-->

الفصل التاسع - كما يحلو لي نسخة حصرية (النسخة القديمة)

 

 رواية كما يحلو لي النسخة القديمة بقلم بتول طه 

حصريًا لمدونة رواية وحكاية



الفصل التاسع

 تنهدت وهي تنظر له بذل وكتمت غيظها بداخلها، هي ستحصل على الطلاق منه لو ظن أنه سيُكمل معاملته تلك بهذه الطريقة، ولكنها عليها أن تخرج من هذا القيد وتكبيله لها أولًا وبعدها سترى ما الذي ستفعله مع هذا الرجل الذي يُريد فجأة أن يُعاملها بطريقة لم تُعامل بها قط ولم تظن حتى أنها موجودة في الحياة!

 

لاحظ أن بأعماق عينيها نظرة نفور ورفض بل وتحد وهي تتحدث قائلة:

-       حاضر سيدي، شكراً لك

 

ابتسم بمكر وهو لم يبتع تلك الكلمات التي تظن أنه سيستجيب لها ليُصاعد من قسوته بنظراته بل وكلماته التي توضح كيف سيكون عقابها:

- خمسة عشر جلدة، وستقومين بالعد، وإذا فقدت العدد أو لم تعدِ سيُعاد كل شيئًا من البداية وعليكِ أن تشكريني في النهاية على تقويم سلوكك... انتبهي جيدًا للقواعد وتذكريها... هل هذا مفهوم؟

 

رطبت شفتيها وهي تحاول أن تتحمل جنونه هذا وعقابه وكل هذه الترهات وزفرت بارتباك لتهمس قائلة:

-       مفهوم سيدي

 

أمسك تلك العصا الجلدية التي تنتهي بأسواط صغيرة رفيعة جلدية حتى ظنت أن آلمها سيكون بسيطًا واستنكرت بداخلها ما قد تفعله أداة بهذا الشكل ولكن لافتقارها المعرفة ولبراءتها وانعدام خبرتها كانت جاهلة تمامًا بمثل ماهية هذه الأشياء.

 

تفقدها بنظراته الصلبة لوهلة وهي تنظر له مباشرة فألمه بداخله نظراتها الثابتة وكأنها ودعت الخوف ولكنه سيعمل بإتقان هائل أن يجد الخضوع بتلك العسليتين مهما كلفه الأمر واكتفى بسؤال واحد كان بدوره أن يُفزعها:

-       هل تتذكرين كلمة الأمان؟!

أجابته بثبات وداخلها الغيظ يمتزج بالتحدي الشديد لهذا الرجل الذي لا تعلم ما خلف كل ما يفعله:

-       نعم سيدي

 

حتمًا هناك شيئًا تريد الوصول له بإظهار أنها ثابتة، ليست خائفة، تُرضيه وتطيعه وتخضع له هكذا فجأة، سيعرفه شاءت أم أبت ولكن عليه أولًا أن يرسي القواعد، إن لم تفعل كل ما ينص عليه من قوانين سيكون العقاب هو جزاءها فأعلن بجمود:

-       حسناً فلنبدأ الآن

تفحصها ليقرأ بعينيها عودة شعور الخوف إليها، هل لأنه تحدث عن كلمة الأمان أم هذه مشاعر فطرية بينهما؟ سيصل للإجابة ولكن بعد انتهاء ما يُريد فعله...

 

تنفست بارتباك ولكنها تشعر بالقهر الشديد منذ صفعها بمثل هذه الطريقة في حالة كان جـ ــسدها يستجيب لأفعاله دون تحكم منها بمنتهى الفطرية، وكأنه أخبرها بمنتهى الجفاء أنها ليس لها الحق في الشعور بمثل هذه المشاعر، وكأنها ليست بإنسان يحق له الشعور... ولماذا سألها عن كلمة الأمان وهو من أعترف لها أنه لن يضرها؟ ولكن لقد صممت في ثنايا عقلها أنها لن تقولها حتى ترى أسوأ ما به، لترفضه بأكمله دفعة واحدة! شاء أم أبى!

