رواية - كما يحلو لي - الفصل السادس والعشرون - نسخة حصرية (النسخة القديمة)
رواية كما يحلو لي النسخة القديمة بقلم بتول طه
حصريًا لمدونة رواية وحكاية
الفصل السادس والعشرون
شعرت بالاستغراب من تلك الأجواء الصامتة حولهم بالسيارة وعينيها بين
الحين والآخر تتفقدانه ببعض الارتباك الذي رآه جليًا على تقاسيم وجهها بل وكل جلستها
نفسها لم تكن لتدل سوى عن التوتر وعدم الراحة...
التفت ناظرًا لها بوضوح بعد محاولات تهربها من أن يُمسك بها وهي تنظر له
حتى بات الهرب منه مستحيلا فكلاهما يدركان الآن أنهما ينظران لبعضهما البعض ولم يعد
هناك فائدة من محاولاتها في تحاشيه أبدًا!
أبعدت بعض خصلاتها خلف أذنها وحدقت به ثم اندفعت سائلة ببراءة:
-
هل لي أن أعانقك؟
ابتسم وغلف ملامحه بعض التعجب ثم أومأ لها بالموافقة لتلعن هي بداخلها
على تركها للسانها السخيف أن ينطق بما يُريده بمنتهى العفوية واقتـ ــربت لتريح
رأسها على صـ ــ ــدره وأغلقت عينيها وأوشكت على أن تحاوط خصـ ــ ــره بيـ ـــ ــدها
بمنتهى العفوية لتقارب أن تتلمــ ـــ ـــس ظهره ولكنه عانق يدها في يده ثم أراح وجهه
بعناية على شعرها وحاول ألا يجعلها تلاحظ شيئاً ولكنها أسرتها في نفسها، فهذا لم يكن
الوقت المناسب للتحدث في أمر كونه مُضَادًّا للمـ ــ ـــس.
شعرت بالاستغراب في البداية ثم بدأ الخوف في التلاشي شيئًا فشيئًا وبحثت
عن الراحة وهي تستمع لخفقات قلبه المنتظمة وكمْ تمنت أن لو كانت هذه هي ذكرياتهما بدلًا
مما مضى... لو كان حدث ذلك منذ البداية لما كان عليها المعاناة بعناق كهذا بين ارتباكها
من اقترابه منها بعد ما فعله، وبين محاولة أن تعتاد رجلا يُفترض أنه زوجها!
لماذا لم تكن البداية بينهما بهذا الهدوء، دون جدال ودون تفكير في كل اختلافاتهما،
أو عليها أن تظن أنهما متماثلان، لديهما نفس الكبرياء والعناد والعصبية، لا يغير أي
منهما وجهة نظره وأفكاره بسهولة، لا يتلقى كليهما الأوامر بسلاسة. قد يُخيل له لبعض
اللحظات أنها تقبل ماهية الأمر بكل ميوله وبكل ما يُريد فعله ولكن في الحقيقة هي بعيدة
كل البُعد من أن تُصبح خاضعة له!
تنهدت ليلاحظ أن هناك عبئاً وثقلاً على صـ ــ ــدرها ولكن لا يريد أن يتحدث،
لا يريد أن يفقد أعصابه ويتجادلان، ما أختبره في الأيام
القليلة الماضية والسعادة التي شعر بها بعد أن ظن أنه حرم تلك المشاعر على قلبه منذ
زمن بعيد لن يفرط بها بعدما لمـ ــ ــسها وعاشها معها...
ترجلا من السيارة بعد مدة لم تعلم كمْ كانت، هي حقاً لم تكترث لطول المدة،
بقائها بالقرب من قلبه غمرها بالسعادة التي ظنت سابقا أنها لن تختبرها معه.
أخفض نظره إليها وقرر أن يُفاتحها بالحديث بأمر عادي بدلًا من هذا السكوت
بينهما:
- كيف استطعت الاهتمام بي ذاك الصباح عندما كنت ثملًا؟ هل لديك خبرة بحالات
الثمالة؟
رفعت نظرها له ليشعر بغبائه، شفتاها الورديتان الآن وانعكاس أنفاسها
المُرتبكة كانتا كفيلتين بجعله نادمًا على أنه من سمح لها بالاقتراب وأدرك أنه
عليه تحمل معاناة ألا يُقبلها كي لا يُفسد هذه الملامح الرائعة بما يتمنى فعله:
- أنا أشاهد الكثير من الأفلام عمر... كما أتذكر حفلا... كنت قد ذهبت أنا
ووالدي ووالدتي يومها... فارس كان لا يزال صغيرًا وتركته والدتي مع المُربية...
ابتسمت بعذوبة لتشتد عينيه قتامة وهو يحاول أن يمنع نفسه عنها بينما هي
ابتعدت ليكره ما فعلته ولكنها كانت عفوية للغاية وتابعتها عينيه ليجد عسليتيها تشرد
بتركيز على ما يبدو أنها ذكرى قديمة وأكملت متحدثة:
- لقد احتسى والدي بعض الكؤوس يومها بصحبة أصدقائه، لم تره والدتي...
وأنا كنت أعلم ولم أخبرها، فقط راقبته... وعندما ثمل بشدة لاحظت والدتي بعد أن تركت
عدة معارف كانت معهم وانتبهت لضحكاته مع أصدقائه... لا أستطيع نسيان هذا اليوم...
التفتت ناظرة نحوه بحماس واندفعت متحدثة بأريحية:
- في الصباح عاتبته والدتي وأنا كنت أراقب الأمر وأخذ يُخبرها أنه يشعر
بالصداع وأن تؤجل الحديث لاحقًا... ولم تتحدث له لما يُقارب أسبوعا كاملًا...
