-->

الفصل الخامس عشر - كما يحلو لي نسخة حصرية (النسخة القديمة)

 

 رواية كما يحلو لي النسخة القديمة بقلم بتول طه 

حصريًا لمدونة رواية وحكاية


الفصل الخامس عشر

 

تطلعت الساعة وهي ترتشف بعض المياه لتجدها أصبحت الثامنة صباحا لتتمتم متعجبة من نفسها:

-       اللعنة!! منذ متى وأنا بمثل هذا الخمول الغريب!

 

لوهلة تملكها الاندهاش تجاه نفسها فهي لم تظن أنها ستنام كل هذا الوقت ولم تكن يومًا من مُحبي النوم الكثير لتغمغم مرة أخرى وعلامات التحدي والانتصار تلوح على ملامحها:

-       لتعلم أنني أستطيع ألا أكترث، بك وبها وبماضيك وأحلامك!

 

توجهت بابتسامة على شفتيها ثم سكبت بعض العصير وأعدت شطيرة حتى تتناول فطورها ثم توجهت لغرفتها بعد أن انتهت وهي تشعر بالتشويش بداخل عقلها وكأنها لا تعلم ما الذي عليها فعله معه فهي لا تود إثارة أي مُشكلات أمام عائلتها وعائلته بانفصالهما السريع وكلما حاولت التفكير تجد ذلك الحلم بكل تفاصيله ليدفعها مرة ثانية للقلق ولكن سرعان ما تحاول أن تتغلب على التفكير به وتذكر أحداثه.

 

بدلت ملابسها لملابس رياضية، بنطالا أسود ضيقا وقميصا عاري الكتفين يماثله، عانق منحنياتها جيدًا ووضعت فوقهما سترة مماثلة ثم ارتدت حذاء رياضيا أبيض اللون وصففت شعرها للأعلى ثم توجهت للخارج حتى تستفيد بذلك النشاط الذي تجدد بداخلها وذهبت للعدو فهي لم تكن يومًا فتاة كسولة ولطالما حافظت على روتينها الرياضي والمنزل بمساحته الشاسعة يُشجعها كثيرًا على أن تفعلها في مثل هذه الأجواء الشتوية ذات الهواء البارد الذي تعشقه...

 

أخذت تركز في تلك الأغنيات التي اعتادت أن تُمارس عليها الرياضة دائمًا وصوتها يشدو بأذنيها خلال سماعات الأذن ولكن مرة ثانية وجدت هذا الحلم يظل يتكرر أمامها في توال سخيف أرهقها لا يُريد التوقف...

 

ظلت تزيد قوة عدوها وسرعة جسدها، حاولت أن تتحاشى ملامح وجهه المختنقة والمستسلمة للأفعى التي تحيط بعنقه، جاهدت حتى تنسى تلك اللحظة التي ظنت أن روحه تغادر جسده وهو لا يكترث، ولن تلك الأفعى وعينيها وشكلها المُخيف جعل الارتباك والخوف يسيطران على كامل رأسها وكأن لم يعد هناك شيئًا لتُفكر به سوى هذا الكابوس المُفزع.

لم تستطع أن تتناسى كلما حاولت أن تفر من ذكراه الكئيبة، ظلت تُفكر ما معنى ما رأته، ولماذا رأته في هذا الوقت تحديدًا، هل هذا لمجرد جدالهما أم ما الذي دفع عقلها لتصور وتخيل كل هذا؟ ولماذا يتآكل القلق والخوف فؤادها بهذا العنف على حدٍّ سواء؟!

 

توقفت بعد أن أُجهدت من كثرة التفكير وباءت محاولاتها بالفشل، لاحظت أنها استغرقت ساعة بأكملها إضاعتها في العدو المتقطع فلم تشعر بالوقت وبنفس الوقت أحبطت محاولاتها في التوقف عن التفكير بل وبقية ممارسة رياضتها.

 

زفرت بملل بعد أن استعادت وتيرة أنفاسها الطبيعية بدلًا من لهاث الركض ثم توجهت للمنزل ومنها إلى غرفتها حتى تستحم بعد مجهودها البدني وبدلت ثيابها وبعد تفكير منها حسمت قرارها وعزمت على أن تبحث عنه لأنها تريد أن تغادر هذه اللعنة التي لا تعرف كيف تُغادرها سوى باستخدام حصانه الذي لا تعرف حتى كيف تمطيه وحدها.