 

رمق جـ ــسدها بتحديقات شرهة لعقابها وهو يفترس كل منحــ ــنياتها ومفا تنها بعينيه مشاهدًا هذا الجــ ــسد الذي لم يتأثر بعد ثم رفع بيده ف همست عندما جاءت أول جلدة سهلة على مفاتنها ولم تشعر أن هناك أي ألم ففكرت لربما يريد أن يخيفها فقط:

- واحد

 

كرر الأمر من جديد لترتطم تلك النهايات الجلدية الرفيعة بصدرها ولكن أتت أسفل قليلًا وكانت خفيفة مثل الأولى هل هذا حَقًّا هو العقاب؟ لماذا يختلف الأمر عن الطائرة الآن وعن قسوة جلداته وقتها؟ ولكنها تريد أن ترى ما نهاية ما يفعله فقامت بالعد:

-       اثنان

أخذ يمرر تلك الأطراف الجلدية بتأني على جــ ــسدها الفا تن وغابت عينيه عن ملامحها وهو يتفحص بجــ ــسدها وحاول أن يُنظم أنفاسه الغاضبة التي تصرخ به أن يؤلمها سريعًا دون تواني ليتحدث آمرًا:

- باعدي قدماكِ

فعلت على الرغم من الإحراج البالغ الذي تشعر به ولكن لن تستطيع أن تخالفه على كل حال، هي تريد للأمر بأكمله أن يكون واضح لتستطيع معرفة ما نهاية هذه اللعنة معه وأحصت ثالث جلدة على ثدياها وقد تعجبت لخلو الثلاث جلدات من الألم ولكنه يعلم ما يفعله جيدًا:

- ثلاثة...

 

أخذ يمرر أطراف الجلدات لكي تلا مـس جــ ــسدها لمــ ــسات طفيفة كي يجعله يقشعر وهو يدور حولها وأخذ يتنقل بين مناطق عدة، مفا تنها، أنو ثتها، أسفل ظـ ـهرها، كل ساق من ساقيها، فبدأت تشعر هي بالدغدغات وتفلت الضحك منها رغمًا عنها ولم تستطع أن تتوقف لتستمع له يتساءل:

-       أَيُعْجِبُك هذا؟

 

أجابت بحسن نية بينما هو يُكمل التفافه حولها عدة مرات وهو يُمرر تلك الأطراف الجلدية على جــ ــسدها:

- نعم سيدي، هذا يُدغدغ والأمر مضحك

 

أكمل التفافه إلى أن وقف أمامها وباغتها بجلدة قوية بين فخــ ــذاها لتصرخ وكأن حبالها الصوتية تمزقت، وكان تأثير الجلدة كالنيران تحرقها.

 

ابتسم بمكر وهو يتفقد ألمها الذي جعله يشعر بالمتعة ثم تكلم بمنتهى الهدوء:

- أرى أنكِ نسيت العدد!! سيعاد كل شيء من البداية

 

أخذ في تكييل الجلدات في أنحاء مختلفة، تارة تعد وتارة تنسى فيُعاد كل العقاب من البداية ولكن ما يحيره أنها لم تنطق بكلمة الأمان رغم أن الجلدات قاربت على الثلاثون جلدة!

شعرت بتخدر هائل من كثرة الألم، وكل ما فعله كان عبارة عن عنفٍ وقسوة مختلطة بالألم، هل هذا ما هو عليه؟ أن يؤلمها أو يهينها بوصفها بتلك الكلمات؟

 

لهث أنفاسه من غضبه الذي لم يخمد أي منه، وما فعله لم يُزل ولو جزءًا ضئيلًا به، وكذلك من شدة تلك الجلدات عليها، ولكن ما يدهشه هو تحملها، على الرغم من رؤية أن ما فعله قد ضرها بالفعل ولكنه في النهاية سألها:

- لقد انتهيت... أتعرفين ما يجب عليكِ قوله كما نبهتك عن انتهاء عقابك؟

 

رمقته بنظرة، نظرة واحدة فقط، لا تحمل سوى اللوم الشديد والحسرة، ربما القهر لمعاملته لها بهذا العنف، وأجابت بصوت مُتعب في النهاية وعينان غامضتان بهمسٍ جعلها تذرف الدموع قهرًا فاق الألم الجــ ــسدي:

- شكرًا سيدي...

تفقدها مَلِيًّا ثم ذهب ليحل وثاقها وتكلم بهدوء بالرغم من غضبه الذي يحمله بداخله:

- فتاة جيدة

 

حافظ ألا يظهر اندهاشه أمام قوة تحملها فهو يعلم جيداً أنه بالغ في قوة الجلدات وفي إهانتها، تلك العلامات الواضحة على جــ ـــسدها هي الدليل ولكنها لم تستسلم بعد.

 

وما إن أخفضت أول يد وكادت يدها الأخرى في أن تصبح حرة حتى شعرت بأنها تسقط ولكنه حملها قبل أن تلامس الأرض، لم تشعر إلا بأوجاع مكان الجلدات، هي تظن أن بعض أنحاء جــ ــسدها قد جُر حت من آثار شدة الضربات، كلما لامست يداه مكان الجلدات كلما شعرت بالألم، ركبتيها لا تعطيها القوة الازمة كي تقف على قدميها بعد الآن، كما أن ألم ظهرها قد تفاقم ولم تصبح عظامها تتحمل أي شيء، ولكن بالرغم من كل هذه الأوجاع لم تقو على التكلم أو أن تعبر عما يؤلمها.