حزنت ملامحها وهي تتنهد لتقول بهمس:
- كانت تشعر بالخوف لأجله، الأطباء منعوه من الشراب...
أخفضت رأسها وهي تشرد بأرضية السيارة:
- لقد اشتقت له حَقًّا...
تلمس يدها بدعمٍ ثم تساءل بنبرة مرحة:
- من
حديثك عنه أرى
أنكِ كنت فتاة أبيكِ، أليس كذلك؟
أومأت له بملامح غابت بالحزن وهي غارقة
بذكريات عدة جمعتها بوالدها لتتوقف السيارة بعد مدة لم تعلم كم كانت، هي حقًا لم
تكترث لطول المدة حيث غابت بذكرياتها ولم تلحظ يده طوال الوقت التي كانت تُمسك
بخاصتها.
نبهها صوته وهو يُخبرها قائلًا:
- هيا..
لقد وصلنا..
ترجل هو من السيارة أولًا ثم ساعدها ممسكًا
لها الباب
بنُبلٍ ودخل ممسكًا بيدها أمام الجميع، ولم يلحظ حتى أعين من تعرفوا عليه، لم يجب
من ألقى عليه التحية، تركيزه كان عليها هي وحدها فلقد أُصيب بلعنة تُرغمه ألا يتوقف عن النظر إليها
حتى وإن لم يتحدثا وقد حاول محاربة هذا الأمر بالسيارة منذ قليل وقد هُزم ببشاعة..
توجها لأحدى المصاعد حتى استقر بهما في آخر
دور.. لم تصدق أنها مكثت كل هذه المدة بالمصعد وهو لم يفعل شيئًا سوى التحديق بها وتعجبت كثيرًا لنظراته التي بدأت
في أن تبث في قلبها الطمأنينة نحو ما يفعله.. أخيرًا ملامحه تبدو كرجل طبيعي ليس
بغاضب ولا يتحدث بتُرهات..
أكملا السير لتجد نفسها تنظر لمنظر خلاب
على نهر النيل.. لم توجد إلا طاولة واحدة بالمكان بأكمله.. صوت الموسيقى الذي
يحاوط المكان كان باعثًا على الاسترخاء.. وأما الورود التي تناثرت على الأرضية
بالكامل وتلك الزهور والشموع على المائدة جعلتها تشعر كم كانت مجحفة بحقه..
هل ظلمته وحكمت عليه دون أن تعرف من هو
حقًا؟ وكل ما كان يمنعه هو بعض الغضب؟ أرادت أن تحظى بلحظات الرومانسية وها هي
تعيشها الآن فالتفتت ونظرت له في سعادة بالغة ببعض الأسف بعينيها وهي تُفكر، ربما في النهاية
هناك رجلًا آخر بداخله لابد أن تنتظر قليلًا كي يُطلق سراحه معها..
ابتسمت له ثم همست بامتنان:
- شكرًا
لك..
قطب جبينه باهتمام واكتفى بإيماءة متريثة
وتفحصها ليجد اختلاف نظرتها له، أهذا هو الأمر، مُجرد عشاء مُفعمًا بعدة لمـ ــ ــسات
بسيطة جعل ملامحها تتبدل لتُصبح فتاة أخرى! لا يعلم أيستجيب لما يشعر به معها
ويُكمل في هذا السبيل عله يجد الرشاد، أم يُكمل فيما أراده منذ البداية، وما كانت
لعنته التي يُريدها؟ لقد بات تائهًا بطريق لا يعلم ما نهايته معها!
لم يُعجبه محاولتها في تشتيه وتصميمها دون
أن تقصد على أن تفقده سيطرته بملامحها الرائعة وابتسم لها محاولًا أن يلملم شتاته
المستتر بملامح تبدو للرائي صلبة واثقة بينما بداخله كان أقل ما يصفه به العالم
بحاله أنه خائف!!
❈-❈-❈
جذب لها الكرسي بنُبل بعد أن ساعدها على
خلع معطفها ثم أخبرها:
- اجلسي
صغيرتي..
ربما
في الظاهر هي تنظر له في سعادة بالغة، هذا تمامًا ما يتضح عليها، قد تكون عسليتيها
وتقاسيم وجهها يعكسا أثر الابتهاج الذي أدخله على قلبها للتو، ولكنها عندما اطنبت
بالنظر له دمعت عينيها
من مجرد عدة افكار لاحت برأسها وهي تشعر بالشتات بين رفقه الذي يفاجئها به مؤخرًا
وكونه رجلًا تمنت لو تزوجت مثله في يوم بمثل هذه الشخصية وبين خوفها من أن يتحول
من جديد ليُصبح ذلك الرجل الغاضب ذو غرفة العذاب الجحيمية!
رمقها
وهو لأول مرة لا يستطيع تفسير ما يراه، هل هذا من سعادتها، تذكرها لوالدها، أم
لحُزنها من شيء ما فعقد حاجبيه
وهو يتفحصها بينما اشاحت هي بنظرها بعيدًا عنه وكلاهما يشعران بصعوبة محاولاتها في أن تبكي
فهذا على كلٍ ليس الوقت المناسب لإندفاع مشاعرها لتُفسد أُمسيتها معه وحمحمت برقة
وهمست كمحاولة للتغلب على شعورها وتفكيرها:
- شكرًا لك.. على كل هذا..
تقدم
للأمام قليلًا ليحتوي وجنتيها بلطفٍ فأحست بملمـ ــ ــس كفـ ــه الدافئ على وجهها
وقطب جبينه باهتمام وهو يتفحص مُقلتيها فبحميتيه
وقال بثقة:
-
فقط لا
تبكي.. لا أريد أن أرى دموعك أبدًا.. خاصةً الآن!