 

بحثت عنه بكل الغرف وكذلك بالخارج فلم تجده فزفرت بضيق وغلٍّ من هذا الذي استحوذ على تفكيرها وأحلامها ويومها بأكمله وشعرت أنها سجينته ثم توجهت للمطبخ لتصنع بعض الطعام وعندما انتهت من صنعه جلست وحدها ثم تناولت الطعام وهي تنتظر قدومه من أي لعنة ذهب إليها وأعادت ترتيب المائدة من جديد ورتبت المطبخ بأكمله وهي تحاول قتل الوقت لتضع الكثير من الأشياء بمكانها ثم تطلعت الساعة مرة أخرى لتجدها عبرت الثالثة عصرًا بقليل.

 

شعرت بمللها يزداد والوقت وكأنه توقف ولا يريد المرور وظلت تُجاهد وتتحدى تفكيرها ولكنها لم تستطع أن تتماسك أكثر من هذا، تريد أن تعرف أين هو؟! تريد أن تعرف متى ستُغادر هذه القلعة التي لا تعرف كيفية الخروج منها وهي على يقين أنها لو تحدثت للسائق الخاص بها، هذا إن استطاعت أن تجد هاتفها، لن يسمحوا له بالمرور إن لم يترك هو خبرًا بقدومه وسمح له هو نفسه بالمرور!

 

بدأ القلق في أن يتحكم بها وهي تُشاهد واحدًا من العروض التلفزيونية بملل لتجد نفسها تتساءل، هل هو بخير أم لا؟ ولماذا تركها وذهب؟ وما الذي حدث حتى يُغادر؟ ما القصة وراء يُمنى التي ظل يهتف باسمها؟ ما كل هذا الغموض الغريب الذي يكون هالة منيعة ضخمة حوله!

 

لم تدرك أن عقلها تشتت بالكثير من الأفكار عنه حتى بدأ الوقت في المرور شيئًا فشيئًا وبدأ بالفعل في التأخر فتوجهت لغرفتها وظل قلقها وحيرتها بشأنه يزدادان ونامت بعد صعوبة منها في محاولة إيجاد التفسيرات المنطقية لكل ما يحدث...

 

وكأنما مرت دقيقتين أو هكذا ظنت لتنهض في فزع بعدما شعرت بأن هناك من يجذب الغطاء بعيدًا عنها وهناك حركات غريبة حولها بالغرفة...

 

وجدت أن الأنوار حولها قد أُضيئت ونظرت له في دهشة وتوتر، شعره المبعثر على جبينه، عيناه التي اكتست بالحُمرة، مظهره غير المهندم الذي لم تتخيل أن تراه به أبدًا، أدركت أنه مخمور، رائحة السجائر والكحول تنبعث منه بشدة وتحيط بهما الأجواء بداخل الغرفة وكأنه قد تجرع يَمًّا كاملا من الخمر...

 

استكانت فوق فراشها بالرغم من خوفها وهي تشعر بالرعب من ملامحه التي لم ترها قبلًا فماذا عليها الفعل أمام هذه الملامح المرعبة سوى الاستكانة والتراجع حتى يبدأ هو بالحديث وحاولت أن تتحاشى أن تُصدر ولو كلمة واحدة لتجده يصرخ بها متسائلًا:

-       أتريدين أن تعرفين من هي يُمنى؟

 

ارتجفت بوجل إثر انعكاس صوته الهادر باحتداد لاذع وتجمدت خائفة لا تعرف لو تحركت ما الذي قد يفعله هو لتجده يستطرد بنفس طبقة الصوت التي كادت أن تُصيبها بالصمم:

-       هي من خانتني... بعد ست سنوات اكتشفت أنها خدعتني لأجله... رأيتهما معًا... رأيتها أسفل قدميه، يُمنى الخائنة... هل لديك كامل الإجابات الآن... هل أنت سعيدة بما توصلت إليه وبما استمعت له...

 

يا ليتها غبية، يا ليتها مجنونة، يا ليتها لم تملك عقلًا يجعلها تندفع بلسانها لتسأله كل هذه الأسئلة ليجيبها هو بنفس هذه الملامح المُخيفة! لُعن الزواج والمحاولات وفضولها و "مراد الزهيري" الذي جعلها ترى وجهًا يصيبها بالذعر إلى هذه الدرجة!