 

كم تمنت أن تطوقه بذراعيها كي تستند خوفًا من السقوط ولكن يديها تؤلماها من القيود التي كبلها بها ولم تقدر أن ترفعها، شعرت بجـ ـسده السا خن يغمرها بالدفء، هذه أول مرة تشعر به قريبا منها دون أن يريد شيئا، لا عقاب، لا مدا عبات، ولا جدال، فقط مجرد عناق ليس خلفه أي منفعة أخرى...

 

ما إن خرج حتى دثرها بالأغطية في سريره وبعدها بدقيقة شعرت به ينزع عنها الأغطية ومن ثم يداه تجوب على مكان الجلدات وكأن هناك ملطف يضعه ولم يكن منها إلا أن أطلقت بعض الأنين كلما تلامست أنامله مع آثار الجلدات..

 

هذا الفراش، غير فراش الطائرة، ومريح أكثر من جلستها أسفل قدماه، وكان بمثابة الجنة بدلًا من حبيبات الأرز اللعينة، وذراعيها لم تعد ترهقاها، ولكن ألم الجلدات وتلك الكلمات كان أكثر مما ستتحمل، هي لن تستطيع الاستمرار أبدًا مع هذا المجنون إلا لو أعطاها سببا واحدا لكل ما يفعله!

 

انهمرت بعضًا من دموعها والإرهاق لا يرأف بها ثم استمعت لصوته يُناديها:

- روان... انظرِ إلي ...

حاول أن يفيقها ظنًا منه أنها تفقد وعيها لتهرب الحروف من بين شفتيها على مهل:

- أنا مـتـعـــبـة

 

بالكاد فسر ما تقوله ليهتف بها بنبرة مُكترثة صادقة واحتبست أنفاسه قلقًا:

- أعلم ولكن حاولي النظر إلي

 

استمعت لصوته هذه المرة التي كان نقيض المرات السابقة فهي لم تشعر بأوامره وكأن هناك شيئًا جديدًا بهذه النبرة ونادى بعفوية شديدة منه غير مدركًا ما يقوله ولكنه كان يُسلط تركيزه على التأكد من وعيها:

-       هيا صغيرتي انظري إلي  

 

لم يلحظ ما ناداها به ولا ما تفلت من بين شــ ــفتيه وعينيه تتشبث بالاطمئنان على حالتها وأخذ يبعد خصلات شعرها المتساقطة على جبهتها إلي أن فتحت عينيها بإرهاق ملحوظ لتهمس له بنبرة توقفت على مشارف البكاء:

 

-       هل لي أن أطلب منك شيئاً؟

 

أومأ لها بالموافقة على الفور وشعر بغصة لملامحها المتألمة وتوسلت له دون إدراك لما تقوله ليأتي صوتها في النهاية مختلطاً ببكائها:

-       أرجوك سيدي، الأمر كان مخيفا ومؤلما، لا أريد سوى أن نكون بخير، عندما عانقتني كان الأمر جيدا ولكن لا أريد هذا الألم... أسمح لي هذه الليلة بالنوم جانبك رجاء، أو... أو ليُصبح الأمر طبيعيا لا أدري... ولكن... لا استطيع تحمل أي من هذا!

 

ازداد تلعثمها مع ازدياد نحيبها الذي اتضح كلما كانت تنطق بكلمة من الكلمات هشم أسنانه وهو ينظر لها ولأول مرة منذ أن كان في الثالثة والعشرين يشعر بأنه يريد أن يبقى مع المرأة التي مارس عليها ساد يته منذ قليل، شعر أنه بالغ، أذاها وأصابها بالضرر الشديد...

 

وجد نفسه يُطيل من التحديق إليها في تعجب بالغ وهو يتعرض لمحاربة هذه المشاعر المتضاربة داخله ثم همس إليها:

-       هش ... اهدئي

 

قام بجذبها بين ذراعيه حتى أصبحت رأسها على صـ ـدره وظل يُربت على رأسها واحتمل تلك الدموع التي بللت صدره في صمت حتى غرقت في النوم.