لا،
هذا كان أكثر مما يستطيع عقلها استيعابه فمنذ هذا الصباح وهو
لين برقة غريبة لم تعهدها منه ورغمًا عنها تفلت لسانها بسخرية وتسائلت بنبرة ذات
مغزى:
-
حقًا؟!
ولا حتى تريد رؤية دموعي بغرفة العذاب الجحيمية خاصتك؟!
استطاعت
رؤية تغير ملامحه وهو يسحق أسنانه ولم يُعجبه محاولتها في التحدث عن تلك الأشياء
التي تحرضه على أن يفتك بها وتصميمها دون أن تقصد على أن تفقده سيطرته التي بالكاد
يتحلى بها أمامها وأمام كل ما تقع عليه عينيه منها فرسم ابتسامة على شفتيه لم تعكس
حقًا السعادة ولا السرور وعقب باقتضاب:
-
سنرى
بخصوص هذا لاحقًا..
تحولت
عينيها لتتمعن في مزيد من التفاصيل حولها ثم رمقته ببعض المرح الخفي وسألته بنبرة
مُعتدلة وملامحها يبدو عليها الإعجاب بما تراه:
-
عشاء..
منظر شاعري.. ورود.. شموع.. موسيقى.. ماذا تخبئ لي بعد؟!
سألته ليجذب يدها ويتشابكا الأصابع
وتخلى عن ابتسامته ثم أجابها بجدية بالرغم من تخبطه بداخله:
- بداية جديدة... ربما!!
رفع يـ ـــ ــدها مُقـ ــ ــبلًا
إياها برقة لتتابعه بعسليتين متعجبتين ليُفاجئها متابعًا:
- وأريد التحدث معكِ عن كل شيء...
جلس بأريحية بكرسيه لتستند بذقنها
على يدها بينما أمسك ببعض من أدوات الطعام ثم حدثها قائلًا:
- لقد أخبرتهم بأن يعدوا الطعام
مسبقاً حتى لا يزعجنا أحد...
ابتسم لها ببعض الخبث وأضاف بعد
تريثه لوهلة:
-
أعلم أن كلانا يتضور جوعًا بعد ما
حدث بيننا ليلة أمس وصباح اليوم!
بدأ في كشف الأغطية أمامهما ليشرعا
في تناول العشاء سَوِيًّا وحافظت على ابتسامتها المتعجبة من كل ما يفعله بل وتوسعت
عندما أضاف ما قاله والخجل يتضح على وجهها وتبادلا النظرات الخجولة منها والجريئة منه
في صمت ثم انتظرت أن يقول أي شيء ولم يحدث فقررت التحلي بالجرأة فلو كان صادقًا لن
يمانع أن يجيبها:
- حدثني عنك، عُمر...
ابتلع ما بفمه وترك ما بيده وتفحص
ملامحها المثالية ثم أجابها سائلًا بتنهيدة وهو يتيقن بداخله أنه لن يُجيب كل
أسئلتها كما تُريد هي وهو يتمنى ألا يشرع بالكذب:
- ماذا تريدين أن تعرفي صغيرتي؟
أكملت تناول طعامها ولم تفعل مثله
وأجابته بهدوء ونظرة مُتلهفة:
- كل شيء... منذ البداية... كما
تنادي أننا سنبدأ من جديد علي إذن معرفة بدايتك كطفل وشاب ورجل، أريد أن أعرف كل شيء
عنك ومنك، أن تقص عليّ حياتك بأكملها، أن أشاركك الماضي والمستقبل... أو حتى
منذ الثامنة عشرة كما أخبرتني بعض الأشياء عنك بالسابق!
ضرب الشغف عقلها لتعرف تلك
الشخصية المُعقدة التي لو استمر في تخليه عنها مثلما يفعل منذ استيقاظها تتيقن أنها
ستقع له بالكامل أكثر حتى من تلك المشاعر التي بدأت في أن تُكنها له بالفعل وانتشلها
من تفكيرها مُعطيًا إياها إجابة لم تنشدها:
- سنتحدث... لا تزال الليلة
طويلة
تنهد بألم التشتيت بداخله وتريث
بنصف ابتسامة متوترة لم تلامس عينيه، كم كره أنه سيكون عليه إخفاء أجزاء عدة من الحقيقة
ولكن ليس أمامه حل آخر!.
أكملا تناول الطعام في صمت، والتهمت
العديد من الأفكار عقلها كما شعرت بالغضب والخجل والتشتت والحيرة في آن واحد... الكثير
من الأصوات الإيجابية بداخلها والعديد من الصراعات السلبية تُخبرها أن هذا الرجل القابع
أسفل عسليتيها سيجعلها دائمًا تشعر بالخوف وأن كل ما تمنته وأملت به بزواجها لن تختبره
ولن تصل له معه...
لاحظ شرودها ونظراتها التي لا تدل
سوى على التفكير الذي لا يتوقف فآتتها نبرته وكأنه يرى عقلها وليس فقط يستطيع قراءة
أفكارها:
- ما الذي يجول بخاطرك؟
لم تنظر إليه وظلت تعبث بالطعام
أمامها وأجابته باقتضاب بنبرة مستغرقة في التفكير:
- لا شيء..
هز رأسه بتفهم وأكمل المزيد من طعامه
ثم أطنب سائلًا بلهجة مُحذرة:
- حسنًا... الكذب هذا لا بد من أن
تتخلصي منه يومًا ما، وأفضل ألا ينتهي بغضبي منك، فلتخبريني، ماذا هناك؟
رفعت عسليتيها نحوه تتفقده بغضبٍ مكتوم
لتجيب متلعثمة في البداية ثم استطاعت أن تنقل كلماتها من فتاة مُشتتة لامرأة تتحلى
بالثقة:
- أنا
لا أكذب.. مممـ.. ربما، أنا، .. أنا لا أرغب في التحدث عن ما أفكر به الآن، ربما
لاحقًا.. لقد سألتك أن تُحدثني عنك وأنت لم تجبني، لذا، سوى ذلك لا شيء يجول
بخاطري!