اقترب نحوها واستقر أمامها على الفراش لتشعر بأن أنفاسها المتسارعة لا تفيد في استخلاص الهواء اللازم لرئتيها وأحست أنه يُمكن أن يؤذيها بمثل هذه الحالة الغريبة التي وقع بها ولكنه بدا أنه سيُكمل كلماته ولكن وجدت بملامحه انكسار لأول مرة يعتريه منذ أن عرفته وهو يتنفس بسرعة قاربت اللهاث ثم أقترب منها أكثر لتتسع عينيها في ذعر مُقيم ظنًا منها أنه سيؤذيها وسرعان ما تلاشت نبرته التي أثرت عليه بالسابق وصرخ باكيًا:

- لماذا غرست سكينًا بجرحي ؟ من الذي أخبرك عنها؟ من يُريد أن يؤلمني مجددًا؟

 

شعرت بقليل من الشفقة عندما رأته يبكي وتجمدت في مكانها خائفة من اقترابه فهي لم تعد تأمن ما قد يفعله بها في ثورة غضبه وثمالته ويبدو أنها طرقت بعنف على أكثر ما يؤلمه دون أن تعرف هذا فتفقدته ودموعه تتساقط لتهمس بدموع متحجرة بمقلتيها من خليط الفزع والشفقة والضغط الشديد الذي باتت تشعر به كلما تحدثت له أو واجهته بشيء:

- لم يخبرني أحد، أقسم لك...

 

اقترب أكثر منها لتبتعد عنه فأمسك بيدها بقسوة ليأتي على عقلها كل مرة صفعها بها أو قام بتعريضها للعنف لتومئ له بالإنكار وهمست في توسل:

- لا عمر، أرجوك لا تفعل!

 

صرخ من جديد باكيًا بنبرة تمزقت آلمًا ولكنها أهابتها للغاية:

-       كيف علمتِ؟!

 

لم تعد تحتمل ما تراه أمامها، هذه أسوأ مرة تراها به، وكأن كل مرة أسوأ من المرة الفائتة ليصيح بحدة ودموعه لا تتوقف عن الانهمار:

-       اللعنة!! انطقي وأجيبي... من أخبرك؟

 

أجابته باندفاع ونبرة مهتزة خوفًا منه:

- لقد سمعتك تتمتم بها أثناء نومك

 

ظل يحدق بعينيها وفجأة ارتمى عليها بثقل جسده وأجهش في البكاء لتتجمد بمكانها غير مُدركة لما عليها فعله لتجده يتشبث بها بقوة هامسًا:

-       لا أستطيع النسيان... ساعديني روان... هي وذلك الرجل، الأمر لا يتوقف! يتكرر أمام عيناي كل يوم... الأمر مؤلم... أتوسل لكِ ساعديني

 

أخذ يُكرر همسه بخفوت وهو يدفن وجهه بعنقها وشعرت بأنها مشتتة كالتائهة وهو الآخر لم يقل تشتتًا عنها وظلت تشعر بدموعه تنساب حتى ابتل جيدها فلم يكن منها إلا أن احتضنته بأيدٍ مُرتجفة باحتراس ألا تتلمس ظهره ثم همست به:

- حسنًا... أهدأ، سأفعل ما تريده، سأساعدك...   أهدأ أرجوك...

 

ابتعد مفرقًا عناقهما ناظرًا لها بعدم تركيز بسبب ثمالته الشديدة التي سيطرت عليه بالكامل بينما هي لا تزال تتوجس منه وبنفس الوقت تملكها التعاطف والشفقة على حاله وازداد صمت كلاهما ليباغتها متحدثًا بصوتٍ غائب تمامًا عن وعيه وإدراكه لما يتفوه به ولو كان يعلم أنه يتوسلها لكان قتل نفسه مرارًا على ما يفعله:

- لن تتركيني... لن تفعلي! أرجوكِ روان، لا تفعلي... لا أريد اختبار مرارة الأم مرتين

 