--

جلس يُفكر بجانبها، لقد بالغ معها فهي أول مرة لها وهو لم يجعلها تفهم الأمر كما ينبغي، لم يقم بالتوضيح ولم يقم حتى بإعطائها حقها في رؤية العقد ولا قواعده ولا تعديلها ولا التوقيع عليه، هو لم يُعطها الفرصة الكافية أبدًا، لماذا بقي بجانبها حتى الآن؟ لشعوره بأنه تسرع؟ ولماذا كل هذه اللهفة منه إليها بهذا الاندفاع؟ ولماذا يشعر بأشياء غريبة لأول مرة تجتاحه؟

 

تجولت الأسئلة بعقله، وهو يعلم جيدًا أنه لن ولم يشعر بالندم لسا ديته مع النساء ولكن هل الأمر كله بسبب مبالغته وتسرعه معها؟ هل يُمكن أن تلك المشاعر بداخله هي ندم... لا يستحيل، هي مجرد إحباط!

طالع وجهها الذي بدأ أن يعود لطبيعته بعد أثر الصفعات عليها، وكلما تذكر كمْ كان قاسيًا وكمْ حاول أن يؤلمها وما يُدهشه حَقًّا إلى الآن أنها لم تقل إن هذا يؤلمني أو توقف أو ذكرت كلمة الأمان... خصوصًا عندما كانت مُكبلة!

 

تطلع كثيراً لبراءة ملامحها المتناهية التي لم يلاحظها من قبل، دائماً ما كانت تبدو قوية وقاسية أو هكذا تحاول أن تبدو، ولكنها أجمل مرة رآها منذ أن وقعت عيناه عليها، شعرها الطويل وملامح وجهها تعطيها طفولة مبالغ بها، كم أن تلك المساحيق خداعة بحق، كما أن كل كبريائها تلاشى ليحل محله طفلة نائمة بين يديه.

 

ظل يتفحصها حتى شعر بأنه لا يريد أن يبتعد عنها ولكن دفعه تفكيره للانزعاج الشديد، هو يعلم جيدا أنه أرادها له لتصبح ملكه منذ الوهلة الأولى ولكن ظن أن هذا الشعور سيتلاشى بمجرد أول مرة سيراها عارية أمامه، أو بعد تجربة أول عقاب... ربما لم يسأمها لأنه لم يضا ـجعها حتى الآن، حاول أن يقنع نفسه بما هداه عقله من استنتاج وبعدها قد قرر أنه يكفيه كل ذلك الوقت الضائع في النظر إليها...

--

بالرغم استمتاعه بتألمها ولكن كان عليه أن يضع لكل هذا نهاية... والأرق اللعين لم يتركه منذ البارحة ولقد قارب على الاحتراق من كثرة التفكير...

 

تحدث بصوتٍ أجش ولا تزال أفكاره بشأنها تُسيطر عليه ولم تتزحزح ولو قليل منذ ليلة أمس:

- هيا استيقظي

 

فتحت عينيها بصعوبة ونظرت له فوجدته جالسًا مرتديًا ملابس مخالفة التي كان يرتديها وتبدو رائحته منعشة للغاية ولكنه ليس محتضنًا إياها لتحمحم واتكأت جالسة بصعوبة لبقاء بعض الأوجاع بها التي بدأ معظمها في التلاشي فهمست بعفوية ونبرة ناعسة:

- صباح الخير

 

رد بجفاء آمرًا:

- فلتغتسلي ثم تأتي لتناول الفطور...

تعجبت له وتوسعت عيناها التي هرب منها اَلنُّعَاس ولكنها لم تستطع أن تخبره بشيء لأنه بالفعل قد غادر غرفته لتتمتم قائلة:

ماذا الآن؟! ماذا فعلت أنا؟ هو حتى لا يبادلني صباح الخير، أوامر وعقاب وماذا بعد؟! حسنًا أيها العمر، فلتريني ما بوسعك وسأريك ما بوسعي أنا أيضًا...

 

فكرت بغضب بينما قامت للاغتسال وهي تُفكر كيف ستتخلص منه أو حتى ستحدثه بأنها لن تتحمل أبدًا مثل ما حدث ليلة أمس، هي تحترق غضبًا أو إهانةً أو غيظا أو حتى تحد لتكن إذن مشاعرها التي لا تستطيع تحديدها هي كل ما بالمعجم من كلمات لا تعرفها... هي فقط تريد الخلاص... ولكنها جربت الصراخ مرة ولم يُفلح!!

 

بعد الانتهاء لم تجد إلا رداءه بالحمام فالتفت به وتذكرت أن حقائبها لا زالت بالأسفل منذ قدومهما فلم تكترث ونزلت للأسفل لتبحث عن ملابسها وهي تُفكر كيف أتت الحقائب ومن قام بإدخالها ولكن فليحترق هو وقواعد منزله اللعين المُرتب بعناية فائقة وأخذت تبحث ولكنها لم تجد أي حقائب.