أخبرها
بعد أن رأى كل ملامحها مصممة على الانزعاج ولكنه لم يُرد أن يُفسد أمسيتهما فتنهد
بألم
وتريث بنصف ابتسامة متوترة لم تلمس عيناه، كم كره أنه سيكذب عليها وسيخفي جزءًا من
الحقيقة التي لن يستطيع أن يتفوه بها أمامها ولكن ليس أمامه حل آخر فتحدث بنبرة
معتدلة استطاع السيطرة خلالها على كل ما يتسارع برأسه من ذكرياتٍ عديدة:
- حسنًا، سأتحدث عن نفسي، وسأخبرك بكل شيء، ولكن استمعِي جيدًا لما سأقول وأنا أبدأ من
البداية، لن أكرر حديثي هذا ثانيةً
اقترب
ليجلس بالقرب منها ثم التفت لها بكامل جسده ثم نظر لها نظرة لم تدرك معناها، هل هي
نظرة ألم
أم نظرة غضب، على كلٍ أيًا ما يبدر هي لا تستطيع تبينه ولا تفسيره وانتظرت لتستمع
له يقول:
- سأبدأ منذ البداية.. حتى قبل الثامنة عشر..
حمحم
وهو يحاول أن يتغلب على ما اندفع بداخله وهو يستعد ليبدأ في سرد حياته أمامها
وسيطر على نبرته ثم قال:
- كنت أصغر أقراني
بالمدرسة، كان أبي يظن أنه يفعل لي الخير، لم أعرف لماذا أختار أن أذهب لمدرسة
داخلية عسكرية، بالرغم من أن أخي لم يذهب لتلك المدارس ولم تكن أمي لديها ما
يُشغلها ولكن كان لديه نظرة غريبة تجاه الأمور بأن رجله البكر لابد من أن يكون
قويًا وصارمًا خصوصًا بعد أن حاول هو ووالدتي كثيرًا أن يقوما بالإنجاب وأخيرًا
نجح الأمر بالنهاية.
سكت هنيهة لتقطب جبينها بعفوية فلم يُعجبه
تعاطفها، يكره أن يُشفق عليه أحد، لهذا يكره أن يقص تفاصيل حياته على أيًا من كان
وتابع بانزعاج امتن أنها لا تراه أثناء براعته في اخفاء ما يشعر به وما ينعكس على
وجهه من ملامح:
- أظنه
ود أن يصبح بالجيش فلم يستطع وأراد أن يُكمل حلمه من خلالي.
تريث مرة أخرى وبذاكرته ومضت ذكريات لا يود
أن يتذكرها بتلك المدرسة ثم أكمل كمن يسترجع تلك الذكريات وهو يخفي السبب الحقيقي:
- لا
أعلم ماذا حدث لأجد نفسي بالمدرسة التي يرتادها عُدي وبسبب نفوذ والدي أخرجني من
مدرستي القديمة وتم إنهاء اجراءات نقلي وهنا بدأت أتأقلم واتعود على عائلتي..
ولكنني حتى الآن لا أعلم ما الذي حدث أثناه عن رأيه..
فكرت لوهلة، هل هذا سبب صمته؟ ألهذا هو
قليل الكلام بسبب أنه لم يختلط بعائلته لكثير من الوقت وهو طفل صغير؟ ابتلعت وهي
تحاول ألا تتشتت ولكن جاذبيته وملامحه التي تعبث بعقلها لم تكن ترأف بها فقالت ببعض
الانزعاج قاصدة والده:
- يبدو لي وكأنه شخص صـ..
لم يترك لها مجالًا بأن تُكمل كلماتها
فقاطعها:
- وبالرغم من
هذا كان ولا يزال أقرب شخص لي
زمت شفتيها بعد أن لاحظت بعض التحذير
بنبرته وقررت أن تحيد عن رأيها الذي كونته بخصوص والده فسألته:
- كم
كنت تبلغ من العمر وقتها؟
زفر براحة دون أن تنعكس زفرته بمبالغة كي
لا يجعلها ترتاب بالأمر وشعر أنه تخلص أخيرًا من صعوبة مواجهة سؤالًا صعبًا وأغلق
عينيه مبتلعًا بألم
ثم استعاد تلقائيته نوعًا ما واجابها:
- الصف
الثالث الإعدادي، كنت بالثانية عشر من عمري..
هذه كانت سنتي الأخيرة بالمدرسة الداخلية فكما اخبرتك لقد بدأت دراستي قبل الجميع
بعامٍ كامل.. وتم نقلي وأنا بالثالثة عشر في المرحلة الثانوية!
حاولت التفكير قليلًا وعدم التأثر به ولا
أنفاسه التي تقسم أنه بالرغم من عدم اقترابه منها شعرت بها وهو يجلس بجانبها وحاولت
أن تتملك بعض الشجاعة لتسأله:
- ولكن
أنت وعُدي كنتما بنفس المدرسة، هو اخوك،
لماذا لستما قريبان من بعضكما البعض؟
ابتسم بالرغم ما مر عليه من مواقف عديدة
تفوق بها "عُدي" عنه في كل شيء ليرغمها على تسليط تركيزها بأكمله عليه
لتتشبث عسليتيها المهتمتان بما يقصه عليها وحدق بها وهو يجيب:
- لقد
كنت قليل الحديث وهو ثرثار، شخصيتان مختلفتان، لم نلق الصداقة فيما بيننا.. ببساطة
لم نهتم بنفس الهوايات.. أنا كنت قارئا
صامتا
قريبا
من والدي، وهو كان الفتى المُدلل القريب من والدته.. كأنك تحاولين أن ترغمي الشمال
والجنوب على التقاطع وهذا لم ولن يحدث أبدًا..
