أكره أن أشعر بالشفقة لهذا أكره أن يشعر غيري بالشفقة.

 

بينما كنا في طريقنا نحو الأعلى بدأت الأمطار الخفيفة تهطل فوقنا، يالخيبة كارين، فقد أبدت لي سعادتها بتوقف الأمطار عن الهطول ولكن يبدو أن القدر لم يكن يوافقها الرأي، ولا أنا بصراحة، فأنا أحب الشعور بالمطر وهو يسقط فوق رأسي وأنا أسير بالشارع، كانت ميلاني تسير بسرعة حتى لا يفسد فستانها الأنيق وقد تهكمت من كونخا تعمل بشيء أنيق كهذا أي شيء قد يتلفه.

 

وصلنا أخيرًا إلى الفندق، استأذنت ميلاني لتصعد لتبديل ملابسها المبتلة قبل العشاء، بينما أنا خلعت معطفي ووضعته على الأريكة بالردهة ودلفت الشرفة بعد أن شعرت بالمطر يشتد، فردت ذراعيّ لتستقبل ملابسي أكبر قدر ممكن من المطر وابتسمت لشعوري بالبرود تتسرب في أوردتي وتثلج دمائي.

 

- هل تنوين قضاء بقية أجازتك في الفراش؟

 

جمدت الابتسامة على وجههي وبدأت بالتلاشي تدريجيًا، ارتجفت أطرافي بينما أخفضت ذراعيّ، لم أشعر بالارتجاف أو البرد بسبب المطر الذي يسقط فوقي، ولكن بسبب تلك النبرة التي تسبب رعشة في قلبي وليس فقط جسدي، استدارت لأواكه مانويل، وكما توقعت يقف مستندًا إلى باب الشرفة يديه في جيبي بنطاله القماشي أبيض اللون ونظرته التي لا أستطيع تفسيرها وهي تنظر لي بتفحص، تبادلنا النظرات الغامضة والتي لم يفسرها أحدنا ولم يفكر في أن يفعل حتى قُلت:

 

- في الواقع لا.

 

ثم قطعت التواصل البصري بيننا عندما أخفضت بصري وسرت نحو الداخل، عندما كنت أمر عبر الباب وقف بشكل مستقيم فارتطم كتفي بذراعه، نظرت له بحدة وقد شعرت أنه تعمد أن يفعل هذا وأشحت بوجهي بعيدًا ثم تابعت سيري، هل تعمد حقًا أن يفعل هذا حتى يحدث بيننا تلامس؟ ربما لا أعلم، وما عُدت أود أن أفسر أي شيء يخصه.

 

بعد أن أخذت حمامًا ساخنًا جلست أمشط شعري المبتل الذي يصعب تمشيطه ولكن أحبه مهما حدث، عقدته على هيئة كعكة حتى لا يفسد ونهضت لأتناول عشائي، كانت ميلاني لامعة كعادتها وهي ترتدي فستانًا جديدًا أكثر أناقة من الذي كانت ترتديه صباحًا، ما مشكلتها مع الفساتين؟ لا أعلم ولكنها تجعلها تبدو رائعة الجمال حقًا وتجعلني أبدو أكثر قتامة ومللًا عن المعتاد، أو أبدو كطفلة تدعي الكبر، أحيانًا أشعر أنني أحسدها.

 

جلسنا نتناول عشائنا في صمت وما إن انتهينا حتى نهضت ميلاني وتركت الغرفة، غابت قليلًا ثم عادت بزجاجة نبيذ، فتحتها وصبت القليل في إحدى الكؤوس وقدمتها لي.

 

- شكرًا لا أحب النبيذ الأبيض.

 

وضعت الزجاجة على الطاولة وتجرعت القليل من الكأس وهي تتمتم:

 

- إذًا أنتِ من محبين الحرير الأحمر.

 

ضحكت بخفوت وقُلت:

 

- أجل، إن كان هذا ما تسميه.

 

تجرعت الكأس كله في رشفة وصبت المزيد وهي تقول:

 

- إذًا يبدو أنني أنا الوحيدة التي ستثمل اليوم.

 

ثم تابعت بعد رشفة أخرى:

 

- الآن اسردي لي همومك، لا تقلقي أنا لن أتذكر شيئًا بالغد.

 

ابتسمت وقُلت:

 

- لست خائفة منكِ، ولكن الأمر فقط..