توقفت وهي تتفقده في حالة من الشتات، من يقبع أمامها ليس نفسه هو الرجل الذي يغضب ويصيح ويقسو عليها سواء كَلَامِيًّا أو بتعنيفها جَسَدِيًّا، بل هي تظنه نفس الرجل الذي كان حنونًا معها للغاية عندما قام بالاعتناء بها عندما كانت تشعر بالتوعك... ما الذي عليها فعله معه وهو يُشتتها بين الخوف وبين الرفق الذي تود أن تجده معه دائمًا؟

 

وجدته يقترب مجددًا ويمد يده نحوها لتتابعها بترقب شديد ليُمسك بيديها بكلتا يديه المرتجفتين، لمسة لم تحصل عليها منه منذ أن عرفته إلى الآن وحدقت بملامحه وهيئته المُنحنية لتستمع له يهتف مترجيًا:

- أرجوكِ أجيبي... أخبريني أنك لن تفعلي...

 

تهدجت أنفاسها وهي تشعر بغصة بحلقها في شتات بين تأثير ترجيه، ملامحه، وكل ما مر عليهما من أحداث تُخبرها بأنه قد يعود مجددًا لما كان عليه معها وفكرت أنها منذ قليل كانت تود أن تغادره بينما الآن كل ما تشاهده بعينيها يجعلها تتراجع عن قرارها الذي اتخذته بشأنه وفجأة لاحظت جلسته تختل ليغمغم بإرهاق وصوت متذمر:

- أنا مُتعب للغاية... أكره أن أكون مُتعبًا... أكره أن أكون ضعيفًا... لا أريد هذا...

 

ضيقت ما بين حاجبيها ثم اقتربت منه وهتفت به على حذر:

- حسنًا... لن تكون متعبًا... دعنا نحصل على بعض النوم وبالصباح كل شيء سيكون أفضل وسأخبرك بكل ما تريد أن تستمع له...

 

أومأ لها بالموافقة هَازًّا رأسه لتجذبه بخفة شديدة لعناقها من جديد فلقد كانت أيديهما متلامسة بالفعل وأدركت أن درجة ثمالته قد بلغت أقصاها فيبدو أنه لا يعي أَيًّا مما يفعله أو يقوله وحاولت مساعدته على التدثر بالغطاء وهو أكمل تحركاته مترنحة من تأثير الخمر عليه وجاهدت في أن تساعده دون أن تتلمس ظهره فجسده الفارع الذي يتفوق به عنها لم يكن هينًا وظلت تكافح حتى هيئت جسده للنوم ونهضت وأغلقت الأنوار ثم وجدته يُغمغم بثمالة:

- لا تذهبي روان أرجوكي ... انتظري بجانبي

 

تفقدته وهي تتنهد في شتات وكل تلك الكلمات لا تفارق عقلها فانتظرت على مقربة منه ولأول مرة هو ليس بغاضب أو قاس ولا يُثرثر بكلمات تثير جنونها، بل بدا كالطفل ذو الجسد الكبير الباكي المتذمر ليس إلا!

 

رطبت شفتيها وهي تلعن بداخلها ثم لعنت بداخل نفسها على قرارها الذي تندم وترتعب من أنها أخذته ببقائها معه بعد رؤيتها لكل هذا الألم على ملامحه وبداخلها غضب امتزج بالحيرة في أمر هذا الرجل الذي تنظر إليه!

 

تحدثت إلى نفسها بكل هذه الأمور التي واجهها بها، "يُمنى" تبدو امرأة من ماضيه ولكن من قصد بالرجل، ربما هو الذي خانته معه، ووالده ماذا عنه؟ هي لا تعرف شيئًا، ولكن هل لو تخلصت من هذه القصة سيكون إذن جيد معها؟! لماذا كل هذه المُعاناة؟ لماذا يفعل بكلاهما ذلك؟

 

رمقته بأعين جهلت ما عليها فعله وقضمت شفتيها وهي على مشارف البكاء، ظلت تُفكر، تتساءل بعقلها، تحدثه دون صوت مسموع وهو مُلقى أمامها لا حول له ولا قوة...