ابتسم
ببعض المرارة وهو يسترجع برأسه العديد من الذكريات ثم واصل حديثه:
-
والدي
هو أقرب شخص لي.. ألا تري أننا نتشابه شكلًا ومضمونًا حتى مهنتنا واحدة، حبنا
للقانون، القراءة، كيف تستطيعين إيجاد الثغرات وإقناع الآخرين حتى أننا شخصيتين مراوغتين.. أنا أكثر الشبه به من
أخوتي.. حتى نفس طريقة المزاح
ابتلع
عندما تذكر مبتسمًا وهو يرى نفسه منذ أمد بعيد بشخصية اخرى تمامًا غير التي بات
عليها الآن بينما نظرت له وكأنها لا تصدقه فسألته بابتسامة ولكن دون سخرية
واستهزاء:
-
أيعرف عمر
الجندي كيف يمزح؟
قطب جبينه وهو يبتسم لها بعذوبة وأجاب بنبرة هادئة:
-
بالماضي وربما...
سكت ثم خلل شعره ليرى الحزن يعتلي ملامحها فأكمل:
-
ربما بعد سنوات من العمل ومحاولة بناء حياتي قد اختلفت كثيرًا... لذا لا أجد وقتًا
للمزاح... المسؤوليات والواقع يُغيران المرء كثيرًا
صغيرتي...
توقف عن الاسترسال بحديثه ثم أمسك بيدها وتوجها للمائدة وأجلسها
وعسليتيها لا تتركه كي يغيب عنهما وقرب مقعده منها ثم حدثها:
-
كنت كل إجازة صيفية أتذكر أنني اعتدت على الذهاب لشركة المحاماة خاصته وأدخل مكتبه
ولم أحصل منه إلا على إيماءة وعدة توجيهات بالكتب التي تهم وابتسامة مقتضبة نظرًا لانشغاله،
وقتها كنت أذهب لأقرأ بالكتب التي تخص القوانين والمنطق والفلسفة، لم أشعر بالسأم بل
وجدت نفسي بها...
إجابته لم تكن حقيقية، ربما لو تحدثت لوالده سترى هذا، الكل كان يرى هذا
ولكن لم يعلم أحد حقيقة ما كان يمر به... ربما عليه البُعد عن تلك التفاصيل الآن وقال
بنبرة لطيفة احتوت على إطراء بطريقته هو:
-
أعرف فتاة وجدت نفسها هي الأخرى مهتمة بمجال أبيها!! غريب... تبدو وكأننا نتشابه
كثيرًا
ضيقت عينيها بابتسامة لا تنم سوى عن الدلال والثقة وبالطبع فهمت ما يقصده
ليُضيف مُصححًا:
-
لأكون مُحددًا هي التي تشابهني... وأود أن أؤكد لكِ أنها رائعة... وشرف لي
أن تشابهني...
ابتسم لها بعذوبة لتتورد على تلك الكلمات وهو يُلامس أناملها بلطف ثم
تملكتها بعض الجرأة وعبـ ــ ــثت بأناملها بيـ ــ ــده فاستكمل الحديث:
-
عندما أنهيت المرحلة الثانوية وكان أمامي الكثير من الاختيارات بأن أدخل العديد من
الكليات بعد تفوقي هناك شغفي بالمحاماة الذي أعمى بصري عن كل شيء... لذا أكملت الطريق
وتفوقت جامعياً بتقديرات مرتفعة وكسبت مكانة عند الكثير من الأساتذة وبالطبع كان
هناك العديد ممن يتودد لي بسبب نفوذ أبي ولكنهم لا يعلمون كم هو صارم بخصوص مثل تلك
الأشياء... ومالا يعرفه الناس أنني مثلي مثل أي فتى بالجامعة، مصروفي وقتها كان متوسطًا
وحتى كنت أدخر منه، لم يُفسدني أبي مثلما فعل مع عنود بالطبع وعدي... وكأنه كان يجعلني
أعتاد على نوع حياة مختلف... يؤمن بنظرية العصامية كثيرًا
تنهد ثم نظر لها وقطب جبينه باستياء وهذا كل ما أراد الانتهاء منه وحاول
التغلب على ما يشعر به وتابع:
-
كنت بنهاية المرحلة الثانية، عندما... عندما قابلتها!
سكت للحظات لتشعر بالألم يفيض من عينيه ولم يكن يعلم أنها قد أدركت ألمه
وظن أنه يُخفيه واستطرد بجفاء:
-
وقتها كنت بالثامنة عشر، حسنًا، تلك السنة كانت أول نقطة تحول في حياتي، لقد
أحببتها...
قاطعته بحرص سائلة:
-
أتقصد يُمنى؟
❈-❈-❈
أومأ
لها بغضب مكتوم بعينيه انعكس على أسنانه المُطبقة وابتلع ثم أكمل دون إعطاء
تفاصيل:
-
كانت في غاية الجمال، رأيتها بالجامعة صُدفة وهي ليست عادتي الاختلاط بالكثير من الناس
ولكني أتيت لأرى من تجلس على سيارتي وتضحك مع أصدقائها... لم أكن لأُفكر بأنني سأقع
في الحب يومًا ما ولكنها ببساطة دخلت قلبي...
زفر ما برئتيه وهو يفشل بشدة في احتواء ما يدور بداخله ليحمحم واستطرد
بقساوة بنبرته:
-
حتى لا أطيل الحديث عن هذا، بعد علاقتنا لمدة خمس سنوات وعلى الرغم من أنها ابنة رجل
أعمال وعائلتها جيدة ولكن، لنقل أنها كانت تبحث عن نفوذ وأموال و... فقط لنقل إنها
كانت تظنني أحدًا لم أكن عليه واكتشفت وأنا بالثالثة والعشرون بعد انتهائي من الجامعة
أنها تخونني فلهذا تركتها...