 

- صعب بوحه؟

 

أكملت عني فأومأت موافقة، نظرت لي بتأثر وقالت:

 

- أفهم شعورك، إن كنتِ تفضلين ألا تتحدثي لا بأس أنا أردت أن أخفف عنكِ قليلًا، فتأثير أن يستمع إليكِ أحدهم قوي ويمكنني القول أنه رائع وينعش روحكِ.

 

ملأت كأسها الذي فرغ مجددًا وتابعت:

 

- لقد اعتاد أبي أن يستمع لي في كل شيء وكنت أذهب إليه محملة بالهموم وما أن أسرد له ما يحدث وأرى تلك النظرة الداعمة والكلمات اللطيفة منه حتى يتبدد حزني وأنساه تمامًا، لهذا ظننت أن هذا يمكن أن يساعدكِ.

 

زفرت بقوة وقُلت:

 

- حسنًا سأخبرك.

 

بدأت أسرد لها قصتي مع ستيفان، كيف كنا متقاربين بشدة في فترة مراهقتنا، وكيف تحول هذا التقرب إلى حب، أخبرتها كيف كنت أحبه وكيف كنت أراه وأضعه في مكانة عالية، كيف كان الحب الأول في حياتي والذي جعلني أراه شيئًا عظيمًا غير قابل للنقد، تذكرت كل شيء، كيف كان يرفرف قلبي كعصفور صغير عندما يراه، تذكرت أول محادثة بيننا، أول مرة تسكعنا معًا، أول اعتراف، أول قبلة، وأول شجار بيننا، تحدثت عن تغيره الملحوظ ومغامراته العاطفية أثناء خطبتنا، والتي كنت أغفرها كالغبية الساذجة، لا أفهم كيف كنت عمياء بتلك الطريقة، كيف لم أرَ أنه لم يحبني، كان هذا واضحًا جليًا ويمكن قراءته في عينيه ولكني عجزت عن قراءة ذلك، كم كنت خرقاء! كان يسهل على ستيفان خداعي وقد فعل، خدعني وجرحني، وعندما زهدني وأدرك أنه لن يستطيع التعايش مع حماقتي هجرني، كانت علاقة سامة بحق وأنا لم أدرك هذا، كيف كنت مغيبة بتلك الطريقة، الآن أستوعب ما حدث، الآن أدرك أنه لم يحبني يومًا وأنني كنت مجرد شخص رآه مناسبًا لاستكمال حياته معه ولكنه لم يستطع التجاوب معه فتركه ببساطة، كل تلك الأفكار أحرقت قلبي وعيني، كانت تحث دموعي على الهبوط وبالفعل هبطت دموعي ببطء، حاولت ألا أذرف الكثير وألا أشهق حتى تستمع لي ميلاني جيدًا وحتى لا أبدو مثيرة للشفقة في نظرها، بعد أن انتهيت أخذت منديل ورقي ومسحت دموعي، راقبتني ميلاني في صمت وهي تربت على يدي في دعم صامت، يبدو أنها لا تعرف ماذا عليها أن تقول، أو ماذا عليها أن تفعل لتخفف عني، إنها طبيبة ومؤكد أنها تحب أن تخفف الآلام عن الجميع مهما كان نوعها، أنا أقدر محاولتها اللطيفة تلك، ولكني لم أعد أستطيع المتابعة، أبعدت يدها عني وقُلت بنبرة ضعيفة:

 

- أعتذر على أزعاجكِ بتلك الأمور، ولكن عليّ أن أخلد إلى النوم.

 

تابعتني بعينيها وأنا أنهض ببطء وقالت:

 

- حسنًا ولكن لنا حديث آخر في الصباح.

 

أومأت وأنا ابتعد وأترك الغرفة، صعدت السلم بخطوات متمهلة وأنا أفكر وأحاول معرفة هل كان عليّ أن أقول ما قُلته؟ هل كان عليّ أن أفتح في دفتر الذكريات؟ ولكن من أخدع أنا لم أغلق هذا الدفتر بعد، كان التحدث عن هذا الأمر بصوت مرتفع هو المعضلة وليس التذكر، فأنا أعيش مع تلك الذكريات منذ ثلاثة أشهر ولم أبكي إلا نادرًا، هو فقط شعوري بأني أحاكم داخل عقل أحدهم، وشعوري أنه يشفق عليّ هم من جعلوني أبكي. وأنا أسير في الممر متوجهة نحو غرفتي أوقفني صوت خطوات خلفي، استدارت لأجده مانويل يقترب وهو ينظر لي بتعجب ممزوج بالقلق، اقترب أكثر من اللازم حتى تخطى الحدود التي أضعها بيني وبين أي رجل، نظر مباشرة داخل عيني المحمرة من البكاء ورفع كفه الكبير نسبيًا ومرره فوق وجنتي، داعب وجنتي بأنامله الطويلة وقال بنبرة قلقة:

 

- لماذا تبكين؟

 

شعرت بالهدوء النسبي جراء لمسته الرقيقة وكدت أذوب تحت وقع تلك اللمسة، أنا ضعيفة الآن وأقل شيء سيؤثر فيّ، كل شيء في داخلي يأمرني بالابتعاد حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه، وبالفعل انصعت لتلك الأصوات التي تصرخ في داخلي وابتعدت عدة خطوات للخلف وأنا أهمس:

 

- ابتعد عني.

 

كررت الهمس عدة مرات وأنا أعود للخلف وأراه ينظر لي بقلق، ولكني قررت أن أقضي على العاطفة في داخلي، فأوليته ظهري ودلفت غرفتي هروبًا منه، وهروبًا مما حدث منذ دقائق والذي سيطاردني للكثير من الوقت.

 

--

بعد انسحاب دافني غير المفاجئ جلست بصمت في غرفة الطعام، أنا وزجاجة النبيذ فقط، تركتها في عدم رغبة حقيقية لتجرع المزيد، نهضت وتوجهت نحو غرفتي وأنا أشعر باليأس لأول مرة في حياتي، لقد شعرت بخيبة عظيمة عندما عجزت عن مساعدة دافني وتقديم أي نوع من الدعم لها، أعلم أنني لست طبيبة نفسية، ولكني اعتدت أن أخفف الآلام عن الجميع مهما كان نوع ألمهم، وبالفعل ساعدت العديد من الجانب النفسي، ولكني اليوم وقفت عاجزة عن تقديم شيء، فقد كان الأمر برمته عن الحب! الشيء الوحيد الذي لا أعرف كنهه حتى الآن، لقد قدمت نصائح للكثير من صديقاتي المتزوجات ولكن كان هذا عندما يتشاجرن مع أزواجهن، أنا لم أقم بنصح أحد ما خرج من العلاقة بالفعل، يمكنني القول أن دافني تمر بفترة النقاهة، إنها أكثر الفترات إيلامًا حيث يتم استخراج سم المرض من جسدك بطريقة مؤلمة وبطيئة، ولا أظن أن تواجدها في هذا الوقت في بيئة بها رجل جيد، إنها تتأثر بمانويل ونتجذب إليه، ليس النوع من الانجذاب الذي تحتاج إليه، هي فقط تبحث عن بديل يعوضها ويساعدها على النهوض، وخطوة كتلك لا يجب أن تعتمد فيها على شخص خارجي، عليها أن تعتمد على نفسها في إصلاحها حتى لا تعود كما السابق، سعادتها تعتمد على غيرها.

 

لا أعلم لماذا في تلك اللحظة شعرت بالندم كوني لم أبحث عن الحب، شعرت كم أنا وحيدة وبائسة وبحاجه إلى كتف أستند عليها، بحاجه إلى أحد يمكنني أن أشاركه صوت أفكاري، الآن فقط اكتشفت أنني استغنيت عن الحب لأن أبي كان يؤمن لي كل هذا، ولكن مع رحيله بات مكانه فارغ وأصبح بداخلي فراف كبير مع الكثير من الوحدة، ربما أبي أفسدني بدلاله بالفعل، ربما لما تعين عليه أن يكون هكذا حتى أبحث عن الزوج الذي يشاركني كل هذا، ربما عليّ البحث عن هذا الزوج، شعرت برغبة غريبة في البكاء، فقد بدوت في تلك اللحظة مثيرة للشفقة بالنسبة إليّ، فميلاني تلك الفتاة التي رفضت الزواج دائمًا تأتي وتطلبه؟ هذا مثير للشفقة بالفعل، ولكن لا بأس، أستطيع البكاء دون أن أشعر بالندم، فالبكاء خُلق لأجلنا نحن النساء، وحمدًا لله أن جميع المجتمعات تضع المرأة في قالب يمكنها من البكاء والتعبير عن أفكارها ومشاعرها السلبية بسهولة، إذًا لا ضر من البكاء، فقط اليوم وغدًا نمسح دموعنا.

 

يُتبع..