 

اقتربت وعانقته إليها بحنان فطري اندفع منها تجاهه وتركته ليتشبث بها وعملت بجهد ألا تتلمس ظهره فهو لا يكره أكثر من هذا الشيء على ما يبدو سوى التحدث عن "يُمنى" وتركت أنفاسه تلفح جيدها وتمتمت بعقلها بينها وبين نفسها مُفكرة:

-       قصة حب فاشلة... هذا هو السبب إذن، وكأن هذا ما كنت أنتظره

 

تنهدت ثم ظلت تُفكر، هل هو بتلك القسوة بسبب تلك المدعوة يمنى؟ هل تحول لرجل سادي بسببها؟ يبدو أنها خانته مع رجل سا دي لأنني أتذكر جيداً ما قاله، لقد رآها أسفل قدميه اللعنة!! ما كل تلك الحيرة.

--

ظلت تفكر حتى شعرت بالصداع يهشم رأسها من كثرة التفكير وطرح التخمينات وطالعت الوقت لترى أن الصباح قد أوشك على الانبثاق بعد هذه الليلة الغريبة التي لم تنته بسرعة أبدًا وأنهكتها من كثرة التساؤلات التي طرحتها على نفسها...

 

توجهت في هدوء دون أن توقظه لتأخذ حمام دافئ وما زالت تلك الأحداث التي حدثت الليلة الماضية لا تغادر تفكيرها، مظهره واعترافه لها، تشتت عقلها كثيرًا فلم تستطع النوم ولا الهدوء، هي تعودت أن تقرر لكل شيء وتدرس كل شيء جيدًا ولا تترك الفرصة تمر أمامها دون اتخاذ قرار...

 

أغلقت المياه ثم التفت بمنشفتها وقد قررت، ربما هو يريد مساعدتها حَقًّا، هو أصبح زوجها وما مر قد مر وأصبح من الماضي... ربما لو حاولت مساعدته سيتغير حَقًّا... ولكن هل لو بذلت جهدها سترى ذلك الإنسان الذي رأته عند ثمالته؟ لتغمغم بنفسها:

-       سأبذل كل جهدي حتى أرى ذلك الإنسان الحنون الهادئ بداخلك دائمًا!

 

زفرت وفكرت ثم ارتدت ملابسها وتوجهت لصنع القهوة لتتناولها علها تُفيد في أي لعنة تمر بعقلها ورشفتها في هدوء وصمت وظلت تفكر كيف سيتصرف معها بعد الآن! وكيف ستعمل هي على أن يكون معها إنسانا طبيعيا دون تحكم وتزمت خانق. وبداخل عقلها أخذت تُفكر باحثة عن طبيعة الخا ضعة وكيف عليها أن تكون مع سيدها فيما تتذكره من بحثها السابق، وما زال جزء في عقلها لا يُصدق ما تفعله لخوفها مما هي مُقدمة عليه معه، ولكن ماذا لو كان هو هذا كل ما يُريده؟ ما الذي سيفرق أن تُصبح خاضعة فقط لتجد السعادة مع زوجها؟

أعدت اَلْفُطُور ثم كادت أن تصعد حتى توقظه ولكنها تذكرت حالة السُكر الشديدة التي كان عليها، فبالطبع سيشعر وكأن رأسه تتهشم عند الاستيقاظ، هذا من آثار الثمالة على كل حال كما رأتها بالأفلام فبحثت حتى وجدت بعض المُسكنات وتوجهت للأعلى...

 

نظرت له وهي تحمل الطعام، لن تنكر أنها أشفقت على مظهره هذا، يبدو عليه الألم، وكأن الأوجاع كلها قد تجمعت لتنعكس في صورة "عمر" النائم أمامها...

 

تطلعت بملابسه غير المنمقة، جفونه التي تبدو مرهقة من ليلة أمس، عقدة حاجبيه التي تبدو وكأنها ستلازمها مدى الحياة، ولكن على الرغم من هذا هناك شيئًا به يروقها وهي تعلم أن هذا خاطئ وتلعن نفسها مرارًا على الأمر، ولكن هناك به أمر يحثها على ألا تفقد الأمل به، شيئًا به يريدها أن تقترب ويناديها ولكنها لا تعلم ما هذا الشيء بعد...

 

جلست بجانبه ثم نادته وهي توكز ذراعه برفق:

- عمر... استيقظ...

 

شعرت بانزعاج واضح على ملامحه وعقدة حاجبيه تزداد وأخذ يهمس بكلام غير مفهوم لتعلو نبرتها قليلًا:

- عمر، استيقظ لقد قاربت التاسعة صباحًا...