سكت هو لتشعر بأنه لا يريد الإطالة أكثر وامتنت أنه تحدث بالأمر فابتسمت
له وحاولت أن تغير الموضوع قليلًا أما هو فقد لخص حياة بأكملها بتلك الكلمات واستمع
لها وهي تتساءل بعفوية:
-
ماذا عن ميولك؟ كيف علمت أنك سا دي؟
ابتلع بصعوبة وهو يعلم أنه بمجرد إخفائه أغلب قصته مع "يُمنى"
وقوله بأنه ليس ساديا قد كذب عليها وأدرك أنه منذ هذه اللحظة قد أثقل كاهله بعدم صراحته
معها ومنذ الآن سيتحمل ذلك العبء وحده لو اكتشفت حقيقة الأمر وعقد حاجبيه وأجابها بنظرة
قاسية:
- فلنسميها مُسيطرا وليس ساديا...
هزت كتفيها
بتلقائية وتحدثت ساخرة:
- وما الفرق؟ كلاهما لا يوضحان سوى غرابة الأطوار...
اختلفت نظرته
وازداد الغضب المكتوم داخل عينيه ثم تحدث بثقة شديدة وتحذير خفي لها:
- المسيطر هو
شخص يستمتع بأن يتحكم في كل شيء، العلاقة، القرارات، الاختيارات، لا يُعاقب إلا لو
هناك خطأ... لكن السادي في المقام الأول يستمتع فقط عن طريق إيقاع الألم بشريكته والسيطرة
على الشريك بالطبع تحدث كروتين بالنسبة للسادي، فالسادي مُسيطر بطبعه ولكن المُسيطر
ليس بالضرورة أن يكون سادي الطباع توقف لينظر في وجهها عن أي ردة فعل ولكن وجدها غرقت
في حيرة، كانت تحتار ما الذي جعل ملامحه تختلف هكذا ولكنه تابع كلماته:- تعلمين أي
شاب في هذا العمر، كيف يفكر بالفتيات، يبدؤون بملاحظة ما يثـ ــ ــيرهم، وما يفضلونه، وبما إنني كنت
لا أختلط بأحد... كنت وحيدًا نوعًا ما، فلم يكن أمامي إلا محركات البحث والقراءة وبعدها،
لأول مرة أشعر بالإثـ ــ ـارة عندما رأيت رجلا مسيطرا وفتاة خاضعة... بدأت أبحث في
الموضوع وتطور لقراءات ثم...
قاطعته سائلة
بفضول:
- هل كانت
يُمنى تُشاركك نفس الميول؟! هل كانت خاضعة؟
بداخلها لا
تدري لماذا كانت متأكدة من الإجابة، ولا تدري لماذا عادت من جديد لتتحدث عنها وعن علاقتها
به، هل بسبب ما قاله عندما ثمل بالسابق أم بسبب أنه أحبها وتعجبت عندما لاحظت صخبًا
بأنفاسه التي كانت غاضبة خصوصًا وأنه توقف عن الإمساك بيدها:
- نعم... كانت
تفعل... كانت خاضعة
حمحمت ولم تستطع
إيقاف فضولها وتساءلت بتلعثم:
- هل... هل
مارس... أقصد أن... لم يتركها لتلك الصعوبة التي تُفاقم صعوبة ما يدور بداخله هو نفسه
سرعان ما أتى رده المنقذ لكليهما:
- لا، لم نتضــ
ــاجع، فقط جربنا بعض الأشياء سَوِيًّا ولكن لم أصل معها لذلك، فلقد كانت... أو
كنت... لا أدري، بالنسبة لي كنت أريد أن نحظى بأول مرة لنا بعد الزواج لذلك لم
أجبرها على ممارسة الجـ ــ ــنس معي
لاحظت قسوة
ملامحه تزداد غضبًا ليعود لها الخوف وتملكها الإحراج من صراحته بخصوص كلماته المنطوقة
فحاولت أن تغير مجرى الحديث وقطبت جبينها سائلة:
- بالثالثة والعشرون إذن... فلتُكمل، هل وقتها
بدأت العمل؟
اقترب أكثر
لها مُقــ ــبلًا جبينها وتريث بما يفعله وهو يتفحصها بتريث لينتشلها من تركيزها الشديد
بكل ما يخصه وهمس لها بابتسامة جذابة:
- سأقص عليكِ
كل ما تريديه، ولكن هناك رجلًا تلهف لامتلاكك، ولن يعيد ما حدث بينكما... فهل يستطيع
هذا الرجل أن يراقص زوجته، الرقصة الأولى... دون الشعور بخوفها مني...
ابتعد عنها
قليلًا بيد مبسوطة منتظرة خاصتها أن تنضم له فأمسكت بها ليتوجها سَوِيًّا وهي
مبتسمة رغمًا عن انفها فأحيانًا أقواله وابتساماته وخصوصًا لو برفقٍ شديد تتملكها تمامًا
وتتركها غير مُستطيعة أن ترفض له أي شيء يُريده ليُقربها إليه وهي لا تتوقف عن الحيرة
التي تغلغلها بسببه ليحيط خصره ويده الأخرى احتوت يدها وقربها منه هامسًا بأُذنها:
- نعم... بالثالثة والعشرون بدأت أعمل بجد، ولم
أعمل مع أبي مع إنه عرض علي كثيراً ولكنني لم أوافق، فقط أنهيت تجنيدي، وبعدها ركزت
بعملي وشيدت كيان لي بدأ بمكتب محاماة، والآن... أنا عمر يزيد الجندي الذي تأتي له
روان صادق ليترافع لها ويتزوجها
قال مبتسمًا
بغيظ ليسمعها تسأله وهي تحاول الحصول على مشهد كامل لوجهه خلال رقصتهما التي جعلت جسديهما
مقتربين للغاية:
- وماذا بعد
أن تزوجها؟!