 

هبت حتى وجدته بالمطبخ يحضر الطعام فسألته بعجل ونبرة كبريائها المعهودة:

- أين حقائبي؟

 

أجابها بلهجة آمرة هادئة دون أن ينظر لها:

- نبرتك تلك لن أسمعها مرة أخرى، وملابسك ستجديها بغرفة جانب غرفتي على اليمين

 

التفت ونظر لها ليراها في رداءه ليروقه مظهرها هكذا وهي في ملابسه وظل ناظرًا لها في تفحص وشرد تمامًا بها حتى نسى ما أمامه فاقتربت منه "روان" حتى تنقذ ما قارب أن يحترق لتقول بنبرة ساخرة:

- حسنًا لن تسمع نبرتي تلك ولكن أرجوك لا تُفسد طعامي

 

تركته ليدرك أنه فقد السيطرة أمامها مجددًا، وكأن الأمر لم يكن كافيًا لها ليلة أمس... ليتصاعد غضبه بداخله على شروده بها كالمراهق... وأخذ يُسند غضبه ويبرره على الأسباب الواهية الخاطئة كطريقة تحدثها له ولكبريائها المفرط الذي يراه بعينيها ونسى تمامًا أنه يتأثر بها كما تتأثر هي به الأخرى!

--

ذهبت مكان ما أخبرها لتجد كل شيء مرتب بعناية فتعجبت من الذي فعلها فلم يوجد سواهما فارتدت ثوبًا قصيرًا فوق ركبتيها بقليل كما هي معتادة على ارتداء مثل هذه الأثواب وتوجهت لتصفف شعرها وما إن تفحصت نفسها حتى وجدت علامات جلداته ليلة أمس وتلــ ــثيماته بعنقها قد تركك أثرًا على جــ ــسدها فقطبت حاجبيها بغضبٍ لاذع ثم ارتدت بنطالًا وكنزة مريحة وجففت شعرها ثم نزلت للأسفل بعد أن وجدت كل شيء قد أُعد فبدأت بتناول الطعام معه وهي تشعر بغرابة فهو لم ينظر لها ولو لمرة وغضبها قارب على الاندلاع بسبب رؤيتها لجـ ـسدها بهذا المنظر وكل ما جال في تفكيرها هو كيفية التخلص من أفعال هذا الوغد المجنون...

 

وعلى الرغم من صمتهما استطاع إدراك ما يعتري ملامحها فقد لاحظ هو سلوكها المنزعج ودون أن ينظر لها سألها:

- لماذا أنتِ غاضبة؟

 

تريثت قبل أن تُجيب لدهشتها من معرفته وهي حتى لم تتحدث له أو تتلاقى نظراتهما لتحافظ ألا ترمقه وأجابته باقتضاب:

-       لا شيء، لست غاضبة

 

أكملت طعامها فترك الشوكة ببرود على الطاولة وتوقف عن تناول الطعام فلمحته بطرف عينيها لتجده ينظر لها نظرة هادئة ولكن في نفس الوقت أرعبتها وخصوصًا تحدثه بتروي شديد غريب عليه وعليها هي نفسها:

- عواقب كذبك لن تكون جيدة، هذا سيجعل عقابك أشد!

 

أكمل طعامه لتدرك أنها ستواجه مسلسلًا يعج بالسخف من جديد من العذاب معه فقررت أن تحاول معه بطريقة جديدة عَلَّه يلين معها قليلًا أو يتوقف عن قول الترهات عن العقاب وعن تلك الأشياء التافهة فهمست متنهدة بتلعثم:

- عمر... أنظر... أنا...

 

توقفت من تلقاء نفسها ثم نظفت حلقها وهي تحاول اختيار الكلمات:

- أنا لا أريد الكذب عليك، ولا أريد أن أخطئ معك في شيء، أريد أن أعيش معك في سلام... دون عذاب ودون مشكلات... فقط هدوء واستقرار إلى أن ننتهي من أمر هذه التجربة بأكملها أو نصل إلى حل... ما أود قوله هو...

 

رطبت شفتيها وهي تحاول أن تفكر في اختيار الكلمات الصائبة للتحدث بها واستطردت:

- قبل أن تتزوجني لم أكن أفكر في الزواج ولم يخطر على بالي أني سأصبح متزوجة، وبيوم وليلة أصبحت متزوجة من رجل لا أعرفه ولا أعرف شيئًا عنه، طريقتك معي كانت غريبة للغاية، لم أكن أتخيل تلك الميول الغريبة وأنا لا أُعارض ما يروقك ولكن لا أعرفها ولا أقبلها وليلة أمس كانت مُفزعة بالنسبة لي... منذ ذلك اليوم بهاواي وأنا أشعر أن كل شيء جديد عليّ وحتى فكري وعقلي لا يستطيعان أن يواكبا ما يحدث بسرعة البرق هكذا، أنا لا أعرف كيف أتصرف في أغلب الأحيان معك، أجدك غريبا للغاية ولا أعلم كيف أجيبك خاصة وأنني لم أتعود أن ألبي وأقول أجل ونعم وشكرًا هذه المرأة ليست بداخلي ولست أنا...