 

فتح عينيه ببطء وابتلع بصعوبة وتطلع لوجهها وأحس برأسه تتهشم لتخبره بابتسامة مقتضبة:

- صباح الخير

 

لم يُجيبها وما إن نهض متكئًا على السرير حتى شعر بوجع رأسه يتفاقم بشدة وبالطبع لا يتذكر أي مما حدث فسألها:

- متى أتيت هنا؟ وما الذي حدث ليلة أمس؟

 

تفقدته لوهلة، شعره المبعثر وعلامات الإرهاق التي تتضح على وجهه، قررت بداخلها أن تحاول هذه المرة أن تختار كلماتها بعناية دون أن تسأله عن شيء، فالرجل الباكي ليلة أمس هو من تريد أن تُكمل حياتها معه وليس الآخر الغاضب الثائر دون داعٍ! هي لا تريد سوى زوج هادئ وحياة سعيدة ليس إلا...

 

اقتربت ثم وضعت صينية الطعام بينهما بعد أن جلست على الفراش وأجابته :

- لقد أتيت هنا ليلة أمس، ولقد تحدثنا...

 

مدت يدها له بالمُسكنات لينظر لها نظرة حادة من نظراته المُتفحصة التي تكشف الكثير ولم يتحرك فوضعتهم رغمًا عنه بفمه ويليها كوب مياه ثم قالت بنبرة مرحة:

- لا تُسرف في الشراب، سيسبب لك صداعًا لعينًا...

 

ابتلع تلك المُسكنات ثم بدأت في مناولته الطعام فلم يستجب إليها لتزفر في ضيق وتبعته بعينيها وهو ينهض مبتعدًا ولكنها أمسكت بيده قبل أن يذهب ليتحدث بنبرة قاسية:

- ابتعـ..


قاطعته بعدما لاحظت مزاجه العكر وأخبرته بتصميم:

- أنا لا أصنع الطعام لأحد، ولا أصعد به طابقًا وأنادي على من صنعته له حتى يستيقظ، ولكنني كنت انتظر ابتسامة من شخصًا ما وقد يُخبرني سلمت يديكِ عزيزتي... أو يُلقي علي تحية الصباح... كما أن زوجي عليه أن يتناول معي الفطور كل يوم منذ الآن وصاعدًا، ولن أقبل بالرفض عمر

 

 تعجب لها ثم نظر ليدها الممسكة بيده بقوة، كل ما يُفكر به ماذا حدث ليلة أمس حتى تتحول هكذا، هو يتذكر جيدًا أنهما تجادلا بسبب "يمنى" قبل أن يخرج ويحتسي الخمر ويستنشق تبغ غليونه ولكن ماذا حدث بعدها؟

 

حاولت جذبه للسرير بمعاناة لتغمغم:

- هيا... جسدك ثقيل للغاية...

نهضت ثم وكزته حتى جلس وناولته الطعام ولكن ملامحه ما زالت جامدة بينما في ثنايا عقله ظل يُفتش عما حدث ليلة أمس وتظاهر بتناول الطعام في صمت ليقاطعه عن تفكيره صوتها المُتسائل:

- هل أعجبك؟!

 

أومأ لها في صمت وهو لا يزال يحاول مواجهة صداع رأسه الذي لا يتغير وتعجب كيف تعلم كيفية الاعتناء بشخصٍ ثمل فابتسمت له ليشرد في تلك الابتسامة، لم يرها منذ أن وقعت عيناه عليها ليتساءل ما الذي قد نطق به وجعلها تُصبح بهذه اللطافة معه لتتذمر حانقة:

- هيا عمر قل شيئًا وكف عن الصمت...