توقف ثم حدق
بعينيها واقترب منها في حرب بينه وبين نفسه أن يكف عن الغضب واستلهم من تلك البراءة
والحسن الأخاذ بعض الهدوء وعبثت أنامله بوجنتها واجاب هامسًا أمام شفتاها:
- شعر بأنه
محظوظ للغاية ليحصل على هذه الفتاة الرائعة...
أضاع المزيد
من اللحظات وهو يحدق بعينيها واقترب منها لتبتسم في خجل ثم قبلها قبلة ناعمة ولكن بالطبع
تحتوي على الكثير من الحرارة التي لا تفشل أبدًا في العبث بعقلها وقدرتها على
الصمود أمامه ولكنها استمرت في مراقصته وهي تحاول أن تُركز في المزيد من ماضيه ويديها
تحاوط عنقه فتعجبت بنبرة معتدلة أو هكذا حاولت أن تكون دون أن تبدو متأثرة لقربهما
الشديد:
- وماذا عن جار...
- تبدين فاتنة للغاية هذا المساء روان...
قاطعها ما إن
شعر بأنها ستسأله عن حياته كسادي وعلاقاته الجنـ ــ ـــسية فدفعها برفق بحركة
راقصة ثم ضمها إليه من جديد وتمسك بخـ ــ ــصرها ودفن وجهه بعــ ـ ـــنقها بينما حاوطت رقبته بيدها
وأخذا يتمايلان في تناغم وعقل كلاهما لا يتوقف عن التفكير، فهي تريد معرفة المزيد بينما
هو يحاول الفرار من كل ما تذكره بسبب حديثه طوال الليلة.
❈-❈-❈
تخبطت المشاعر بداخله ثم صرخ بداخله بقهر:
- لو
تعلمين أنني رأيت بكل خاضعة صورتها وهي تخونني، لو تعلمين أنني تحولت كي اصبح هذا
الرجل بسببها هي، لو فقط تعلمين أنكِ أول إمرأة تكون لي أنا وحدي.. جميع خاضعاتي
كن إما متزوجات من قبل وتبحثن عن المتعة وإما عاهـ ــ ــرات، وإما ابتعتهن بأموالي.. لكنك أنتِ أنقى من لمـ ــ ــست..
أنتي ملكٌ لي روان.. أنا وحدي.. كم أتمنى ألا أفقد السيطرة بيوم ما وأراكِ مثلها،
لو فقط تعرفين ما الرابط بينك وبينها ستكرهيني فورًا دون أن تتلاقى اهدابك.. ربما
سأخسركِ حينها للأبد!
قربها أكثر ليعتصر جسدها بأكمله وكأنه
يحتاجها من جديد ولم يعلم ما يدور بعقلها، كان هو تائها في خضم نزاعه ولكنها هي الأخرى شاردة
بسبيلٍ وعر تخاف أن تخطو به خطوة واحدة و
تحدث عقلها هي الأخرى متضاربًا:
-
بالرغم
من حديثه معي ولكنه لا يزال يتلاعب بعقلي.. أشعر وكأنما هناك شيئًا مفقودا، شيئاً ليس صحيحا.. ولكن لماذا اجد نفسي اعذره،
بدا متألمًا، وحياته لم تكن سهلة..
ولكنه بدأ بالتحدث.. هذا جيد نوعًا ما.. قد تكون بداية جديدة حقًا كما قال..
شعرت باحتــ ــ ـــضانه الشديد لجـ ـــ ـــسدها
يزداد وهناك مشاعر جديدة تتولد بداخلها تناقض القديمة وأصدت عيناها واستمتعت
بالدفء الذي يحاوطها به، وبتلك الموسيقى التي ظلا يتراقصان على أنغامها.. وتمنت أن
تحتــ ــ ــضنه الآن مثل ما يفعل، أليست لها الحق أن تتصرف معه كما يتصرف هو؟
رطبت شفتيها واستلهمت بعضًا من شجاعتها وهبطت يديها
من عنــ ـــ ــقه على مُكثٍ وبدأت في أن تحاوط ظهره ولكن هيهات!!
أمسك بيديها سريعًا وابتعد عنها بابتسامة
مغتاظة لم تلمس عينيه
وشبك أصابعهما معًا وكان واضح للغاية أنه قد غضب بتلك النظرات، ولكن أهم ما قالته
فحمية عينيه
كانت "احذري!!"
كان
عليه إضافة أي اقتراح يستطيع الهروب خلاله ثم حدثها قائلًا:
-
هيا لنشاهد
المنظر من هنا.. أنا على يقين أنه سيروقك..
أمسك بيدها ليتوجها سويًا بنفس الإبتسامة التي لم تلمس مقلتيه وشبك أصابعهما معًا بينما عينيه أخبرتها الكثير، فسارت معه عند الحافة لتشعر به يحتضن ظهرها ويحاوط خصرها وأخذ يقبلها من جانب رأسها أكثر من مرة وأخذا ينظرا في صمت لتشعر هي بأنفاسه الدافئة والهواء يداعب شعرها ثم فجأة استدارت ونظرت له بإبتسامة واخبرته:
-
أتعلم..
تبدو جذاباً أكثر هكذا.. لا تُقصر شعرك مرة أخرى
لا
تدري من أين لها بهذه الكلمات الآن لتجده ينظر لها بتفحص مُضيقاً عينيه وسألها مباغتًا:
- وأنتِ
روان.. هل وقعتِ في الحب من قبل؟
لا تعلم لماذا ظلمت عيناه فجأة هل بسبب
محاولتها لتلمسه أم ما السبب بهذا السؤال ولكنها اجابته بتلقائية فهي ليس لديها ما
تُخفيه وقالت بهدوء:
- لا..