 

صمتت قليلاً لترى نظرة لم تعرف معناها في عينيه فأكملت بذكاء وقررت أن تُطريه قليلًا لعلها تستطيع المساومة والتفاوض لاحقًا علها تصل لمرادها وقالت بتردد:

- أشعر أن بك الكثير من الصفات الجيدة والأشياء الجميلة، على الرغم من  عنفك معي آخر يومين ولكن لا أدري... فقط أعطي لي بعض الوقت كي أتأقلم، أنا لا أرفض شيئًا ولا أقبل بعد كل شيء، والأمر جديد علي وغريب للغاية ولم تكن هذه هي فكرتي عن الزواج... ولكن بروية أرجوك... لا تتعجل الأشياء لأنني أقسم أنني قاربت على الانهيار...

 

أنهت حديثها بهمسٍ باكية لتراه ينهض ثم يتوجه ليُصبح خلفها ليجذبها من شعرها بخفة وغضبه لا يزال يصرخ به أن يفعل بها الكثير، وحتى أي رجل جديد عليه الأمر يعرف تمامًا أنه لا بد له من أن يتحدث معها ويُطمئنها حتى تقتنع بالأمر ولكنه لم يستطع وشعر بحاجة للعزلة ليُقرر أن يترك الأمر جانبًا الآن وفاجئها قائلًا:

- حسنًا... لكِ هذا ولكن عقابك الليلة لن يكون هينًا أبدًا فلقد كذبتِ وكذلك نسيت أن تُناديني كما علمتك... لن تناديني أبدًا سوى بسيدي وهذا ستعاقبين لأجله وسأعمل أن تحفظي هذه القاعدة عن ظهر قلب!

جذبها لتنهض رغمًا عنها لتجد صفعة على مؤ خر تها وقد آلمتها قليلًا وجعلتها تشعر بمزيد من الغضب ثم اقترب ليهمس بأذنها:

- ولنعتبر هذا مقدمة لما سيحدث... وجدت نفسها تصرخ بعقلها كي لا تتلفظ بتلك الكلمات وتهبط على مسامعه:

- ماذا يعني بأن هذا مقدمة؟! لا أهتم، على كل حال رأيت أسوأ ما به وليفعل ما يشاء فهو لن يخيفني بتلك الكلمات، فقط سأتحمل كل تلك الترهات إلى أن أجد حَلًّا معك! يا ليتني قابلت قطارا مسرعا ليعانقني بدل من مقابلة محامي مجنون مثله!

 

لاحقته عيناها لتشاهده يترك المنزل للخارج وكأنها فرصة لتظهر امتعاضها وعدم قبولها لتصرفاته وتحكماته الغريبة فزفرت في راحة لانتهائها منه... فكرت أنه قد مر بعض الوقت بعد أن طالعت بريدها الإلكتروني لتتفقده سريعًا بينما وجدت أن هناك كما هائلا من العمل ينتظرها فلم تشعر بأنها تريد أن تبدأ بشيء ولتدع العمل حتى تعود، تبقى أياماً قليلة على كل حال. وجدت نفسها تلقائياً تبحث عن صفات الرجل السا دي وكيف تتعامل مع الشخص السا دي وخاصة الزوج السا دي وما إلى هناك من مواضيع عدة فوجدت تضارباً بين الكثير والكثير من الآراء، فمن الناس من يجد أن السا دية ميول لا أكثر وأن من يستمتع مع الرجل السا دي أو المرأة السا دية من يكون بداخله أو بداخلها خضوع، ومن الناس من يجد أن هذا مرض ويجب أن يُعالج الشخص المُصاب به وأن هذا نتيجة لطفولة صعبة أو موقف مرير مر به الإنسان السا دي حتى يصبح بتلك الشخصية الصعبة. ولكن أكثر ما أثر في تفكيرها هو سؤال بسيط على أحد المواقع، هل أنتِ مستعدة أن تعيشي مع رجل سا دي؟!