 

ابتسم لها ابتسامة لم تقابل عينيه ثم قال بملامح مستهجنة:

- شيئًا

 

عبست ملامحها مما أزادها جاذبية بالنسبة له ثم شرد بها مرة أخرى لتتمتم بضيق:

- سخيف 

 

همت أن تذهب ونهضت ولكنه جذب يدها لتقع على قدمه ويحتل ظهرها صدره العريض وتسائل بنبرة هادئة:

- ماذا قلتِ؟

 

شعرت بأنفاسه بالقرب من أذنها وهو يعلم جيدًا أن هذه نقطة من نقاط ضعفها لتتماسك هي هذه المرة فهي ليست الأولى التي يقترب لها وحدقت بوجهه بملامح مُرتبكة وبدأت أنفاسه في إحداث التوتر بداخلها:

- أنت سخيف 

 

ابتلعت ليلاحظ ارتباكها ليتحدث ببحته الرجولية بمنتهى الهدوء مُصيبًا إياها بالتوتر الذي لا يتوقف في التصاعد بداخلها:

- أتعلمين عزيزتي 

 

توقف للحظة ثم جذب خــ ــصرها بيده بعنف حتى أصبحت ملتصقة به وشعرت وكأنها لأول مرة تقترب للغاية منه بهذه الطريقة وهي تحس بجــ ــسده الصــ ــلب أسفله لتزداد ارتباكًا بصحبة شعور غريب اكتسح كيانها لاقترابه ليُتابع بمزيد من التحذير المتلاعب بنبرته:

- جربي أن تسُبيني مرة أخرى وأعدك أنه لن يعجبك ما سأفعله بكِ 

 

أخبرها ثم دفن وجهه بعنقها لتدفعها أنفاسه الحارقة للجنون من أفعاله تلك التي لا تستطيع الصمود أمامها لتتلعثم وهي تحاول أن تُكون جملة واحدة:

-       أنت... أنت من قلت أن... لقد...

 

استمر في استكشاف شــ ــفتيه للمزيد من عنقها بمنتهى البطء حتى شعرت باختلاط الر غبة بالاستغراب وحاولت أن تمنعه عنها وهي تتخلص من ذراعيه حولها وأخذت تُفكر في قراراها الذي ظنت أنه سيُرضيه فهمست بحروفٍ تقطعت من تلعثمها:

-       سيدي أرجوك... هل يُمكن أن... أن ننتظر قليلًا... أو...

 

توقفت غائبة بشعورٍ فطري استطاع أن يُحدثه ليُسيطر عليها تمامًا ولكنه ما أن سمع تلك الكلمة منها حتى تملكته بنطقها له وأجبرته على الخضوع لها حد الجحيم حتى كانت الاستجابة منه واضحة أسفلها لتبتسم بقليل من المكر الذي في الحقيقة لم يبد سوى مكر طفولي بريء وشعور لحظي أرضى غرورها الفطري الأنثوي...

 

عانق المزيد منها ليجدها قد استجابت بالفعل بما صرخ به جــ ــسدها أسفل ملا بسها بنصفها الأعلى فاستمر هو بترك بصماته على طول عنقها لتذهب هي لعالم آخر تمامًا نست به كل العالم المادي حولها فهمس مرة أخرى ببحته الرجولية بمنتهى التأني بالقرب من أذنها ليُفقدها آخر ذرات المنطقية بعقلها:

-       أخبريني صغيرتي... أنا قلت ماذا؟!

 

حاولت الصمود بينما هذا الاستسلام الغريب منها بصحبة أفعاله جعلوا الأنين يُغادر شفـ ـتيها دون دراية منها ولكنها عانت بصعوبة كي تُجيبه بين شهقاتها وأناتها التي لم تملك عليهما سلطان:

- أنا... لا أقو... لقد قلت أن... لم اقصد أن...

 

توقفت من تلقاء نفسها عندما أدركت أنها لم تكون جملة مفيدة وابتلعت وهي مشتتة لا تدرك ما الذي تريد قوله ولا تدري أين هي واعتصرت أعينها وبقرارة نفسها وبكل ما لديها من ذرات عقلٍ متبقية تستطيع خلالها التفكير قررت أنها لا تريده أن يتوقف ويستمر بالمزيد...

 

نست كيفية صوغ كلمة واحدة وكأنها لم تتعلم الكلام بعد كطفلة بالثانية من عمرها وازداد انعقاد لسانها وثقله، وظلت شفتيها خاضعتين لما يحدث مُقرة بفطرية منها تملكتها بلحظة حميمية بينها وبين زوجها وتعالت إقراراتها المتوالية رغمًا عنها، لا تدري كيف يملك كل مرة اقترب منها تلك القوة بأن يجعلها تذهب في كون آخر غير الحقيقي الذي يتواجدا به بالفعل...