لم يحدث، لم أُعجب بأحد من قبل، ودائمًا ظننت أن الحب والزواج لا يآتيا بوقت مبكر
هكذا، وعندما توفي أبي بالكاد وجدت الوقت لأنام وتثاقلت علي الأعباء، الشركات
واستمرار العمل، حتى رفضت كل عروض الزواج التي قدمها لي الرجال بدا..
قاطعها ليُحدق بعينيها مباشرة كمن يستجوبها
بتحقيق خفي لا تعلم عنه شيئًا:
- وماذا
عن ابن خالتك؟
نظرت له بدهشة وتعجب قالبة شفتاها وهتفت بعفوية:
- وليد!
تريثت وهي تتفقده بمزيد من التعجب ثم سألته:
- ماذا
عنه؟
قلب هو الآخر شفتاه مُدعيًا العفوية ثم قال:
- أظن
أنك ذكرتيه لي.. ألم يحاول أن يقترب منك مثل اي رجل آخر؟
زفرت بقلة حيلة ثم أجابته بحنق:
- أنظر عمر! ولو أنني لا أُصدق أنك تذكره
الآن، ولكن كما أخبرتك أنني لم أكترث لمسائل الحب والزواج تلك وسأصارحك، قد حدث
وليد والدتي عندما توفي أبي أن يتزوجني ولكن رفضت تمامًا.. لذا، لم يكن هناك شيئًا
بالأساس..
عيناها أخبرتاه صدق حديثها ولكن كعادتها
كبرياءها لا يندثر بأكمله ولا يقرأ بعسليتيها الفاتنتين الخضوع أبدًا وكلما ظن أنه
وصل له باء بالفشل فتمتم بإقتضاب ونظرة متفحصة:
- حسنًا
لم يكن هذا الرد المنشود فأخبرته وقد
بدأت في الغضب:
- أنا لا أكذب ولا أُحب الكذب وليس لدي ما
أخفيه و..
جذبها له ليلتـ ــ ــهم شفـ ــ ــاها في
قُبـ ــ ــلة ليُسكتها عن الكلام، فيبدو أن بشـ ــ ــفتيها الورديتين الكثير لإنهاء العديد من معاركهما وجدالهما كذلك وبعد أن شعر باحتياجها
للهواء ابتعد عنها ناظرا لها وأخبرها وهو يستند على جبينها ملتقطًا أنفاسه:
- فقط وددت أن أسمع منك الأمر
رفعت عسليتيها له وهي الأخرى تلتقط أنفاسها
وكادت أن تصرخ به ألا يفعلها من جديد وهما يتحدثا ليُفاجئها بهمس وهو ينظر بعينيها:
-
هيا.. علينا العودة.. لقد تأخر الوقت
أمسك يدها ثم توجها للخارج، ثم للسيارة وقد فتح لها الباب وأجلسها أولاً
بمنتهى اَلنُّبْل مثل ما أتيا إلى هنا ثم دلف بجانبها في صمت بينما لم يصمت عقلها الذي
تمنى لو يبقيان قليلًا بعد ولكنها لم تُرد أن تثير أي جدال أو مشكلات معه، ورغمًا عنها
وجدت رأسها لا يزال يتذكر كلماته...
وجدت أفكارها تتشابك متحدثة لنفسها بداخلها بالكثير من التساؤلات:
-
لماذا سألني عنه ونحن لا يوجد بيننا شيء من الأساس؟ أنا حتى لم أسأله
عن كل شيء وددت أن أعلمه! ولماذا وليد بالأخص؟ ألا يثق بي؟ كيف عرف بهذا؟ لم يكن بيني
وبين وليد شيئاً بالأساس ولكن هل تحرى عنه مثلاً؟ أم عني؟
كمْ كرهت أن يكون ما فكرت به هو الحقيقة بعينها بينما استيقظت من
شرودها بأفكارها عندما أحـ ــ ــست بيده تتلمـ ــ ـــس يدها في هدوء لتنظر له مقطبة
جبينها باستفسار لتجده يُحدثها بنبرة لينة:
-
يتبقى يومان على عودتنا...
ضيقت ما بين حاجبيها وهزت كتفيها بعفوية وسألته:
-
وما في ذلك؟
تفحصها بزفرة عميقة وتكلم بثقة وأحست ببعض الجفاء يعود لنبرته:
-
لم تُكملي العقد، ولم توقعي عليه
قلبت عينيها في سأم ومن جديد أحست وكأن هذا الرجل غريب الأطوار يتواجد
بداخله الآن وقد غاب الآخر الذي كان يتعامل برفقٍ ورقة لتجيبه بتنهيدة:
-
حسن... سأكمله أولاً وسأرى إذا كنت أستطيع أن أوقع عليه
لم يُعجبه تلك الطريقة التي تتحدث بها ولا حتى تلك الملامح التي تنظر له
بها فزجرها بهدوء دون أن يُبالغ ولكن نبرته أتت مليئة بالوعيد:
-
حسنًا... خذي وقتك بأكمله، ولكن راقبي تصرفاتك معي روان، لا يصح أن
تنظري وتتصرفي هكذا بمثل هذه الطريقة!
صُدمت بما قاله، فهي لم تُصدق حقاً أنهما منذ قليل كانا يعيشان رومانسية
حالمة بين الرقص والحديث وتناول العشاء والورود والشموع والآن يأتي هو ليذكرها بذلك
العقد ثم باغتها بالمزيد من الدهشة التي جعلت حلقها يجف:
-
أفعالك تلك تحثني على أن أعاقبك! أتريدين أن تُعاقبي؟
يُتبع..