 

بعد الكثير من التفكير العميق وتذكر كل ما مرت به معه استنتجت أن عمر بعيداً عن ميوله التي تزال غريبة عنها، هو شخص جيد، تذكرت كمْ كان كريماً معها عند الزواج، كمْ أصبح قريباً من عائلتها، كم هو جدير بالاحترام مع الجميع، ولولا بعض المشاحنات والجدال بينهم بسبب تصلب رأسها في الكثير من المواقف وعنادها التي تعلم أنه من الصعب مواجهته فعمر في النهاية لم يفعل ما يُغضبها. دائماً ما مزج كل ما يدعيه من عقاب وجزاء بمتـ ـعة جنـ ـسية بشكل ما والأغرب أنها أعجبتها، كمن يدفع مبلغاً ليحصل على شيء في المقابل، ربما الأمر يُشابه الصفقة في مضمونه ولكن الألم الموجع هذا لا تدري إن كانت ستستطيع تحمله!! تذكرت ما فعله معها بالأمس بعد ما أرهبها بل وشعرت أنها تُعذب كمن أرتكب خطيئة وجدت به في النهاية إنسان حنون أو هكذا بدا لها، ما تلك اللعنة التي تُفكر بها، هل فقدت عقلها أم ماذا؟ ولماذا تتشتت أفكارها كلما فكرت به وبتصرفاته وجفائه وقسوته ثم القليل من الحنان الذي أظهره مؤخرًا...

 

حاولت أن تتوقف عن تفكيرها ثم توجهت لصنع بعض القهوة وفكرت في أن تتفقد الخارج قليلًا وهي ترتشف قهوتها فتوجهت لتشعر كم أن الجو صاف وهادئ وهناك بعض أشعة الشمس الشتوية الدافئة وتمنت لو كانت تناولت طعامها هنا فلطالما فقدت تلك الأوقات في الذهاب للعمل ولم تحظ بأي منها... ظلت تجول وتجول في ذلك المنزل العملاق الذي لا تصدق مدى حجمه إلى الآن حتى وصلت للإسطبل فتذكرت ذلك الحصان الذي رأته أول مرة عند قدومها هنا فشعرت بالخوف قليلًا ولكنها سمعت صوتًا بالداخل ففضولها دفعها لأن تُكمل طريقها وتدخل وتوسعت عينيه وأرادت أن تستطلع المزيد...

 

وجدت الباب مفتوحًا بالفعل فتسللت دون افتعال أي صوت لتنظر جيدًا لمن يتواجد هنا وهل هو حصانٌ واحد أم يملك المزيد لتجده هو نفسه واقفًا موليًا ظهره العاري نحوها وعلى الرغم من الغضاضة تجاهه بداخله هذا اللعين يبدو جذا بًا بجـ ـسده حد اللعنة!!

 

لديه تلك العضلات الرشيقة المنحوتة وكأنه لوحة مرسومة وليس ظهرًا عَادِيًّا لمجرد رجل، كانت تُلاحظ أن كتفيه عريضان ولديه خصر رائع ولكن المشهد من الخلف يختلف تماماً عما رأته ليلة أمس، خصره النحيل لا يتلاءم نِهَائِيًّا مع الكتفين العريضتين مما آثار تفكيرها لماذا رجل بهذه الجا ذبية عليه أن يكون وغدًا بميول غريبة؟!

 

نظرت كمْ بدا حنونًا مع حصانه وكيف يشذبه ويُمشطه، رأت كيف يدا عبه بل وكأنما تشعر أنه يكافئه بإعطائه بعض الطعام غير الذي أمامه مما جعلها تتعجب لما يفعله فهي ليس لديها فكرة عن الخيول ولكن أكثر ما أصابها بالانكسار، أنها وهي زوجته، أو لتصوغها ب "عروس" لم تتلق منه مثل هذه المعاملة الحنونة سوى بعد أن قام بجلدها وصفعها ليلة أمس! ألهذا الحد هي لا تستحق مثلما يستحق حصانه؟!

 

أفزعها صوته الآمر دون أن يلتفت نحوها:

- تقدمي

 

ارتجف كتفيها ونظفت حلقها لتتقدم على مُكثٍ بينما سألها:

- أيعجبك ما ترين؟

 

 

تريثت قبل الإجابة فهي حقا لا تعلم ما الذي يُعجبها، هل طريقته المتمرسة مع حصانه أم هو نفسه ما يجعلها تتعجب؟! الأمر كله غريب وعقلها إلى الآن لم يُحدد كيف ستُفلت منه فقالت بحصافة:

- أقصد الحصان! لا أدري، كل شيء غير مألوف بالنسبة إليّ... مم...

 

سكتت لعدم علمها ما الذي يجب أن تقوله فاعتذرت بعفوية ولباقة دون أن تقصد:

- أعذرني ولكنني أحاول التأقلم، لم أملك حيوانًا أليفًا من قبل!