 

كم كانت تلك الإقرارات الرقيقة منها والأصوات التي تُصدرها أعذب معزوفة أستمع لها يومًا ما بأذنه وكأنه شعر يُلقى عليه لم يستمع له قط ولم يستحسنه سوى منها وهي بين ذراعيه.

 

استجابتها دفعته لفعل المزيد ومد يده ليبا عد بين سا  قيها ثم بحنكة منه وخبرة ليست بهينة مع النساء استطاع الوصول ولمـ ـس حقيقة إذعانها وإعجابها بما يفعله وهي مستسلمة تمامًا له لتطغى بفعلتها على تلمس بقعة رضاء وزهو بداخله وهو يتحكم بزمام كل ما بينهما وابتسم بمكرٍ متلمسًا منها المزيد من استسلامها الذي دفعه للمثابرة ودفعها هي لقشعريرة غريبة خضعت لها بالكامل...

 

خلعت رداء الخوف والارتباك وتلك القشعريرة التي تسيطر عليها ثم توسلته بما يُحب ويرضى بمعاناة صعبة بين إقرارات شفتاها الفطرية:

-       سيدي... أرجوك أن... لا أستطيع أ... لا تفعل رجاءً...

ظلت تتوسله بهينمات غير مفهومة وغمغمات متوالية تفلتت منها وبدأت وتيرة أنفساهما تزداد فلقد استطاع أن يحيطها بعالم كامل لا تعرفه هذه الصغيرة بعد واستطاعت هي أن تتملكه في إرادة فطرية منه لإرضائها ولكنه حاول السيطرة على نفسه أمام هذه المشاعر وفجأة تركها وأوقفها رغمًا عنها متشبثًا بخـ ـصرها بين قبضتيه لتلاحظ أسفـ ـله الذي تأثر هو الآخر مثلها وبالكاد فتحت عيناها لتنظر له بأعين تصرخ بر غبة فطرية وأنفاسها الرقيقة منعدمة الخبرة تتلاحق بشدة.

 

ابتسم لها بعذوبة ثم أخبرها بلين وهو يُطري عليها:

-       أنتِ رائعة الجمال صغيرتي

 

قربها منه مُقبلًا جبينها بين عيناها الساحرتان لتندهش هي مما يفعله، لماذا عليه أن يؤجج رغــ ــبتها الفطرية ثم يتركها هكذا ويتوقف عن كل ما كان يفعله!

نهض ثم أقترب منها ليُقــ ــبلها قبـ ـلة دافئة، حنونة، بعيدة كل البعد عن العنف والقسوة والهيمنة والإجبار، بتأني وتريث هائل أكتشف عن طريقهما كل معالم فمها الوردي الفا تن ثم فجأة فرق قبـ ـلتهما ليُباغتها بنبرة حادة لاذعة وعينيه تلتمع بالتملك وهذا ما لم تفهمه هي وظلت نظرته لها مبهمة تمامًا:

-       إياكِ أن تلمــ ــسي نفسك طوال اليوم... وتلك القهوة التي أعددتها أريد واحدة أخرى مثلها، وإن تذمرتي سيكون هناك عقاب

 

بُترت أنفاسها المتهدجة وهي تشاهده باستغراب ليُضيف بنبرة مُحذرة:

-       ما الذي تقوله الفتاة الجيدة روان؟

رطبت شفتيها وابتلعت ثم أشاحت بنظرها للأرضية محدقة ببقعة فارغة وهي لا تدري لماذا يفعل بها ذلك ثم همست له:

-       نعم سيدي

استمرت في فعل ما تظن أنه سيُرضيه ولن يُغضبه بينما هو يظن أنها تخبئ غضبها بأن تنظر بعيداً عنه فلامس أسفل ذقنها ليجعلها تنظر له فرأى بداخل مقلتي عينيها شيئًا جديدًا لم يعهده، رأى الطاعة بعينيها، إذعانا حقيقيا لما يُريده، وإرادة منها أن تفعل كل ما يحلو له!

ابتسم لها بمكرٍ ورضاء هائل لرؤية هذه المصداقية بين جفنيها ثم اتسعت ابتسامته بعد أن تيقن تمام اليقين أنه سيحصل عليها كما يحلو له ثم همس قبل أن يُقبل شفــ ــتيها من جديد:

-       فتاة جيدة...


يُتبع..