 

ارتشفت من كوبها الذي وجدته قد برد بالفعل ولكنها تحاملت على تذوق القهوة الباردة كمن يتخذ ذلك الكوب درعًا وحماية له من زوج العيون السوداء التي تربكها لتجده يُحدثها من جديد:

- عليكِ أن تتعودي فهذه أصبحت حياتك بالفعل

 

 

أخبرها وقد بدا هادئا تماما وكأنه أختلف عن ذلك الشخص الذي عرفته الأيام الماضية، أو ربما هذا ما ظنته، فشعرت أن مزاجه قد يكون رائقًا للتحدث فتركت كلماته التي لم ترضى بأي منها وكل ما فعله معها وتصنعت سؤاله بتلقائية:

- هل تحبه كثيرًا؟

 

دام الصمت لما يقارب من دقيقتين وما زال يداعبه وكان برق مستسلمًا له للغاية وبالرغم من أنه بدا أليفًا ولكن شيئًا ما به أخافها، لونه الأسود اللامع وعيناه اللامعتان أيضًا ورأسه الغريبة أرعبتها مما جعلها تحافظ على مسافة جيدة وفقط اكتفت بالمشاهدة من بعيد.

 

أجابها أخيرًا ببرود:

- بالطبع...

 

تعجبت لاقتضابه معها ولكن على كل حال هو وغد وليس عليها أن تُفكر بكل ما يقول فسألته بحذر:

- هل لك أن تخبرني عن أصدقائك؟

 

رأت عدم انزعاجه من سؤالها مما شجعها قليلًا وانتظرت لتستمع لإجابته المتريثة:

- حسنًا، برق، وأبي، وأحد آخر ستعلمين عنه يومًا ما

 

يا له من متحاذق!! لا يفشل ولو لمرة في تأجيج حيرتها كالمعتاد ولكنه لن يُشتتها عما تريده فسألته من جديد:

- ألست قريباً من أخيك؟ أقصد، أنتما أخوان، كلاكما ذكور ويُفترض أن تكونا قريبين من بعضكما البعض، وعنود كذلك، ألست قريبًا من أي أحد منهما؟

 

قلب شفتيه واتضح الانزعاج على ملامحه فلاحظت هي ذلك بينما سيطر على غضبه فحقيقة أنه يتحدث عن أخيه بالصباح الباكر ليست أفضل طريقة لبدأ يومه فأجابها باقتضاب:

-       هو فقط أخي، لكن لا تجمعنا أشياء عديدة، كل منا لديه اهتماماته، وعنود صغيرة للغاية، الكثير من الأعوام تفصل بيني وبينها لذا... الإجابة لا... لست قريبًا منهما...

 

قررت أن تتحدث بشيء آخر بعد تلك الملامح التي أربكتها، فيكفي لحيته وشعره المعقود وظهره وصدره العا ـريان وذلك الكائن المُخيف فسألته مغيرة مجرى الحديث:

- منذ متى وأنت تملك برق؟

 

وكأنه نشد غاية ما كان يبحث عنها لكثير من الوقت فأجاب باستفاضة:

-       أردت أن أملكه وأنا بالثالثة والعشرون ولكن بعد البحث عن حصان مثله امتلكته بالرابعة والعشرون، منذ تسع سنوات، كان عنيدًا للغاية ولا يقبل أن يتعامل معه أحد وشرس وهمجي حتى روضته بنفسي، ولا بد من تدريبه باستمرار وإلا قد يعصاني... بالرغم من أنه أصعب حصان تعاملت معه ولكنه أفضل ما امتلكت، خاصةً بعد ترويضه!

 

 

نظر متفحصًا إياها وتمنى أنها تفهم ما يَعْنِيه وراء تلك الكلمات لتبتلع من ذلك الحديث الذي بدا غريبًا وكذلك نظرته فهمهمت ثم سألته من جديد:

- وهل تتعامل مع الخيل منذ أن كنت صغيراً؟

 

طال الصمت أكثر من اللازم ثم شعرت وكأن هناك شيئًا ما بعينيه كمن يتذكر ذكرى أو موقف، أو ربما لديه أمرًا يُخفيه وفي النهاية آتاها صوته المنزعج بصُحبة زفرة مطولة:

- منذ الثامنة عشرة...

 

تعجبت لماذا شيء كهذا قد يُزعجه؟ وتساءلت بعفوية علها تستطيع فهم هذا الرجل الغريب كي تحصل منه على أي معلومة أو طريقة تؤهلها من الاستمرار معه دون عقاب وجنونه اللاذع:

-       اكتشفت ميولك بدأت أن تتعامل مع الخيل وماذا أيضا؟

رأته يتفحصها بنظرات تخبئ الكثير من الأسرار والألغاز خلفها ثم أجاب باقتضاب ممزوجا بالقسوة:

- لا يوجد شيء آخر...


يُتبع..